الباحث القرآني
﴿والَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم رِئاءَ النّاسِ ولا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الآيَةِ في قَوْلِهِ: ﴿كالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ ولا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ [البقرة: ٢٦٤] وهُنا: ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ، وهُناكَ: واليَوْمِ الآخِرِ. قالَ السُّدِّيُّ، والزَّجّاجُ وأبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ والجُمْهُورُ: هُمُ المُنافِقُونَ نَزَلَتْ فِيهِمْ، وإنْفاقُهم هو إعْطاؤُهُمُ الزَّكاةَ، وإخْراجُهُمُ المالَ في السَّفَرِ لِلْغَزْوِ رِئاءً ودَفْعًا عَنْ أنْفُسِهِمْ، لا إيمانًا ولا حُبًّا في الدِّينِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ومُقاتِلٌ، ومُجاهِدٌ: نَزَلَتْ في اليَهُودِ. وضَعَّفَهُ الطَّبَرِيُّ مِن حَيْثُ إنَّهم يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ. ووَجَّهَ ابْنُ عَطِيَّةَ (p-٢٤٨)هَذا القَوْلَ بِأنَّهم لَمْ يُؤْمِنُوا عَلى ما يَنْبَغِي؛ جَعَلَ إيمانَهم كَلا إيمانٍ مِن حَيْثُ لا يَنْفَعُهم. وقِيلَ: هم مُشْرِكُو مَكَّةَ، لِأنَّهم كانُوا يُنْكِرُونَ البَعْثَ. وإنْفاقُ اليَهُودِ هو ما أعانُوا بِهِ قُرَيْشًا في غَزْوَةِ أُحُدٍ وغَزْوَةِ الخَنْدَقِ، وإنْفاقُ مُشْرِكِي مَكَّةَ هو ما كانَ في عَداوَةِ النَّبِيِّ ﷺ وطَلَبِهِمُ الِانْتِصارَ. وفي إعْرابِ ﴿والَّذِينَ يُنْفِقُونَ﴾ وُجُوهٌ، أحَدُها: أنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الخَبَرِ، ويُقَدَّرُ: مُعَذَّبُونَ، أوْ قَرِينُهُمُ الشَّيْطانُ، ويَكُونُ العَطْفُ مِن عَطْفِ الجُمَلِ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى الكافِرِينَ، فَيَكُونُ مَجْرُورًا، قالَهُ: الطَّبَرِيُّ. والثّالِثُ: أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، فَيَكُونُ إعْرابُهُ كَإعْرابِ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ. والعَطْفُ في هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ مِن عَطْفِ المُفْرَداتِ. ورِئاءَ مَصْدَرُ راءَ، أوِ انْتِصابُهُ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، وفِيهِ شُرُوطُهُ فَيَنْبَغِي أنْ يُعْدَلَ عَنْهُ. وقِيلَ: هو مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ قالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ، ولَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: ولا يُؤْمِنُونَ أنَّهُ عَطَفَ عَلى صِلَةِ الَّذِينَ، فَيَكُونُ صِلَةً. ولا يَضُرُّ الفَصْلُ بَيْنَ أبْعاضِ الصِّلَةِ بِمَعْمُولٍ لِلصِّلَةِ، إذِ انْتِصابُ رِئاءَ عَلى وجْهَيْهِ بِـ يُنْفِقُونَ. وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ: ولا يُؤْمِنُونَ في مَوْضِعِ الحالِ، فَتَكُونُ الواوُ واوَ الحالِ أيْ: غَيْرَ مُؤْمِنِينَ، والعامِلُ فِيها يُنْفِقُونَ أيْضًا. وحَكى المَهْدَوِيُّ: أنَّهُ يَجُوزُ انْتِصابُ رِئاءَ عَلى الحالِ مِن نَفْسِ المَوْصُولِ لا مِنَ الضَّمِيرِ في يُنْفِقُونَ، فَعَلى هَذا لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ: ولا يُؤْمِنُونَ مَعْطُوفًا عَلى الصِّلَةِ، ولا حالًا مِن ضَمِيرِ يُنْفِقُونَ، لِما يُلْزَمُ مِنَ الفَصْلِ بَيْنَ أبِعاضِ الصِّلَةِ، أوْ بَيْنَ مَعْمُولِ الصِّلَةِ بِأجْنَبِيٍّ وهو رِئاءَ المَنصُوبُ عَلى الحالِ مِن نَفْسِ المَوْصُولِ، بَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ: ولا يُؤْمِنُونَ مُسْتَأْنَفٌ. وهَذا وجْهٌ مُتَكَلَّفٌ. وتُعَلُّقُ رِئاءَ بِقَوْلِهِ: يُنْفِقُونَ واضِحٌ، إمّا عَلى المَفْعُولِ لَهُ، أوِ الحالِ، فَلا يَنْبَغِي أنْ يُعْدَلَ عَنْهُ. وتَكْرارُ لا وحَرْفِ الجَرِّ في قَوْلِهِ: ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ مُفِيدٌ لِانْتِفاءِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الإيمانِ بِاللَّهِ، ومِنَ الإيمانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ. لِأنَّكَ إذا قُلْتَ: لا أضْرِبُ زَيْدًا وعَمْرًا، احْتَمَلَ أنْ لا تَجْمَعُ بَيْنَ ضَرْبَيْهِما. ولِذَلِكَ يَجُوزُ أنْ تَقُولَ بَعْدَ ذَلِكَ: بَلْ أحَدَهُما. واحْتَمَلَ نَفْيَ الضَّرْبِ عَنْ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما عَلى سَبِيلِ الجَمْعِ، وعَلى سَبِيلِ الإفْرادِ. فَإذا قُلْتَ: لا أضْرِبُ زَيْدًا ولا عَمْرًا، تَعَيَّنَ هَذا الِاحْتِمالُ الثّانِي الَّذِي كانَ دُونَ تَكْرارِ ﴿ومَن يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِينًا فَساءَ قَرِينًا﴾ لَمّا ذَكَرَ تَعالى مَنِ اتَّصَفَ بِالبُخْلِ والأمْرِ بِهِ وكِتْمانِ فَضْلِ اللَّهِ تَعالى، والإنْفاقِ رِئاءً، وانْتِفاءَ إيمانِهِ بِاللَّهِ وبِاليَوْمِ الآخِرِ، ذَكَرَ أنَّ هَذِهِ مِن نَتائِجِ مُقارَنَةِ الشَّيْطانِ ومُخالَطَتِهِ ومُلازَمَتِهِ لِلْمُتَّصِفِ بِذَلِكَ، لِأنَّها شَرٌّ مَحْضٌ، إذْ جَمَعَتْ بَيْنَ سُوءِ الِاعْتِقادِ الصّادِرِ عَنْهُ الإنْفاقُ رِئاءً، وسائِرِ تِلْكَ الأوْصافِ المَذْمُومَةِ. ولِذَلِكَ قَدَّمَ تِلْكَ الأوْصافَ وذَكَرَ ما صَدَرَتْ عَنْهُ وهو انْتِفاءُ الإيمانِ بِالمُوجِدِ، وبِدارِ الجَزاءِ. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ ذَلِكَ مِن مُقارَنَةِ الشَّيْطانِ. والقَرِينُ هُنا فَعِيلٌ بِمَعْنى مُفاعِلٍ، كالجَلِيسِ والخَلِيطِ أيِ: المُجالِسُ والمُخالِطُ. والشَّيْطانُ هُنا جِنْسٌ لا يُرادُ بِهِ إبْلِيسُ وحْدَهُ وهو كَقَوْلِهِ: ﴿ومَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهو لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف: ٣٦] ولَهُ مُتَعَلِّقٌ بِـ قَرِينًا أيْ: قَرِينًا لَهُ. والفاءُ جَوابُ الشَّرْطِ، وساءَ هُنا هي الَّتِي بِمَعْنى بِئْسَ لِلْمُبالَغَةِ في الذَّمِّ، وفاعِلُها عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ ضَمِيرٌ عامٌّ، وقَرِينًا تَمْيِيزٌ لِذَلِكَ الضَّمِيرِ. والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ وهو العائِدُ عَلى الشَّيْطانِ الَّذِي هو قَرِينٌ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ساءَ هُنا هي المُتَعَدِّيَةُ ومَفْعُولُها مَحْذُوفٌ وقَرِينًا حالَ، لِأنَّها إذْ ذاكَ تَكُونُ فِعْلًا مُتَصَرِّفًا فَلا تَدْخُلُهُ الفاءُ، أوْ تَدْخُلُهُ مَصْحُوبَةً بِقَدْ. وقَدْ جَوَّزُوا انْتِصابَ قَرِينًا عَلى الحالِ، أوْ عَلى القَطْعِ، وهو ضَعِيفٌ. وبُولِغَ في ذَمِّ هَذا القَرِينِ لِحَمْلِهِ عَلى تِلْكَ الأوْصافِ الذَّمِيمَةِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ وعِيدًا لَهم بِأنَّ الشَّيْطانَ يُقْرَنُ بِهِمْ في النّارِ. انْتَهى. فَتَكُونُ المُقارَنَةُ إذْ ذاكَ في الآخِرَةِ يُقْرَنُ بِهِ في النّارِ فَيَتَلاعَنانِ ويَتَباغَضانِ كَما قالَ: مُقَرَّنِينَ في الأصْفادِ (p-٢٤٩)و(إذا أُلْقُوا مِنها مَكانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ) . وقالَ الجُمْهُورُ: هَذِهِ المُقارَنَةُ هي في الدُّنْيا كَقَوْلِهِ: ﴿وقَيَّضْنا لَهم قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ﴾ [فصلت: ٢٥] و﴿نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهو لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف: ٣٦] و﴿قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أطْغَيْتُهُ﴾ [ق: ٢٧]، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَرَنَ الطَّبَرِيُّ هَذِهِ الآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلًا﴾ [الكهف: ٥٠] وذَلِكَ مَرْدُودٌ، لِأنَّ بَدَلًا حالٌ، وفي هَذا نَظَرٌ. والَّذِي قالَهُ الطَّبَرِيُّ صَحِيحٌ، وبَدَلًا تَمْيِيزٌ لا حالٌ، وهو مُفَسِّرٌ لِلضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في بِئْسَ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ، والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: هم أيِ الشَّيْطانُ وذُرِّيَّتُهُ. وإنَّما ذَهَبَ إلى إعْرابِ المَنصُوبِ بَعْدَ نِعْمَ وبِئْسَ حالًا الكُوفِيُّونَ عَلى اخْتِلافٍ بَيْنَهم مُقَرَّرٌ في عِلْمِ النَّحْوِ.
{"ayah":"وَٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰلَهُمۡ رِئَاۤءَ ٱلنَّاسِ وَلَا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۗ وَمَن یَكُنِ ٱلشَّیۡطَـٰنُ لَهُۥ قَرِینࣰا فَسَاۤءَ قَرِینࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق