الباحث القرآني
﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا خَلَقْنا لَهم مِمّا عَمِلَتْ أيْدِينا أنْعامًا فَهم لَها مالِكُونَ﴾ [يس: ٧١] ﴿وذَلَّلْناها لَهم فَمِنها رَكُوبُهم ومِنها يَأْكُلُونَ﴾ [يس: ٧٢] ﴿ولَهم فِيها مَنافِعُ ومَشارِبُ أفَلا يَشْكُرُونَ﴾ [يس: ٧٣] ﴿واتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهم يُنْصَرُونَ﴾ [يس: ٧٤] ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهم وهم لَهم جُنْدٌ مُحْضَرُونَ﴾ [يس: ٧٥] ﴿فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهم إنّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وما يُعْلِنُونَ﴾ [يس: ٧٦] ﴿أوَلَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِن نُطْفَةٍ فَإذا هو خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ [يس: ٧٧] ﴿وضَرَبَ لَنا مَثَلًا ونَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَن يُحْيِي العِظامَ وهي رَمِيمٌ﴾ [يس: ٧٨] ﴿قُلْ يُحْيِيها الَّذِي أنْشَأها أوَّلَ مَرَّةٍ وهو بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: ٧٩] ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكم مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نارًا فَإذا أنْتُمْ مِنهُ تُوقِدُونَ﴾ ﴿أوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهم بَلى وهو الخَلّاقُ العَلِيمُ﴾ ﴿إنَّما أمْرُهُ إذا أرادَ شَيْئًا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ﴿فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ .
(p-٣٤٧)الإخْبارُ وتَنْبِيهُ الِاسْتِفْهامِ لِقُرَيْشٍ، وإعْراضِها عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ، وعُكُوفِها عَلى عِبادَةِ الأصْنامِ. ولَمّا كانَتِ الأشْياءُ المَصْنُوعَةُ لا يُباشِرُها البَشَرُ إلّا بِاليَدِ، عَبَّرَ لَهم بِما يَقْرُبُ مِن أفْهامِهِمْ بِقَوْلِهِ ﴿مِمّا عَمِلَتْ أيْدِينا﴾ [يس: ٧١] أيْ مِمّا تُوَلَّيْنا عَمَلَهُ، ولا يُمْكِنُ لِغَيْرِنا أنْ يَعْمَلَهُ. فَبِقُدْرَتِنا وإرَداتِنا بَرَزَتْ هَذِهِ الأشْياءُ، لَمْ يُشْرِكْنا فِيها أحَدٌ، والبارِي تَعالى مُنَزَّهٌ عَنِ اليَدِ الَّتِي هي الجارِحَةُ، وعَنْ كُلِّ ما اقْتَضى التَّشْبِيهَ بِالمُحْدَثاتِ. وذَكَرَ الأنْعامَ لَها لِأنَّها كانَتْ جُلَّ أمْوالِهِمْ، ونَبَّهَ عَلى ما يَجْعَلُ لَهم مِن مَنافِعِها.
﴿لَها مالِكُونَ﴾ [يس: ٧١] أيْ مَلَكْناها إيّاهم، فَهم مُتَصَرِّفُونَ فِيها تَصَرُّفَ المُلّاكِ، مُخْتَصُّونَ بِالِانْتِفاعِ بِها، أوْ ﴿مالِكُونَ﴾ [يس: ٧١] ضابِطُونَ لَها قاهِرُونَها، مِن قَوْلِهِ:
؎أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولا أمْلِكُ رَأْسَ البَعِيرِ إنْ نَفَرا
أيْ: لا أضْبُطُهُ، وهو مِن جُمْلَةِ النِّعَمِ الظّاهِرَةِ. فَلَوْلا تَذْلِيلُهُ تَعالى إيّاها وتَسْخِيرُهُ، لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْها. ألا تَرى إلى ما نُدْمِنُها لا يَكادُ يَقْدِرُ عَلى رَدِّهِ ؟ لِذَلِكَ أُمِرَ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ راكِبُها، وشُكْرِهِ عَلى هَذِهِ النِّعْمَةِ بِقَوْلِهِ ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا وما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ [الزخرف: ١٣] . وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿رَكُوبُهُمْ﴾ [يس: ٧٢]، وهو فَعُولٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، كالحَضُورِ والحَلُوبِ والقَذُوعِ، وهو مِمّا لا يَنْقاسُ. وقَرَأ أُبَيٌّ، وعائِشَةُ: رَكُوبَتُهم بِالتّاءِ، وهي فَعُولَةٌ بِمَعْنى مُفَعْوِلَةٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقِيلَ الرَّكُوبَةُ جَمْعٌ. انْتَهى، ويَعْنِي اسْمَ جَمْعٍ؛ لِأنَّ فَعُولَةً بِفَتْحِ الفاءِ لَيْسَ بِجَمْعِ تَكْسِيرٍ. وقَدْ عَدَّ بَعْضُ أصْحابِنا أبْنِيَةَ أسْماءِ الجُمُوعِ، فَلَمْ يَذْكُرْ فِيها فَعُولَةً، فَيَنْبَغِي أنْ يُعْتَقَدَ فِيها أنَّها اسْمُ مُفْرَدٍ جَمْعُ تَكْسِيرٍ ولا اسْمُ جَمْعٍ، أيْ مَرْكُوبَتُهم كالحَلُوبَةِ بِمَعْنى المَحْلُوبَةِ. وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو البَرَهْسَمِ، والأعْمَشُ: رُكُوبُهم، بِضَمِّ الرّاءِ وبِغَيْرِ تاءٍ، وهو مَصْدَرٌ حُذِفَ مُضافُهُ، أيْ ذُو رُكُوبِهِمْ، أوْ فَحُسْنُ مَنافِعِها رُكُوبُهم، فَيُحْذَفُ ذُو، أوْ يُحْذَفُ مَنافِعُ. قالَ ابْنُ خالَوَيْهِ: العَرَبُ تَقُولُ: ناقَةٌ رَكُوبٌ حَلُوبٌ، ورَكُوبَةٌ حَلُوبَةٌ، ورَكْباةٌ حَلْباةٌ، ورَكْبُوبٌ حَلْبُوبٌ، ورَكْبِيٌّ حَلْبِيٌّ، ورَكْبُوتًا حَلْبُوتًا، كُلُّ ذَلِكَ مَحْكِيٌّ، وأنْشَدَ:
؎رَكْبانَةٌ حَلْبانَةٌ زُفُوفٌ ∗∗∗ تَخْلِطُ بَيْنَ وبَرٍ وصُوفِ
وأجْمَلُ المَنافِعِ هُنا، وفَضْلُها في قَوْلِهِ ﴿وجَعَلَ لَكم مِن جُلُودِ الأنْعامِ﴾ [النحل: ٨٠] الآيَةَ. والمَشارِبُ: جَمْعُ مَشْرَبٍ، وهو إمّا مَصْدَرٌ، أيْ شُرْبٌ، أوْ مَوْضِعُ الشُّرْبِ. ثُمَّ عَنَّفَهم واسْتَجْهَلَهم في اتِّخاذِهِمْ آلِهَةً لِطَلَبِ الِاسْتِنْصارِ.
﴿لا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [يس: ٧٥] أيِ الآلِهَةُ، نَصْرَ مُتَّخِذِيهِمْ، وهَذا هو الظّاهِرُ. لَمّا اتَّخَذُوهم آلِهَةً لِلِاسْتِنْصارِ بِهِمْ، رَدَّ تَعالى عَلَيْهِمْ بِأنَّهم لَيْسَ لَهم قُدْرَةٌ عَلى نَصْرِهِمْ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في ﴿يَسْتَطِيعُونَ﴾ [يس: ٧٥] عائِدٌ لِلْكُفّارِ، وفي (نَصْرَهم) لِلْأصْنامِ. انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في وهم عائِدٌ عَلى ما هو الظّاهِرُ في ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [يس: ٧٥]، أيْ والآلِهَةُ لِلْكُفّارِ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ في الآخِرَةِ عِنْدَ الحِسابِ عَلى جِهَةِ التَّوْبِيخِ والنِّقْمَةِ. وسَمّاهم جُنْدًا، إذْ هم مُعَدُّونَ لِلنِّقْمَةِ مِن عابِدِيهِمْ ولِلتَّوْبِيخِ، أوْ مُحْضَرُونَ لِعَذابِهِمْ لِأنَّهم يُجْعَلُونَ وقُودًا لِلنّارِ. قِيلَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في (وهم) عائِدًا عَلى الكُفّارِ، وفي (لَهم) عائِدًا عَلى الأصْنامِ، أيْ وهُمُ الأصْنامُ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ مُتَعَصِّبُونَ لَهم مُتَحَيِّرُونَ، يَذُبُّونَ عَنْهم، يَعْنِي في الدُّنْيا، ومَعَ ذَلِكَ لا يَسْتَطِيعُونَ، أيِ الكُفّارُ التَّناصُرَ. وهَذا القَوْلُ مُرَكَّبٌ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ في لا يَسْتَطِيعُونَ لِلْكُفّارِ. ثُمَّ آنَسَ تَعالى نَبِيَّهُ بِقَوْلِهِ ﴿فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾ [يس: ٧٦] أيْ لا يَهُمُّكَ تَكْذِيبُهم وأذاهم وجَفاؤُهم، وتَوَعَّدَ الكُفّارَ بِقَوْلِهِ ﴿إنّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وما يُعْلِنُونَ﴾ [يس: ٧٦]، فَنُجازِيهِمْ عَلى ذَلِكَ.
﴿أوَلَمْ يَرَ الإنْسانُ﴾ [يس: ٧٧] قَبَّحَ تَعالى إنْكارَ الكَفَرَةِ البَعْثَ، حَيْثُ قَرَّرَ أنَّ عُنْصُرَهُ الَّذِي خُلِقَ مِنهُ هو نُطْفَةُ ماءٍ مَهِينٍ خارِجٍ مِن مَخْرَجِ النَّجاسَةِ. أفْضى بِهِ مَهانَةُ أصْلِهِ إلى أنْ يُخاصِمَ البارِي تَعالى ويَقُولَ: مَن يُحْيِي المَيِّتَ بَعْدَما رُمَّ ؟ مَعَ عِلْمِهِ أنَّهُ مُنْشَأٌ مِن مَواتٍ. وقائِلٌ ذَلِكَ (p-٣٤٨)العاصِي بْنُ وائِلٍ، أوْ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، أوْ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، أقْوالٌ أصَحُّها أنَّهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، رَواهُ ابْنُ وهْبٍ عَنْ مالِكٍ، وقالَهُ ابْنُ إسْحاقَ وغَيْرُهُ. والقَوْلُ أنَّهُ أُمَيَّةُ، قالَهُ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ؛ ويُحْتَمَلُ أنَّ كُلًّا مِنهم واقِعٌ ذَلِكَ مِنهُ.
وقَدْ كانَ لِأُبَيٍّ مَعَ الرَّسُولِ مُراجَعاتٌ ومَقاماتٌ، جاءَ بِالعَظْمِ الرَّمِيمِ بِمَكَّةَ، فَفَتَّتَهُ في وجْهِهِ الكَرِيمِ وقالَ: مَن يُحْيِى هَذا يا مُحَمَّدُ ؟ فَقالَ: ”اللَّهُ يُحْيِيهِ ويُمِيتُكَ ويُحْيِيكَ ويُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ“، ثُمَّ نَزَلَتِ الآيَةُ. وأُبَيٌّ هَذا قَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهِ يَوْمَ أُحُدٍ بِالحَرْبَةِ، فَخَرَجَتْ مِن عُنُقِهِ. ووَهَمَ مَن نَسَبَ إلى ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ الجائِيَ بِالعَظْمِ هو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بْنُ سَلُولَ؛ لِأنَّ السُّورَةَ والآيَةَ مَكِّيَّةٌ بِإجْماعٍ، ولِأنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمْ يُهاجِرْ قَطُّ هَذِهِ المُهاجَرَةَ. وبَيْنَ قَوْلِهِ ﴿فَإذا هو خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ [يس: ٧٧] وبَيْنَ ﴿خَلَقْناهُ مِن نُطْفَةٍ﴾ [يس: ٧٧]، جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ تَبَيَّنَ أكْثَرُها في قَوْلِهِ في سُورَةِ المُؤْمِنُونَ ﴿ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٣]، وإنَّما أعْتَقَبَ قَوْلُهُ ﴿فَإذا هو خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ [يس: ٧٧] الوَصْفَ الَّذِي آلَ إلَيْهِ مِنَ التَّمْيِيزِ والإدْراكِ الَّذِي يَتَأتّى مَعَهُ الخِصامُ، أيْ فَإذا هو بَعْدَما كانَ نُطْفَةً، رَجُلٌ مُمَيِّزٌ مِنطِيقٌ قادِرٌ عَلى الخِصامِ، مُبِينٌ مُعْرِبٌ عَمّا في نَفْسِهِ.
﴿وضَرَبَ لَنا مَثَلًا ونَسِيَ خَلْقَهُ﴾ [يس: ٧٨] أيْ نَشْأتَهُ مِنَ النُّطْفَةِ، فَذَهَلَ عَنْها وتَرَكَ ذِكْرَها عَلى طَرِيقِ اللَّدَدِ والمُكابَرَةِ والِاسْتِبْعادِ لِما لا يُسْتَبْعَدُ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: ونَسِيَ خالِقَهُ، اسْمُ فاعِلٍ؛ والجُمْهُورُ: خَلْقَهُ، أيْ نَشْأتَهُ. وسَمّى قَوْلَهُ ﴿مَن يُحْيِي العِظامَ وهي رَمِيمٌ﴾ [يس: ٧٨] لِما دَلَّ عَلَيْهِ مِن قِصَّةٍ عَجِيبَةٍ شَبِيهَةٍ بِالمَثَلِ، وهي إنْكارُ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلى إحْياءِ المَوْتى، كَما هم عاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والرَّمِيمُ اسْمٌ لِما بَلى مِنَ العِظامِ غَيْرُ صِفَةٍ، كالرِّمَّةِ والرُّفاةِ، فَلا يُقالُ: لِمَ لَمْ يُؤَنَّثْ ؟ وقَدْ وقَعَ خَبَرًا لِمُؤَنَّثٍ، ولا هو فَعِيلٌ أوْ مَفْعُولٌ. انْتَهى. واسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ ﴿قُلْ يُحْيِيها﴾ [يس: ٧٩] عَلى أنَّ الحَياةَ نُحِلُّها، وهَذا الِاسْتِدْلالُ ظاهِرٌ. ومَن قالَ: إنَّ الحَياةَ لا تَحُلُّها، قالَ: المُرادُ بِإحْياءِ العِظامِ: رَدُّها إلى ما كانَتْ عَلَيْهِ غَضَّةً رَطْبَةً في بَدَنٍ حَسَنٍ حَسّاسٍ.
﴿وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: ٧٩] يَعْلَمُ كَيْفِيّاتِ ما يَخْلُقُ، لا يَتَعاظَمُهُ شَيْءٌ مِنَ المُنْشَآتِ والمُعِدّاتِ جِنْسًا ونَوْعًا، دِقَّةً وجَلالَةً.
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكم مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نارًا﴾ ذَكَرَ ما هو أغْرَبُ مِن خَلْقِ الإنْسانِ مِنَ النُّطْفَةِ، وهو إبْرازُ الشَّيْءِ مِن ضِدِّهِ، وذَلِكَ أبْدَعُ شَيْءٍ، وهو اقْتِداحُ النّارِ مِنَ الشَّيْءِ الأخْضَرِ. ألا تَرى أنَّ الماءَ يُطْفِئُ النّارَ ؟ ومَعَ ذَلِكَ خَرَجَتْ مِمّا هو مُشْتَمِلٌ عَلى الماءِ. والأعْرابُ تُوَرِي النّارَ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ، وأكْثَرِها مِنَ المَرْخِ والعِفارِ. وفي أمْثالِهِمْ: في كُلِّ شَيْءٍ نارٌ، واسْتَمْجَدَ المَرْخُ والعِفارُ. يَقْطَعُ الرَّجُلُ مِنهُما غُصْنَيْنِ مِثْلَ السِّواكَيْنِ، وهُما أخْضَرانِ يُقَطَّرُ مِنهُما الماءُ، فَيَسْتَحِقُّ المَرْخَ وهو ذَكَرٌ، والعِفارَ وهي أُنْثى، يَنْقَدِحُ النّارُ بِإذْنِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: لَيْسَ شَجَرٌ إلّا وفِيهِ نارٌ إلّا العَنا. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (الأخْضَرِ)؛ وقُرِئَ: (الخَضْراءِ)؛ وأهْلُ الحِجازِ يُؤَنِّثُونَ الجِنْسَ المُمَيَّزَ واحِدُهُ بِالتّاءِ؛ وأهْلُ نَجْدٍ يَذْكُرُونَ ألْفاظًا، واسْتُثْنِيَتْ في كُتُبِ النَّحْوِ.
ثُمَّ ذَكَرَ ما هو أبْدَعُ وأغْرَبُ مِن خَلْقِ الإنْسانِ مِن نُطْفَةٍ، ومِن إعادَةِ المَوْتى، وهو إنْشاءُ هَذِهِ المَخْلُوقاتِ العَظِيمَةِ الغَرِيبَةِ مِن صَرْفِ العَدَمِ إلى الوُجُودِ، فَقالَ ﴿أوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ ؟ وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِقادِرٍ، بِباءِ الجَرِّ داخِلَةً عَلى اسْمِ الفاعِلِ. وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، والأعْرَجُ، وسَلّامٌ، ويَعْقُوبُ: يَقْدِرُ، فِعْلًا مُضارِعًا، أيْ مَن قَدَرَ عَلى خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ مِن عِظَمِ شَأْنِهِما، كانَ عَلى خَلْقِ الأُناسِ قادِرًا، والضَّمِيرُ في (مِثْلَهم) عائِدٌ عَلى النّاسِ، قالَهُ الرُّمّانِيُّ. وقالَ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: عائِدٌ عَلى السَّماواتِ والأرْضِ، وعادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِما كَضَمِيرِ مَن يَعْقِلُ، مِن حَيْثُ كانَتْ مُتَضَمِّنَةً مَن يَعْقِلُ مِنَ المَلائِكَةِ والثَّقَلَيْنِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (مِثْلَهم) يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهم في الصِّغَرِ والقَماءَةِ بِالإضافَةِ إلى السَّماواتِ والأرْضِ، أوْ أنْ يُعِيدَهم؛ لِأنَّ المَصادِرَ مِثْلٌ لِلْمُبْتَدَأِ ولَيْسَ بِهِ. انْتَهى. ويَقُولُ: إنَّ المَعادَ هو عَيْنُ المُبْتَدَأِ، ولَوْ كانَ مِثْلَهُ لَمْ يُسَمَّ ذَلِكَ إعادَةٌ، بَلْ يَكُونُ إنْشاءً مُسْتَأْنَفًا. وقَرَأ الجُمْهُورُ (الخَلّاقُ) بِصِيغَةِ المُبالَغَةِ (p-٣٤٩)لِكَثْرَةِ مَخْلُوقاتِهِ. وقَرَأ الحَسَنُ، والجَحْدَرِيُّ، ومالِكُ بْنُ دِينارٍ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: الخالِقُ، اسْمُ فاعِلٍ.
﴿إنَّما أمْرُهُ إذا أرادَ شَيْئًا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ تَقَدَّمَ شَرْحُ مِثْلِ هَذِهِ الجُمْلَةِ، والخِلافُ في فَيَكُونُ مِن حَيْثُ القِراءَةِ نَصْبًا ورَفْعًا.
﴿فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ تَنْزِيهٌ عامٌّ لَهُ تَعالى مِن جَمِيعِ النَّقائِصِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (مَلَكُوتُ)؛ وطَلْحَةُ، والأعْمَشُ: (مَلَكَةُ) عَلى وزْنِ (شَجَرَةٍ)، ومَعْناهُ: ضَبْطُ كُلِّ شَيْءٍ والقُدْرَةُ عَلَيْهِ. وقُرِئَ: (مَمْلَكَةُ)، عَلى وزْنِ (مَفْعَلَةٍ) وقُرِئَ: (مَلِكُ)، والمَعْنى أنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ عَلى ما أرادَ وقَضى. والجُمْهُورُ (تُرْجَعُونَ)، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ.
{"ayahs_start":80,"ayahs":["ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلۡأَخۡضَرِ نَارࣰا فَإِذَاۤ أَنتُم مِّنۡهُ تُوقِدُونَ","أَوَلَیۡسَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰۤ أَن یَخۡلُقَ مِثۡلَهُمۚ بَلَىٰ وَهُوَ ٱلۡخَلَّـٰقُ ٱلۡعَلِیمُ","إِنَّمَاۤ أَمۡرُهُۥۤ إِذَاۤ أَرَادَ شَیۡـًٔا أَن یَقُولَ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ","فَسُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِی بِیَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَیۡءࣲ وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ"],"ayah":"أَوَلَیۡسَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰۤ أَن یَخۡلُقَ مِثۡلَهُمۚ بَلَىٰ وَهُوَ ٱلۡخَلَّـٰقُ ٱلۡعَلِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق