الباحث القرآني

﴿تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ﴾ ﴿إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ فاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ ﴿ألا لِلَّهِ الدِّينُ الخالِصُ والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ ما نَعْبُدُهم إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهم في ما هم فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن هو كاذِبٌ كَفّارٌ﴾ ﴿لَوْ أرادَ اللَّهُ أنْ يَتَّخِذَ ولَدًا لاصْطَفى مِمّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هو اللَّهُ الواحِدُ القَهّارُ﴾ ﴿خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِالحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلى النَّهارِ ويُكَوِّرُ النَّهارَ عَلى اللَّيْلِ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأجَلٍ مُسَمًّى ألا هو العَزِيزُ الغَفّارُ﴾ ﴿خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنها زَوْجَها وأنْزَلَ لَكم مِنَ الأنْعامِ ثَمانِيَةَ أزْواجٍ يَخْلُقُكم في بُطُونِ أُمَّهاتِكم خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ في ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم لَهُ المُلْكُ لا إلَهَ إلّا هو فَأنّى تُصْرَفُونَ﴾ ﴿إنْ تَكْفُرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكم ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْرَ وإنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكم ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إلى رَبِّكم مَرْجِعُكم فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ . (p-٤١٤)هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: إلّا ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ﴾ [الزمر: ٢٣]، و﴿قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا﴾ [الزمر: ٥٣] . وعَنْ مُقاتِلٍ: إلّا ﴿يا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا﴾ [الزمر: ٥٣]، وقَوْلُهُ: ﴿قُلْ يا عِبادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكم لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ﴾ [الزمر: ١٠] . وعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: إلّا ﴿يا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا﴾ [الزمر: ٥٣]، إلى قَوْلِهِ: (تَشْعُرُونَ)، ثَلاثُ آياتٍ. وعَنْ بَعْضِهِمْ: إلّا سَبْعَ آياتٍ، مِن قَوْلِهِ: ﴿يا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا﴾ [الزمر: ٥٣] . ومُناسَبَتُها لِآخَرِ ما قَبْلَها أنَّهُ خَتَمَ السُّورَةَ المُتَقَدِّمَةَ بِقَوْلِهِ: (إنْ هو إلّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)، وبَدَأ هُنا: (تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ) . وقالَ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ: (تَنْزِيلُ) مُبْتَدَأٌ، و(مِنَ اللَّهِ) الخَبَرُ، أوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: هَذا (تَنْزِيلُ)، و(مِنَ اللَّهِ) مُتَعَلِّقٌ بِـ (تَنْزِيلُ) وأقُولُ: إنَّهُ خَبَرٌ، والمُبْتَدَأُ هو لِيَعُودَ عَلى قَوْلِهِ: (إنْ هو إلّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)، كَأنَّهُ قِيلَ: وهَذا الذِّكْرُ ما هو ؟ فَقِيلَ: هو تَنْزِيلُ الكِتابِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْ غَيْرُ صِلَةٍ، يَعْنِي مِنَ اللَّهِ، كَقَوْلِكَ: هَذا الكِتابُ مِن فُلانٍ إلى فُلانٍ، وهو عَلى هَذا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذا تَنْزِيلُ الكِتابِ، هَذا مِنَ اللَّهِ، أوْ حالٌ مِن (تَنْزِيلُ) عَمِلَ فِيها مَعْنى الإشارَةِ. انْتَهى. ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا عَمِلَ فِيها مَعْنى الإشارَةِ؛ لِأنَّ مَعانِيَ الأفْعالِ لا تَعْمَلُ إذا كانَ ما هو فِيهِ مَحْذُوفًا، ولِذَلِكَ رَدُّوا عَلى أبِي العَبّاسِ قَوْلَهُ في بَيْتِ الفَرَزْدَقِ: ؎وإذْ ما مِثْلَهم بَشَرُ أنَّ مِثْلَهم مَنصُوبٌ بِالخَبَرِ المَحْذُوفِ وهو مُقَدَّرٌ، أيْ: وأنَّ ما في الوُجُودِ في حالِ مُماثَلَتِهِمْ بَشَرٌ. والكِتابُ يَظْهَرُ أنَّهُ القُرْآنُ، وكُرِّرَ في قَوْلِهِ: (إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ) عَلى جِهَةِ التَّفْخِيمِ والتَّعْظِيمِ، وكَوْنُهُ في جُمْلَةٍ غَيْرِ السّابِقَةِ مَلْحُوظًا فِيهِ إسْنادُهُ إلى ضَمِيرِ العَظَمَةِ، وتَشْرِيفُ مَن أُنْزِلَ إلَيْهِ بِالخِطابِ، وتَخْصِيصُهُ بِالحَقِّ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وعِيسى: (تَنْزِيلَ) بِالنَّصْبِ، أيْ: اقْرَأْ والزَمْ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قالَ المُفَسِّرُونَ في (تَنْزِيلُ الكِتابِ): هو القُرْآنُ، ويَظْهَرُ لِي أنَّهُ اسْمٌ عامٌّ لِجَمِيعِ ما تَنَزَّلَ مِن عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الكُتُبِ، وكَأنَّهُ أخْبَرَ إخْبارًا مُجَرَّدًا أنَّ الكُتُبَ الهادِيَةَ الشّارِعَةَ إنَّما تَنْزِيلُها مِنَ اللَّهِ، وجَعَلَ هَذا الإخْبارَ تَقْدِمَةً وتَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ: (إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ)، والعَزِيزُ في قُدْرَتِهِ، الحَكِيمُ في ابْتِداعِهِ. والكِتابُ الثّانِي هو القُرْآنُ، لا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): ما المُرادُ بِالكِتابِ ؟ (قُلْتُ): الظّاهِرُ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ أنَّهُ القُرْآنُ، وعَلى الثّانِي أنَّهُ السُّورَةُ. انْتَهى. و(بِالحَقِّ) في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: مُلْتَبِسًا بِالحَقِّ، وهو الصِّدْقُ الثّابِتُ فِيما أوْدَعْناهُ مِن إثْباتِ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ والمَعادِ والتَّكالِيفِ، فَهَذا كُلُّهُ حَقٌّ وصِدْقٌ يَجِبُ اعْتِقادُهُ والعَمَلُ بِهِ، أوْ يَكُونُ بِالحَقِّ: بِالدَّلِيلِ عَلى أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وهو عَجْزُ الفُصَحاءِ عَنْ مُعارَضَتِهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أيْ: مُتَضَمِّنًا الحَقَّ فِيهِ وفي أحْكامِهِ وفي أخْبارِهِ، أوْ بِمَعْنى الِاسْتِحْقاقِ وشُمُولِ المَنفَعَةِ لِلْعالَمِ في هِدايَتِهِمْ ودَعْوَتِهِمْ إلى اللَّهِ. انْتَهى مُلَخَّصًا. ولَمّا امْتَنَّ تَعالى عَلى رَسُولِهِ بِإنْزالِ الكِتابِ عَلَيْهِ بِالحَقِّ، وكانَ الحَقُّ إخْلاصَ العِبادَةِ لِلَّهِ، أمَرَهُ تَعالى بِعِبادَتِهِ، فَقالَ: ﴿فاعْبُدِ اللَّهَ﴾، وكَأنَّ هَذا الأمْرَ ناشِئٌ عَنْ إنْزالِ الكِتابِ، فالفاءُ فِيهِ لِلرَّبْطِ، كَما تَقُولُ: أحْسَنَ إلَيْكَ زَيْدٌ فاشْكُرْهُ. (مُخْلِصًا) أيْ: مُمْحِضًا، (لَهُ الدِّينَ): مِنَ الشِّرْكِ والرِّياءِ وسائِرِ ما يُفْسِدُهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (الدِّينَ) بِالنَّصْبِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: بِالرَّفْعِ فاعِلًا بِمُخْلِصًا والرّاجِعُ لِذِي الحالِ مَحْذُوفٌ عَلى رَأْيِ البَصْرِيِّينَ، أيْ: الدِّينُ مِنكَ، أوْ يَكُونُ ألْ عِوَضًا مِنَ الضَّمِيرِ، أيْ: دِينُكَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وحَقُّ مَن رَفَعَهُ أنْ يَقْرَأ (مُخْلَصًا) بِفَتْحِ اللّامِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأخْلَصُوا دِينَهم لِلَّهِ﴾ [النساء: ١٤٦]، حَتّى يُطابِقَ قَوْلَهُ: ﴿ألا لِلَّهِ الدِّينُ الخالِصُ﴾، والخالِصُ والمُخْلَصُ واحِدٌ، إلّا أنْ يَصِفَ الدِّينَ بِصِفَةِ صاحِبِهِ عَلى الإسْنادِ المَجازِيِّ، كَقَوْلِهِمْ: شِعْرُ شاعِرٍ. وأمّا مَن جَعَلَ (مُخْلِصًا) حالًا مِنَ العابِدِ، و(لَهُ الدِّينُ) مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، فَقَدْ جاءَ بِإعْرابٍ رَجَعَ بِهِ الكَلامُ إلى قَوْلِكَ: لِلَّهِ الدِّينُ، أيْ: لِلَّهِ الدِّينُ الخالِصُ. انْتَهى. وقَدْ قَدَّمَنا تَخْرِيجَهُ عَلى أنَّهُ فاعِلٌ بِمُخْلِصًا، وقَدَّرْنا ما يَرْبُطُ الحالَ بِصاحِبِها، ومِمَّنْ ذَهَبَ إلى أنَّ لَهُ (p-٤١٥)الدِّينُ مُسْتَأْنَفٌ مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ الفَرّاءُ. ﴿ألا لِلَّهِ الدِّينُ الخالِصُ﴾ أيْ: مِن كُلِّ شائِبَةٍ وكَدَرٍ، فَهو الَّذِي يَجِبُ أنْ تُخْلَصَ لَهُ الطّاعَةُ، لِاطِّلاعِهِ عَلى الغُيُوبِ والأسْرارِ، ولِخُلُوصِ نِعْمَتِهِ عَلى عِبادِهِ مِن غَيْرِ اسْتِجْرارِ مَنفَعَةٍ مِنهم. قالَ الحَسَنُ: الدِّينُ الخالِصُ: الإسْلامُ؛ وقالَ قَتادَةُ: شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. (والَّذِينَ اتَّخَذُوا): مُبْتَدَأٌ، والظّاهِرُ أنَّهُمُ المُشْرِكُونَ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ الخَبَرُ ”قالَ“ المَحْذُوفَ المَحْكِيَّ بِهِ قَوْلُهُ: ﴿ما نَعْبُدُهُمْ﴾، أيْ: والمُشْرِكُونَ المُتَّخِذُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أوْلِياءَ قالُوا: ما نَعْبُدُ تِلْكَ الأوْلِياءَ ﴿إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ الخَبَرَ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾، وذَلِكَ القَوْلُ المَحْذُوفُ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: اتَّخَذُوهم قائِلِينَ ما نَعْبُدُهم. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ الخَبَرُ (إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ)، و”قالُوا“ المَحْذُوفَةُ بَدَلٌ مِنِ ”اتَّخَذُوا“ صِلَةِ الَّذِينَ، فَلا يَكُونُ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ، وكَأنَّهُ مِن بَدَلِ الِاشْتِمالِ. وفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: قالُوا ما نَعْبُدُهم، وبِهِ قَرَأ هو وابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ وابْنُ جُبَيْرٍ، وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ (والَّذِينَ اتَّخَذُوا) بِمَعْنى المُتَّخَذِينَ، وهُمُ المَلائِكَةُ وعِيسى واللّاتُ والعُزّى ونَحْوُهم، والضَّمِيرُ في ”اتَّخَذُوا“ عائِدٌ عَلى المَوْصُولِ، مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: والَّذِينَ اتَّخَذَهُمُ المُشْرِكُونَ أوْلِياءَ، و(أوْلِياءَ) مَفْعُولٌ ثانٍ، وهَذا الَّذِي أجازَهُ خِلافُ الظّاهِرِ، وهَذِهِ المَقالَةُ شائِعَةٌ في العَرَبِ، فَقالَ ذَلِكَ ناسٌ مِنهم في المَلائِكَةِ، وناسٌ في الأصْنامِ والأوْثانِ. قالَ مُجاهِدٌ: وقَدْ قالَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ اليَهُودِ في عُزَيْرٍ، وقَوْمٌ مِنَ النَّصارى في المَسِيحِ. وقُرِئَ: ﴿ما نَعْبُدُهُمْ﴾ بِضَمِّ النُّونِ، إتْباعًا لِحَرَكَةِ الباءِ. ﴿إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾: اقْتَصَرَ في الرَّدِّ عَلى مُجَرَّدِ التَّهْدِيدِ، والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (بَيْنَهم) عائِدٌ عَلى المُتَّخِذِينَ والمُتَّخَذِينَ، والحُكْمُ بَيْنَهم هو بِإدْخالِ المَلائِكَةِ وعِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - الجَنَّةَ، ويُدْخِلُهُمُ النّارَ مَعَ الحِجارَةِ والخَشَبِ الَّتِي نَحَتُوها وعَبَدُوها مِن دُونِ اللَّهِ، يُعَذِّبُهم بِها، حَيْثُ يَجْعَلُهم وإيّاها حَصَبَ جَهَنَّمَ. واخْتِلافُهم أنَّ مَن عَبَدُوهُ كالمَلائِكَةِ وعِيسى كانُوا مُتَبَرِّئِينَ مِنهم لاعِنِينَ لَهم مُوَحِّدِينَ لِلَّهِ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في ”بَيْنَهم“ عائِدٌ عَلى المُشْرِكِينَ والمُؤْمِنِينَ، إذا كانُوا يَلُومُونَهم عَلى عِبادَةِ الأصْنامِ فَيَقُولُونَ: ﴿ما نَعْبُدُهم إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾، والحُكْمُ إذْ ذاكَ هو في يَوْمِ القِيامَةِ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ. ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن هو كاذِبٌ كَفّارٌ﴾: كاذِبٌ في دَعْواهُ: أنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا، كَفّارٌ لِأنْعُمِ اللَّهِ حَيْثُ جَعَلَ مَكانَ الشُّكْرِ الكُفْرَ، والمَعْنى: لا يَهْدِي مَن خَتَمَ عَلَيْهِ بِالمُوافاةِ عَلى الكُفْرِ فَهو عامٌّ، والمَعْنى عَلى الخُصُوصِ: فَكَمْ قَدْ هَدى مَن سَبَقَ مِنهُ الكَذِبُ والكُفْرُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لا يَهْدِي الكاذِبَ الكافِرَ في حالِ كَذِبِهِ وكُفْرِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: المُرادُ بِمَنعِ الهِدايَةِ: مَنعُ اللُّطْفِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأنْ لا لُطْفَ لَهم، وأنَّهم في عِلْمِ اللَّهِ مِنَ الهالِكِينَ. انْتَهى. وهُوَ عَلى طَرِيقِ الِاعْتِزالِ. وقَرَأ أنَسُ بْنُ مالِكٍ، والجَحْدَرَيُّ، والحَسَنُ، والأعْرَجُ، وابْنُ يَعْمُرَ: (كَذّابٌ كَفّارٌ) . وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (كَذُوبٌ وكَفُورٌ) . ولَمّا كانَ مِن كَذِبِهِمْ دَعْوى بَعْضِهِمْ أنَّ المَلائِكَةَ بَناتُ اللَّهِ، وعَبَدُوها عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَوْ أرادَ اللَّهُ أنْ يَتَّخِذَ ولَدًا﴾، تَشْرِيفًا لَهُ وتَبَنِّيًا، إذْ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ في حَقِّهِ تَعالى بِالتَّوالُدِ المَعْرُوفِ، ﴿لاصْطَفى﴾ أيِ: اخْتارَ مِن مَخْلُوقاتِهِ ما يَشاءُ ولَدًا عَلى سَبِيلِ التَّبَنِّي، ولَكِنَّهُ تَعالى لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: ﴿وما يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أنْ يَتَّخِذَ ولَدًا﴾ [مريم: ٩٢]، وهو عامٌّ في اتِّخاذِ النَّسْلِ واتِّخاذِ الِاصْطِفاءِ. ويَدُلُّ عَلى أنَّ الِاتِّخاذَ هو التَّبَنِّي والِاصْطِفاءُ - قَوْلُهُ: (مِمّا يَخْلُقُ) أيْ: مِنَ الَّتِي أنْشَأها واخْتَرَعَها؛ ثُمَّ نَزَّهَ تَعالى نَفْسَهُ تَنْزِيِهًا مُطْلَقًا، فَقالَ: (سُبْحانَهُ)، ثُمَّ وصَفَ نَفْسَهُ بِالوَحْدانِيَّةِ والقَهْرِ لِجَمِيعِ العالَمِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي لَوْ أرادَ اتِّخاذَ الوَلَدِ لامْتَنَعَ، ولَمْ يَصِحَّ لِكَوْنِهِ مُحالًا، ولَمْ يَتَأتَّ إلّا أنْ يَصْطَفِيَ مِن خَلْقِهِ بَعْضَهم، ويَخْتَصَّهم ويُقَرِّبَهم كَما يَخْتَصُّ الرَّجُلُ ولَدَهُ ويُقَرِّبُهُ، وقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالمَلائِكَةِ، فافْتَتَنْتُمْ بِهِ وغَرَّكُمُ اخْتِصاصُهُ إيّاهم، فَزَعَمْتُمْ أنَّهم أوْلادُهُ جَهْلًا مِنكم بِهِ، وبِحَقِيقَةِ المُخالَفَةِ لِحَقائِقِ الأجْسامِ والأعْراضِ، كَأنَّهُ قالَ: لَوْ أرادَ اتِّخاذَ الوَلَدِ، لَمْ يَزِدْ عَلى ما فَعَلَ مِنِ اصْطِفاءِ ما شاءَ مِن خَلْقِهِ، وهُمُ المَلائِكَةُ، إلّا لِأنَّكم لِجَهْلِكم بِهِ حَسِبْتُمُ (p-٤١٦)اصْطِفاءَهُمُ اتِّخاذَهم أوْلادًا، ثُمَّ تَمادَيْتُمْ في جَهْلِكم وسَفَهِكم فَجَعَلْتُمُوهم بَناتٍ وكُنْتُمْ كَذّابِينَ كَفّارِينَ مُبالِغِينَ في الِافْتِراءِ عَلى اللَّهِ ومَلائِكَتِهِ. انْتَهى. والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ تَرْكِيبُ ”لَوْ“ وجَوابِها أنَّهُ كانَ يَتَرَتَّبُ اصْطِفاءُ الوَلَدِ مِمّا يَخْلُقُ عَلى تَقْدِيرِ اتِّخاذِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْهُ فَلا يَصْطَفِيهِ. وأمّا ما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن قَوْلِهِ: يَعْنِي لَوْ أرادَ إلى آخِرِهِ، وقَوْلِهِ بَعْدُ: كَأنَّهُ قالَ: لَوْ أرادَ اتِّخاذَ الوَلَدِ لَمْ يَزِدْ عَلى ما فَعَلَ مِنِ اصْطِفاءِ ما شاءَ مِن خَلْقِهِ وهُمُ المَلائِكَةُ فَلَيْسَ مَفْهُومًا مِن قَوْلِهِ: ﴿لَوْ أرادَ اللَّهُ أنْ يَتَّخِذَ ولَدًا لاصْطَفى مِمّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ﴾ . ولَمّا نَزَّهَ تَعالى نَفْسَهُ ووَصَفَ ذاتَهُ بِالوَحْدَةِ والقَهْرِ، ذَكَرَ ما دَلَّ عَلى ذَلِكَ مِنِ اخْتِراعِ العالَمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ بِالحَقِّ، وتَكْوِيرِ اللَّيْلِ والنَّهارِ، وتَسْخِيرِ النَّيِّرَيْنِ وجَرْيِهِما عَلى نِظامٍ واحِدٍ، واتِّساقِ أمْرِهِما عَلى ما أرادَ إلى أجَلٍ مُسَمًّى، وهو يَوْمُ القِيامَةِ، حَيْثُ تَخْرُبُ بِنْيَةُ هَذا العالَمِ فَيَزُولُ جَرْيُهُما، أوْ إلى وقْتِ مَغِيبِهِما كُلَّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ، أوْ وقْتِ قَوايِسِها كُلَّ شَهْرٍ. والتَّكْوِيرُ: تَطْوِيلٌ مِنهُما عَلى الآخَرِ، فَكَأنَّ الآخَرَ صارَ عَلَيْهِ جُزْءٌ مِنهُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يَحْمِلُ اللَّيْلَ عَلى النَّهارِ. وقالَ الضَّحّاكُ: يُدْخِلُ الزِّيادَةَ في أحَدِهِما بِالنُّقْصانِ مِنَ الآخَرِ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: يُدْخِلُ هَذا عَلى هَذا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وفِيهِ أوْجُهٌ: مِنها: أنَّ اللَّيْلَ والنَّهارَ خِلْفَةٌ، يَذْهَبُ هَذا ويَغْشى مَكانَهُ هَذا؛ وإذا غُشِّيَ مَكانَهُ فَكَأنَّما أُلْبِسَهُ ولُفَّ عَلَيْهِ كَما يُلَفُّ عَلى اللّابِسِ اللِّباسُ؛ ومِنها: أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما يُغِيِّبُ الآخَرَ إذا طَرَأ عَلَيْهِ، فَشُبِّهَ في تَغْيِيبِهِ إيّاهُ بِشَيْءٍ ظاهِرٍ لُفَّ عَلَيْهِ ما غَيَّبَهُ مِن مَطامِحِ الأبْصارِ؛ ومِنها أنَّ هَذا يَكُرُّ عَلى هَذا كُرُورًا مُتَتابِعًا، فَشُبِّهَ ذَلِكَ بِتَتابُعِ أكْوارِ العِمامَةِ بَعْضِها عَلى أثَرِ بَعْضٍ. انْتَهى. ﴿ألا هو العَزِيزُ الغَفّارُ﴾: العَزِيزُ الَّذِي لا يُغالَبُ، الغَفّارُ لِمَن تابَ، أوِ الحَلِيمُ الَّذِي لا يَعْجَلُ، سُمِّيَ الحِلْمُ غُفْرانًا مَجازًا. ولَمّا ذَكَرَ ما دَلَّ عَلى وحْدانِيَّتِهِ وقَهْرِهِ، ذَكَرَ الإنْسانَ، وهو الَّذِي كُلِّفَ بِأعْباءِ التَّكالِيفِ، فَذَكَرَ أنَّهُ أوْجَدَنا مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ، وهي آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، وذَلِكَ أنَّ حَوّاءَ عَلى ما رُوِيَ خُلِقَتْ مِن آدَمَ، فَقَدْ صارَ خَلْقًا مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ لِوَساطَةِ حَوّاءَ. وقِيلَ: أخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِن ظَهْرِهِ كالذَّرِّ، ثُمَّ خَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ حَوّاءَ، فَعَلى هَذا كانَ خَلْقًا مِن آدَمَ بِغَيْرِ واسِطَةٍ. وجاءَتْ عَلى هَذا القَوْلِ عَلى وضْعِها، ثُمَّ لِلْمُهْلَةِ في الزَّمانِ، وعَلى القَوْلِ الأوَّلِ يَظْهَرُ أنَّ خَلْقَ حَوّاءَ كانَ بَعْدَ خَلْقِنا، ولَيْسَ كَذَلِكَ، فَثُمَّ جاءَ لِتَرْتِيبِ الأخْبارِ كَأنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ كانَ مِن أمْرِهِ قَبْلَ ذَلِكَ أنْ جَعَلَ مِنها زَوْجَها، فَلَيْسَ التَّرْتِيبُ في زَمانِ الجَعْلِ. وقِيلَ: ثُمَّ مَعْطُوفٌ عَلى الصِّفَةِ الَّتِي هي واحِدَةٌ، أيْ: مِن نَفْسٍ وحَدَتْ، أيِ: انْفَرَدَتْ. (ثُمَّ جَعَلَ)، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): ما وجْهُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنها زَوْجَها﴾، وما تُعْطِيهِ مِن مَعْنى التَّراخِي ؟ (قُلْتُ): هُما آيَتانِ مِن جُمْلَةِ الآياتِ الَّتِي عَدَّدَها دالًّا عَلى وحْدانِيَّتِهِ وقُدْرَتِهِ. تَشَعَّبَ هَذا الفائِتُ لِلْحَصْرِ مِن نَفْسِ آدَمَ، وخَلَقَ حَوّاءَ مِن قُصَيْراهُ، إلّا أنَّ إحْداهُما جَعَلَها اللَّهُ عادَةً مُسْتَمِرَّةً، والأُخْرى لَمْ تَجْرِ بِها العادَةُ، ولَمْ تُخْلَقْ أُنْثى غَيْرُ حَوّاءَ مِن رَجُلٍ، فَكانَتْ أدْخَلَ في كَوْنِها آيَةً، وأجْلَبَ لِعَجَبِ السّامِعِ، فَعَطَفَها بِـ ”ثُمَّ“ عَلى الآيَةِ الأُولى، لِلدَّلالَةِ عَلى مُبايَنَتِها فَضْلًا ومَزِيَّةً، وتَراخِيها عَنْها فِيما يَرْجِعُ إلى زِيادَةِ كَوْنِها آيَةً، فَهو مِنَ التَّراخِي في الحالِ والمَنزِلَةِ، لا مِنَ التَّراخِي في الوُجُودِ. انْتَهى. وأمّا: ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنها زَوْجَها﴾، فَقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذا الجَعْلِ في أوَّلِ سُورَةِ النِّساءِ. ووَصْفُ الأنْعامِ بِالإنْزالِ مَجازٌ إمّا لِأنَّ قَضاياهُ تُوصَفُ بِالنُّزُولِ مِنَ السَّماءِ حَيْثُ كُتِبَ في اللَّوْحِ كُلُّ كائِنٍ يَكُونُ، وإمّا لِعَيْشِها بِالنَّباتِ، والنَّباتُ ناشِئٌ عَنِ المَطَرِ، والمَطَرُ نازِلٌ مِنَ السَّماءِ، فَكَأنَّهُ تَعالى أنْزَلَها، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎أسْنِمَةُ الإبالِ في رَبابِهِ أيْ: في سَحابِهِ، وقالَ آخَرُ: ؎صارَ الثَّرِيدُ في رُءُوسِ العِيدانِ وقِيلَ: خَلَقَها في الجَنَّةِ ثُمَّ أنْزَلَها، فَعَلى هَذا يَكُونُ إنْزالُ أُصُولِها حَقِيقَةً. والأنْعامُ: الإبِلُ والبَقَرُ والضَّأْنُ (p-٤١٧)والمَعَزُ، (ثَمانِيَةَ أزْواجٍ)؛ لِأنَّ كُلًّا مِنها ذَكَرٌ وأُنْثى، والزَّوْجُ ما كانَ مَعَهُ آخَرُ مِن جِنْسِهِ، فَإذا انْفَرَدَ فَهو فَرْدٌ ووِتْرٌ. وقالَ تَعالى: ﴿فَجَعَلَ مِنهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنْثى﴾ [القيامة: ٣٩] . قالَ ابْنُ زَيْدٍ: ﴿خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ﴾: آخَرَ مِن ظَهْرِ آدَمَ وظُهُورِ الآباءِ. وقالَ عِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ والسُّدِّيُّ: رُتَبًا ﴿خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ﴾ عَلى المُضْغَةِ والعَلَقَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ. وأخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقالَ: حَيَوانًا سَوَيًّا مِن بَعْدِ عِظامٍ مَكْسُوَّةٍ لَحْمًا، مِن بَعْدِ عِظامٍ عارِيَةٍ، مِن بَعْدِ مُضَغٍ، مِن بَعْدِ عَلَقٍ، مِن بَعْدِ نُطَفٍ. انْتَهى. وقَرَأ عِيسى وطَلْحَةُ ﴿يَخْلُقُكُمْ﴾ بِإدْغامِ القافِ في الكافِ. والظُّلُماتُ الثَّلاثُ: البَطْنُ والرَّحِمُ والمَشِيمَةُ، وقِيلَ: الصُّلْبُ والرَّحِمُ والبَطْنُ. (ذَلِكم): إشارَةٌ إلى المُتَّصِفِ بِتِلْكَ الأوْصافِ السّابِقَةِ مِن خَلْقِ السَّماواتِ وما بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الأفْعالِ. (فَأنّى تُصْرَفُونَ) أيْ: كَيْفَ تَعْدِلُونَ عَنْ عِبادَتِهِ إلى عِبادَةِ غَيْرِهِ ؟ . (إنْ تَكْفُرُوا)، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: خِطابٌ لِلْكُفّارِ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهم. وعِبادُهُ هُمُ المُؤْمِنُونَ، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: (فَأنّى تُصْرَفُونَ)، وهَذا لِلْكُفّارِ، فَجاءَ (إنْ تَكْفُرُوا) خِطابًا لَهم، ﴿فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ﴾، وعَنْ عِبادَتِكم، إذْ لا يَرْجِعُ إلَيْهِ تَعالى مَنفَعَةٌ بِكم، ولا بِعِبادَتِكم إذْ هو الغَنِيُّ المُطْلَقُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُخاطِبًا لِجَمِيعِ النّاسِ؛ لِأنَّهُ تَعالى غَنِيٌّ عَنْ جَمِيعِهِمْ، وهم فُقَراءُ إلَيْهِ. انْتَهى. ولَفْظُ (عِبادِهِ) عامٌّ، فَقِيلَ: المُرادُ الخُصُوصُ، وهُمُ المَلائِكَةُ ومُؤْمِنُو الإنْسِ والجِنِّ. والرِّضا بِمَعْنى الإرادَةِ، فَعَلى هَذا هي صِفَةُ ذاتٍ. وقِيلَ: المُرادُ العُمُومُ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، والرِّضا مُغايِرٌ لِلْإرادَةِ، عَبَّرَ بِهِ عَنِ الشُّكْرِ والإثابَةِ، أيْ: لا يَشْكُرُهُ لَهم دِينًا ولا يُثِيبُهم بِهِ خَيْرًا، فالرِّضا عَلى هَذا صِفَةُ فِعْلٍ بِمَعْنى القَبُولِ والإثابَةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وتَأمَّلِ الإرادَةَ، فَإنَّ حَقِيقَتَها إنَّما هي فِيما لَمْ يَقَعْ بَعْدُ، والرِّضا حَقِيقَتُهُ إنَّما هو فِيما قَدْ وقَعَ، واعْتَبِرْ هَذا في آياتِ القُرْآنِ تَجِدْهُ، وإنْ كانَتِ العَرَبُ قَدْ تَسْتَعْمِلُ في أشْعارِهِمْ عَلى جِهَةِ التَّجَوُّزِ هَذا بَدَلَ هَذا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولَقَدْ تَمَحَّلَ بَعْضُ الغُواةِ لِيُثْبِتَ لِلَّهِ ما نَفاهُ عَنْ ذاتِهِ مِنَ الرِّضا لِعِبادِهِ الكُفْرَ، فَقالَ: هَذا مِنَ العامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الخاصُّ، وما أرادَ إلّا عِبادَهُ الَّذِينَ عَناهم في قَوْلِهِ: (إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ)، يُرِيدُ المَعْصُومِينَ لِقَوْلِهِ: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ﴾ [الإنسان: ٦]، تَعالى اللَّهُ عَمّا يَقُولُ الظّالِمُونَ. انْتَهى. فَسَمّى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبّاسٍ - تُرْجُمانَ القُرْآنِ - وأعْلامَ أهْلِ السُّنَّةِ - بَعْضَ الغُواةِ، وأطْلَقَ عَلَيْهِمُ اسْمَ الظّالِمِينَ، وذَلِكَ مِن سَفَهِهِ وجُرْأتِهِ، كَما قَلْتُ في قَصِيدَتَيِ الَّتِي ذَكَرْتُ فِيها ما يُنْقَدُ عَلَيْهِ: ؎ويَشْتِمُ أعْلامَ الأئِمَّةِ ضَلَّةٌ ∗∗∗ ولا سِيَّما إنْ أوْلَجُوهُ المَضايِقا ﴿وإنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُضاعِفُ لَكم، وكَأنَّهُ يُرِيدُ ثَوابَ الشُّكْرِ؛ وقِيلَ: يَقْبَلُهُ مِنكم. قالَ صاحِبُ التَّحْرِيرِ: قُوَّةُ الكَلامِ تَدُلُّ عَلى أنَّ مَعْنى تَشْكُرُوا: تُؤْمِنُوا حَتّى يَصِيرَ بِإزاءِ الكُفْرِ، واللَّهُ تَعالى قَدْ سَمّى الأعْمالَ الصّالِحَةَ والطّاعاتِ شُكْرًا في قَوْلِهِ: ﴿اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْرًا﴾ [سبإ: ١٣] . انْتَهى. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذِهِ الآيَةِ في سَبَأٍ. وقَرَأ النَّحْوِيّانِ، وابْنُ كَثِيرٍ: ﴿يَرْضَهُ﴾ بِوَصْلِ ضَمَّةِ الهاءِ بِواوٍ؛ وابْنُ عامِرٍ وحَفْصٌ: بِضَمَّةٍ فَقَطْ؛ وأبُو بَكْرٍ: بِسُكُونِ الهاءِ، قالَ أبُو حاتِمٍ: وهو غَلَطٌ لا يَجُوزُ. انْتَهى. ولَيْسَ بِغَلَطٍ، بَلْ ذَلِكَ لُغَةٌ لِبَنِي كِلابٍ وبَنِي عَقِيلٍ. وقَوْلُهُ: (ولا تَزِرُ) إلى: (بِذاتِ الصُّدُورِ)، تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب