الباحث القرآني

(p-٤٢٣)﴿اللَّهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهم وقُلُوبُهم إلى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشاءُ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن هادٍ﴾ ﴿أفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ العَذابِ يَوْمَ القِيامَةِ وقِيلَ لِلظّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأتاهُمُ العَذابُ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ﴾ ﴿فَأذاقَهُمُ اللَّهُ الخِزْيَ في الحَياةِ الدُّنْيا ولَعَذابُ الآخِرَةِ أكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿ولَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ في هَذا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ﴾ ﴿قُرْءانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهم يَتَّقُونَ﴾ ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ ورَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهم مَيِّتُونَ﴾ ﴿ثُمَّ إنَّكم يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكم تَخْتَصِمُونَ﴾ . «عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، أنَّ قَوْمًا مِنَ الصَّحابَةِ قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنا بِأحادِيثَ حِسانٍ، وبِأخْبارِ الدَّهْرِ، فَنَزَلَ: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ﴾» . وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أنَّ الصَّحابَةَ مَلَئُوا مَكَّةَ، فَقالُوا لَهُ: حَدِّثْنا، فَنَزَلَتْ. والِابْتِداءُ بِاسْمِ اللَّهِ، وإسْنادُ نَزَّلَ لِضَمِيرِهِ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ فِيهِ تَفْخِيمٌ لِلْمُنَزَّلِ ورَفْعٌ مِنهُ، كَما تَقُولُ: المَلِكُ أكْرَمَ فُلانًا، هو أفْخَمُ مِن: أكْرَمَ المَلِكُ فُلانًا. وحِكْمَةُ ذَلِكَ البَداءَةُ بِالأشْرَفِ مِن تَذَكُّرِ ما تُسْنَدُ إلَيْهِ، وهو كَثِيرٌ في القُرْآنِ، كَقَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا﴾ [الحج: ٧٥]، و(كِتابًا) بَدَلٌ مِن (أحْسَنَ الحَدِيثِ) . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ حالًا. انْتَهى. وكانَ بِناءً عَلى أنَّ (أحْسَنَ الحَدِيثِ) مَعْرِفَةٌ لِإضافَتِهِ إلى مَعْرِفَةٍ. وأفْعَلُ التَّفْضِيلِ، إذا أُضِيفَ إلى مَعْرِفَةٍ، فِيهِ خِلافٌ. فَقِيلَ: إضافَتُهُ مَحْضَةٌ، وقِيلَ: غَيْرُ مَحْضَةٍ. و(مُتَشابِهًا): مُطْلَقٌ في مُشابَهَةِ بَعْضِهِ بَعْضًا. فَمَعانِيهِ مُتَشابِهَةٌ، لا تَناقُضَ فِيها ولا تَعارُضَ، وألْفاظُهُ في غايَةِ الفَصاحَةِ والبَلاغَةِ والتَّناسُبِ، بِحَيْثُ أعْجَزَتِ العُظَماءَ والبُلَغاءَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿مَثانِيَ﴾، بِفَتْحِ الياءِ؛ وهِشامٌ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو بِشْرٍ: بِسُكُونِ الياءِ، فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا، وسَكَّنَ الياءَ عَلى قَوْلِ مَن يُسَكِّنُ الياءَ في كُلِّ الأحْوالِ، لِانْكِسارِ ما قَبْلَها اسْتِثْقالًا لِلْحَرَكَةِ عَلَيْها. و﴿مَثانِيَ﴾ يَظْهَرُ أنَّهُ جَمْعُ مَثْنًى، ومَعْناهُ: مَوْضِعُ تَثْنِيَةِ القَصَصِ والأحْكامِ والعَقائِدِ والوَعْدِ والوَعِيدِ. وقِيلَ: يُثَنِّي في الصَّلاةِ بِمَعْنى: التَّكْرِيرِ والإعادَةِ. انْتَهى. ووَصَفَ المُفْرَدَ بِالجَمْعِ؛ لِأنَّ فِيهِ تَفاصِيلَ، وتَفاصِيلُ الشَّيْءِ جُمْلَتُهُ. ألا تَرى أنَّكَ تَقُولُ: القُرْآنُ سُوَرٌ وآياتٌ ؟ فَكَذَلِكَ تَقُولُ: أحْكامٌ ومَواعِظُ مُكَرَّراتٌ، وأصْلُهُ كِتابًا مُتَشابِهًا فُصُولًا مَثانِيَ، حُذِفَ المَوْصُوفُ وأُقِيمَتْ صِفَتُهُ مَقامَهُ. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ مِن بابِ: بُرْمَةٌ أعْشارٌ، وُثَوْبٌ أخْلاقٌ، وأنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا عَنْ: مُتَشابِهًا، فَيَكُونُ مَنقُولًا مِنَ الفاعِلِ، أيْ: مُتَشابِهًا مَثانِيهِ. كَما تَقُولُ: رَأيْتُ رَجُلًا حَسَنًا شَمائِلَ، وفائِدَةُ تَثْنِيَتِهِ وتَكُرُّرِهِ رُسُوخُهُ في النُّفُوسِ، إذْ هي أنْفَرُ شَيْءٍ عَنْ سَماعِ الوَعْظِ والنَّصِيحَةِ. والظّاهِرُ حَمْلُ القُشَعْرِيرَةِ عَلى الحَقِيقَةِ، إذْ هو مَوْجُودٌ عِنْدَ الخَشْيَةِ، مَحْسُوسٌ يُدْرِكُهُ الإنْسانُ مِن نَفْسِهِ، وهو حاصِلٌ مِنَ التَّأثُّرِ القَلْبِيِّ. وقِيلَ: هو تَمْثِيلُ تَصْوِيرٍ لِإفْراطِ خَشْيَتِهِمْ، والمَعْنى: أنَّهُ حِينَ يَسْمَعُونَهُ يُتْلى ما فِيهِ مِن آياتِ الوَعِيدِ، عَرَتْهم خَشْيَةٌ تَنْقَبِضُ مِنها جُلُودُهم. ثُمَّ إذا ذَكَرُوا اللَّهَ ورَحْمَتَهُ لانَتْ جُلُودُهم، أيْ: زالَ عَنْها ذَلِكَ التَّقَبُّضُ النّاشِئُ عَنْ خَشْيَةِ القُلُوبِ بِزَوالِ الخَشْيَةِ عَنْها، وضَمَّنَ تَلِينُ مَعْنى تَطْمَئِنُّ جُلُودُهم لَيِّنَةً غَيْرَ مُنْقَبِضَةٍ، وقُلُوبُهم راجِيَةٌ غَيْرُ خاشِيَةٍ، ولِذَلِكَ عَدّاهُ بِإلى. وكانَ في ذِكْرِ القُلُوبِ في هَذِهِ الجُمْلَةِ دَلِيلٌ عَلى تَأثُّرِها عِنْدَ السَّماعِ، فاكْتَفى بِقُشَعْرِيرَةِ الجُلُودِ عَنْ ذِكْرِ خَشْيَةِ القُلُوبِ لِقِيامِ المُسَبَّبِ مَقامَ السَّبَبِ. فَلَمّا ذَكَرَ اللِّينَ ذَكَرَهُما، وفي ذِكْرِ اللِّينِ دَلِيلٌ عَلى المَحْذُوفِ الَّذِي هو رَحْمَةُ اللَّهِ، كَما كانَ في قَوْلِهِ: (إذا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهم)، دَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: (وجِلَتْ) عَنْ ذِكْرِ المَحْذُوفِ، أيْ: إذا ذُكِرَ وعِيدُ اللَّهِ وبَطْشُهُ. وقالَ العَبّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلَبِ: قالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ”«مَنِ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِن خَشْيَةِ اللَّهِ تَحاتَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَما يَتَحاتُّ عَنِ الشَّجَرَةِ اليابِسَةِ ورَقُها“» . وقالَ ابْنُ عُمَرَ: وقَدْ رَأى ساقِطًا مِن سَماعِ القُرْآنِ، فَقالَ: إنّا لِنَخْشى اللَّهَ، وما نُسْقِطُ، هَؤُلاءِ يَدْخُلُ الشَّيْطانُ في جَوْفِ أحَدِهِمْ. وقالَتْ أسْماءُ بِنْتُ أبِي بَكْرٍ: كانَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَدْمَعُ أعْيُنُهم وتَقْشَعِرُّ جُلُودُهم عِنْدَ سَماعِ القُرْآنِ، قِيلَ لَها: إنَّ قَوْمًا اليَوْمَ إذا اسْمِعُوا القُرْآنَ خَرَّ أحَدُهم مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَقالَتْ: أعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ. وقالَ ابْنُ سِيرِينَ: بَيْنَنا وبَيْنَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُصْرَعُونَ عِنْدَ قِراءَةِ القُرْآنِ أنْ يُجْعَلَ أحَدُهم عَلى حائِطٍ باسِطًا رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يُقْرَأُ عَلَيْهِ القُرْآنُ كُلُّهُ، فَإنْ رَمى بِنَفْسِهِ فَهو صادِقٌ. والإشارَةُ بِذَلِكَ إلى (p-٤٢٤)الكِتابِ، أوْ إلى ذَيْنِكَ الوَصْفَيْنِ مِنَ الِاقْشِعْرارِ واللِّينِ، أيْ: أثَرُ هُدى اللَّهِ. ﴿أفَمَن يَتَّقِي﴾ أيْ: يَسْتَقْبِلُ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎سَقَطَ النَّصِيفُ ولَمْ تُرِدْ إسْقاطَهُ فَتَناوَلَتْهُ واتَّقَتْنا بِاليَدِ أيْ: اسْتَقْبَلَتْنا بِيَدِها لِتَقِيَ بِيَدِها وجْهَها أنْ يُرى. والظّاهِرُ حَمْلُ ﴿بِوَجْهِهِ﴾ عَلى حَقِيقَتِهِ. لَمّا كانَ يُلْقى في النّارِ مَغْلُولَةً يَداهُ إلى رِجْلَيْهِ مَعَ عُنُقِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ما يَتَّقِي بِهِ النّارَ إلّا وجْهَهُ. قالَ مُجاهِدٌ: يُجَرُّ عَلى وجْهِهِ في النّارِ، ويَجُوزُ أنْ يُعَبَّرَ بِالوَجْهِ عَنِ الجُمْلَةِ. وقِيلَ: المَعْنى وصْفُ كَثْرَةِ ما يَنالُهم مِنَ العَذابِ، يَتَّقِيهِ أوَّلًا بِجَوارِحِهِ، فَيَتَزَيَدُ حَتّى يَتَّقِيَهُ بِوَجْهِهِ الَّذِي هو أشْرَفُ جَوارِحِهِ، وفِيهِ جَوابٌ، وهو غايَةُ العَذابِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا المَعْنى عِنْدِي أبْيَنُ بَلاغَةً. في هَذا المِضْمارِ يَجْرِي قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎يَلْقى السُّيُوفَ بِوَجْهِهِ وبِنَحْرِهِ ∗∗∗ ويُقِيمُ هامَتَهُ مَقامَ المِغْفَرِ لِأنَّهُ إنَّما أرادَ عِظَمَ جُرْأتِهِ عَلَيْها، فَهو يَلْقاها بِكُلِّ مِجَنٍّ، وبِكُلِّ شَيْءٍ عَنْهُ، حَتّى بِوَجْهِهِ وبِنَحْرِهِ. انْتَهى. و(سُوءَ العَذابِ): أشَدَّهُ، وخَبَرُ مَن مَحْذُوفٌ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَن أمِنَ العَذابَ، وابْنُ عَطِيَّةَ: كالمُنَعَّمِينَ في الجَنَّةِ. ﴿وقِيلَ لِلظّالِمِينَ﴾ أيْ: قالَ ذَلِكَ خَزَنَةُ النّارِ، (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ) أيْ: وبالَ ما كُنْتُمْ (تَكْسِبُونَ) مِنَ الأعْمالِ السَّيِّئَةِ. (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنَ قَبْلِهِمْ): تَمْثِيلٌ لِ قُرَيْشٍ بِالأُمَمِ الماضِيَةِ، وما آلَ إلَيْهِ أمْرُهم مِنَ الهَلاكِ. ﴿فَأتاهُمُ العَذابُ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ﴾: مِنَ الجِهَةِ الَّتِي لا يَشْعُرُونَ أنَّ العَذابَ يَأْتِيهِمْ مِنَ قِبَلِها، ولا يَخْطُرُ بِبالِهِمْ أنَّ الشَّرَّ يَأْتِيهِمْ مِنها. كانُوا في أمْنٍ وغِبْطَةٍ وسُرُورٍ، فَإذا هم مُعَذَّبُونَ مَخْزِيُّونَ ذَلِيلُونَ في الدُّنْيا مِن مَمْسُوخٍ ومَقْتُولٍ ومَأْسُورٍ ومَنفِيٍّ. ثُمَّ أخْبَرَ أنَّ ما أُعِدَّ لَهم في الآخِرَةِ أعْظَمُ. وانْتَصَبَ (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) عَلى الحالِ، وهي حالٌ مُؤَكِّدَةٌ، والحالُ في الحَقِيقَةِ هو (عَرَبِيًّا)، و(قُرْآنًا) تَوْطِئَةٌ لَهُ. وقِيلَ: انْتَصَبَ عَلى المَدْحِ، ونَفى عَنْهُ العِوَجَ؛ لِأنَّهُ مُسْتَقِيمٌ بَرِيءٌ مِنَ الِاخْتِلافِ والتَّناقُضِ. وقالَ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ: غَيْرُ مُضْطَرِبٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: غَيْرُ مُخْتَلِفٍ. وقالَ مُجاهِدٌ: غَيْرُ ذِي لَبْسٍ. وقالَ السُّدِّيُّ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وقِيلَ: غَيْرُ ذِي لَحْنٍ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): فَهَلّا قِيلَ مُسْتَقِيمًا أوْ غَيْرَ مُعْوَجٍّ ؟ (قُلْتُ): فِيهِ فائِدَتانِ: إحْداهُما: نَفْيُ أنْ يَكُونَ فِيهِ عِوَجٌ قَطُّ، كَما قالَ: ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ [الكهف: ١] . والثّانِي: أنَّ لَفْظَ العِوَجِ مُخْتَصٌّ بِالمَعانِي دُونَ الأعْيانِ. وقِيلَ: المُرادُ بِالعِوَجِ: الشَّكُّ واللَّبْسُ، وأنْشَدَ: ؎وقَدْ أتاكَ يَقِينًا غَيْرُ ذِي عِوَجِ ∗∗∗ مِنَ الإلَهِ وقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ. انْتَهى ولَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ ضَرَبَ في القُرْآنِ (مِن كُلِّ مَثَلٍ): أيْ مُحْتاجٍ إلَيْهِ، ضَرَبَ هُنا مَثَلًا لِعابِدِ آلِهَةٍ كَثِيرَةٍ، ومَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ، ومَثَّلَ بَرْجَلٍ مَمْلُوكٍ اشْتَرَكَ فِيهِ مُلّاكٌ سَيِّئُو الأخْلاقِ، فَهو لا يَقْدِرُ أنْ يُوَفِّيَ كُلَّ واحِدٍ مِنهم مَقْصُودَهُ، إذْ لا يَتَغاضى بَعْضُهم لِبَعْضٍ لِمُشاحَتِهِمْ، وطَلَبَ كُلٌّ مِنهم أنْ يَقْضِيَ حاجَتَهُ عَلى التَّمامِ، فَلا يَزالُ في عَناءٍ وتَعَبٍ ولَوْمٍ مِن كُلٍّ مِنهم. ورَجُلٌ آخَرُ مَمْلُوكٌ جَمِيعُهُ لِرَجُلٍ واحِدٍ، فَهو مَعْنِيٌّ بِشُغْلِهِ لا يَشْغَلُهُ عَنْهُ شَيْءٌ، ومالِكُهُ راضٍ عَنْهُ إنْ قَدْ خَلُصَ لِخِدْمَتِهِ، وبَذَلَ جُهْدَهُ في قَضاءِ حَوائِجِهِ، فَلا يَلْقى مِن سَيِّدِهِ إلّا إحْسانًا، وتَقَدَّمَ الكَلامُ في نَصْبِ المَثَلِ. وما بَعْدَهُ. وقالَ الكِسائِيُّ: انْتَصَبَ رَجُلًا عَلى إسْقاطِ الخافِضِ، أيْ مَثَلًا لِرَجُلٍ، أوْ في رَجُلٍ فِيهِ، أيْ: في رِقِّهِ مُشْتَرَكًا، وفِيهِ صِلَةٌ لِشُرَكاءَ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، وابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والزُّهْرِيُّ، والحَسَنُ: بِخِلافٍ عَنْهُ؛ والجَحْدَرَيُّ، وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو: (سالِمًا) اسْمُ فاعِلٍ مِنَ سَلِمَ، أيْ خالِصًا مِنَ الشَّرِكَةِ. وقَرَأ الأعْرَجُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، وأبُو رَجاءٍ، وطَلْحَةُ، والحَسَنُ: بِخِلافٍ عَنْهُ؛ وباقِي السَّبْعَةِ: (سَلَمًا) بِفَتْحِ السِّينِ واللّامِ. وقَرَأ ابْنُ جُبَيْرٍ: (سِلْمًا) بِكَسْرِ السِّينِ وسُكُونِ اللّامِ، وهُما مَصْدَرٌ إنْ وُصِفَ بِهِما مُبالَغَةً في الخُلُوصِ مِنَ الشَّرِكَةِ. وقُرِئَ: (ورَجُلٌ (p-٤٢٥)سالِمٌ) بِرَفْعِهِما. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ وهُناكَ رَجُلٌ سالِمٌ لِرَجُلٍ. انْتَهى، فَجَعَلَ الخَبَرَ هُناكَ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ورَجُلٌ مُبْتَدَأً؛ لِأنَّهُ مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ، إذْ قَدْ تَقَدَّمَ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ: ؎إذا ما بَكى مِن خَلْفِها انْحَرَفَتْ ∗∗∗ لَهُ بِشِقٍّ وشَقٍّ عِنْدَنا لَمْ يُحَوَّلِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإنَّما جَعَلَهُ رَجُلًا لِيَكُونَ أفْطَنَ لِما شَقِيَ بِهِ أوْ سَعِدَ، فَإنَّ المَرْأةَ والصَّبِيَّ قَدْ يَغْفَلانِ عَنْ ذَلِكَ. وانْتَصَبَ (مَثَلًا) عَلى التَّمْيِيزِ المَنقُولِ مِنَ الفاعِلِ، إذِ التَّقْدِيرُ: هَلْ يَسْتَوِي مَثَلُهُما ؟ واقْتَصَرَ في التَّمْيِيزِ عَلى الواحِدِ؛ لِأنَّهُ المُقْتَصَرُ عَلَيْهِ أوَّلًا في قَوْلِهِ: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا)، ولِبَيانِ الجِنْسِ. وقُرِئَ: (مَثَلَيْنِ)، فَطابَقَ حالَ الرَّجُلَيْنِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ فِيمَن قَرَأ (مَثَلَيْنِ) أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في (يَسْتَوِيانِ) لِلْمَثَلَيْنِ؛ لِأنَّ التَّقْدِيرَ مَثَلُ رَجُلٍ، والمَعْنى: هَلْ يَسْتَوِيانِ فِيما يَرْجِعُ إلى الوَصْفِيَّةِ ؟ كَما يَقُولُ: كَفى بِهِما رَجُلَيْنِ. انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّهُ يَعُودُ الضَّمِيرُ في يَسْتَوِيانِ إلى الرَّجُلَيْنِ، فَأمّا إذا جَعَلْتَهُ عائِدًا إلى المَثَلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَ أنَّ التَّقْدِيرَ مَثَلَ رَجُلٍ ورَجُلٍ، فَإنَّ التَّمْيِيزَ إذْ ذاكَ يَكُونُ قَدْ فُهِمَ مِنَ المُمَيَّزِ الَّذِي هو الضَّمِيرُ، إذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: هَلْ يَسْتَوِي المَثَلانِ مَثَلَيْنِ ؟ قُلْ: (الحَمْدُ لِلَّهِ): أيِ الثَّناءُ والمَدْحُ لِلَّهِ لا لِغَيْرِهِ، وهو الَّذِي ثَبَتَتْ وحْدانِيَّتُهُ، فَهو الَّذِي يَجِبُ أنْ يُحْمَدَ، (بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ)، فَيُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ. ولَفْظَةُ الحَمْدُ لِلَّهِ تُشْعِرُ بِوُقُوعِ الهَلاكِ بِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿فَقُطِعَ دابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٤٥] . ولَمّا لَمْ يَلْتَفِتُوا إلى هَذِهِ الدَّلائِلِ الباهِرَةِ، أخْبَرَ الجَمِيعَ بِأنَّهم مَيِّتُونَ وصائِرُونَ إلَيْهِ، وأنَّ اخْتَصامَكم يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ القِيامَةِ، وهو الحَكَمُ العَدْلُ، فَيَتَمَيَّزُ المُحِقُّ مِنَ المُبْطِلِ، وهو - عَلَيْهِ السَّلامُ - وأتْباعُهُ المُحِقُّونَ الفائِزُونَ بِالظَّفَرِ والغَلَبَةِ، والكافِرُونَ هُمُ المُبْطِلُونَ. فالضَّمِيرُ في (وإنَّكَ) خِطابٌ لِلرَّسُولِ، وتَدْخُلُ مَعَهُ أُمَّتُهُ في ذَلِكَ. والظّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ في (وإنَّهم) عَلى الكُفّارِ، وغُلِّبَ ضَمِيرُ الخِطابِ في (إنَّكَ) عَلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ في (إنَّهم) ولِذَلِكَ جاءَ ﴿تَخْتَصِمُونَ﴾ بِالخِطابِ، فَتَحْتَجُّ أنْتَ عَلَيْهِمْ بِأنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وكَذَّبُوا، واجْتَهَدْتَ في الدَّعْوَةِ ولَجُّوا في العِنادِ. وقالَ أبُو العالِيَةِ: هم أهْلُ القِبْلَةِ، يَخْتَصِمُونَ بَيْنَهم يَوْمَ القِيامَةِ في مَظالِمِهِمْ. وأبْعَدَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ هَذا الخِصامَ سَبَبُهُ ما كانَ في قَتْلِ عُثْمانَ، وما جَرى بَيْنَ عَلِيٍّ ومُعاوِيَةَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، رِضى اللَّهِ عَنْهم. وقِيلَ: يَخْتَصِمُ الجَمِيعُ، فالكُفّارُ يُخاصِمُ بَعْضُهم بَعْضًا حَتّى يُقالَ لَهم: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ. والمُؤْمِنُونَ يَتَلَقَّوْنَ الكافِرِينَ بِالحُجَجِ، وأهْلُ القِبْلَةِ يَكُونُ بَيْنَهُمُ الخِصامُ. وقَرَأ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وعِيسى، واليَمانِيُّ، وابْنُ أبِي غَوْثٍ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: (إنَّكَ مائِتٌ وإنَّهم مائِتُونَ)، وهي تُشْعِرُ بِحُدُوثِ الصِّفَةِ؛ والجُمْهُورُ: (مَيِّتٌ ومَيِّتُونَ) وهي تُشْعِرُ بِالثُّبُوتِ واللُّزُومِ كالحَيِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب