الباحث القرآني

﴿ومَن يَعْمَلْ سُوءًا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ الظّاهِرُ أنَّهُما غَيْرانِ عَمَلُ السُّوءِ القَبِيحِ الَّذِي يَسُوءُ غَيْرَهُ، كَما فَعَلَ طُعْمَةُ بِقَتادَةَ واليَهُودِيِّ. وظُلْمُ النَّفْسِ ما يَخْتَصُّ بِهِ كالحَلِفِ الكاذِبِ. وقِيلَ: ومَن يَعْمَلْ سُوءًا مِن ذَنْبٍ دُونَ الشِّرْكِ، أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بِالشِّرْكِ، انْتَهى. وقِيلَ السُّوءُ الذَّنْبُ الصَّغِيرُ، وظُلْمُ النَّفْسِ الذَّنْبُ الكَبِيرُ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: وخَصَّ ما يُبْدِي إلى الغَيْرِ بِاسْمِ السُّوءِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يَكُونُ في الأكْثَرِ، لا يَكُونُ ضَرَرًا حاضِرًا؛ لِأنَّ الإنْسانَ لا يُوَصِّلُ الضَّرَرَ إلى نَفْسِهِ. وقِيلَ السُّوءُ هُنا السَّرِقَةُ. وقِيلَ الشِّرْكُ. وقِيلَ كُلُّ ما يَأْثَمُ بِهِ. وقِيلَ ظُلْمُ النَّفْسِ هُنا رَمْيُ البَرِيءِ بِالتُّهْمَةِ. وقِيلَ ما دُونُ الشِّرْكِ مِنَ المَعاصِي. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُما بِمَعْنًى واحِدٍ تَكَرَّرَ بِاخْتِلافِ لَفْظٍ مُبالَغَةً. والظّاهِرُ تَعْلِيقُ الغُفْرانِ والرَّحْمَةِ لِلْعاصِي عَلى مُجَرَّدِ الِاسْتِغْفارِ، وأنَّهُ كافٍ، وهَذا مُقَيَّدٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ. وشَرَطَ بَعْضُهم مَعَ الِاسْتِغْفارِ التَّوْبَةَ، وخَصَّ بَعْضُهم ذَلِكَ بِأنْ تَكُونَ المَعْصِيَةُ مِمّا بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ رَبِّهِ، دُونَ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ العَبِيدِ. وقِيلَ الِاسْتِغْفارُ التَّوْبَةُ. وفي لَفْظَةٍ: ﴿يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، مُبالَغَةٌ في الغُفْرانِ. كَأنَّ المَغْفِرَةَ والرَّحْمَةَ مُعَدّانِ لِطالِبِهِما، مُهَيَّآنِ لَهُ مَتى طَلَبَهُما وجَدَهُما. وهَذِهِ الآيَةُ فِيها لُطْفٌ عَظِيمٌ ووَعْدٌ كَرِيمٌ لِلْعُصاةِ إذا اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ، وفِيها تُطْلَبُ تَوْبَةُ بَنِي أُبَيْرِقٍ والذّابِّينَ عَنْهم، واسْتِدْعاؤُهم لَها. وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أنَّها مِن أرْجى الآياتِ. ﴿ومَن يَكْسِبْ إثْمًا فَإنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ الإثْمُ: جامِعٌ لِلسُّوءِ وظُلْمِ النَّفْسِ السّابِقَيْنِ، (p-٣٤٦)والمَعْنى: إنَّ وبالَ ذَلِكَ لاحِقٌ لَهُ، لا يَتَعَدّاهُ إلى غَيْرِهِ، وهو إشارَةٌ إلى الجَزاءِ اللّاحِقِ لَهُ في الآخِرَةِ. وخَتَمَها بِصِفَةِ العِلْمِ؛ لِأنَّهُ يَعْلَمُ جَمِيعَ ما يَكْسِبُ، لا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ. ثُمَّ بِصِفَةِ الحِكْمَةِ؛ لِأنَّهُ واضِعُ الأشْياءِ مَواضِعَها، فَيُجازِي عَلى ذَلِكَ الإثْمِ بِما تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ. فالصِّفَتانِ أشارَتا إلى عِلْمِهِ بِذَلِكَ الإثْمِ وإلى ما يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ فاعِلُهُ. وفي لَفْظَةٍ: عَلى دَلالَةِ اسْتِعْلاءِ الإثْمِ عَلَيْهِ، واسْتِيلائِهِ وقَهْرِهِ لَهُ. ﴿ومَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانًا وإثْمًا مُبِينًا﴾ قِيلَ نَزَلَتْ في طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ حِينَ سَرَقَ الدِّرْعَ، ورَماها في دارِ اليَهُودِيِّ. ورَوى الضَّحّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّها نَزَلَتْ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ؛ إذْ رَمى عائِشَةَ بِالإفْكِ. وظاهِرُ العَطْفِ بَـ (أْوِ) المُغايِرَةُ، فَقِيلَ الخَطِيئَةُ ما كانَ عَنْ غَيْرِ عَمْدٍ. والإثْمُ ما كانَ عَنْ عَمْدٍ والصَّغِيرَةُ والكَبِيرَةُ، أوِ القاصِرُ عَلى فِعْلٍ والمُتَعَدِّي إلى غَيْرِهِ. وقِيلَ الخَطِيئَةُ سَرِقَةُ الدِّرْعِ، والإثْمُ يَمِينُهُ الكاذِبَةُ. وقالَ ابْنُ السّائِبِ: الخَطِيئَةُ يَمِينُ السّارِقِ الكاذِبَةُ والإثْمُ سَرِقَةُ الدِّرْعِ، ورَمْيُ اليَهُودِيِّ بِهِ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: الخَطِيئَةُ تَكُونُ عَنْ عَمْدٍ وغَيْرِ عَمْدِ، والإثْمُ لا يَكُونُ إلّا عَنْ عَمْدٍ. وقِيلَ هُما لَفْظانِ بِمَعْنًى واحِدٍ، كُرِّرا مُبالَغَةً. والضَّمِيرُ في: بِهِ عائِدٌ عَلى الإثْمِ، والمَعْطُوفُ بِـ (أوْ) يَجُوزُ أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلى المَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: ﴿انْفَضُّوا إلَيْها﴾ [الجمعة: ١١]، وعَلى المَعْطُوفِ كَهَذا. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في ذَلِكَ بِأشْبَعَ مِن هَذا. وقِيلَ يَعُودُ عَلى الكَسْبِ المَفْهُومِ مِن يَكْسِبُ. وقِيلَ عَلى المَكْسُوبِ. وقِيلَ يَعُودُ عَلى أحَدِ المَذْكُورَيْنِ الدّالِّ عَلَيْهِ العَطْفُ بَـ (أوْ)، كَأنَّهُ قِيلَ ثُمَّ يَرْمِ بِأحَدِ المَذْكُورَيْنِ. وقِيلَ ثَمَّ مَحْذُوفٌ؛ تَقْدِيرُهُ: ومَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا أوْ إثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا؛ وهَذِهِ تَخارِيجُ مَن لَمْ يَتَحَقَّقْ بِشَيْءٍ مِن عِلْمِ النَّحْوِ. والبَرِيءُ المُتَّهَمُ بِالذَّنْبِ ولَمْ يُذْنِبْ. ومَعْنى: ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانًا﴾، أيْ بِرَمْيِهِ البَرِيءَ؛ فَإنَّهُ يَبْهَتُهُ بِذَلِكَ، ﴿وإثْمًا مُبِينًا﴾ أيْ: ظاهِرًا لِكَسْبِهِ الخَطِيئَةَ أوِ الإثْمَ، والمَعْنى: أنَّهُ يَسْتَحِقُّ عِقابَيْنِ: عِقابَ الكَسْبِ وعِقابَ البُهْتِ. وقَدَّمَ البُهْتَ لِقُرْبِهِ مِن قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾؛ ولِأنَّهُ ذَنْبٌ أفْظَعُ مِن كَسْبِ الخَطِيئَةِ أوِ الإثْمِ. ولَفْظٌ احْتَمَلَ أبْلَغَ مِن حَمْلٍ، لِأنَّ افْتَعَلَ فِيهِ لِلتَّسَبُّبِ كاعْتَمَلَ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ افْتَعَلَ فِيهِ كالمُجَرَّدِ كَما قالَ: ﴿ولَيَحْمِلُنَّ أثْقالَهُمْ﴾ [العنكبوت: ١٣] فَيَكُونُ كَقَدَرَ واقْتَدَرَ. لَمّا كانَ الوِزْرُ يُوصَفُ بِالفِعْلِ جاءَ ذِكْرُ الحَمْلِ والِاحْتِمالِ وهو اسْتِعارَةٌ. جُعِلَ المَجْنِيُّ كالجِرْمِ المَحْمُولِ. ولَفْظَةُ: (ومَن) تَدُلُّ عَلى العُمُومِ، فَلا يَنْبَغِي أنْ تُخَصَّ بِبَنِي أُبَيْرِقٍ، بَلْ هم مُنْدَرِجُونَ فِيها. وقَرَأ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ: ومَن يَكِسِّبْ بِكَسْرِ الكافِ وتَشْدِيدِ السِّينِ، وأصْلُهُ: يَكْتَسِبْ. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ: (خَطِيَّةً) بِالتَّشْدِيدِ. ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ ورَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنهم أنْ يُضِلُّوكَ وما يُضِلُّونَ إلّا أنْفُسَهم وما يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ﴾ الظّاهِرُ: أنَّ الضَّمِيرَ في مِنهم عائِدٌ عَلى بَنِي ظُفَرٍ المُجادِلِينَ والذّابِّينَ عَنْ بَنِي أُبَيْرِقٍ. أيْ: فَلَوْلا عِصْمَتُهُ وإيحاؤُهُ إلَيْكَ بِما كَتَمُوهُ، لَهَمُّوا بِإضْلالِكَ عَنِ القَضاءِ بِالحَقِّ وتَوَخِّي طَرِيقِ العَدْلِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأنَّ الجانِيَ هو صاحِبُهم. فَقَدْ رُوِيَ أنَّ ناسًا مِنهم كانُوا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ القِصَّةِ؛ هَذا فِيهِ بَعْضُ كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ مِن رِوايَةِ السّائِبِ: أنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بِقِصَّةِ طُعْمَةَ وأصْحابِهِ، حَيْثُ لَبَّسُوا عَلى الرَّسُولِ أمْرَ صاحِبِهِمْ. ورَوى الضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّها نَزَلَتْ في «وفْدِ ثَقِيفٍ قَدِمُوا عَلى الرَّسُولِ ﷺ قالُوا: جِئْناكَ نُبايِعُكَ عَلى أنْ لا نُحْشَرَ ولا نُعْشَرَ، وعَلى أنْ تَمَتِّعَنا بِالعُزّى سَنَةً؛ فَلَمْ يُجِبْهم فَنَزَلَتْ» . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وفَّقَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلى مِقْدارِ عِصْمَتِهِ لَهُ، وأنَّها بِفَضْلٍ مِنَ اللَّهِ ورَحْمَتِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: لَهَمَّتْ مَعْناهُ لَجَعَلَتْهُ هَمَّها وشُغْلَها حَتّى تُنَفِّذَهُ؛ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الألْفاظَ عامَّةٌ في غَيْرِ أهْلِ النّازِلَةِ، وإلّا فَأهْلُ الغَضَبِ لِبَنِي أُبَيْرِقٍ، وقَدْ وقَعَ هَمُّهم وثَبَتَ. والمَعْنى: ولَوْلا عِصْمَةُ اللَّهِ لَكَ لَكانَ في النّاسِ مَن يَشْتَغِلُ بِإضْلالِكَ ويَجْعَلُهُ هَمَّ نَفْسِهِ، كَما فَعَلَ هَؤُلاءِ، لَكِنَّ العِصْمَةَ (p-٣٤٧)تُبْطِلُ كَيْدَ الجَمْعِ انْتَهى. والظّاهِرُ القَوْلُ الأوَّلُ كَما ذَكَرْنا إلّا أنَّ الهَمَّ يَحْتاجُ إلى قَيْدٍ أيْ: لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنهم هَمًّا يُؤَثِّرُ عِنْدَكَ. ولا بُدَّ مِن هَذا القَيْدِ، لِأنَّهم هَمُّوا حَقِيقَةً أعْنِي: المُجادِلِينَ عَنْ بَنِي أُبَيْرِقٍ، أوْ يَخُصُّ الضَّلالَ عَنِ الدِّينِ فَإنَّ الهَمَّ بِذَلِكَ أيْ: لَهَمُّوا بِإضْلالِكَ عَنْ شَرِيعَتِكَ ودِينِكَ، وعِصْمَةُ اللَّهِ إيّاكَ مَنَعَتْهم أنْ يُخْطِرُوا ذَلِكَ بِبالِهِمْ. ﴿وما يُضِلُّونَ إلّا أنْفُسَهم وما يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ﴾ أيْ: وبالُ ما أقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّعاوُنِ عَلى الإثْمِ والبُهْتِ، وشَهادَةِ الزُّورِ؛ إنَّما هو يَخُصُّهم. وما يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ”مِن“ تَدَلُّ عَلى العُمُومِ نَصًّا أيْ: لا يَضُرُّونَكَ قَلِيلًا ولا كَثِيرًا. قالَ القَفّالُ: وهَذا وعْدٌ بِالعِصْمَةِ في المُسْتَقْبَلِ. ﴿وأنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ﴾ الكِتابُ: هو القُرْآنُ. والحِكْمَةُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُها والمَعْنى: إنَّ مَن أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الكِتابَ والحِكْمَةَ وأهَّلَهُ لِذَلِكَ، وأمَرَهُ بِتَبْلِيغِ ذَلِكَ، هو مَعْصُومٌ مِنَ الوُقُوعِ في الضَّلالِ والشُّبَهِ. ﴿وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُقاتِلٌ: هو الشَّرْعُ. وقالَ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ: أخْبارُ الأوَّلِينَ والآخَرِينَ. وذَكَرَ الماوَرْدِيُّ: الكِتابَ والحِكْمَةَ، وذَكَرَ أيْضًا مِقْدارَ نَفْسِكَ النَّفِيسَةِ. وقِيلَ: خَفِيّاتُ الأُمُورِ، وضَمائِرُ الصُّدُورِ الَّتِي لا يَطَّلِعُ عَلَيْها إلّا بِوَحْيٍ. وقالَ القَفّالُ: يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يُرادَ ما يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ كَما قالَ تَعالى: ﴿ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ ولا الإيمانُ﴾ [الشورى: ٥٢] وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: وأطْلَعَكَ عَلى أسْرارِ الكِتابِ والحِكْمَةِ، وعَلى حَقائِقِهِما، مَعَ أنَّكَ ما كُنْتَ عالِمًا بِشَيْءٍ؛ فَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِكَ في مُسْتَأْنَفِ أيّامِكَ؛ لا يَقْدِرُ أحَدٌ مِنَ المُنافِقِينَ عَلى إضْلالِكَ ولا عَلى اسْتِزْلالِكَ. الثّانِي: ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ مِن أخْبارِ القُرُونِ السّالِفَةِ، فَكَذَلِكَ يُعَلِّمُكَ مِن حِيَلِ المُنافِقِينَ وكَيْدِهِمْ ما لا يُقْدَرُ عَلى الِاحْتِرازِ مِنهُ، انْتَهى. وفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. والظّاهِرُ العُمُومُ، فَيَشْمَلُ جَمِيعَ ما ذَكَرُوهُ. فالمَعْنى: الأشْياءُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُها؛ لَوْلا إعْلامُهُ إيّاكَ إيّاها. ﴿وكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ قِيلَ: المِنَّةُ بِالإيمانِ. وقالَ أبُو سُلَيْمانَ: هو ما خَصَّهُ بِهِ تَعالى. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: هَذا مِن أعْظَمِ الدَّلائِلِ عَلى أنَّ العِلْمَ أشْرَفُ الفَضائِلِ والمَناقِبِ. وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ تَعالى ما أعْطى الخَلْقَ مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا، ونَصِيبُ الشَّخْصِ مِن عُلُومِ الخَلائِقِ يَكُونُ قَلِيلًا، ثُمَّ إنَّهُ سَمّى ذَلِكَ القَلِيلَ عَظِيمًا. وتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ أنْواعًا مِنَ الفَصاحَةِ والبَيانِ والبَدِيعِ؛ مِنها الِاسْتِعارَةُ في: ﴿وإذا ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ﴾ [النساء: ١٠١]، وفي: (﴿فَيَمِيلُونَ﴾ [النساء: ١٠٢] اسْتَعارَ المَيْلَ لِلْحَرْبِ. والتَّكْرارُ في: ( جُناحٌ) و(لا جُناحَ) لِاخْتِلافِ مُتَعَلِّقِهِما، وفي: ﴿فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ﴾ [النساء: ١٠٢]، ﴿ولْتَأْتِ طائِفَةٌ﴾ [النساء: ١٠٢]، وفي: الحَذَرِ والأسْلِحَةِ، وفي: (الصَّلاةِ)، وفي: ﴿تَأْلَمُونَ﴾ [النساء: ١٠٤]، وفي: اسْمِ اللَّهِ. والتَّجْنِيسُ المُغايِرُ في: ﴿فَيَمِيلُونَ﴾ [النساء: ١٠٢] ﴿مَيْلَةً﴾ [النساء: ١٠٢]، وفي: (كَفَرُوا)، ﴿إنَّ الكافِرِينَ﴾ [النساء: ١٠١]، وفي: (تَخْتانُونَ) و(خَوّانًا)، وفي: (يَسْتَغْفِرُوا)، (غَفُورًا) . والتَّجْنِيسُ المُماثِلُ في: ﴿فَأقَمْتَ﴾ [النساء: ١٠٢] ﴿فَلْتَقُمْ﴾ [النساء: ١٠٢]، وفي: ﴿لَمْ يُصَلُّوا﴾ [النساء: ١٠٢]، ﴿فَلْيُصَلُّوا﴾ [النساء: ١٠٢]، وفي: ﴿يَسْتَخْفُونَ﴾ [النساء: ١٠٨] و(لا يَسْتَخْفُونَ)، وفي: (جادَلْتُمْ)، ﴿فَمَن يُجادِلُ﴾ [النساء: ١٠٩]، وفي: (يَكْسِبْ) و(يَكْسِبْ)، وفي: (يُضِلُّوكَ) وما (يُضِلُّونَ)، وفي: و(عَلَّمَكَ) و(تَعَلَمْ) . قِيلَ: والعامُّ يُرادُ بِهِ الخاصُّ في: فَإذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ ظاهِرُهُ العُمُومُ، وأجْمَعُوا عَلى أنَّ المُرادَ بِها صَلاةُ الخَوْفِ خاصَّةً؛ لِأنَّ السِّياقَ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، ولِذَلِكَ كانَتْ ألْ فِيهِ لِلْعَهْدِ، انْتَهى. وإذا كانَتْ ألْ لِلْعَهْدِ فَلَيْسَ مِن بابِ العامِّ المُرادِ بِهِ الخاصُّ؛ لِأنَّ (ألْ) لِلْعُمُومِ و(ألْ) لِلْعَهْدِ فَهُما قَسِيمانِ؛ فَإذا اسْتُعْمِلَ لِأحَدِ القَسِيمَيْنِ فَلَيْسَ مَوْضُوعًا لِلْآخَرِ. والإبْهامُ في قَوْلِهِ: بِما أراكَ اللَّهُ، وفي: ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ. وخِطابُ عَيْنٍ ويُرادُ بِهِ غَيْرُهُ وفي: ﴿ولا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء: ١٠٥]؛ فَإنَّهُ ﷺ مَحْرُوسٌ بِالعِصْمَةِ أنْ يُخاصِمَ عَنِ المُبْطِلِينَ. والتَّتْمِيمُ في قَوْلِهِ: وهو مَعَهم لِلْإنْكارِ عَلَيْهِمْ والتَّغْلِيظِ لِقُبْحِ فِعْلِهِمْ لِأنَّ حَياءَ الإنْسانِ مِمَّنْ يَصْحَبُهُ أكْثَرُ مِن حَيائِهِ وحْدَهُ، وأصْلُ المَعِيَّةِ في الإجْرامِ، واللَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، فَهو مَعَ عَبْدِهِ بِالعِلْمِ والإحاطَةِ. وإطْلاقُ وصْفِ الإجْرامِ عَلى المَعانِي فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانًا. والحَذْفُ في مَواضِعَ. (p-٣٤٨)﴿لا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِن نَجْواهم إلّا مَن أمَرَ بِصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرًا عَظِيمًا﴾ ﴿ومَن يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وساءَتْ مَصِيرًا﴾ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا﴾ ﴿إنْ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلّا إناثًا وإنْ يَدْعُونَ إلّا شَيْطانًا مَرِيدًا﴾ [النساء: ١١٧] ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ وقالَ لَأتَّخِذَنَّ مِن عِبادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء: ١١٨] ﴿ولَأُضِلَّنَّهم ولَأُمَنِّيَنَّهم ولَآمُرَنَّهم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الأنْعامِ ولَآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ومَن يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ ولِيًّا مِن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرانًا مُبِينًا﴾ [النساء: ١١٩] ﴿يَعِدُهم ويُمَنِّيهِمْ وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إلّا غُرُورًا﴾ [النساء: ١٢٠] ﴿أُولَئِكَ مَأْواهم جَهَنَّمُ ولا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصًا﴾ [النساء: ١٢١] ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدًا وعْدَ اللَّهِ حَقًّا ومَن أصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النساء: ١٢٢] ﴿لَيْسَ بِأمانِيِّكم ولا أمانِيِّ أهْلِ الكِتابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ولا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ ولِيًّا ولا نَصِيرًا﴾ [النساء: ١٢٣] ﴿ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ ولا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: ١٢٤] ﴿ومَن أحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهو مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا واتَّخَذَ اللَّهُ إبْراهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء: ١٢٥] ﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ [النساء: ١٢٦] . النَّجْوى مَصْدَرٌ كالدَّعْوى، يُقالُ: نَجَوْتُ الرَّجُلَ أنْجُوهُ نَجْوًى إذا ناجَيْتُهُ. قالَ الواحِدِيُّ: ولا تَكُونُ النَّجْوى إلّا بَيْنَ اثْنَيْنِ. وقالَ الزَّجّاجُ: النَّجْوى ما انْفَرَدَ بِهِ الجَماعَةُ، أوِ الِاثْنانِ سِرًّا كانَ وظاهِرًا، انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: المُسارَّةُ، وتُطْلَقُ النَّجْوى عَلى القَوْمِ المُتَناجِينَ، وهو مِن بابِ: قَوْمٌ عَدْلٌ وُصِفَ بِالمَصْدَرِ. وقالَ الكَرْمانِيُّ: نَجْوى جَمْعُ نَجِيٍّ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ في هَذِهِ المادَّةِ، وتَكَرَّرَ هُنا لِخُصُوصِيَّةِ البِنْيَةِ. مَرِيدٌ: مِن مَرَدَ عَتا وعَلا في الحَذاقَةِ، وتَجَرَّدَ لِلشَّرِّ والغَوايَةِ. وقالَ ابْنُ عِيسى: وأصْلُهُ التَّمَلُّسُ، ومِن شَجَرَةٍ مَرْداءَ؛ أيْ مَلْساءَ تَناثَرَ ورَقُها، وغُلامٌ أمَرَدُ لا نَباتَ بِوَجْهِهِ وصَرْحٌ مُمَرَّدٌ مُمَلَّسٌ لا يُعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ لِمَلاسَتِهِ والمارِدُ الَّذِي لا يُعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنَ الفَضائِلِ. البَتْكُ: الشَّقُّ والقَطْعُ، بَتَكَ يَبْتِكُ، وبَتَّكَ لِلتَّكْثِيرِ والبَتْكُ القَطْعُ واحِدُها بَتْكَةٌ. قالَ الشّاعِرُ: ؎حَتّى إذا ما هَوَتْ كَفُّ الوَلِيدِ لَها طارَتْ وفي كَفِّهِ مِن رِيشِها بَتَكُ مَحِيصٌ: مَفْعِلٌ مِن حاصَ يَحِيصُ، زاغَ بِنُفُورٍ، ومِنهُ: فَحاصُوا حَيْصَةَ حُمْرِ الوَحْشِ. وقَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ولَمْ نَدْرِ إنْ حِصْنا مِنَ المَوْتِ حَيْصَةً ∗∗∗ كَمِ العُمْرُ باقٍ والمَدا مُتَطاوِلُ ويُقالُ جاضَ بِالجِيمِ والضّادِ المُعْجَمَةِ والمُحاصُ مِثْلَ المَحِيصِ. قالَ الشّاعِرُ: ؎تَحَيَّصَ مِن حُكْمِ المَنِيَّةِ جاهِدًا ∗∗∗ ما لِلرِّجالِ عَنِ المَنُونِ مُحاصُ وفِي المَثَلِ: وقَعُوا في حَيْصَ بَيْصَ. وحاصَ باصَ إذا وقَعَ فِيما لا يَقْدِرُ عَلى التَّخَلُّصِ مِنهُ، ويُقالُ: حاصَ يَحُوصُ حَوْصًا، وحِياصًا إذا نَفَرَ، وزايَلَ المَكانَ الَّذِي فِيهِ. والحَوْصُ في العَيْنِ ضِيقُ مُؤَخَّرِها. الخَلِيلُ: فَعِيلٌ مِنَ الخَلَّةِ وهي الفاقَةُ والحاجَةُ. أوْ مِنَ الخُلَّةِ، وهي صَفاءُ المَوَدَّةِ، أوْ مِنَ الخَلَلِ. قالَ ثَعْلَبٌ: سُمِّيَ خَلِيلًا؛ لِأنَّ مَحَبَّتَهُ تَتَخَلَّلُ القَلْبَ؛ فَلا تَدَعُ فِيهِ خَلَلًا إلّا مَلَأتْهُ. وأنْشَدَ قَوْلَ بِشارٍ: ؎قَدْ تَخَلَّلَتْ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ∗∗∗ وبِهِ سُمِّيَ الخَلِيلُ خَلِيلًا ﴿لا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِن نَجْواهم إلّا مَن أمَرَ بِصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ﴾ الضَّمِيرُ في نَجْواهم عائِدٌ عَلى قَوْمِ طُعْمَةَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهم؛ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ. وقالَ مُقاتِلٌ: هم قَوْمٌ مِنَ اليَهُودِ، ناجَوْا قَوْمَ طُعْمَةَ، واتَّفَقُوا مَعَهم عَلى التَّلْبِيسِ عَلى الرَّسُولِ في أمْرِ طُعْمَةَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هو عائِدٌ عَلى النّاسِ أجْمَعَ. وجاءَتْ هَذِهِ الآياتُ عامَّةً فانْدَرَجَ أصْحابُ النّازِلَةِ، وهم (p-٣٤٩)قَوْمُ طُعْمَةَ في ذَلِكَ العُمُومِ، وهَذا مِن بابِ الإيجازِ والفَصاحَةِ؛ لِكَوْنِ الماضِي والمُغايِرِ تَشْمَلُهُما عِبارَةٌ واحِدَةٌ انْتَهى. وهَذا الِاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعٌ، إنْ كانَ النَّجْوى مَصْدَرًا، ويُمْكِنُ اتِّصالُهُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ؛ أيْ إلّا نَجْوًى مِن أمْرٍ، وقالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ. وإنْ كانَ النَّجْوى المُتَناجِينَ قِيلَ: ويَجُوزُ في (مَن) الخَفْضُ مِن وجْهَيْنِ؛ أنْ يَكُونَ تابِعًا لِكَثِيرٍ، أوْ تابِعًا لِلنَّجْوى، كَما تَقُولُ: لا خَيْرَ في جَماعَةٍ مِنَ القَوْمِ إلّا زِيدٍ، إنْ شِئْتَ أتْبَعْتَ زَيْدًا الجَماعَةَ، وإنْ شِئْتَ أتْبَعْتَهُ القَوْمَ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (مَن أمَرَ) مَجْرُورًا عَلى البَدَلِ مِن (كَثِيرٍ)؛ لِأنَّهُ في حَيِّزِ النَّفْيِ، أوْ عَلى الصِّفَةِ. وإذا كانَ مُنْقَطِعًا؛ فالتَّقْدِيرُ: لَكِنْ مَن أمَرَ بِصَدَقَةٍ، فالخَيْرُ في نَجْواهُ. ومَعْنى أمَرَ: حَثَّ، وحَضَّ. والصَّدَقَةُ تَشْمَلُ الفَرْضَ والتَّطَوُّعَ. والمَعْرُوفُ عامٌّ في كُلِّ بِرٍّ. واخْتارَهُ جَماعَةٌ مِنهم: أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ. فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الصَّدَقَةُ والإصْلاحُ. لَكِنَّهُما جُرِّدا مِنهُ، واخْتُصّا بِالذِّكْرِ اهْتِمامًا؛ إذْ هُما عَظِيما الغِذاءِ في مَصالِحِ العِبادِ. وعُطِفَ بَـ (أْوِ) فَجُعِلا كالقِسْمِ المُعادِلِ مُبالَغَةً في تَجْرِيدِهِما، حَتّى صارَ القِسْمُ قَسِيمًا. وقِيلَ المَعْرُوفُ الفَرْضُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُقاتِلٍ. وقِيلَ إغاثَةُ المَلْهُوفِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالصَّدَقَةِ الواجِبُ وبِالمَعْرُوفِ ما يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلى سَبِيلِ التَّطَوُّعِ، انْتَهى. وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «كُلُّ كَلامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لا لَهُ إلّا مَن كانَ أمَرَ بِمَعْرُوفٍ أوْ نَهى عَنْ مُنْكَرٍ أوْ ذَكَرَ اللَّهَ تَعالى» . وحَدَّثَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ بِهَذا الحَدِيثِ أقْوامًا؛ فَقالَ أحَدُهم: ما أشَدَّ هَذا الحَدِيثَ، فَقالَ: ألَمْ تَسْمَعْ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وأنَّ مِنَ المَعْرُوفِ أنْ تَلْقى أخاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ» . وقالَ الحُطَيْئَةُ: ؎مَن يَفْعَلِ الخَيْرَ لا يُعْدَمْ جَوازِيَهُ ∗∗∗ لا يَذْهَبُ العُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ والنّاسِ وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿أوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ﴾ أنَّهُ في كُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ فِيهِ اخْتِلافٌ ونِزاعٌ. وقِيلَ هو خاصٌّ بِالإصْلاحِ بَيْنَ طُعْمَةَ واليَهُودِيِّ المَذْكُورَيْنِ. قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ ما مُلَخَّصُهُ: ذَكَرَ ثَلاثَةَ أنْواعٍ؛ لِأنَّ عَمَلَ الخَيْرِ إمّا أنْ يَكُونَ بِدَفْعِ المَضَرَّةِ وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: أوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ. أوْ بِإيصالِ المَنفَعَةِ إمّا جُسْمانِيًّا، وهو إعْطاءُ المالِ وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: بِصَدَقَةٍ. أوْ رُوحانِيًّا، وهو تَكْمِيلُ القُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِالعُلُومِ، أوِ القُوَّةِ العَمَلِيَّةِ بِالأفْعالِ الحَسَنَةِ، ومَجْمُوعُها عِبارَةٌ عَنِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: أوْ مَعْرُوفٍ. وقالَ الرّاغِبُ: يُقالُ لِكُلِّ ما يَسْتَحْسِنُهُ العَقْلُ ويَعْرِفُهُ مَعْرُوفٌ، ولِكُلِّ ما يَسْتَقْبِحُهُ ويُنْكِرُهُ مُنْكَرٌ. ووَجْهُ ذَلِكَ أنَّهُ تَعالى رَكَّزَ في العُقُولِ مَعْرِفَةَ الخَيْرِ والشَّرِّ وإلَيْهِ أشارَ بِقَوْلِهِ: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٣٨] و﴿فِطْرَةَ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠]، وعَلى ذَلِكَ ما اطْمَأنَّتْ إلَيْهِ النَّفْسُ لِمَعْرِفَتِها بِهِ، انْتَهى. وهَذِهِ نَزْغَةٌ اعْتِزالِيَّةٌ في أنَّ العَقْلَ يُحَسِّنُ ويُقَبِّحُ. وقِيلَ هَذِهِ الثَّلاثَةُ تَضَمَّنَتِ الأفْعالَ الحَسَنَةَ، وبَدَأ بِأكْثَرِها نَفْعًا، وهو إيصالُ النَّفْعِ إلى الغَيْرِ، ونَبَّهَ بِالمَعْرُوفِ عَلى النَّوافِلِ الَّتِي هي مِنَ الإحْسانِ والتَّفَضُّلِ والإصْلاحِ بَيْنَ النّاسِ عَلى سِياسَتِهِمْ، وما يُؤَدِّي إلى نَظْمِ شَمْلِهِمْ، انْتَهى. وقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «ألا أُخْبِرُكم بِأفْضَلَ مِن دَرَجَةِ الصَّلاةِ والصِّيامِ والصَّدَقَةِ، قِيلَ بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: صَلاحُ ذاتِ البَيْنِ»، وخَصَّ (مَن أمَرَ) بِهَذِهِ الأشْياءِ، وفي ضِمْنِ ذَلِكَ أنَّ الفاعِلَ أكْثَرُ اسْتِحْقاقًا مِنَ الأمْرِ، وإذا كانَ الخَيْرُ في نَجْوى الأمْرِ بِهِ، فَلا يَكُونُ في مَن يَفْعَلُهُ بِطَرِيقِ الأوْلى. ﴿ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرًا عَظِيمًا﴾ لَمّا ذَكَرَ أنَّ الخَيْرَ في مَن أمَرَ ذَكَرَ ثَوابَ مَن فَعَلَ، ويَجُوزُ أنْ يُرِيدَ: ومَن يَأْمُرُ بِذَلِكَ؛ فَيُعَبِّرُ بِالفِعْلِ عَنِ الأمْرِ، كَما يُعَبِّرُ بِهِ عَنْ سائِرِ الأفْعالِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ: يُؤْتِيهِ بِالياءِ والباقُونَ بِالنُّونِ عَلى سَبِيلِ الِالتِفاتِ لِيُناسِبَ ما بَعْدَهُ مِن قَوْلِهِ: ﴿نُوَلِّهِ ما تَوَلّى ونُصْلِهِ﴾ فَيَكُونُ إسْنادُ الثَّوابِ والعِقابِ إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ العَظِيمِ، وهو أبْلَغُ مِن إسْنادِهِ إلى ضَمِيرِ الغائِبِ. ومَن قَرَأ بِالياءِ لِحَظِّ الِاسْمِ الغائِبِ في قَوْلِهِ: ابْتِغاءَ (p-٣٥٠)مَرْضاةِ اللَّهِ، وفي قَوْلِهِ: ابْتِغاءَ مَرْضاةِ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لا يُجْزِئُ مِنَ الأعْمالِ إلّا ما كانَ فِيهِ رِضا اللَّهِ تَعالى، وخُلُوصُهُ لِلَّهِ دُونَ رِياءٍ ولا سُمْعَةٍ. ﴿ومَن يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وساءَتْ مَصِيرًا﴾ نَزَلَتْ في طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ لَمّا فَضَحَهُ اللَّهُ بِسَرِقَتِهِ، وبَرَّأ اليَهُودِيَّ ارْتَدَّ وذَهَبَ إلى مَكَّةَ، وتَقَدَّمَ ذَلِكَ مَوْتُهُ وسَبَبُهُ. ومِمّا قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ رَكِبَ في سَفِينَةٍ، فَسَرَقَ مِنها مالًا فَعُلِمَ بِهِ، فَأُلْقِيَ في البَحْرِ. وقِيلَ لَمّا سَرَقَ الحَجّاجَ السُّلَمِيَّ اسْتَحى الحَجّاجُ مِنهُ؛ لِأنَّهُ كانَ ضَيْفَهُ فَأطْلَقَهُ، فَلَحِقَ بُحَيْرَةَ بَنِي سُلَيْمٍ؛ فَعَبَدَ صَنَمًا لَهم، وماتَ عَلى الشِّرْكِ. وقِيلَ نَزَلَتْ في قَوْمِ طُعْمَةَ؛ قَدِمُوا فَأسْلَمُوا، ثُمَّ ارْتَدُّوا. وتَقَدَّمَ مَعْنى المُشاقَّةِ في قَوْلِهِ: ﴿فَإنَّما هم في شِقاقٍ﴾ [البقرة: ١٣٧]، ﴿ومَن يُشاقِقِ﴾: عامٌّ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ طُعْمَةُ وغَيْرُهُ مِنَ المُشاقِّينَ ﴿مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى﴾؛ أيِ اتَّضَحَ لَهُ الحَقُّ الَّذِي هو سَبَبُ الهِدايَةِ. ولَوْ لَمْ يَكُنْ إلّا إخْبارُ اللَّهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقِصَّةِ طُعْمَةَ، وإطْلاعِهِ إيّاهُ عَلى ما بَيَّتُوهُ وزَوَّرُوهُ؛ لَكانَ لَهُ في ذَلِكَ أعْظَمُ وازِعٍ وأوْضَحُ بَيانٍ، وكانَ ذَنْبُ مَن يَعْرِفُ الحَقَّ ويَزِيغُ عَنْهُ أعْظَمَ مِن ذَنْبِ الجاهِلِ؛ لِأنَّ مَن لا يَعْرِفُ الحَقَّ يَسْتَحِقُّ العُقُوبَةَ لِتَرْكِ المَعْرِفَةِ؛ لِأنَّ العَمَلَ لا يَلْزَمُهُ حَتّى يَعْرِفَهُ، أوْ يَعْرِفَهُ مَن يُصَدِّقُهُ. والعالِمُ يَسْتَحِقُّ العُقُوبَةَ بِتَرْكِ اسْتِعْمالِ ما يَقْتَضِيهِ مَعْرِفَتُهُ؛ فَهو أعْظَمُ جُرْمًا إذا اطَّلَعَ عَلى الحَقِّ، وعَمِلَ بِخِلافِ ما يَقْتَضِيهِ عَلى سَبِيلِ العِنادِ لِلَّهِ تَعالى؛ إذْ جُعِلَ لَهُ نُورٌ يَهْتَدِي بِهِ. وسَبِيلُ المُؤْمِنِينَ: هو الدِّينُ الحَنِيفِيُّ الَّذِي هم عَلَيْهِ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ المَعْطُوفَةُ هي عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ والتَّشْنِيعِ والا فَمَن يُشاقِقِ الرَّسُولَ هو مُتَّبِعٌ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ ضَرُورَةً؛ ولَكِنَّهُ بَدَأ بِالأعْظَمِ في الإثْمِ، وأتْبَعَ بِلازِمِهِ تَوْكِيدًا. واسْتَدَلَّ الشّافِعِيُّ وغَيْرُهُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الإجْماعَ حُجَّةٌ. وقَدْ طَوَّلَ أهْلُ أُصُولِ الفِقْهِ في تَقْرِيرِ الدَّلالَةِ مِنها، وما يَرِدُ عَلى ذَلِكَ، وذَلِكَ مَذْكُورٌ في كُتُبِ أُصُولِ الفِقْهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هو دَلِيلٌ عَلى أنَّ الإجْماعَ حُجَّةٌ لا يَجُوزُ مُخالَفَتُها، كَما لا يَجُوزُ مُخالَفَةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى جَمَعَ بَيْنَ اتِّباعِ سَبِيلِ غَيْرِ المُؤْمِنِينَ، وبَيْنَ مُشاقَّةِ الرَّسُولِ في الشَّرْطِ، وجَعَلَ جَزاءَهُ الوَعِيدَ الشَّدِيدَ؛ فَكانَ اتِّباعُهم واجِبًا كَمُوالاةِ الرَّسُولِ، انْتَهى كَلامُهُ. وما ذَكَرَهُ لَيْسَ بِظاهِرِ الآيَةِ المُرَتَّبِ عَلى وصْفَيْنِ اثْنَيْنِ لا يَلْزَمُ مِنهُ أنْ يَتَرَتَّبَ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنهُما؛ فالوَعِيدُ إنَّما تَرَتَّبَ في الآيَةِ عَلى مَنِ اتَّصَفَ بِمُشاقَّةِ الرَّسُولِ، واتِّباعِ سَبِيلِ غَيْرِ المُؤْمِنِينَ، ولِذَلِكَ كانَ الفِعْلُ مَعْطُوفًا عَلى الفِعْلِ، ولَمْ يُعَدْ مَعَهُ اسْمُ شَرْطٍ. فَلَوْ أُعِيدَ اسْمُ الشَّرْطِ، وكَأنْ يَكُونَ ﴿ومَن يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى﴾، ومَن يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ؛ لَكانَ فِيهِ ظُهُورُ ما عَلى ما ادَّعَوْا، وهَذا كُلُّهُ عَلى تَسْلِيمِ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ﴾ مُغايِرًا لِقَوْلِهِ: ﴿ومَن يُشاقِقِ الرَّسُولَ﴾ . وقَدْ قُلْنا: إنَّهُ لَيْسَ بِمُغايِرٍ؛ بَلْ هو أمْرٌ لازِمٌ لِمُشاقَّةِ الرَّسُولِ؛ وذَلِكَ عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ والتَّوْكِيدِ وتَفْظِيعِ الأمْرِ وتَشْنِيعِهِ. والآيَةُ بَعْدَ هَذا كُلِّهِ هي وعِيدُ الكُفّارِ؛ فَلا دَلالَةَ عَلى جُزْئِيّاتِ فُرُوعِ مَسائِلِ الفِقْهِ. واسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ (p-٣٥١)عَلى وُجُوبِ عِصْمَةِ الرَّسُولِ وعَلى أنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ يَسْقُطُ عَنْهُ الإثْمُ. ومَعْنى قَوْلِهِ: ما تَوَلّى قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وعِيدٌ بِأنْ يَتْرُكَ مَعَ فاسِدِ اخْتِيارَهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجْعَلُهُ بِالياءِ، وما تَوَلّى مِنَ الضَّلالَةِ بِأنْ تَخْذُلَهُ، وتُخَلِّي بَيْنَهُ وبَيْنَ ما اخْتارَ، انْتَهى. وهَذا عَلى مَنزَعِهِ الِاعْتِزالِيِّ. وقُرِئَ: ونُصْلِهِ بِفَتْحِ النُّونِ مِن صَلاهُ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَيْلَةَ (يُوَلِّهِ)، و(يُصْلِهِ) بِالياءِ فِيهِما جَرْيًا عَلى قَوْلِهِ: فَسَوْفَ يُؤْتِيهِ بِالياءِ، وفي هاءِ ﴿نُوَلِّهِ﴾ ﴿ونُصْلِهِ﴾: الإشْباعُ والِاخْتِلاسُ والإسْكانُ، وقُرِئَ بِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب