الباحث القرآني

(p-٣٦٨)﴿وقالَ إنِّي ذاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينَ﴾ ﴿فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾ ﴿فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يابُنَيَّ إنِّي أرى في المَنامِ أنِّي أذْبَحُكَ فانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصّابِرِينَ﴾ ﴿فَلَمّا أسْلَما وتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ ﴿ونادَيْناهُ أنْ ياإبْراهِيمُ﴾ ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إنّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ ﴿إنَّ هَذا لَهو البَلاءُ المُبِينُ﴾ ﴿وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ ﴿وتَرَكْنا عَلَيْهِ في الآخِرِينَ﴾ ﴿سَلامٌ عَلى إبْراهِيمَ﴾ ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ ﴿إنَّهُ مِن عِبادِنا المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وبَشَّرْناهُ بِإسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ﴾ ﴿وبارَكْنا عَلَيْهِ وعَلى إسْحاقَ ومِن ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ ﴿ولَقَدْ مَنَنّا عَلى مُوسى وهارُونَ﴾ [الصافات: ١١٤] ﴿ونَجَّيْناهُما وقَوْمَهُما مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ﴾ [الصافات: ١١٥] ﴿ونَصَرْناهم فَكانُوا هُمُ الغالِبِينَ﴾ [الصافات: ١١٦] ﴿وآتَيْناهُما الكِتابَ المُسْتَبِينَ﴾ [الصافات: ١١٧] ﴿وهَدَيْناهُما الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الصافات: ١١٨] ﴿وتَرَكْنا عَلَيْهِما في الآخِرِينَ﴾ [الصافات: ١١٩] ﴿سَلامٌ عَلى مُوسى وهارُونَ﴾ [الصافات: ١٢٠] ﴿إنّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ [الصافات: ١٢١] ﴿إنَّهُما مِن عِبادِنا المُؤْمِنِينَ﴾ [الصافات: ١٢٢] ﴿وإنَّ إلْياسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: ١٢٣] ﴿إذْ قالَ لِقَوْمِهِ ألا تَتَّقُونَ﴾ [الصافات: ١٢٤] ﴿أتَدْعُونَ بَعْلًا وتَذَرُونَ أحْسَنَ الخالِقِينَ﴾ [الصافات: ١٢٥] ﴿اللَّهَ رَبَّكم ورَبَّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ [الصافات: ١٢٦] ﴿فَكَذَّبُوهُ فَإنَّهم لَمُحْضَرُونَ﴾ [الصافات: ١٢٧] ﴿إلّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ﴾ [الصافات: ١٢٨] ﴿وتَرَكْنا عَلَيْهِ في الآخِرِينَ﴾ [الصافات: ١٢٩] ﴿سَلامٌ عَلى إلْ ياسِينَ﴾ [الصافات: ١٣٠] ﴿إنّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ [الصافات: ١٣١] ﴿إنَّهُ مِن عِبادِنا المُؤْمِنِينَ﴾ [الصافات: ١٣٢] ﴿وإنَّ لُوطًا لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: ١٣٣] ﴿إذْ نَجَّيْناهُ وأهْلَهُ أجْمَعِينَ﴾ [الصافات: ١٣٤] ﴿إلّا عَجُوزًا في الغابِرِينَ﴾ [الصافات: ١٣٥] ﴿ثُمَّ دَمَّرْنا الآخَرِينَ﴾ [الصافات: ١٣٦] ﴿وإنَّكم لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ﴾ [الصافات: ١٣٧] ﴿وبِاللَّيْلِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات: ١٣٨] ﴿وإنَّ يُونُسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: ١٣٩] ﴿إذْ أبَقَ إلى الفُلْكِ المَشْحُونِ﴾ [الصافات: ١٤٠] ﴿فَساهَمَ فَكانَ مِنَ المُدْحَضِينَ﴾ [الصافات: ١٤١] ﴿فالتَقَمَهُ الحُوتُ وهو مُلِيمٌ﴾ [الصافات: ١٤٢] ﴿فَلَوْلا أنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ﴾ [الصافات: ١٤٣] ﴿لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: ١٤٤] ﴿فَنَبَذْناهُ بِالعَراءِ وهو سَقِيمٌ﴾ [الصافات: ١٤٥] ﴿وأنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِن يَقْطِينٍ﴾ [الصافات: ١٤٦] ﴿وأرْسَلْناهُ إلى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧] ﴿فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهم إلى حِينٍ﴾ [الصافات: ١٤٨] ﴿فاسْتَفْتِهِمْ ألِرَبِّكَ البَناتُ ولَهُمُ البَنُونَ﴾ [الصافات: ١٤٩] ﴿أمْ خَلَقْنا المَلائِكَةَ إناثًا وهم شاهِدُونَ﴾ [الصافات: ١٥٠] ﴿ألا إنَّهم مِن إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ﴾ [الصافات: ١٥١] ﴿ولَدَ اللَّهُ وإنَّهم لَكاذِبُونَ﴾ [الصافات: ١٥٢] ﴿أاصْطَفى البَناتِ عَلى البَنِينَ﴾ [الصافات: ١٥٣] ﴿ما لَكم كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [الصافات: ١٥٤] ﴿أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [الصافات: ١٥٥] ﴿أمْ لَكم سُلْطانٌ مُبِينٌ﴾ [الصافات: ١٥٦] ﴿فَأْتُوا بِكِتابِكم إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [الصافات: ١٥٧] ﴿وجَعَلُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا ولَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إنَّهم لَمُحْضَرُونَ﴾ [الصافات: ١٥٨] ﴿سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: ١٥٩] ﴿إلّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ﴾ [الصافات: ١٦٠] ﴿فَإنَّكم وما تَعْبُدُونَ﴾ [الصافات: ١٦١] ﴿ما أنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ﴾ [الصافات: ١٦٢] ﴿إلّا مَن هو صالِي الجَحِيمِ﴾ [الصافات: ١٦٣] ﴿وما مِنّا إلّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ﴾ [الصافات: ١٦٤] ﴿وإنّا لَنَحْنُ الصّافُّونَ﴾ [الصافات: ١٦٥] ﴿وإنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ﴾ [الصافات: ١٦٦] ﴿وإنْ كانُوا لَيَقُولُونَ﴾ [الصافات: ١٦٧] ﴿لَوْ أنَّ عِنْدَنا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ﴾ [الصافات: ١٦٨] ﴿لَكُنّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ﴾ [الصافات: ١٦٩] ﴿فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الصافات: ١٧٠] ﴿ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنا المُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: ١٧١] ﴿إنَّهم لَهُمُ المَنصُورُونَ﴾ [الصافات: ١٧٢] ﴿وإنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الغالِبُونَ﴾ [الصافات: ١٧٣] ﴿فَتَوَلَّ عَنْهم حَتّى حِينٍ﴾ [الصافات: ١٧٤] ﴿وأبْصِرْهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ [الصافات: ١٧٥] ﴿أفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ [الصافات: ١٧٦] ﴿فَإذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ المُنْذَرِينَ﴾ [الصافات: ١٧٧] ﴿وتَوَلَّ عَنْهم حَتّى حِينٍ﴾ [الصافات: ١٧٨] ﴿وأبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ [الصافات: ١٧٩] ﴿سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: ١٨٠] ﴿وسَلامٌ عَلى المُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: ١٨١] ﴿والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الصافات: ١٨٢] تَلَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ: صَرَعَهُ عَلى شِقِّهِ، وقِيلَ: وضَعَهُ بِقُوَّةٍ. وقالَ ساعِدَةُ بْنُ حَوْبَةَ: ؎وتَلَّ تَلِيلًا لِلْجَبِينِ ولِلْفَمِ والجَبِينانِ: ما اكْتَنَفَ مِن هُنا ومِن هُنا، وشَذَّ جَمْعُ الجَبِينِ عَلى أجْبُنٍ، وقِياسُهُ في القِلَّةِ أجْبِنَةٌ، كَكَثِيبٍ وأكْثِبَةٍ، وفي الكَثْرَةِ: جَبَناتٌ وجُبُنٌ، كَكُثُباتٌ وكُثُبٌ. الذَّبْحُ: اسْمُ ما يُذْبَحُ، كالرَّعْيِ اسْمُ ما يُرْعى. أبَقَ: هَرَبَ. ساهَمَ: قارَعَ. المُدْحَضُ: المَقْلُوبُ. الحُوتُ: مَعْرُوفٌ. ألامَ: أتى بِما يُلامُ عَلَيْهِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎وكَمْ مِن مُلِيمٍ لَمْ يُصَبْ بِمُلامَةٍ ∗∗∗ ومُتَّبِعٍ بِالذَّنْبِ لَيْسَ لَهُ ذَنْبُ العَراءُ: الأرْضُ الفَيْحاءُ لا شَجَرَ فِيها ولا يُعْلَمُ، قالَ الشّاعِرُ: ؎ورَفَعْتُ رِجْلًا لا أخافُ عِثارَها ∗∗∗ ونَبَذْتُ بِالمِينِ العَراءِ ثِيابِي اليَقْطِينُ: يَفْعِيلٌ كاليَفْصِيدِ، مِن قَطَنَ: أقامَ بِالمَكانِ، وهو بِالمَكانِ، وهو ما كانَ مِنَ الشَّجَرِ لا يَقُومُ عَلى ساقٍ مِن عُودٍ، كَشَجَرِ البِطِّيخِ والحَنْظَلِ والقِثّاءِ. السّاحَةُ: الفِناءُ، وجَمْعُها سُوحٌ، قالَ الشّاعِرُ: ؎فَكانَ سِيّانِ أنْ لا يَسْرَحُوا نَعَمًا ∗∗∗ أوْ يَسْرَحُوهُ بِها واغْبَرَّتِ السُّوحُ (p-٣٦٩) ﴿وقالَ إنِّي ذاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينَ﴾ ﴿فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾ ﴿فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يابُنَيَّ إنِّي أرى في المَنامِ أنِّي أذْبَحُكَ فانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصّابِرِينَ﴾ ﴿فَلَمّا أسْلَما وتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ ﴿ونادَيْناهُ أنْ ياإبْراهِيمُ﴾ ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إنّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ ﴿إنَّ هَذا لَهو البَلاءُ المُبِينُ﴾ ﴿وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ ﴿وتَرَكْنا عَلَيْهِ في الآخِرِينَ﴾ ﴿سَلامٌ عَلى إبْراهِيمَ﴾ ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ ﴿إنَّهُ مِن عِبادِنا المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وبَشَّرْناهُ بِإسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ﴾ ﴿وبارَكْنا عَلَيْهِ وعَلى إسْحاقَ ومِن ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ . لَمّا سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنهم ومِنَ النّارِ الَّتِي ألْقَوْهُ فِيها، عَزَمَ عَلى مُفارَقَتِهِمْ، وعَبَّرَ بِالذَّهابِ إلى رَبِّهِ عَنْ هِجْرَتِهِ إلى أرْضِ الشّامِ. كَما قالَ (﴿إنِّي مُهاجِرٌ إلى رَبِّي﴾ [العنكبوت: ٢٦] لِيَتَمَكَّنَ مِن عِبادَةِ رَبِّهِ ويَتَضَرَّعَ لَهُ مِن غَيْرِ أنْ يَلْقى مَن يُشَوِّشُ عَلَيْهِ، فَهاجَرَ مِن أرْضِ بابِلَ، مِن مَمْلَكَةِ نُمْرُودٍ، إلى الشّامِ. وقِيلَ: إلى أرْضِ مِصْرَ. ويَبْعُدُ قَوْلُ مَن قالَ: لَيْسَ المُرادُ بِذَهابِهِ الهِجْرَةَ، وإنَّما مُرادُهُ لِقاءُ اللَّهِ بَعْدَ الإحْراقِ، ظانًّا مِنهُ أنَّهُ سَيَمُوتُ في النّارِ، فَقالَها قَبْلَ أنْ يُطْرَحَ في النّارِ. و( سَيَهْدِينِ) أيْ إلى الجَنَّةِ، نَحا إلى هَذا قَتادَةُ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينَ﴾ يَدْفَعُ هَذا القَوْلَ، والمُعْتَقِدُ أنَّهُ يَمُوتُ في النّارِ لا يَدْعُو بِأنْ يَهَبَ اللَّهُ لَهُ ولَدًا صالِحًا. (سَيَهْدِينِ) يُوَفِّقُنِي إلى ما فِيهِ صَلاحِي. ﴿مِنَ الصّالِحِينَ﴾ أيْ ولَدًا يَكُونُ في عِدادِ الصّالِحِينَ. ولَفْظُ الهِبَةِ غَلَبَ في الوَلَدِ، وإنْ كانَ قَدْ جاءَ في الأخِ، كَقَوْلِهِ ﴿ووَهَبْنا لَهُ مِن رَحْمَتِنا أخاهُ هارُونَ نَبِيًّا﴾ [مريم: ٥٣] . واشْتَمَلَتِ البِشارَةُ عَلى ذُكُورِيَّةِ المَوْلُودِ وبُلُوغِهِ سِنَّ الحُلُمِ ووَصْفِهِ بِالحِلْمِ، وأيُّ حِلْمٍ أعْظَمُ مِن قَوْلِهِ، وقَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ أبُوهُ الذَّبْحَ ﴿سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصّابِرِينَ﴾ ﴿فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾، بَيْنَ هَذِهِ الجُمْلَةِ والَّتِي قَبْلَها مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَوُلِدَ لَهُ وشَبَّ. ﴿فَلَمّا بَلَغَ﴾ أيْ أنْ يَسْعى مَعَ أبِيهِ في أشْغالِهِ وحَوائِجِهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ زَيْدٍ: والَسَّعْيُ هُنا: العَمَلُ والعِبادَةُ والمَعُونَةُ. وقالَ قَتادَةُ: السَّعْيُ عَلى القَدَمِ، يُرِيدُ سَعْيًا مُتَمَكِّنًا، وفِيهِ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لا يَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِبَلَغَ بِهِ بُلُوغُهُما مَعًا حَدَّ السَّعْيِ ولا بِالسَّعْيِ؛ لِأنَّ أصْلَهُ المَصْدَرُ لا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، فَنَفى أنْ يَكُونَ بَيانًا، كَأنَّهُ لَمّا قالَ ﴿فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾، أيِ الحَدَّ الَّذِي يَقْدِرُ فِيهِ عَلى السَّعْيِ، قِيلَ: مَعَ مَن ؟ فَقالَ: مَعَ أبِيهِ، والمَعْنى في اخْتِصاصِ الأبِّ أنَّهُ أرْفَقُ النّاسِ وأعْطَفُهم عَلَيْهِ وعَلى غَيْرِهِ وبِما عَنَّفَ عَلَيْهِ في الِاسْتِسْعاءِ، فَلا يَحْتَمِلُهُ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَسْتَحْكِمْ قَوْلَهُ، ولَمْ يَطْلُبْ عَوْدَهُ، وكانَ إذْ ذاكَ ابْنَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. انْتَهى. ﴿قالَ يابُنَيَّ﴾ نِداءُ شَفَقَةٍ وتَرَحُّمٍ. ﴿إنِّي أرى في المَنامِ أنِّي أذْبَحُكَ﴾ أيْ بِأمْرٍ مِنَ اللَّهِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ ﴿افْعَلْ ما تُؤْمَرُ﴾ . ورُؤْيا الأنْبِياءِ وحْيٌ كاليَقَظَةِ، وذِكْرُهُ لَهُ الرُّؤْيا تَجْسِيرٌ عَلى احْتِمالِ تِلْكَ البَلِيَّةِ العَظِيمَةِ. وشاوَرَهُ بِقَوْلِهِ ﴿فانْظُرْ ماذا تَرى﴾ وإنْ كانَ حَتْمًا مِنَ اللَّهِ لِيَعْلَمَ ما عِنْدَهُ مِن تَلَقِّي هَذا الِامْتِحانِ العَظِيمِ، ويُصَبِّرَهُ إنْ جَزَعَ، ويُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلى مُلاقاةِ هَذا البَلاءِ، وتَسْكُنَ نَفْسُهُ لِما لا بُدَّ مِنهُ، إذْ مُفاجَأةُ البَلاءِ قَبْلَ الشُّعُورِ بِهِ أصْعَبُ عَلى النَّفْسِ، وكانَ ما رَآهُ في المَنامِ ولَمْ يَكُنْ في اليَقَظَةِ، كَرُؤْيا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ورُؤْيا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ دُخُولَ المَسْجِدِ الحَرامِ، لِيَدُلَّ عَلى أنَّ حالَتَيِ الأنْبِياءِ يَقَظَةً ومَنامًا سَواءٌ في الصِّدْقِ مُتَظافِرَتانِ عَلَيْهِ. قِيلَ: إنَّهُ حِينَ بَشَّرَتِ المَلائِكَةُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ قالَ: هو إذَنْ ذَبِيحُ اللَّهِ. فَلَمّا بَلَغَ حَدَّ السَّعْيِ مَعَهُ قِيلَ لَهُ: أوْفِ بِنَذْرِكَ. قِيلَ: رَأى لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ قائِلًا يَقُولُ لَهُ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ بِذَبْحِ ابْنِكَ هَذا. فَلَمّا أصْبَحَ، رَوّى في ذَلِكَ مِنَ الصَّباحِ إلى الرَّواحِ. أمِنَ اللَّهِ هَذا الحُلْمُ ؟، فَمِن ثَمَّ سُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ. فَلَمّا أمْسَ رَأى مِثْلَ ذَلِكَ، فَعَرَفَ أنَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَمِن ثَمَّ سُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ. ثُمَّ رَأى مِثْلَهُ في اللَّيْلَةِ الثّالِثَةِ، فَهَمَّ بِنَحْرِهِ، فَسُمِّيَ يَوْمَ النَّحْرِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (p-٣٧٠)(تَرى)، بِفَتْحِ التّاءِ والرّاءِ؛ وعَبْدُ اللَّهِ، والأسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وابْنُ وثّابٍ، وطَلْحَةُ، والأعْمَشُ، ومُجاهِدٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: بِضَمِّ التّاءِ وكَسْرِ الرّاءِ؛ والضَّحّاكُ، والأعْمَشُ أيْضًا بِضَمِّ التّاءِ وفَتْحِ الرّاءِ. فالأوَّلُ مِنَ الرَّأْيِ، والثّانِي ماذا تَرَيَنِّيهِ وما تُبْدِيهِ لِأنْظُرَ فِيهِ ؟ والثّالِثُ ما الَّذِي يُخَيَّلُ إلَيْكَ ويُوقَعُ في قَلْبِكَ ؟ و(انْظُرْ) مُعَلَّقَةٌ، وماذا اسْتِفْهامٌ. فَإنْ كانَتْ (ذا) مَوْصُولَةً بِمَعْنى الَّذِي، فَـ (ما) مُبْتَدَأٌ، والفِعْلُ بَعْدَ (ذا) صِلَةٌ. وإنْ كانَتْ (ذا) مُرَكَّبَةً، فَفي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالفِعْلِ بَعْدَها. والجُمْلَةُ، واسْمُ الِاسْتِفْهامِ الَّذِي هو مَعْمُولٌ لِلْفِعْلِ بَعْدَهُ في مَوْضِعِ نَصْبِ انْظُرْ. ولَمّا كانَ خِطابُ الأبِّ (يا بُنَيَّ)، عَلى سَبِيلِ التَّرَحُّمِ، قالَ: هو (يا أبَتِ)، عَلى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ والتَّوْقِيرِ. ﴿افْعَلْ ما تُؤْمَرُ﴾ أيْ ما تُؤْمَرُهُ، حَذَفَهُ وهو مَنصُوبٌ، وأصْلُهُ ما تُؤْمَرُ بِهِ، فَحُذِفَ الحَرْفُ، واتَّصَلَ الضَّمِيرُ مَنصُوبًا، فَجازَ حَذْفُهُ لِوُجُودِ شَرائِطِ الحَذْفِ فِيهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْ أمَرَكَ، عَلى إضافَةِ المَصْدَرِ إلى المَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، وفي ذَلِكَ خِلافٌ. هَلْ يُعْتَقَدُ في المَصْدَرِ العامِلِ أنْ يَجُوزَ أنْ يُبْنى لِلْمَفْعُولِ، فَيَكُونَ ما بَعْدَهُ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، أمْ يَكُونَ ذَلِكَ ؟ ﴿سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصّابِرِينَ﴾ كَلامُ مَن أُوتِيَ الحِلْمَ والصَّبْرَ والِامْتِثالَ لِأمْرِ اللَّهِ، والرِّضا بِما أمَرَ اللَّهُ. ﴿فَلَمّا أسْلَما﴾ أيْ لِأمْرِ اللَّهِ، ويُقالُ: اسْتَسْلَمَ وسَلَّمَ بِمَعْناهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: أسْلَما. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، وعَلِيٌّ، وابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، والضَّحّاكُ، وجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، والأعْمَشُ، والثَّوْرِيُّ: سَلَّما: أيْ فَوَّضا إلَيْهِ في قَضائِهِ وقَدَرِهِ. وقُرِئَ: اسْتَسْلَما، ثَلاثُ قِراءاتٍ. وقالَ قَتادَةُ في أسْلَما: أسْلَمَ هَذا ابْنَهُ، وأسْلَمَ هَذا نَفْسَهُ، فَجَعَلَ أسْلَما مُتَعَدِّيًا، وغَيْرَهُ جَعَلَهُ لازِمًا بِمَعْنى: انْقادا لِأمْرِ اللَّهِ وخَضَعا لَهُ. ﴿وتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ أيْ أوْقَعَهُ عَلى أحَدِ جَنْبَيْهِ في الأرْضِ مُباشِرًا الأمْرَ بِصَبْرٍ وجَلَدٍ، وذَلِكَ عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي بِمِنًى، وعَنِ الحَسَنِ: في المَوْضِعِ المُشْرِفِ عَلى مَسْجِدِ مِنًى؛ وعَنِ الضَّحّاكِ: في المَنحَرِ الَّذِي يُنْحَرُ فِيهِ اليَوْمَ. وجَوابُ (لَمّا) مَحْذُوفٌ يُقَدَّرُ بَعْدَ ﴿وتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾، أيْ أجْزَلْنا أجْرَهُما، قالَهُ بَعْضُ البَصْرِيِّينَ، أوْ بَعْدَ ﴿الرُّؤْيا﴾ أيْ: كانَ ما كانَ مِمّا تَنْطِقُ بِهِ الحالُ ولا يُحِيطُ بِهِ الوَصْفُ مِنِ اسْتِبْشارِهِما وحَمْدِهِما اللَّهَ عَلى ما أنْعَمَ بِهِ إلى ألْفاظٍ كَثِيرَةٍ ذَكَرَها الزَّمَخْشَرِيُّ عَلى عادَتِهِ في خَطابَتِهِ، أوْ قَبْلَ ﴿وتَلَّهُ﴾ تَقْدِيرُهُ ﴿فَلَمّا أسْلَما وتَلَّهُ﴾ . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهو قَوْلُ الخَلِيلِ وسِيبَوَيْهِ، وهو عِنْدَهم كَقَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ: ؎فَلَمّا أجَزْنا ساحَةَ الحَيِّ وانْتَحى وقالَ الكُوفِيُّونَ: الجَوابُ مُثْبَتٌ، وهو ﴿ونادَيْناهُ﴾ عَلى زِيادَةِ الواوِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هو ﴿وتَلَّهُ﴾ عَلى زِيادَةِ الواوِ. وذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ في قِصَّةِ إبْراهِيمَ وابْنِهِ، وما جَرى بَيْنَهُما مِنَ الأقْوالِ والأفْعالِ فُصُولًا، اللَّهُ أعْلَمُ بِصِحَّتِها، يُوقِفُ عَلَيْها في كِتابِهِ. و(أنْ) مُفَسِّرَةٌ؛ أيْ ﴿قَدْ صَدَّقْتَ﴾ . وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: ونادَيْناهُ قَدْ صَدَّقَتْ، بِحَذْفِ (أنْ)، وقُرِئَ: صَدَقْتَ، بِتَخْفِيفِ الدّالِ. وقَرَأ فَيّاضٌ: الرِّيّا، بِكَسْرِ الرّاءِ والإدْغامِ وتَصْدِيقِ الرُّؤْيا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَذَلَ وِسْعَهُ وفَعَلَ ما يَفْعَلُ الذّابِحُ مِن بَطْحِهِ عَلى شِقِّهِ وإمْرارِ الشَّفْرَةِ عَلى حَلْقِهِ، لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ جاءَ بِما مَنَعَ الشَّفْرَةَ أنْ تَمْضِيَ فِيهِ، وهَذا لا يَقْدَحُ في فِعْلِ إبْراهِيمَ. ألا تَرى أنَّهُ لا يُسَمّى عاصِيًا ولا مُفَرِّطًا ؟ بَلْ يُسَمّى مُطِيعًا ومُجْتَهِدًا، كَما لَوْ مَضَتْ فِيهِ الشَّفْرَةُ وفَرَتِ الأوْداجَ وأنْهَرَتِ الدَّمَ. ولَيْسَ هَذا مِن وُرُودِ النَّسْخِ عَلى المَأْمُورِ بِهِ قَبْلَ الفِعْلِ، ولا قَبْلَ أوانِ الفِعْلِ في شَيْءٍ، كَما يَسْبِقُ إلى بَعْضِ الأوْهامِ حَتّى يَشْتَغِلَ بِالكَلامِ فِيهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ﴿قَدْ صَدَّقْتَ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِقَلْبِكَ عَلى مَعْنى: كانَتْ عِنْدَكَ رُؤْياكَ صادِقَةً حَقًّا مِنَ اللَّهِ فَعَمِلْتَ بِحَسَبِها حِينَ آمَنتَ بِها، واعْتَقَدْتَ صِدْقَها. ويَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ: صَدَّقْتَ بِقَلْبِكَ ما حَصَلَ عَنِ الرُّؤْيا في نَفْسِكَ، كَأنَّهُ قالَ: قَدْ وفَّيْتَها حَقَّها مِنَ العَمَلِ. انْتَهى. ﴿إنّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ تَعْلِيلٌ لِتَخْوِيلِ ما خَوَّلَهُما اللَّهُ مِنَ الفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، والظَّفَرِ بِالبُغْيَةِ بَعْدَ اليَأْسِ. (إنَّ هَذا) أيْ ما أُمِرَ بِهِ إبْراهِيمُ مِن ذَبْحِ ابْنِهِ، ﴿لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ﴾ أيِ الِاخْتِبارُ البَيِّنُ الَّذِي يَتَمَيَّزُ فِيهِ المُخْلِصُونَ وغَيْرُهم، أوِ المِحْنَةُ البَيِّنَةُ الصُّعُوبَةِ الَّتِي لا مِحْنَةَ أصْعَبُ مِنها. ﴿وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو (p-٣٧١)الكَبْشُ الَّذِي قَرَّبَهُ هابِيلُ فَقُبِلَ مِنهُ، وكانَ يَرْعى في الجَنَّةِ حَتّى فُدِيَ بِهِ إسْماعِيلُ. وقالَ أيْضًا هو والحَسَنُ: فُدِيَ بِوَعْلٍ أُهْبِطَ عَلَيْهِ مِن سَرْوٍ. وقالَ الجُمْهُورُ: كَبْشٌ أبْيَضُ أقْرَنُ أقْنى، ووُصِفَ بِالعِظَمِ. قالَ مُجاهِدٌ: لِأنَّهُ مُتَقَبَّلٌ يَقِينًا. وقالَ عَمْرُو بْنُ عَبِيدٍ: لِأنَّهُ جَرَتِ السُّنَّةُ بِهِ، وصارَ دِينًا باقِيًا إلى آخِرِ الدَّهْرِ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ الفَضْلِ: لِأنَّهُ كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ. وقالَ أبُو بَكْرٍ الوَرّاقُ: لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ نَسْلٍ، بَلْ عَنِ التَّكْوِينِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ: عَظَمَتُهُ كَوْنُهُ مِن كِباشِ الجَنَّةِ، رُعِيَ فِيها أرْبَعِينَ خَرِيفًا. وفي قَوْلِهِ ﴿وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّ إبْراهِيمَ لَمْ يَذْبَحِ ابْنَهُ، وقَدْ فُدِيَ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: وقَعَ الذَّبْحُ وقامَ بَعْدَ ذَلِكَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا كَذِبٌ صُراحٌ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: لَمْ يَرَ إبْراهِيمُ في مَنامِهِ الإمْرارَ بِالشَّفْرَةِ فَقَطْ، فَظَنَّ أنَّهُ ذِبْحٌ مُجَهَّزٌ، فَنَفَّذَ لِذَلِكَ. فَلَمّا وقَعَ الَّذِي رَآهُ وقَعَ النَّسْخُ، قالَ: ولا اخْتِلافَ، فَإنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، أمَرَّ الشَّفْرَةَ عَلى حَلْقِ ابْنِهِ فَلَمْ تَقْطَعْ. انْتَهى. والَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ القُرْآنُ أنَّهُ ﴿وتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ فَقَطْ، ولَمْ يَأْتِ في حَدِيثٍ صَحِيحٍ «أنَّهُ أمَرَّ الشَّفْرَةَ عَلى حَلْقِ ابْنِهِ». ﴿وتَرَكْنا عَلَيْهِ﴾ إلى (المُؤْمِنِينَ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ في آخِرِ قِصَّةِ نُوحٍ، قَبْلَ قِصَّةِ إبْراهِيمَ هُنا، وقالَ هُنا كَذَلِكَ دُونَ إنّا اكْتِفاءً بِذِكْرِ ذَلِكَ قَبْلُ وبَعْدُ. ﴿وبَشَّرْناهُ بِإسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ﴾ الظّاهِرُ أنَّ هَذِهِ بِشارَةٌ غَيْرُ تِلْكَ البِشارَةِ، وأنَّ الغُلامَ الحَلِيمَ المُبَشَّرَ بِهِ إبْراهِيمُ هو إسْماعِيلُ، وأنَّهُ هو الذَّبِيحُ لا إسْحاقُ؛ وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنُ عُمَرَ، ومُعاوِيَةُ بْنُ أبِي سُفْيانَ، ومُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ، والشَّعْبِيُّ، والحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وجَماعَةُ مِنَ التّابِعِينَ؛ واسْتَدَلُّوا بِظاهِرِ هَذِهِ الآياتِ وبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «أنا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ»، وقَوْلُ الأعْرابِيِّ لَهُ: «يا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ: فَتَبَسَّمَ عَلَيْهِ السَّلامُ»، يَعْنِي إسْماعِيلَ، وأباهُ عَبْدَ اللَّهِ. وكانَ عَبْدُ المُطَّلِبِ نَذَرَ ذَبْحَ أحَدِ ولَدِهِ، فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلى عَبْدِ اللَّهِ، فَمَنَعَهُ أخْوالُهُ وقالُوا لَهُ: افْدِ ابْنَكَ بِمِائَةٍ مِنَ الإبِلِ، فَفَداهُ بِها. وفِيما أوْحى اللَّهُ لِمُوسى في حَدِيثٍ طَوِيلٍ. «وأمّا إسْماعِيلُ، فَإنَّهُ جادَ بِدَمِ نَفْسِهِ». وسَألَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ يَهُودِيًا أسْلَمَ عَنْ ذَلِكَ فَقالَ: إنَّ يَهُودِيًا لَيَعْلَمُ، لَكِنَّهم يَحْسُدُونَكم مَعْشَرَ العَرَبِ، وكانَ قَرْنا الكَبْشِ مَنُوطَيْنِ في الكَعْبَةِ. وسَألَ الأصْمَعِيُّ أبا عَمْرِو بْنَ العَلاءِ عَنِ الذَّبِيحِ فَقالَ: يا أصْمَعِيُّ، أيْنَ عَزَبَ عَنْكَ عَقْلُكَ ؟ ومَتى كانَ إسْحاقُ بِمَكَّةَ ؟ وهو الَّذِي بَنى البَيْتَ مَعَ أبِيهِ، والمَنحَرُ بِمَكَّةَ ؟ انْتَهى. ووَصَفَهُ تَعالى بِالصَّبْرِ في قَوْلِهِ ﴿وإسْماعِيلَ وإدْرِيسَ وذا الكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصّابِرِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٥] وهو صَبْرُهُ عَلى الذَّبْحِ؛ وبِصِدْقِ الوَعْدِ في قَوْلِهِ ﴿إنَّهُ كانَ صادِقَ الوَعْدِ﴾ [مريم: ٥٤] لِأنَّهُ وعَدَ أباهُ مِن نَفْسِهِ الصَّبْرَ عَلى الذَّبْحِ فَوَفّى بِهِ. وذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ قالَ: الذَّبِيحُ إسْماعِيلُ، ويَزْعُمُ اليَهُودُ أنَّهُ إسْحاقُ، وكَذَبَتِ اليَهُودُ. ومِن أقْوى ما يُسْتَدَلُّ بِهِ أنَّ اللَّهَ تَعالى بَشَّرَ إبْراهِيمَ بِإسْحاقَ، ووَلَدَ إسْحاقُ يَعْقُوبَ. فَلَوْ كانَ الذَّبِيحُ إسْحاقَ، لَكانَ ذَلِكَ الإخْبارُ غَيْرَ مُطابِقٍ لِلْواقِعِ، وهو مُحالٌ في إخْبارِ اللَّهِ تَعالى. وذَهَبَتْ جَماعَةٌ إلى أنَّ الذَّبِيحَ هو إسْحاقُ، مِنهم: العَبّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وعَلِيٌّ، وعَطاءٌ، وعِكْرِمَةُ، وكَعْبٌ، وعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةٍ، وكانَ أمْرَ ذَبْحِهِ بِالشّامِ. وقالَ عَطاءٌ ومُقاتِلٌ: بِبَيْتِ المَقْدِسِ؛ وقِيلَ: بِالحِجازِ، جاءَ مَعَ أبِيهِ عَلى البُراقِ. وقالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةٍ: وكانَ أمْرَ ذَبْحِهِ بِالشّامِ، كانَ بِالمَقامِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: والبِشارَةُ في قَوْلِهِ ﴿وبَشَّرْناهُ بِإسْحاقَ﴾ هي بِشارَةُ نُبُوَّتِهِ. وقالُوا: أخْبَرَ تَعالى عَنْ خَلِيلِهِ إبْراهِيمَ حِينَ هاجَرَ إلى الشّامِ بِأنَّهُ اسْتَوْهَبَهُ ولَدًا، ثُمَّ أتْبَعَ تِلْكَ البِشارَةَ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ رُؤْياهُ بِذَبْحِ ذَلِكَ الغُلامِ المُبَشَّرِ بِهِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ كِتابُ يَعْقُوبَ إلى يُوسُفَ، عَلَيْهِما السَّلامُ: مِن يَعْقُوبَ إسْرائِيلَ اللَّهِ ابْنِ إسْحاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ بْنِ إبْراهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ. ومَن جَعَلَ الذَّبِيحَ إسْحاقَ، جَعَلَ هَذِهِ البِشارَةَ بِشارَةً بِنُبُوَّتِهِ، كَما ذَكَرْنا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقالُوا: لا يَجُوزُ أنْ يُبَشِّرَهُ اللَّهُ بِوِلادَتِهِ ونُبُوَّتِهِ مَعًا؛ لِأنَّ الِامْتِحانَ بِذَبْحِهِ لا يَصِحُّ مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّهُ سَيَكُونُ نَبِيًّا. ومَن جَعَلَهُ إسْماعِيلَ، جَعَلَ البِشارَةَ بِوَلَدِهِ إسْحاقَ. وانْتَصَبَ نَبِيًّا عَلى (p-٣٧٢)الحالِ، وهي حالٌ مُقَدَّرَةٌ. فَإنْ كانَ إسْحاقُ هو الذَّبِيحَ، وكانَتْ هَذِهِ البِشارَةُ بِوِلادَةِ إسْحاقَ، فَقَدْ جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ مَحَلَّ سُؤالٍ. فَإنْ قُلْتَ: فَرْقٌ بَيْنَ هَذا وقَوْلِهِ ﴿فادْخُلُوها خالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣] وذَلِكَ أنَّ المَدْخُولَ مَوْجُودٌ مَعَ وُجُودِ الدُّخُولِ، والخُلُودَ غَيْرُ مَوْجُودٍ مَعَهُما، فَقَدَّرْتَ مُقَدَّرَيْنِ لِلْخُلُودِ، فَكانَ مُسْتَقِيمًا. ولَيْسَ كَذَلِكَ المُبَشَّرُ بِهِ، فَإنَّهُ مَعْلُومٌ وقْتَ وُجُودِ البِشارَةِ، وعَدَمُ المُبَشَّرِ بِهِ أوْجَبَ عَدَمَ حالِهِ؛ لِأنَّ الحالَ حِلْيَةٌ لا تَقُومُ إلّا بِالمَحَلِّيِّ. وهَذا المُبَشَّرُ بِهِ الَّذِي هو إسْحاقُ، حِينَ وُجِدَ لَمْ تُوجَدِ النُّبُوَّةُ أيْضًا بِوُجُودِهِ، بَلْ تَراخَتْ عَنْهُ مُدَّةً طَوِيلَةً، فَكَيْفَ يُجْعَلُ نَبِيًّا حالًا مُقَدَّرَةً ؟ والحالُ صِفَةٌ لِلْفاعِلِ والمَفْعُولِ عِنْدَ وُجُودِ الفِعْلِ مِنهُ أوْ بِهِ. فالخُلُودُ وإنْ لَمْ يَكُنْ صِفَتَهم عِنْدَ دُخُولِ الجَنَّةِ، فَتَقْدِيرُها صِفَتُهم؛ لِأنَّ المَعْنى: مُقَدِّرِينَ الخُلُودَ. ولَيْسَ كَذَلِكَ النُّبُوَّةُ، فَإنَّهُ لا سَبِيلَ إلى أنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً وقْتَ وُجُودِ البِشارَةِ بِإسْحاقَ لِعَدَمِ إسْحاقَ. قُلْتُ: هَذا سُؤالٌ دَقِيقُ السَّلْكِ ضَيِّقُ المَسْلَكِ، والَّذِي يَحُلُّ الإشْكالَ أنَّهُ لا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ مُضافٍ مَحْذُوفٍ وذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿وبَشَّرْناهُ﴾ بِوُجُودِ إسْحاقَ نَبِيًّا، أيْ بِأنْ يُوجَدَ مُقَدَّرَةً نُبُوَّتُهُ، فالعامِلُ في الحالِ الوُجُودُ، لا فِعْلُ البِشارَةِ؛ وبِذَلِكَ يَرْجِعُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فادْخُلُوها خالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣]، (مِنَ الصّالِحِينَ) حالٌ ثانِيَةٌ، ووُرُودُها عَلى سَبِيلِ الثَّناءِ والتَّقْرِيظِ؛ لِأنَّ كُلَّ نَبِيٍّ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ مِنَ الصّالِحِينَ. انْتَهى. ﴿وبارَكْنا عَلَيْهِ وعَلى إسْحاقَ﴾ أفَضْنا عَلَيْهِما بَرَكاتِ الدِّينِ والدُّنْيا، وبِأنْ أخْرَجْنا أنْبِياءَ بَنِي إسْرائِيلَ مِن صُلْبِهِ. ﴿ومِن ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وظالِمٌ﴾ فِيهِ وعِيدٌ لِلْيَهُودِ ومَن كانَ مِن ذُرِّيَّتِهِما لَمْ يُؤْمِن بِمُحَمَّدٍ ﷺ وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ البَرَّ قَدْ يَلِدُ الفاجِرَ، ولا يَلْحَقُهُ مِن ذَلِكَ عَيْبٌ ولا مَنقَصَةٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب