الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهم ولا لِيَهْدِيَهم سَبِيلًا﴾ لَمّا أمَرَ بِالأشْياءِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُها، وذَكَرَ أنَّ مَن كَفَرَ بِها أوْ بِشَيْءٍ مِنها فَهو ضالٌّ، أعْقَبَ ذَلِكَ بِفَسادٍ وطَرِيقَةِ مَن كَفَرَ بَعْدَ الإيمانِ، وأنَّهُ لا يَغْفِرُ لَهُ عَلى ما بَيَّنَ. والظّاهِرُ أنَّها في المُنافِقِينَ إذْ هُمُ المُتَلاعِبُونَ بِالدِّينِ؛ فَحَيْثُ لَقُوا المُؤْمِنِينَ ”قالُوا آمَنّا“، وإذا لَقُوا أصْحابَهم ”قالُوا إنّا مُسْتَهْزِئُونَ“، ولِذَلِكَ جاءَ بَعْدَهُ بَشِّرِ المُنافِقِينَ، فَهم مُتَرَدِّدُونَ بَيْنَ إظْهارِ الإيمانِ والكُفْرِ بِاعْتِبارِ مَن يَلْقَوْنَهُ. ومَعْنى ازْدادَ كُفْرًا بِأنْ تَمَّ عَلى نِفاقِهِ حَتّى ماتَ. وقِيلَ ازْدِيادُ كُفْرِهِمْ هو اجْتِماعُهم في اسْتِخْراجِ أنْواعِ المَكْرِ والكَيْدِ في حَرْبِ المُسْلِمِينَ وإلى هَذا ذَهَبَ مُجاهِدٌ، وابْنُ زَيْدٍ. وقالَ الحَسَنُ: هي في الطّائِفَةِ مِن أهْلِ الكِتابِ الَّتِي قالَتْ: ﴿آمَنُوا وجْهَ النَّهارِ واكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ [آل عمران: ٧٢] قَصَدُوا تَشْكِيكَ المُسْلِمِينَ، وازْدِيادَ كُفْرِهِمْ هو أنَّهم بَلَغُوا في ذَلِكَ إلى حَدِّ الِاسْتِهْزاءِ والسُّخْرِيَةِ بِالإسْلامِ. قالَ قَتادَةَ وأبُو العالِيَةِ وطائِفَةٌ، ورَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ: هي في اليَهُودِ والنَّصارى، آمَنَتِ اليَهُودُ بِمُوسى والتَّوْراةِ، ثُمَّ كَفَرُوا، وآمَنَتِ النَّصارى بِعِيسى والإنْجِيلِ، ثُمَّ كَفَرُوا، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ وضَعَّفَ هَذا القَوْلَ ابْنُ عَطِيَّةَ؛ قالَ: يَدْفَعُهُ ألْفاظُ الآيَةِ؛ لِأنَّها في طائِفَةٍ يَتَّصِفُ كُلُّ واحِدٍ مِنها بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ المُتَرَدِّدِينَ بَيْنَ الكُفْرِ والإيمانِ ثُمَّ يَزْدادُ. وقالَ بَعْضُهم: هي في اليَهُودِ آمَنُوا بِالتَّوْراةِ، ومُوسى ثُمَّ كَفَرا بِعُزَيْرٍ، ثُمَّ آمَنُوا بِداوُدَ، ثُمَّ كَفَرُوا بِعِيسى، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا عِنْدَ مَقْدَمِ مُحَمَّدٍ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ الآيَةَ في المُتَرَدِّدِينَ، فَإنَّ المُؤْمِنَ إذا ارْتَدَّ ثُمَّ آمَنَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ إلى الثَّلاثِ، ثُمَّ لا تُقْبَلُ، ويُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالنّارِ. وقالَ القَفّالُ: لَيْسَ المُرادُ بَيانَ هَذا العَدَدِ، بَلِ المُرادُ تَرَدُّدُهم كَما قالَ: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [النساء: ١٤٣]، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿بَشِّرِ المُنافِقِينَ﴾ . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: المَعْنى أنَّ الَّذِينَ تَكَرَّرَ مِنهُمُ الِارْتِدادُ، وعُهِدَ مِنهُمُ ازْدِيادُ الكُفْرِ والإصْرارُ عَلَيْهِ يُسْتَبْعَدُ مِنهم أنْ يُحْدِثُوا ما يَسْتَحِقُّونَ بِهِ المَغْفِرَةَ، ويَسْتَوْجِبُونَ اللُّطْفَ مِن إيمانٍ صَحِيحٍ ثابِتٍ يَرْضاهُ اللَّهُ؛ لِأنَّ قُلُوبَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَذا دَيْدَنُهم قُلُوبٌ قَدْ ضُرِبَتْ بِالكُفْرِ، ومَرِئَتْ عَلى الرِّدَّةِ، وكانَ الإيمانُ أهْوَنَ شَيْءٍ (p-٣٧٣)عِنْدَهم، وأدْوَنَهُ حَيْثُ يَدُلُّونَهم فِيهِ كَرَّةً بَعْدَ أُخْرى، ولَيْسَ المَعْنى أنَّهم لَوْ أخْلَصُوا الإيمانَ بَعْدَ تَكْرارِ الرِّدَّةِ، ونَصَحَتْ تَوْبَتُهم لَمْ تُقْبَلْ مِنهم، ولَمْ يُغْفَرْ لَهم؛ لِأنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ حَيْثُ هو بَذْلُ الطّاقَةِ، واسْتِفْراغُ الوُسْعِ، ولَكِنَّهُ اسْتِبْعادٌ لَهُ واسْتِغْرابٌ، وأنَّهُ أمْرٌ لا يَكادُ يَكُونُ. وهَكَذا نَرى الفاسِقَ الَّذِي يَتُوبُ، ثُمَّ يَرْجِعُ لا يَكادُ يُرْجى مِنهُ الثَّباتُ؛ والغالِبُ أنَّهُ يَمُوتُ عَلى شَرِّ حالٍ وأقْبَحِ صُورَةٍ، انْتَهى كَلامُهُ. وفي بَعْضِهِ ألْفاظٌ مِن ألْفاظِ الِاعْتِزالِ. ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ الجُمْهُورُ عَلى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ؛ أيْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا، وماتُوا عَلى الكُفْرِ؛ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ مِن هَذِهِ الشَّرِيعَةِ أنَّهُ لَوْ آمَنَ وكَفَرَ مِرارًا، ثُمَّ تابَ عَنِ الكُفْرِ، وآمَنَ ووافى تائِبًا أنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ ما جَناهُ في كُفْرِهِ السّابِقِ، وإنْ تَرَدَّدَ فِيهِ مِرارًا. وقِيلَ يَحْمِلُ عَلى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ عَلِمَ اللَّهُ مِنهم أنَّهم يَمُوتُونَ عَلى الكُفْرِ، ولا يَتُوبُونَ عَنْهُ؛ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهم إخْبارًا عَنْ مَوْتِهِمْ عَلى الكُفْرِ. وقِيلَ الكَلامُ خَرَجَ عَلى الغالِبِ المُعْتادِ، وهو أنَّ مَن كانَ كَثِيرَ الِانْتِقالِ مِنَ الإسْلامِ إلى الكُفْرِ لَمْ يَكُنْ لِلْإيمانِ في قَلْبِهِ وقْعٌ، ولا عِظَمُ قَدْرٍ. والظّاهِرُ مِن حالِ مِثْلِ هَذا أنَّهُ يَمُوتُ عَلى الكُفْرِ. وفِي قَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ مَخْتُومٌ عَلَيْهِمْ بِانْتِفاءِ الغُفْرانِ وهِدايَةِ السَّبِيلِ، وأنَّهم تَقَرَّرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ في الدُّنْيا، وهم أحْياءُ، وهَذِهِ فائِدَةُ المَجِيءِ بِلامِ الجُحُودِ، فَفَرْقٌ بَيْنَ لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ يَقُومُ، وبَيْنَ لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ لِيَقُومَ. فالأوَّلُ لَيْسَ فِيهِ إلّا انْتِفاءُ القِيامِ والثّانِي فِيهِ انْتِفاءُ الإرادَةِ والإيتاءِ لِلْقِيامِ، ويَلْزَمُ مِنَ انْتِفاءِ إرادَةِ القِيامِ نَفْيُ القِيامِ، وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا الكَلامُ عَلى ذَلِكَ مُشْبِعًا في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَفْيٌ لِلْغُفْرانِ والهِدايَةِ، وهي اللُّطْفُ عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ الَّتِي تُوَطِّئُها اللّامُ؛ والمُرادُ: بِنَفْيِهِما نَفْيُ ما يَقْتَضِيهِما، وهو الإيمانُ الخالِصُ الثّابِتُ، انْتَهى. وظاهِرُ كَلامِهِ أنَّهُ يَقُولُ بِقَوْلِ الكُوفِيِّينَ، وهو أنَّهم يَقُولُونَ: إذا قُلْتَ لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ لِيَقُومَ: إنَّ خَبَرَ لَمْ يَكُنْ هو قَوْلُكَ (لِيَقُومَ) واللّامُ لِلتَّأْكِيدِ زِيدَتْ في النَّفْيِ، والمَنفِيُّ هو القِيامُ، ولَيْسَتْ أنْ مُضْمَرَةً بَلِ اللّامُ هي النّاصِبَةُ. والبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ: النَّصْبُ بِإضْمارِ (أنْ)، ويَنْسَبِكُ مِن (أنِ) المُضْمَرَةِ والفِعْلِ بَعْدَها مَصْدَرٌ، وذَلِكَ المَصْدَرُ لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ خَبَرًا؛ لِأنَّهُ مَعْنًى والمُخْبَرُ عَنْهُ جُثَّةٌ. ولَكِنَّ الخَبَرَ مَحْذُوفٌ واللّامُ تَقْوِيَةٌ لِتَعْدِيَةِ ذَلِكَ الخَبَرِ إلى المَصْدَرِ لِأنَّهُ جُثَّةٌ. وأُضْمِرَتْ (أنْ) بَعْدَها، وصارَتِ اللّامُ كالعِوَضِ مِن أنِ المَحْذُوفَةِ؛ ولِذَلِكَ لا يَجُوزُ حَذْفُ هَذِهِ اللّامِ، ولا الجَمْعُ بَيْنَها وبَيْنَ (أنْ) ظاهِرَةً. ومَعْنى قَوْلِهِ: والمُرادُ بِنَفْيِهِما نَفْيُ ما يَقْتَضِيهِما أنَّ المَعْنى لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا فَيَغْفِرَ اللَّهُ لَهم، ويَهْدِيَهم. ﴿بَشِّرِ المُنافِقِينَ بِأنَّ لَهم عَذابًا ألِيمًا﴾ الخِطابُ لِلرَّسُولِ. ومَعْنى (بَشِّرْ) أخْبِرْ، وجاءَ بِلَفْظِ (بَشِّرْ) عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١]؛ أيِ القائِمِ لَهم مَقامَ البِشارَةِ، هو الإخْبارُ بِالعَذابِ، كَما قالَ: ؎تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وجِيعٌ وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: جاءَتِ البِشارَةِ هُنا مِصُرَّحًا بِفَيْدِها؛ فَلِذَلِكَ حَسُنَ اسْتِعْمالُها في المَكْرُوهِ. ومَتى جاءَتْ مُطْلَقَةً فَإنَّما عَرَفَها في المَحْبُوبِ. وفي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الَّتِي قَبْلَها إنَّما هي في المُنافِقِينَ. وقالَ الماتُرِيدِيُّ: بَشِّرِ المُنافِقِينَ يَدُلُّ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾ [النساء: ١٣٦] في أهْلِ النِّفاقِ والمُراءاةِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرٌ لِلْمُنافِقِينَ سِوى هَذِهِ الآيَةِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ابْتِداءً مِن غَيْرِ تَقَدُّمِ ذِكْرِ المُنافِقِينَ. ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ أيِ اليَهُودِ والنَّصارى ومُشْرِكِي العَرَبِ، أوْلِياءَ أنْصارًا ومُعِينِينَ يُوالُونَهم عَلى الرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ، ونَصَّ مِن صِفاتِ المُنافِقِينَ عَلى أشَدِّها ضَرَرًا عَلى المُؤْمِنِينَ، وهي مُوالاتُهُمُ الكُفّارَ، واطِّراحُهُمُ المُؤْمِنِينَ، ونَبَّهَ عَلى فَسادِ ذَلِكَ لِيَدَعَهُ مَن عَسى أنْ يَقَعَ في نَوْعٍ مِنهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَفْلَةً أوْ جَهالَةً أوْ مُسامَحَةً. والَّذِينَ: نَعْتٌ لِلْمُنافِقِينَ، أوْ نَصْبٌ عَلى الذَّمِّ، أوْ رَفْعٌ عَلى خَبَرِ المُبْتَدَأِ؛ أيْ هُمُ الَّذِينَ. (p-٢٧٤)﴿أيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ﴾ أيِ الغَلَبَةَ والشِّدَّةَ والمَنَعَةَ بِمُوالاتِهِمْ، وقَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: لا يَتِمُّ أمْرُ مُحَمَّدٍ. وفي هَذا الِاسْتِفْهامِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّهم لا عِزَّةَ لَهم؛ فَكَيْفَ تَبْتَغِي مِنهم ؟ وعَلى خُبْثِ مَقْصِدِهِمْ. وهو طَلَبُ العِزَّةِ بِالكَفّارِ والِاسْتِكْثارُ بِهِمْ. ﴿فَإنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾؛ أيْ لِأوْلِيائِهِ الَّذِينَ كَتَبَ لَهُمُ العِزَّ والغَلَبَةَ عَلى اليَهُودِ وغَيْرِهِمْ. قالَ تَعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأغْلِبَنَّ أنا ورُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة: ٢١] . وقالَ: ﴿ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ ولَكِنَّ المُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: ٨] . وقالَ تَعالى: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا﴾ [فاطر: ١٠] والفاءُ في ﴿فَإنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ﴾ دَخَلَتْ لِما في الكَلامِ مِن مَعْنى الشَّرْطِ والمَعْنى أنْ تَبْتَغُوا العِزَّةَ مِن هَؤُلاءِ فَإنَّ العِزَّةَ، وانْتَصَبَ جَمِيعًا عَلى الحالِ. ﴿وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكم في الكِتابِ أنْ إذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها ويُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهم حَتّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ الخِطابُ لِمَن أظْهَرَ الإيمانَ مِن مُخْلِصٍ ومُنافِقٍ. وقِيلَ لِلْمُنافِقِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهم، ويَكُونُ التِفاتًا. وكانُوا يَجْلِسُونَ إلى أحْبارِ اليَهُودِ، وهم يَخُوضُونَ في القُرْآنِ يَسْمَعُونَ مِنهم؛ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وذُكِّرُوا بِما نُزِّلَ عَلَيْهِمْ بِ مَكَّةَ مِن قَوْلِهِ: ﴿وإذا رَأيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آياتِنا فَأعْرِضْ عَنْهم حَتّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام: ٦٨] . وقَرَأ الجُمْهُورُ: وقَدْ نُزِّلَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقَرَأ عاصِمٌ: نَزَّلَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ وحُمَيْدٌ: نَزَلَ مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ. وقَرَأ النَّخَعِيُّ: أُنْزِلَ بِالهَمْزَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، ومَحَلُّ (أنْ) رَفْعٌ أوْ نَصْبٌ عَلى حَسَبِ العامِلِ؛ فَنُصِبَ عَلى قِراءَةِ عاصِمٍ، ورُفِعَ عَلى الفاعِلِ عَلى قِراءَةِ أبِي حَيْوَةَ وحُمَيْدٍ، وعَلى المَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ عَلى قِراءَةِ الباقِينَ. وإنْ هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، واسْمُها ضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ، وتَقْدِيرُهُ: ذَلِكَ أنَّهُ إذا سَمِعْتُمْ. وما قَدَّرَهُ أبُو البَقاءِ مِن قَوْلِهِ: أنَّكم إذا سَمِعْتُمْ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأنَّها إذا خُفِّفَتْ إنْ لَمْ تَعْمَلْ في ضَمِيرِ إلّا إذا كانَ ضَمِيرَ أمْرٍ وشَأْنٍ مَحْذُوفٍ، وإعْمالُها في غَيْرِهِ ضَرُورَةٌ نَحْوُ قَوْلِهِ: ؎فَلَوْ أنْكِ في يَوْمِ الرَّخاءِ سَألْتِنِي ∗∗∗ طَلاقَكِ لَمْ أبْخَلْ وأنْتِ صَدِيقُ وخَبَرُ أنْ هي الجُمْلَةُ مِن (إذا) وجَوابِها. ومِثالُ وُقُوعِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ خَبَرًا لِـ (أنْ) المُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎فَعَلِمْتُ أنْ مَن تَتَّقُوهُ فَإنَّهُ ∗∗∗ جُزْرٌ لِخامِعَةٍ وفَرْخِ عُقابِ و(يُكْفَرُ بِها) في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ، والضَّمِيرُ في مَعَهم عائِدٌ عَلى المَحْذُوفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يُكْفَرُ بِها ويُسْتَهْزَأُ؛ أيْ فَلا تَقْعُدُوا مَعَ الكافِرِينَ المُسْتَهْزِئِينَ، وحَتّى غايَةٌ لِتَرْكِ القُعُودِ مَعَهم. ومَفْهُومُ الغايَةِ أنَّهم إذا خاضُوا في غَيْرِ الكُفْرِ والِاسْتِهْزاءِ ارْتَفَعَ النَّهْيُ؛ فَجازَ لَهم أنْ يَقْعُدُوا مَعَهم. والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى ما دَلَّ عَلَيْهِ المَعْنى؛ أيْ في حَدِيثٍ غَيْرِ حَدِيثِهِمُ الَّذِي هو كُفْرٌ واسْتِهْزاءٌ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُفْرَدَ الضَّمِيرُ، وإنْ كانَ عائِدًا عَلى الكُفْرِ، وعَلى الِاسْتِهْزاءِ المَفْهُومَيْنِ مِن قَوْلِهِ: يُكْفَرُ بِها، ويُسْتَهْزَأُ بِها؛ لِأنَّهُما راجِعانِ إلى مَعْنًى واحِدٍ، ولِأنَّهُ أجْرى الضَّمِيرَ مَجْرى اسْمِ الإشارَةِ في كَوْنِهِ لِمُفْرَدٍ، وإنْ كانَ المُرادُ بِهِ اثْنَيْنِ. ﴿إنَّكم إذًا مِثْلُهُمْ﴾ حَكَمَ تَعالى بِأنَّهم إذا قَعَدُوا مَعَهم، وهم يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، ويَسْتَهْزِئُونَ بِها، وهم قادِرُونَ عَلى الإنْكارِ مِثْلُهم في الكُفْرِ؛ لِأنَّهم يَكُونُونَ راضِينَ بِالكُفْرِ والرِّضا بِالكُفْرِ كُفْرٌ. والخِطابُ في أنَّكم عَلى الخِلافِ السّابِقِ أهْوَ لِلْمُنافِقِينَ ؟ أمْ لِلْمُؤْمِنِينَ ؟ ولَمْ يَحْكم تَعالى عَلى المُسْلِمِينَ الَّذِينَ كانُوا يُجالِسُونَ الخائِضِينَ مِنَ المُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ بِأنَّهم مِثْلُ المُشْرِكِينَ لِعَجْزِ المُسْلِمِينَ إذْ ذاكَ عَنِ الإنْكارِ بِخِلافِ المَدِينَةِ؛ فَإنَّ الإسْلامَ كانَ الغالِبَ فِيها والأعْلى؛ فَهم قادِرُونَ عَلى الإنْكارِ والسّامِعُ لِلذَّمِّ شَرِيكٌ لِلْقائِلِ، وما أحْسَنَ ما قالَ الشّاعِرُ: ؎وسَمْعَكَ صُنْ عَنْ سَماعِ القَبِيحِ ∗∗∗ كَصَوْنِ اللِّسانِ عَنِ النُّطْقِ بِهْ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذِهِ المُماثَلَةُ لَيْسَتْ في جَمِيعِ الصِّفاتِ، ولَكِنَّهُ إلْزامٌ شُبِّهَ بِحُكْمِ الظّاهِرِ مِنَ المُقارَنَةِ (p-٣٧٥)كَقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎عَنِ المَرْءِ لا تَسْألْ وسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ∗∗∗ فَكُلُّ قَرِينٍ بِالمُقارَنِ يَقْتَدِي ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ أنَّهُ أخَذَ قَوْمًا يَشْرَبُونَ الخَمْرَ؛ فَقِيلَ لَهُ عَنْ أحَدِ الحاضِرِينَ: إنَّهُ صائِمٌ فَحَمَلَ عَلَيْهِ الأدَبَ، وقَرَأ: ﴿إنَّكم إذًا مِثْلُهُمْ﴾ . ومَن ذَهَبَ إلى أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿إنَّكم إذًا مِثْلُهُمْ﴾، إنْ خُضْتُمْ كَخَوْضِهِمْ، ووافَقْتُمُوهم عَلى ذَلِكَ فَأنْتُمْ كُفّارٌ مِثْلُهم، قَوْلُهُ تَنْبُو عَنْهُ دَلالَةُ الكَلامِ. وإنَّما المَعْنى ما قَدَّمْناهُ مِن أنَّكم إذا قَعَدْتُمْ مَعَهم مِثْلُهم. وإذا هُنا تَوَسَّطَتْ بَيْنَ الِاسْمِ والخَبَرِ، وأفْرَدَ مِثْلَ لِأنَّ المَعْنى، إنَّ عِصْيانَكم مِثْلُ عِصْيانِهِمْ؛ فالمَعْنى عَلى المَصْدَرِ كَقَوْلِهِ: ﴿أنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا﴾ [المؤمنون: ٤٧]، وقَدْ جَمَعَ في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ لا يَكُونُوا أمْثالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٨]، وفي قَوْلِهِ: ﴿حُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة: ٢٢] ﴿كَأمْثالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ﴾ [الواقعة: ٢٣] والإفْرادُ والمُطابَقَةُ في التَّثْنِيَةِ أوِ الجَمْعِ جائِزانِ. وقُرِئَ شاذًّا (مِثْلَهم) بِفَتْحِ اللّامِ، فَخَرَّجَهُ البَصْرِيُّونَ عَلى أنَّهُ مَبْنِيٌّ لِإضافَتِهِ إلى مَبْنِيٍّ كَقَوْلِهِ: ﴿لَحَقٌّ مِثْلَ ما أنَّكم تَنْطِقُونَ﴾ [الذاريات: ٢٣] عَلى قِراءَةِ مَن فَتَحَ اللّامَ والكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَ في (مِثْلَ) أنْ يَنْتَصِبَ مَحَلًّا، وهو الظَّرْفُ، فَيَجُوزُ عِنْدَهم زَيْدٌ مِثْلَكَ بِالنَّصْبِ أيْ في مِثْلِ حالِكَ؛ فَعَلى قَوْلِهِمْ يَكُونُ انْتِصابُ ”مِثْلَهم“ عَلى المَحَلِّ، وهو الظَّرْفُ. ﴿إنَّ اللَّهَ جامِعُ المُنافِقِينَ والكافِرِينَ في جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ لِما اتَّخَذُوهم في الدُّنْيا أوْلِياءَ، جَمَعَ بَيْنَهم في الآخِرَةِ في النّارِ والمَرْءُ مَعَ مَن أحَبَّ، وهَذا تَوَعُّدٌ مِنهُ تَعالى، تَأكَّدَ بِهِ التَّحْذِيرُ مِن مُجالَسَتِهِمْ ومُخالَطَتِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب