الباحث القرآني
﴿وما أنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وما كُنّا مُنْزِلِينَ﴾ ﴿إنْ كانَتْ إلّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإذا هم خامِدُونَ﴾ ﴿ياحَسْرَةً عَلى العِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِن رَسُولٍ إلّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ ﴿ألَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهم مِنَ القُرُونِ أنَّهم إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ ﴿وإنْ كُلٌّ لَمّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ﴾ ﴿وآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ المَيْتَةُ أحْيَيْناها وأخْرَجْنا مِنها حَبًّا فَمِنهُ يَأْكُلُونَ﴾ ﴿وجَعَلْنا فِيها جَنّاتٍ مِن نَخِيلٍ وأعْنابٍ وفَجَّرْنا فِيها مِنَ العُيُونِ﴾ ﴿لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وما عَمِلَتْهُ أيْدِيهِمْ أفَلا يَشْكُرُونَ﴾ ﴿سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ ومِن أنْفُسِهِمْ ومِمّا لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنهُ النَّهارَ فَإذا هم مُظْلِمُونَ﴾ ﴿والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ ﴿والقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتّى عادَ كالعُرْجُونِ القَدِيمِ﴾ ﴿لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ ولا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ ﴿وآيَةٌ لَهم أنّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهم في الفُلْكِ المَشْحُونِ﴾ ﴿وخَلَقْنا لَهم مِن مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ﴾ ﴿وإنْ نَشَأْ نُغْرِقْهم فَلا صَرِيخَ لَهم ولا هم يُنْقَذُونَ﴾ ﴿إلّا رَحْمَةً مِنّا ومَتاعًا إلى حِينٍ﴾ .
(p-٣٣١)أخْبَرَ تَعالى بِإهْلاكِ قَوْمِ حَبِيبٍ بِصَيْحَةٍ واحِدَةٍ صاحَ بِهِمْ جِبْرِيلُ، وفي ذَلِكَ تَوَعُّدٌ لِقُرَيْشٍ أنْ يُصِيبَهم ما أصابَهم، إذْ هُمُ المَضْرُوبُ لَهُمُ المَثَلُ. وأخْبَرَ تَعالى أنَّهُ لَمْ يُنْزِلْ عَلَيْهِمْ لِإهْلاكِهِمْ جُنْدًا مِنَ السَّماءِ، كالحِجارَةِ والرِّيحِ وغَيْرِ ذَلِكَ، وكانُوا أهْوَنَ عَلَيْهِ. وقَوْلُهُ (مِن بَعْدِهِ)، يَدُلُّ عَلى ابْتِداءِ الغايَةِ، أيْ لَمْ يُرْسِلْ إلَيْهِمْ رَسُولًا، ولا عاتَبَهم بَعْدَ قَتْلِهِ، بَلْ عاجَلَهم بِالهَلاكِ. والظّاهِرُ أنَّ ما في قَوْلِهِ ﴿وما كُنّا مُنْزِلِينَ﴾ نافِيَةٌ، فالمَعْنى قَرِيبٌ مِن مَعْنى الجُمْلَةِ قَبْلَها، أيْ وما كانَ يَصِحُّ في حُكْمِنا أنْ نُنْزِلَ في إهْلاكِهِمْ جُنْدًا مِنَ السَّماءِ؛ لِأنَّهُ تَعالى أجْرى هَلاكَ كُلِّ قَوْمٍ عَلى بَعْضِ الوُجُوهِ دُونَ بَعْضٍ، كَما قالَ ﴿فَكُلًّا أخَذْنا بِذَنْبِهِ﴾ [العنكبوت: ٤٠] الآيَةَ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: (ما) اسْمٌ مَعْطُوفٌ عَلى جُنْدٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أيْ مِن جُنْدٍ ومِنَ (p-٣٣٢)الَّذِي كُنّا مُنْزِلِينَ عَلى الأُمَمِ مِثْلِهِمْ. انْتَهى، وهو تَقْدِيرٌ لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ مِن في مِن جُنْدٍ زائِدَةٌ. ومَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ غَيْرُ الأخْفَشِ أنَّ لِزِيادَتِها شَرْطَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ قَبْلَها نَفْيٌ، أوْ نَهْيٌ، أوِ اسْتِفْهامٌ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ بَعْدَها نَكِرَةٌ، وإنْ كانَ كَذَلِكَ، فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْطُوفُ عَلى النَّكِرَةِ مَعْرِفَةً. لا يَجُوزُ: ما ضَرَبْتُ مِن رَجُلٍ ولا زَيْدٍ، وإنَّهُ لا يَجُوزُ: ولا مِن زَيْدٍ، وهو قَدَّرَ المَعْطُوفَ بِالَّذِي، وهو مَعْرِفَةٌ، فَلا يُعْطَفُ عَلى النَّكِرَةِ المَجْرُورَةِ بِمِنِ الزّائِدَةِ. وقالَ أبُو البَقاءِ: ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ ما زائِدَةً، أيْ وقَدْ كُنّا مُنْزِلِينَ، وقَوْلُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ.
وقَرَأ ﴿إنْ كانَتْ إلّا صَيْحَةً﴾، بِنَصْبِ الصَّيْحَةِ، وكانَ ناقِصَةٌ واسْمُها مُضْمَرٌ، أيْ إنْ كانَتِ الأخْذَةُ أوِ العُقُوبَةُ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، ومُعاذُ بْنُ الحارِثِ القارِئُ: صَيْحَةٌ بِالرَّفْعِ في المَوْضِعَيْنِ عَلى أنَّ (كانَتْ) تامَّةٌ، أيْ ما حَدَثَتْ أوْ وقَعَتْ إلّا صَيْحَةٌ، وكانَ الأصْلُ أنْ لا يُلْحِقَ التّاءَ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ الفِعْلُ مُسْنَدًا إلى ما بَعْدِ إلّا مِنَ المُؤَنَّثِ، لَمْ تَلْحَقِ العَلامَةُ لِلتَّأْنِيثِ فَيَقُولُ: ما قامَ إلّا هِنْدٌ، ولا يَجُوزُ: ما قامَتْ إلّا هِنْدٌ، عِنْدَ أصْحابِنا إلّا في الشِّعْرِ، وجَوَّزَهُ بَعْضُهم في الكَلامِ عَلى قِلَّةٍ. ومِثْلُهُ قِراءَةُ الحَسَنِ، ومالِكِ بْنِ دِينارٍ، وأبِي رَجاءٍ، والجَحْدَرِيِّ، وقَتادَةَ، وأبِي حَيْوَةَ، وابْنِ أبِي عَبْلَةَ، وأبِي بَحْرِيَّةَ: لا تُرى إلّا مَساكِنُهم بِالتّاءِ، والقِراءَةُ المَشْهُورَةُ بِالياءِ، وقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
؎وما بَقِيَتْ إلّا الضُّلُوعُ الجَراشِعُ
وقَوْلُ الآخَرِ:
؎ما بَرِئَتْ مِن رِيبَةٍ وذَمٍّ ∗∗∗ في حَرْبِنا إلّا بَناتُ العَمِّ
فَأنْكَرَ أبُو حاتِمٍ وكَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ هَذِهِ القِراءَةَ بِسَبَبِ لُحُوقِ تاءِ التَّأْنِيثِ.
﴿فَإذا هم خامِدُونَ﴾ أيْ فاجَأهُمُ الخُمُودُ إثْرَ الصَّيْحَةِ، لَمْ يَتَأخَّرْ. وكَنّى بِالخُمُودِ عَنْ سُكُوتِهِمْ بَعْدَ حَياتِهِمْ، كَنارٍ خَمَدَتْ بَعْدَ تَوَقُّدِها. ونِداءُ الحَسْرَةِ عَلى مَعْنى هَذا وقْتُ حُضُورِكَ وظُهُورِكَ، هَذا تَقْدِيرُ نِداءٍ، مِثْلُ هَذا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وهو مُنادًى مَنكُورٌ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ. وقَرَأ أُبَيٌّ، وابْنُ عَبّاسٍ، وعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ، والضَّحّاكُ، ومُجاهِدٌ، والحَسَنُ: يا حَسْرَةَ العِبادِ، عَلى الإضافَةِ، فَيَجُوزُ أنْ تَكُونَ الحَسْرَةُ مِنهم عَلى ما فاتَهم، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الحَسْرَةُ مِن غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ، لِما فاتَهم مِنِ اتِّباعِ الرُّسُلِ حِينَ أُحْضِرُوا لِلْعَذابِ؛ وطِباعُ البَشَرِ تَتَأثَّرُ عِنْدَ مُعايَنَةِ عَذابِ غَيْرِهِمْ وتَتَحَسَّرُ عَلَيْهِمْ.
وقَرَأ أبُو الزِّنادِ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَكْوانَ المَدَنِيُّ، وابْنُ هُرْمُزَ، وابْنُ جُنْدُبٍ (يا حَسْرَهْ عَلى العِبادِ)، بِسُكُونِ الهاءِ في الحالَيْنِ حَمَلَ فِيهِ الوَصْلَ عَلى الوَقْفِ، ووَقَفُوا عَلى الهاءِ مُبالَغَةً في التَّحَسُّرِ، لِما في الهاءِ مِنَ التَّأهُّهِ كالتَّأوُّهِ، ثُمَّ وصَلُوا عَلى تِلْكَ الحالِ، قالَهُ صاحِبُ اللَّوامِحِ. وقالَ ابْنُ خالَوَيْهِ: يا حَسْرَةَ عَلى العِبادِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، انْتَهى، ووَجْهُهُ أنَّهُ اجْتَزَأ بِالفَتْحَةِ عَنِ الألِفِ الَّتِي هي بَدَلٌ مِن ياءِ المُتَكَلِّمِ في النِّداءِ، كَما اجْتَزَأ بِالكَسْرَةِ عَنِ الياءِ فِيهِ. وقَدْ قُرِئَ: يا حَسْرَتا، بِالألِفِ، أيْ يا حَسْرَتِي، ويَكُونُ مِنَ اللَّهِ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِعارَةِ في مَعْنى تَعْظِيمِ ما جَنَوْهُ عَلى أنْفُسِهِمْ، وفَرْطِ إنْكارِهِ وتَعْجِيبِهِ مِنهُ. والظّاهِرُ أنَّ العِبادَ هم مُكَذِّبُو الرُّسُلِ، تَحَسَّرَتْ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ، قالَهُ الضَّحّاكُ. وقالَ الضَّحّاكُ أيْضًا: المَعْنى يا حَسْرَةَ المَلائِكَةِ عَلى عِبادِنا الرُّسُلِ حَتّى لَمْ يَنْفَعْهُمُ الإيمانُ لَهم. وقالَ أبُو العالِيَةِ: المُرادُ بِالعِبادِ الثَّلاثَةُ، وكانَ هَذا التَّحَسُّرُ هو مِنَ الكُفّارِ، حِينَ رَأوْا عَذابَ اللَّهِ تَلَهَّفُوا عَلى ما فاتَهم. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَوْلُهُ (ما يَأْتِيهِمْ) الآيَةَ يَدْفَعُ هَذا التَّأْوِيلَ. انْتَهى. قالَ الزَّجّاجُ: الحَسْرَةُ أمْرٌ يَرْكَبُ الإنْسانَ مِن كَثْرَةِ النَّدَمِ عَلى ما لا نِهايَةَ لَهُ حَتّى يَبْقى حَسِيرًا. وقِيلَ: المُنادى مَحْذُوفٌ، وانْتُصِبَ (حَسْرَةً) عَلى المَصْدَرِ، أيْ يا هَؤُلاءِ تَحَسَّرُوا حَسْرَةً. وقِيلَ ﴿يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ﴾ مِن قَوْلِ الرَّجُلِ الَّذِي جاءَ مِن أقْصى المَدِينَةِ يَسْعى، لَمّا وثَبَ القَوْمُ لِقَتْلِهِ. وقِيلَ: هو مِن قَوْلِ الرُّسُلِ الثَّلاثَةِ، قالُوا ذَلِكَ حِينَ قَتَلُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ وحَلَّ بِهِمُ العَذابُ، قالُوا: يا حَسْرَةً عَلى هَؤُلاءِ، كَأنَّهم تَمَنَّوْا أنْ يَكُونُوا قَدْ آمَنُوا. انْتَهى. فالألِفُ (p-٣٣٣)واللّامُ لِلْعَهْدِ إذا قُلْنا إنَّ العِبادَ المُرادُ بِهِمُ الرُّسُلُ الثَّلاثَةُ أوْ مَن أُرْسِلُوا إلَيْهِ وهُمُ الهالِكُونَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وتَكْذِيبِهِمْ إيّاهم. والظّاهِرُ أنَّها لِتَعْرِيفِ جِنْسِ الكُفّارِ المُكَذِّبِينَ وتَلَخَّصَ أنَّ المُتَحَسِّرَ المَلائِكَةُ أوِ اللَّهُ تَعالى أوِ المُؤْمِنُونَ أوِ الرُّسُلُ الثَّلاثَةُ أوْ ذَلِكَ الرَّجُلُ، أقْوالٌ.
﴿ما يَأْتِيهِمْ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ: تَمْثِيلٌ لِقُرَيْشٍ، وهُمُ الَّذِينَ عادَ عَلَيْهِمُ الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ ﴿ألَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا﴾ . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وكَمْ هُنا خَبَرِيَّةٌ، وأنَّهم بَدَلٌ مِنها، والرُّؤْيَةُ رُؤْيَةُ البَصَرِ. انْتَهى. فَهَذا لا يَصِحُّ؛ لِأنَّها إذا كانَتْ خَبَرِيَّةً فَهي في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأهْلَكْنا، ولا يَسُوغُ فِيها إلّا ذَلِكَ. وإذا كانَ كَذَلِكَ، امْتُنِعَ أنْ يَكُونَ أنَّهم بَدَلٌ مِنها؛ لِأنَّ البَدَلَ عَلى نِيَّةِ تَكْرارِ العامِلِ، ولَوْ سُلِّطَتْ أهْلَكْنا عَلى أنَّهم لَمْ يَصِحَّ. ألا تَرى أنَّكَ لَوْ قُلْتَ أهْلَكْنا انْتِفاءَ رُجُوعِهِمْ، أوْ أهْلَكْنا كَوْنَهم لا يَرْجِعُونَ، لَمْ يَكُنْ كَلامًا ؟ لَكِنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ تَوَهَّمَ أنَّ (يَرَوْا) مَفْعُولُهُ كَمْ، فَتَوَهَّمَ أنَّ قَوْلَهم أنَّهم لا يَرْجِعُونَ بَدَلٌ؛ لِأنَّهُ يَسُوغُ أنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ فَتَقُولَ: ألَمْ يَرَوْا أنَّهم لا يَرْجِعُونَ ؟ وهَذا وأمْثالُهُ دَلِيلٌ عَلى ضَعْفِهِ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ. وقالَ الزَّجّاجُ: هو بَدَلٌ مِنَ الجُمْلَةِ، والمَعْنى: ألَمْ يَرَوْا أنَّ القُرُونَ الَّتِي أهْلَكْناها إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ؛ لِأنَّ عَدَمَ الرُّجُوعِ والهَلاكِ بِمَعْنى النَّهْيِ. وهَذا الَّذِي قالَهُ الزَّجّاجُ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ بَدَلًا صِناعِيًّا، وإنَّما فَسَّرَ المَعْنى ولَمْ يَلْحَظْ صَنْعَةَ النَّحْوِ. وقالَ أبُو البَقاءِ: أنَّهم إلَيْهِمْ. انْتَهى، ولَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ كَمْ لَيْسَ بِمَعْمُولٍ لِيَرَوْا. ونُقِلَ عَنِ الفَرّاءِ أنَّهُ يَعْمَلُ يَرَوْا في الجُمْلَتَيْنِ مِن غَيْرِ إبْدالٍ، وقَوْلُهم في الجُمْلَتَيْنِ تَجُوزُ؛ لِأنَّ أنَّهم وما بَعْدَهُ لَيْسَ بِجُمْلَةٍ، ولَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ هَذا العَمَلِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ ﴿ألَمْ يَرَوْا﴾ ألَمْ يَعْلَمُوا، وهو مُعَلَّقٌ عَنِ العَمَلِ في كَمْ؛ لِأنَّ كَمْ لا يَعْمَلُ فِيها عامِلٌ قَبْلَها كانَتْ لِلِاسْتِفْهامِ أوْ لِلْخَبَرِ؛ لِأنَّ أصْلَها الِاسْتِفْهامُ، إلّا أنَّ مَعْناها نافِذٌ في الجُمْلَةِ، كَما نَفَذَ في قَوْلِكَ: ألَمْ يَرَوْا أنَّ زَيْدًا لَمُنْطَلِقٌ وإنْ لَمْ تَعْمَلْ في لَفْظِهِ. و﴿أنَّهم إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ بَدَلٌ مِن (أهْلَكْنا) عَلى المَعْنى لا عَلى اللَّفْظِ تَقْدِيرُهُ: ألَمْ يَرَوْا كَثْرَةَ إهْلاكِنا القُرُونَ مِن قَبْلِهِمْ، كَوْنَهم غَيْرَ راجِعِينَ إلَيْهِمْ ؟ انْتَهى. فَجَعَلَ يَرَوْا بِمَعْنى يَعْلَمُوا، وعَلَّقَها عَلى العَمَلِ في كَمْ. وقَوْلُهُ: لِأنَّ كَمْ لا يَعْمَلُ فِيها ما قَبْلَها، كانَتْ لِلِاسْتِفْهامِ أوْ لِلْخَبَرِ، وهَذا لَيْسَ عَلى إطْلاقِهِ؛ لِأنَّ العامِلَ إذا كانَ حَرْفَ جَرٍّ أوِ اسْمًا مُضافًا جازَ أنْ يَعْمَلَ فِيها، نَحْوُ كَمْ عَلى كَمْ جِذْعٍ بَيْتُكَ ؟ وأيْنَ كَمْ رَئِيسٍ صَحِبْتَ ؟ وعَلى كَمْ فَقِيرٍ تَصَدَّقْتَ ؟ أرْجُو الثَّوابَ، وأيْنَ كَمْ شَهِيدٍ في سَبِيلِ اللَّهِ أحْسَنْتَ إلَيْهِ ؟ وقَوْلُهُ: أوْ لِلْخَبَرِ الخَبَرِيَّةُ فِيها لُغَتانِ: الفَصِيحَةُ كَما ذَكَرَ لا يَتَقَدَّمُها عامِلٌ إلّا ما ذَكَرْنا مِنَ الجارِ واللُّغَةِ الأُخْرى، حَكاها الأخْفَشُ؛ يَقُولُونَ فِيها: مَلَكْتَ كَمْ غُلامٍ؛ أيْ مَلَكْتَ كَثِيرًا مِنَ الغِلْمانِ. فَكَما يَجُوزُ أنْ يَتَقَدَّمَ العامِلُ عَلى كَثِيرٍ، كَذَلِكَ يَجُوزُ أنْ يَتَقَدَّمَ عَلى كَمْ لِأنَّها بِمَعْناها. وقَوْلُهُ: لِأنَّ أصْلَها الِاسْتِفْهامُ، لَيْسَ أصْلُها الِاسْتِفْهامَ، بَلْ كُلُّ واحِدَةٍ أصْلٌ في بابِها، لَكِنَّها لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِاسْتِفْهامِ والخَبَرِ. وقَوْلُهُ: إلّا أنَّ مَعْناها نافِذٌ في الجُمْلَةِ، يَعْنِي مَعْنى يَرَوْا نافِذٌ في الجُمْلَةِ؛ لِأنَّهُ جَعَلَها مُعَلَّقَةً، وشَرَحَ يَرَوْا بِيَعْلَمُوا. وقَوْلُهُ: كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِكَ: ألَمْ يَرَوْا أنَّ زَيْدًا لَمُنْطَلِقٌ فَإنَّ زَيْدًا لَمُنْطَلِقٌ مَعْمُولٌ مِن حَيْثُ المَعْنى لِيَرَوْا، ولَوْ كانَ عامِلًا مِن حَيْثُ اللَّفْظُ لَمْ تَدْخُلِ اللّامُ، وكانَتْ (أنَّ) مَفْتُوحَةً، فَأنَّ وفي خَبَرِها اللّامُ مِنَ الأدَواتِ الَّتِي تُعَلِّقُ أفْعالَ القُلُوبِ. وقَوْلُهُ: و﴿أنَّهم لا يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٥] إلى آخِرِ كَلامِهِ لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ بَدَلًا، لا عَلى اللَّفْظِ ولا عَلى المَعْنى. أمّا عَلى اللَّفْظِ فَإنَّهُ زَعَمَ أنَّ يَرَوْا مُعَلَّقَةٌ، فَيَكُونُ كَمِ اسْتِفْهامًا، وهو مَعْمُولٌ لَأهْلَكْنا، وأهْلَكْنا لا يَتَسَلَّطُ عَلى ﴿أنَّهم إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ﴾، وتَقَدَّمَ لَنا ذَلِكَ. وأمّا عَلى المَعْنى، فَلا يَصِحُّ أيْضًا؛ لِأنَّهُ قالَ تَقْدِيرُهُ، أيْ عَلى المَعْنى: ألَمْ يَرَوْا كَثْرَةَ إهْلاكِنا القُرُونَ مِن قَبْلِهِمْ كَوْنَهم غَيْرَ راجِعِينَ إلَيْهِمْ ؟ فَكَوْنُهم غَيْرَ كَذا لَيْسَ كَثْرَةَ الإهْلاكِ، فَلا يَكُونُ بَدَلَ كُلٍّ مِن كُلٍّ، ولا بَعْضًا مِنَ الإهْلاكِ، ولا يَكُونُ بَدَلَ بَعْضٍ مِن كُلٍّ، ولا يَكُونُ بَدَلَ اشْتِمالٍ؛ لِأنَّ بَدَلَ الِاشْتِمالِ يَصِحُّ أنْ يُضافَ إلى ما أُبْدِلَ مِنهُ، وكَذَلِكَ بَدَلُ بَعْضٍ مِن كُلٍّ، وهَذا لا يَصِحُّ هُنا. لا تَقُولُ: ألَمْ يَرَوُا انْتِفاءَ رُجُوعِ كَثْرَةِ (p-٣٣٤)إهْلاكِنا القُرُونَ مِن قَبْلِهِمْ، وفي بَدَلِ الِاشْتِمالِ نَحْوُ: أعْجَبَنِي الجارِيَةُ مَلاحَتُها، وسُرِقَ زَيْدٌ ثَوْبُهُ، يَصِحُّ أعْجَبَنِي مَلاحَةُ الجارِيَةِ، وسُرِقَ ثَوْبُ زِيدٍ، وتَقَدَّمَ لَنا الكَلامُ عَلى إعْرابِ مِثْلِ هَذِهِ الجُمْلَةِ في قَوْلِهِ ﴿ألَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا مِن قَبْلِهِمْ مِن قَرْنٍ﴾ [الأنعام: ٦]، في سُورَةِ الأنْعامِ. والَّذِي تَقْتَضِيهِ صِناعَةُ العَرَبِيَّةِ أنَّ أنَّهم مَعْمُولٌ لِمَحْذُوفٍ، ودَلَّ عَلَيْهِ المَعْنى، وتَقْدِيرُهُ: قَضَيْنا أوْ حَكَمْنا ﴿أنَّهم إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ . وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ: إنَّهم بِكَسْرِ الهَمْزَةِ عَلى الِاسْتِئْنافِ، وقَطْعِ الجُمْلَةِ عَنْ ما قَبْلَها مِن جِهَةِ الإعْرابِ، ودَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ قِراءَةَ الفَتْحِ مَقْطُوعَةٌ عَنْ ما قَبْلَها مِن جِهَةِ الإعْرابِ لِتَتَّفِقَ القِراءَتانِ ولا تَخْتَلِفا. والضَّمِيرُ في أنَّهم عائِدٌ عَلى مَعْنى كَمْ، وهُمُ القُرُونُ، وإلَيْهِمْ عائِدٌ عَلى مَن أُسْنِدَ إلَيْهِ يَرَوْا، وهم قُرَيْشٌ؛ فالمَعْنى: أنَّهم لا يَرْجِعُونَ إلى مَن في الدُّنْيا. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في أنَّهم عائِدٌ عَلى مَن أُسْنِدَ إلَيْهِ يَرَوْا، وفي إلَيْهِمْ عائِدٌ عَلى المُهْلَكِينَ، والمَعْنى: أنَّ الباقِينَ لا يَرْجِعُونَ إلى المُهْلَكِينَ بِنَسَبٍ ولا وِلادَةٍ، أيْ أهْلَكْناهم وقَطَعْنا نَسْلَهم، والإهْلاكُ مَعَ قَطْعِ النَّسْلِ أتَمُّ وأعَمُّ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: ألَمْ يَرَوْا مَن أهْلَكْنا، وأنَّهم عَلى هَذا بَدَلُ اشْتِمالٍ؛ وفي قَوْلِهِمْ: أنَّهم لا يَرْجِعُونَ، رَدٌّ عَلى القائِلِينَ بِالرَّجْعَةِ. وقِيلَ لِابْنِ عَبّاسٍ: إنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أنَّ عَلِيًّا مَبْعُوثٌ قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ، فَقالَ: لَيْسَ القَوْمُ نَحْنُ إذا نَكَحْنا نِساءَهُ وقَسَّمْنا مِيراثَهُ.
وقَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ، وابْنُ عامِرٍ: بِتَثْقِيلِ لَمّا؛ وباقِي السَّبْعَةِ: بِتَخْفِيفِها. فَمَن ثَقَّلَها كانَتْ عِنْدَهُ بِمَعْنى إلّا، وإنْ نافِيَةٌ، أيْ ما كَلٌّ، أيْ كُلُّهم إلّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أيْ مَحْشُورُونَ، قالَهُ قَتادَةُ. وقالَ ابْنُ سَلّامٍ: مُعَذَّبُونَ؛ وقِيلَ: التَّقْدِيرُ لِمَن ما ولَيْسَ بِشَيْءٍ، ومَن خَفَّفَ لَمّا جَعَلَ إنِ المُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وما زائِدَةً، أيْ إنْ كُلٌّ لَجَمِيعٌ، وهَذا عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ. وأمّا الكُوفِيُّونَ، فَإنْ عِنْدَهم نافِيَةٌ، واللّامُ بِمَعْنى إلّا، وما زائِدَةٌ، ولَمّا المُشَدَّدَةُ بِمَعْنى إلّا ثابِتٌ في لِسانِ العَرَبِ بِنَقْلِ الثِّقاةِ، فَلا يُلْتَفَتُ إلى زَعْمِ الكِسائِيِّ أنَّهُ لا يَعْرِفُ ذَلِكَ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: في كَوْنِ لَمّا بِمَعْنى إلّا مَعْنًى مُناسِبًا، وهو أنَّ لَمّا كَأنَّها حَرْفا نَفْيٍ جَمِيعًا وهُما لَمْ وما، فَتَأكَّدَ النَّفْيُ؛ وإلّا كَأنَّها حَرْفا نَفْيٍ إنْ ولا، فاسْتُعْمِلَ أحَدُهُما مَكانَ الآخَرِ. انْتَهى، وهَذا أخَذَهُ مِن قَوْلِ الفَرّاءِ في إلّا في الِاسْتِثْناءِ أنَّها مُرَكَّبَةٌ مَن إنْ ولا، إلّا أنَّ الفَرّاءَ جَعَلَ إنِ المُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ وما زائِدَةً، أيْ إنْ كُلٌّ لَجَمِيعٌ، وهَذا عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ. وأمّا الكُوفِيُّونَ، فَـ (إنْ) عِنْدَهم نافِيَةٌ، واللّامُ بِمَعْنى (إلّا)، و(ما) زائِدَةٌ، و(لَمّا) المُشَدَّدَةُ بِمَعْنى (إلّا) ثابِتٌ حَرْفُ نَفْيٍ، وهو قَوْلٌ مَرْدُودٌ عِنْدَ النُّحاةِ رَكِيكٌ، وما تَرَكَّبَ مِنهُ وزادَ تَحْرِيفٌ أرَكُّ مِنهُ، وكُلٌّ بِمَعْنى الإحاطَةِ، وجَمِيعٌ فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٌ، ويَدُلُّ عَلى الِاجْتِماعِ، وجَمِيعٌ مُحْضَرُونَ هُنا عَلى المَعْنى، كَما أُفْرِدَ (مُنْتَصِرٌ) عَلى اللَّفْظِ، وكِلاهُما بَعْدَ جَمِيعٍ يُراعى فِيهِ الفَواصِلُ.
وجاءَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ بَعْدَ ذِكْرِ الإهْلاكِ تَبْيِينًا أنَّهُ تَعالى لَيْسَ مَن أهْلَكَهُ يُتْرَكُ، بَلْ بَعْدَ إهْلاكِهِمْ جَمْعٌ وحِسابٌ وثَوابٌ وعِقابٌ، ولِذَلِكَ أعْقَبَ هَذا بِما يَدُلُّ عَلى الحَشْرِ مِن قَوْلِهِ ﴿وآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ المَيْتَةُ أحْيَيْناها﴾ وما بَعْدَهُ مِنَ الآياتِ. وبَدَأ بِالأرْضِ؛ لِأنَّها مُسْتَقَرُّهم، حَرَكَةً وسُكُونًا، حَياةً ومَوْتًا. ومَوْتُ الأرْضِ جَدْبُها، وإحْياؤُها بِالغَيْثِ. والضَّمِيرُ في لَهم عائِدٌ عَلى كُفّارِ قُرَيْشٍ ومَن يَجْرِي مَجْراهم في إنْكارِ الحَشْرِ. و(أحْيَيْناها) اسْتِئْنافُ بَيانٍ لِكَوْنِ الأرْضِ المَيْتَةِ آيَةٌ، وكَذَلِكَ نَسْلَخُ. وقِيلَ: أحْيَيْناها في مَوْضِعِ الحالِ، والعامِلُ فِيها آيَةٌ بِما فِيها مِن مَعْنى الإعْلامِ، ويَكُونُ آيَةٌ خَبَرًا مُقَدَّمًا، والأرْضُ المَيْتَةُ مُبْتَدَأٌ؛ فالنِّيَّةُ بِـ (آيَةٌ) التَّأْخِيرُ، والتَّقْدِيرُ: والأرْضُ المَيْتَةُ آيَةٌ لَهم مُحْياةً كَقَوْلِكَ: قائِمٌ زَيْدٌ مُسْرِعًا، أيْ زَيْدٌ قائِمٌ مُسْرِعًا، ولَهم مُتَعَلِّقٌ بِـ (آيَةٌ)، لا صِفَةٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُوصَفَ الأرْضُ واللَّيْلُ بِالفِعْلِ؛ لِأنَّهُ أُرِيدَ بِهِما الجِنْسانِ مُطْلَقَيْنِ لا أرْضٌ، ولَيْلٌ بِإحْيائِهِما، فَعُومِلا مُعامَلَةَ النَّكِراتِ في وصْفِها بِالأفْعالِ ونَحْوِهِ:
ولَقَدْ أمُرُّ عَلى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي
انْتَهى. وهَذا هَدْمٌ لِما اسْتَقَرَّ عِنْدَ أئِمَّةِ النَّحْوِ مِن أنَّ النَّكِرَةَ لا تُنْعَتُ إلّا بِالنَّكِرَةِ، والمَعْرِفَةَ لا تُنْعَتُ إلّا بِالمَعْرِفَةِ، (p-٣٣٥)ولا دَلِيلَ لِمَن ذَهَبَ إلى ذَلِكَ. وأمّا يَسُبُّنِي فَحالٌ، أيْ سابٌّ لِي، وقَدْ تَبِعَ الزَّمَخْشَرِيُّ ابْنَ مالِكٍ عَلى ذَلِكَ في التَّسْهِيلِ مِن تَأْلِيفِهِ. وفي هَذِهِ الجُمَلِ تَعَدُّدٌ نَعَمْ إحْياؤُها بِحَيْثُ تَصِيرُ مُخْضَرَّةً تُبْهِجُ النَّفْسَ والعَيْنَ، وإخْراجُ الحَبِّ مِنها حَيْثُ صارَ ما يَعِيشُونَ بِهِ في المَكانِ الَّذِي هم فِيهِ مُسْتَقِرُّونَ، لا في السَّماءِ ولا في الهَواءِ، وجَعَلَ الحَبّاتِ لِأنَّهم أكَلُوا مِنَ الحَبِّ، ورُبَّما تاقَتِ النَّفْسُ إلى النَّقْلَةِ، فالأرْضُ يُوجَدُ مِنها الحَبُّ، والشَّجَرُ يُوجَدُ مِنهُ الثَّمَرُ، وتَفْجِيرُ العُيُونِ يَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِمادُ عَلى تَحْصِيلِ الزَّرْعِ والثَّمَرِ، ولَوْ كانَ مِنَ السَّماءِ لَمْ يُدْرَ أيْنَ يُغْرَسُ ولا أيْنَ يَقَعُ المَطَرُ. وقَرَأ جَناحُ بْنُ حُبَيْشٍ (وفَجَرْنا) بِالتَّخْفِيفِ، والجُمْهُورُ: بِالتَّشْدِيدِ. (ومِن ثَمَرِهِ) بِفَتْحَتَيْنِ؛ وطَلْحَةُ، وابْنُ وثّابٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: بِضَمَّتَيْنِ؛ والأعْمَشُ: بِضَمِّ الثّاءِ وسُكُونِ المِيمِ؛ والضَّمِيرُ في ثَمَرِهِ عائِدٌ عَلى الماءِ، قِيلَ: لِدَلالَةِ العُيُونِ عَلَيْهِ ولِكَوْنِهِ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ مِن ماءِ العُيُونِ؛ وقِيلَ: عَلى النَّخِيلِ، واكْتَفى بِهِ لِلْعِلْمِ في اشْتِراكِ الأعْيانِ فِيما عُلِّقَ بِهِ النَّخِيلُ مِن أكْلِ ثَمَرِهِ، أوْ يُرادُ مِن ثَمَرِ المَذْكُورِ، وهو الجَنّاتُ، كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎فِيها خُطُوطٌ مِن سَوادٍ وبَلَقْ ∗∗∗ كَأنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ
فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ قُلْتَ بِعُيُونٍ، كَأنَّهُ والَّذِي تَقَدَّمَ خُطُوطٌ ؟ فَقالَ أرْتٌ: كانَ ذاكَ. وقِيلَ: عائِدٌ إلى التَّفْجِيرِ الدّالِّ عَلَيْهِ وفَجَّرْنا الآيَةَ أقْرَبُ مَذْكُورٍ، وعَنى بِثَمَرَهِ فَوائِدَهُ، كَما تَقُولُ: ثَمَرَةُ التِّجارَةِ الرِّبْحُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وأصْلُهُ مِن ثَمَرِنا، كَما قالَ (وجَعَلْنا)، (وفَجَّرْنا)، فَنَقَلَ الكَلامَ مِنَ التَّكَلُّمِ إلى الغَيْبَةِ عَلى طَرِيقِ الِالتِفاتِ، والمَعْنى: لِيَأْكُلُوا مِمّا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنَ الثَّمَرِ، ومِمّا عَمِلَتْهُ أيْدِيهِمْ مِنَ الغَرْسِ والسَّقْيِ والآبارِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأعْمالِ إلى أنْ بَلَغَ الثَّمَرُ مُنْتَهاهُ، وبانَ أُكُلُهُ يَعْنِي أنَّ الثَّمَرَ في نَفْسِهِ فِعْلُ اللَّهِ وخَلْقُهُ، وفِيهِ آثارٌ مِن كَدِّ بَنِي آدَمَ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ ما نافِيَةً، عَلى أنَّ الثَّمَرَ خَلْقُ اللَّهِ، ولَمْ تَعْمَلْهُ أيْدِي النّاسِ، ولا يَقْدِرُونَ عَلى خَلْقِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿وما عَمِلَتْهُ﴾ بِالضَّمِيرِ، فَإنْ كانَتْ (ما) مَوْصُولَةً فالضَّمِيرُ عائِدٌ عَلَيْها، وإنْ كانَتْ نافِيَةً فالضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الثَّمَرِ. وقَرَأ طَلْحَةُ، وعِيسى، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ: بِغَيْرِ ضَمِيرٍ، مَفْعُولُ (عَمِلَتْ) عَلى التَّقْدِيرَيْنِ مَحْذُوفٌ، وجُوِّزَ في هَذِهِ القِراءَةِ أنْ تَكُونَ (ما) مَصْدَرِيَّةً، أيْ وعَمَلِ أيْدِيهِمْ، وهو مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ المَعْمُولُ، فَيَعُودُ إلى مَعْنى المَوْصُولِ.
ولَمّا عَدَّدَ تَعالى هَذِهِ النِّعَمَ، حَضَّ عَلى الشُّكْرِ فَقالَ؛ ﴿أفَلا يَشْكُرُونَ﴾، ثُمَّ نَزَّهَ تَعالى نَفْسَهُ عَنْ كُلِّ ما يُلْحِدُ بِهِ مُلْحِدٌ، أوْ يُشْرِكُ بِهِ مُشْرِكٌ، فَذَكَرَ إنْشاءَ الأزْواجِ، وهي الأنْواعُ مِن جَمِيعِ الأشْياءِ، ﴿مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ﴾ مِنَ النَّخْلِ والشَّجَرِ والزَّرْعِ والثَّمَرِ وغَيْرِ ذَلِكَ. وكُلُّ صِنْفٍ زَوْجٌ مُخْتَلِفٌ لَوْنًا وطَعْمًا وشَكْلًا وصِغَرًا وكِبَرًا، ﴿ومِن أنْفُسِهِمْ﴾ ذُكُورًا وإناثًا، ﴿ومِمّا لا يَعْلَمُونَ﴾ أيْ وأنْواعًا مِمّا لا يَعْلَمُونَ، أُعْلِمُوا بِوُجُودِهِ ولَمْ يَعْلَمُوا ما هو، إذْ لا يَتَعَلَّقُ عِلْمُهم بِماهِيَّتِهِ، أمْرٌ مُحْتاجٌ إلَيْهِ في دِينٍ ولا دُنْيا. وفي إعْلامِهِ بِكَثْرَةِ مَخْلُوقاتِهِ دَلِيلٌ عَلى اتِّساعِ مُلْكِهِ وعِظَمِ قُدْرَتِهِ.
ولَمّا ذَكَرَ تَعالى الِاسْتِدْلالَ بِأحْوالِ الأرْضِ، وهي المَكانُ الكُلِّيُّ، ذَكَرَ الِاسْتِدْلالَ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ، وهو الزَّمانُ الكُلِّيُّ؛ وبَيْنَهُما مُناسَبَةٌ؛ لِأنَّ المَكانَ لا تَسْتَغْنِي عَنْهُ الجَواهِرُ، والزَّمانَ لا تَسْتَغْنِي عَنْهُ الأعْراضُ؛ لِأنَّ كُلَّ عَرَضٍ فَهو في زَمانٍ، ومِثْلُهُ مَذْكُورٌ في قَوْلِهِ ﴿ومِن آياتِهِ اللَّيْلُ والنَّهارُ والشَّمْسُ والقَمَرُ﴾ [فصلت: ٣٧]، ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ ﴿ومِن آياتِهِ أنَّكَ تَرى الأرْضَ خاشِعَةً﴾ [فصلت: ٣٩] الآيَةَ. وبَدَأ هُناكَ بِالزَّمانِ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ إثْباتُ الوَحْدانِيَّةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ﴿لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ ولا لِلْقَمَرِ﴾ [فصلت: ٣٧] الآيَةَ، ثُمَّ الحَشْرِ بِقَوْلِهِ ﴿إنَّ الَّذِي أحْياها لَمُحْيِي المَوْتى﴾ [فصلت: ٣٩]، وهَذا المَقْصُودُ الحَشْرُ أوَّلًا لِأنَّ ذِكْرَهُ فِيها أكْثَرُ، وذِكَرَ التَّوْحِيدِ في فُصِّلَتْ أكْثَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ﴿قُلْ أئِنَّكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ﴾ [فصلت: ٩] . انْتَهى، وهو مِن كَلامِ أبِي عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيِّ، وفِيهِ تَلْخِيصٌ.
و﴿نَسْلَخُ﴾ مَعْناهُ نَكْشِطُ ونُقَشِّرُ، وهو اسْتِعارَةٌ لِإزالَةِ الضَّوْءِ وكَشْفِهِ عَنْ مَكانِ اللَّيْلِ. و﴿مُظْلِمُونَ﴾ داخِلُونَ في الظَّلامِ، (p-٣٣٦)كَما تَقُولُ: أعَتَّمْنا وأسْحَرْنا: دَخَلْنا في العَتَمَةِ وفي السَّحَرِ. واسْتَدَلَّ قَوْمٌ بِهَذا عَلى أنَّ اللَّيْلَ أصْلٌ والنَّهارَ فَرْعٌ طارِئٌ عَلَيْهِ، ومُسْتَقَرُّ الشَّمْسِ بَيْنَ يَدَيِ العَرْشِ تَسْجُدُ فِيهِ كُلَّ لَيْلَةٍ بَعْدَ غُرُوبِها. كَما جاءَ في حَدِيثِ أبِي ذَرٍّ: «ويُقالُ لَها اطْلَعِي مِن حَيْثُ طَلَعْتِ، فَإذا كانَ طُلُوعُها مِن مَغْرِبِها يُقالُ لَها اطْلَعِي مِن حَيْثُ غَرَبْتِ، فَذَلِكَ حِينَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانُها، لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْرًا». وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إذا غَرَبَتْ وانْتَهَتْ إلى المَوْضِعِ الَّذِي لا تَتَجاوَزُهُ، اسْتَوَتْ تَحْتَ العَرْشِ إلى أنْ تَطْلُعَ. وقالَ الحَسَنُ: لِلشَّمْسِ في السَّنَةِ ثَلاثُمِائَةٍ وسِتُّونَ مَطْلَعًا، تَنْزِلُ كُلَّ يَوْمٍ مَطْلَعًا، ثُمَّ لا تَنْزِلُ إلى الحَوْلِ، وهي تَجْرِي في فَلَكِ المَنازِلِ، أوْ يَوْمِ القِيامَةِ، أوْ غَيْبُوبَتِها؛ لِأنَّها تَجْرِي كُلَّ وقْتٍ إلى حَدٍّ مَحْدُودٍ تَغْرُبُ فِيهِ، أوْ أحَدِ مَطالِعِها في المُنْقَلِبَيْنِ؛ لِأنَّهُما نِهايَتا مَطالِعِها؛ فَإذا اسْتَقَرَّ وُصُولُها كَرَّتْ راجِعَةً، وإلّا فَهي لا تَسْتَقِرُّ عَنْ حَرَكَتِها طَرْفَةَ عَيْنٍ. ونَحا إلى هَذا ابْنُ قُتَيْبَةَ، أوْ وُقُوفُها عِنْدَ الزَّوالِ كُلَّ يَوْمٍ، ودَلِيلُ اسْتِقْرارِها وُقُوفُ ذَلِكَ الظَّلامِ حِينَئِذٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمُسْتَقَرٍّ لَها: لِحَدِّها مُؤَقَّتٌ مُقَدَّرٌ تَنْتَهِي إلَيْهِ مِن فَلَكِها في آخِرِ السَّنَةِ. شَبَّهَ بِمُسْتَقَرِّ المُسافِرِ إذا قَطَعَ مَسِيرَهُ، أوْ كَمُنْتَهى لَها مِنَ المَشارِقِ والمَغارِبِ؛ لِأنَّها تَتَقَصّاها مَشْرِقًا مَشْرِقًا ومَغْرِبًا مَغْرِبًا حَتّى تَبْلُغَ أقْصاها ثُمَّ تَرْجِعَ، فَلِذَلِكَ حَدُّها ومُسْتَقَرُّها؛ لِأنَّها لا تَعْدُوهُ أوْ لا يَعْدُ لَها مِن مَسِيرِها كُلَّ يَوْمٍ في مَرْأى عُيُونِنا وهو المَغْرِبُ. وقِيلَ: مُسْتَقَرُّها: مَحَلُّها الَّذِي أقَرَّ اللَّهُ عَلَيْهِ أمْرَها في جَرْيِها فاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ، وهو آخِرُ السَّنَةِ. وقِيلَ: الوَقْتُ الَّذِي تَسْتَقِرُّ فِيهِ ويَنْقَطِعُ جَرْيُها، وهو يَوْمُ القِيامَةِ.
وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ ما مُلَخَّصُهُ: في المُسْتَقَرِّ وُجُوهٌ في الزَّمانِ وفي المَكانِ، فَفي الزَّمانِ اللَّيْلُ أوِ السَّنَةُ أوْ يَوْمُ القِيامَةِ، وفي المَكانِ غايَةُ ارْتِفاعِها في الصَّيْفِ وانْخِفاضِها في الشِّتاءِ، وتَجْرِي إلى ذَلِكَ المَوْضِعِ فَتَرْجِعُ، أوْ غايَةُ مَشارِقِها، فَلَها في كُلِّ يَوْمٍ مَشْرِقٌ إلى سِتَّةِ أشْهُرٍ، ثُمَّ تَعُودُ عَلى تِلْكَ المُقَنْطَراتِ؛ وهَذا هو ما تَقَدَّمَ في الِارْتِفاعِ. فَإنَّ اخْتِلافَ المَشارِقِ سَبَبُ اخْتِلافِ الِارْتِفاعِ، أوْ وُصُولِها إلى بَيْتِها في الأسَدِ، أوِ الدّائِرَةِ الَّتِي عَلَيْها حَرَكَتُها، حَيْثُ لا تَمِيلُ عَنْ مِنطَقَةِ البُرُوجِ عَلى مُرُورِ الشَّمْسِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: تَجْرِي مَجْرى مُسْتَقَرِّها، فَإنَّ أصْحابَ الهَيْئَةِ قالُوا: الشَّمْسُ في فَلَكٍ، والفَلَكُ يَدُورُ فَيُدِيرُ الشَّمْسَ، فالشَّمْسُ تَجْرِي مَجْرى مُسْتَقَرِّها. انْتَهى. وقُرِئَ: إلى مُسْتَقَرِّها. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، وابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، وعَطاءُ بْنُ رَباحٍ، وزَيْنُ العابِدِينَ، والباقِرُ، وابْنُهُ الصّادِقُ، وابْنُ أبِي عَبْدَةَ: لا مُسْتَقَرَّ لَها، نَفْيًا مَبْنِيًّا عَلى الفَتْحِ، فَيَقْتَضِي انْتِفاءَ كُلِّ مُسْتَقَرٍّ وذَلِكَ في الدُّنْيا، أيْ هي تَجْرِي دائِمًا فِيها، لا تَسْتَقِرُّ؛ إلّا ابْنَ أبِي عَبْلَةَ، فَإنَّهُ قَرَأ بِرَفْعِ (مُسْتَقَرٌّ) وتَنْوِينِهِ عَلى إعْمالِها إعْمالَ لَيْسَ، نَحْوُ قَوْلِ الشّاعِرِ:
؎تَعِزُّ فَلا شَيْءَ عَلى الأرْضِ باقِيًا ∗∗∗ ولا وِزْرٌ مِمّا قَضى اللَّهُ واقِيا
الإشارَةُ بِذَلِكَ إلى جَرْيِ الشَّمْسِ: أيْ ذَلِكَ الجَرْيُ عَلى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ والحِسابِ الدَّقِيقِ.
﴿تَقْدِيرُ العَزِيزِ﴾ الغالِبُ بِقُدْرَتِهِ عَلى كُلِّ مَقْدُورٍ، المُحِيطُ عِلْمًا بِكُلِّ مَعْلُومٍ. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ، وأبُو عَمْرٍو، وأبُو جَعْفَرٍ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، والحَسَنُ: بِخِلافٍ عَنْهُ. (والقَمَرُ) بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ؛ وباقِي السَّبْعَةِ: بِالنَّصْبِ عَلى الِاشْتِغالِ. و(قَدَّرْناهُ) عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ قَدَّرْنا سَيْرَهُ، و(مَنازِلَ) ظَرْفٌ، أيْ مَنازِلَهُ؛ وقِيلَ: قَدَّرْنا نُورَهُ في مَنازِلَ، فَيَزِيدُ مِقْدارُ النُّورِ كُلَّ يَوْمٍ في المَنازِلِ الِاجْتِماعِيَّةِ ويَنْقُصُ في المَنازِلِ الِاسْتِقْبالِيَّةِ. وقِيلَ: قَدَّرْناهُ: جَعَلْنا أنَّهُ أُجْرِيَ جَرْيُهُ عَكْسَ مَنازِلِ أنْوارِ الشَّمْسِ، ولا يَحْتاجُ إلى حَذْفِ حَرْفِ الصِّفَةِ، فَإنَّ جِرْمَ القَمَرِ مُظْلِمٌ، يَنْزِلُ فِيهِ النُّورُ لِقَبُولِهِ عَكْسُ ضِياءِ الشَّمْسِ، مِثْلُ المِرْآةِ المَجْلُوَّةِ إذا قُوبِلَ بِها الشُّعاعُ.
وهَذِهِ المَنازِلُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ العَرَبِ، وهي ثَمانِيَةٌ وعِشْرُونَ مَنزِلَةً، يَنْزِلُ القَمَرُ كُلَّ لَيْلَةٍ في واحِدٍ مِنها، لا يَتَخَطّاهُ ولا يَتَقاصَرُ عَنْهُ، عَلى تَقْدِيرٍ مُسْتَوٍ لا بِتَفاوُتٍ، يَسِيرُ فِيها مِن لَيْلَةِ المُسْتَهَلِّ إلى الثّامِنَةِ والعِشْرِينَ، ثُمَّ يَسِيرُ (p-٣٣٧)لَيْلَتَيْنِ إذا نَقَصَ الشَّهْرُ، وهَذِهِ المَنازِلُ هي مَواقِعُ النُّجُومِ الَّتِي نَسَبَتْ إلَيْها العَرَبُ الأنْواءَ المُسْتَمْطِرَةَ، وهي: الشَّرَطانِ، البَطِينُ، الثُّرَيّا، الدَّبَرانِ، الهَقْعَةُ، الهَنْعَةُ، الذِّراعُ، النَّثْرَةُ، الطَّرْفُ، الجَبْهَةُ، الدَّبْرَةُ، الصَّرْفَةُ، العَوّاءُ، السِّماكُ، العَفْرُ، الزُّبانى، الإكْلِيلُ، القَلْبُ، الشَّوْلَةُ، النَّعائِمُ، البَلْدَةُ، سَعْدُ الذّابِحِ، سَعْدُ بُلَعَ، سَعْدُ السُّعُودِ، سَعْدُ الأخْبِيَةِ، فَرْعُ الدَّلْوِ المُقَدَّمُ، فَرْعُ الدَّلْوِ المُؤَخَّرُ، بَطْنُ الحُوتِ، ويُقالُ لَهُ الرِّشاءُ، فَإذا كانَ في آخِرِ مَنازِلِهِ دَقَّ واسْتَقْوَسَ واصْفَرَّ، فَشُبِّهَ بِالعُرْجُونِ القَدِيمِ مِن ثَلاثَةٍ إلّا وجْهًا. وقَرَأ سُلَيْمانُ التَّيْمِيُّ: كالعِرْجَوْنِ، بِكَسْرِ العَيْنِ وفَتْحِ الجِيمِ؛ والجُمْهُورُ: بِضَمِّها، وهُما لُغَتانِ كالبِرْيُونِ. و(القَدِيمِ) ما مَرَّ عَلَيْهِ زَمانٌ طَوِيلٌ. وقِيلَ: أقَلُّ عِدَّةِ المَوْصُوفِ بِالقِدَمِ حَوْلٌ، فَلَوْ قالَ رَجُلٌ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي قَدِيمٌ فَهو حُرٌّ، أوْ كَتَبَ ذَلِكَ في وصِيَّةٍ، عَتَقَ مِنهم مَن مَضى لَهُ حَوْلٌ وأكْثَرُ. انْتَهى. والقِدَمُ أمْرٌ نِسْبِيٌّ، وقَدْ يُطْلَقُ عَلى ما لَيْسَ لَهُ سَنَةٌ ولا سَنَتانِ، فَلا يُقالُ العالَمُ قَدِيمٌ، وإنَّما تُعْتَبَرُ العادَةُ في ذَلِكَ.
﴿لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ﴾ يَنْبَغِي لَها مُسْتَعْمَلَةٌ فِيما لا يُمْكِنُ خِلافُهُ، أيْ لَمْ يَجْعَلْ لَها قُدْرَةً عَلى ذَلِكَ، وهَذا الإدْراكُ المُنْبَغِي هو، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ اللَّيْلِ والنَّهارِ وآيَتِيهِما قِسْمًا مِنَ الزَّمانِ، وضَرَبَ لَهُ حَدًّا مَعْلُومًا، ودَبَّرَ أمْرَهُما عَلى التَّعاقُبِ. فَلا يَنْبَغِي لِلشَّمْسِ أنْ لا يَسْتَهِلَّ لَها، ولا يَصِحَّ، ولا يَسْتَقِيمَ، لِوُقُوعِ التَّدْبِيرِ عَلى العاقِبَةِ. وإنْ جُعِلَ لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ النَّيِّرَيْنِ سُلْطانٌ، عَلى حِيالِهِ أنْ يُدْرِكَ القَمَرَ، فَتَجْتَمِعَ مَعَهُ في وقْتٍ واحِدٍ، وتُداخِلَهُ في سُلْطانِهِ، فَتَطْمِسَ نُورَهُ. ولا يَسْبِقَ اللَّيْلُ النَّهارَ، يَعْنِي آيَةَ اللَّيْلِ آيَةَ النَّهارِ، وهُما النَّيِّرانِ. ولا يَزالُ الأمْرُ عَلى هَذا التَّرْتِيبِ إلى أنْ يُبْطِلَ اللَّهُ ما دَبَّرَ مِن ذَلِكَ، ويُنْقِصَ ما ألَّفَ، فَيَجْمَعَ بَيْنَ الشَّمْسِ والقَمَرِ، فَتَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِها. انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والضَّحّاكُ: إذا طَلَعَتْ، لَمْ يَكُنْ لِلْقَمَرِ ضَوْءٌ؛ وإذا طَلَعَ، لَمْ يَكُنْ لِلشَّمْسِ ضَوْءٌ. وقالَ مُجاهِدٌ: لا يُشْبِهُ ضَوْءُ أحَدِهِما ضَوْءَ الآخَرِ. وقالَ قَتادَةُ: لِكُلِّ أحَدٍ حَدٌّ لا يَعْدُوهُ ولا يَقْصُرُ دُونَهُ، إذا جاءَ سُلْطانُ هَذا ذَهَبَ هَذا. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: إذا اجْتَمَعا في السَّماءِ، كانَ أحَدُهُما بَيْنَ يَدِيِ الآخَرِ، في مَنازِلَ لا يَشْتَرِكانِ فِيها. وقالَ الحَسَنُ: لا يَجْتَمِعانِ في السَّماءِ لَيْلَةَ الهِلالِ خاصَّةً، أيْ لا تَبْقى الشَّمْسُ حَتّى يَطْلُعَ الفَجْرُ، ولَكِنْ إذا غَرَبَتْ طَلَعَ. وقالَ يَحْيى بْنُ سَلّامٍ: لا تُدْرِكُهُ لَيْلَةَ البَدْرِ خاصَّةً؛ لِأنَّهُ يُبادِرُ بِالمَغِيبِ قَبْلَ طُلُوعِها. وقِيلَ: لا يُمْكِنُها أنْ تُدْرِكَهُ في سُرْعَتِهِ؛ لِأنَّ دائِرَةَ فَلَكِ القَمَرِ داخِلَةٌ في فَلَكِ عُطارِدٍ، وفَلَكُ عُطارِدٍ داخِلٌ في فَلَكِ الزُّهْرَةِ، وفَلَكُ الزُّهْرَةِ داخِلٌ في فَلَكِ الشَّمْسِ. فَإذا كانَ طَرِيقُ الشَّمْسِ أبْعَدَ، قَطَعَ القَمَرُ جَمِيعَ أجْزاءِ فَلَكِهِ، أيْ مِنَ البُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشْرَ، في زَمانٍ تَقْطَعُ الشَّمْسُ فِيهِ بُرْجًا واحِدًا مِن فَلَكِهِ. وقالَ النَّحّاسُ: ما قِيلَ فِيهِ، وأبَيْنُهُ أنَّ مَسِيرَ القَمَرِ مَسِيرٌ سَرِيعٌ، والشَّمْسُ لا تُدْرِكُهُ في السَّيْرِ. انْتَهى، وهو مُلَخَّصُ القَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ ﴿ولا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ﴾، لا يُعارِضُ قَوْلَهُ ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ [الأعراف: ٥٤]؛ لِأنَّ ظاهِرَ قَوْلِهِ ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ [الأعراف: ٥٤]، أنَّ النَّهارَ سابِقٌ أيْضًا، فَيُوافِقُ الظّاهِرَ. وفَهِمَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ مِن قَوْلِهِ ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ [الأعراف: ٥٤] أنَّ النَّهارَ يَطْلُبُ اللَّيْلَ، واللَّيْلُ سابِقُهُ. وفَهِمَ مِن قَوْلِهِ ﴿ولا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ﴾ أنَّ اللَّيْلَ مَسْبُوقٌ لا سابِقٌ، فَأوْرَدَهُ سُؤالًا. وقالَ: كَيْفَ يَكُونُ اللَّيْلُ سابِقًا مَسْبُوقًا ؟ وأجابَ بِأنَّ المُرادَ مِنَ اللَّيْلِ هَنا سُلْطانُ اللَّيْلِ، وهو القَمَرُ، وهو لا يَسْبِقُ الشَّمْسَ بِالحَرَكَةِ اليَوْمِيَّةِ السَّرِيعَةِ. والمُرادُ مِنَ اللَّيْلِ هُناكَ نَفْسُ اللَّيْلِ، وكُلُّ واحِدٍ لَمّا كانَ في عَقِبِ الآخَرِ كانَ طالِبَهُ. انْتَهى. وعَرَضَ لَهُ هَذا السُّؤالُ لِكَوْنِهِ جَعَلَ الضَّمِيرَ الفاعِلَ في يَطْلُبُهُ عائِدًا عَلى النَّهارِ، وضَمِيرَ المَفْعُولِ عائِدًا عَلى اللَّيْلِ. والظّاهِرُ أنَّ ضَمِيرَ الفاعِلِ عائِدٌ عَلى ما هو الفاعِلُ في المَعْنى وهو اللَّيْلُ؛ لِأنَّهُ كانَ قَبْلَ دُخُولِ (p-٣٣٨)هَمْزَةِ النَّقْلِ ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ﴾ [الأعراف: ٥٤]، وضَمِيرُ المَفْعُولِ عائِدٌ عَلى النَّهارِ؛ لِأنَّهُ المَفْعُولُ قَبْلَ النَّقْلِ وبَعْدَهُ. وقَرَأ عِمارَةُ بْنُ عَقِيلِ بْنِ بِلالِ بْنِ جَرِيرٍ الخَطَفِيُّ: سابِقُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، النَّهارَ بِالنَّصْبِ. قالَ المُبَرِّدُ: سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقُلْتُ: ما هَذا ؟ قالَ: أرَدْتُ سابِقَ النَّهارِ، فَحَذَفْتُ لِأنَّهُ أخَفُّ. انْتَهى، وحَذَفَ التَّنْوِينَ فِيهِ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ. وتَقَدَّمَ شَرْحُ ﴿وكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ في سُورَةِ الأنْبِياءِ.
والظّاهِرُ مِنَ الذُّرِّيَّةِ أنَّهُ يُرادُ بِهِ الأبْناءُ ومَن نَشَأ مِنهم. وقِيلَ: يَنْطَلِقُ عَلى الآباءِ وعَلى الأبْناءِ، قالَهُ أبُو عُثْمانَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذا تَخْلِيطٌ، ولا يُعْرَفُ هَذا في اللُّغَةِ. انْتَهى. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في الذُّرِّيَّةِ في آلِ عِمْرانَ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في لَهم وفي ذُرِّيّاتِهِمْ عائِدٌ عَلى شَيْءٍ واحِدٍ، فالمَعْنى أنَّهُ تَعالى حَمَلَ ذُرِّيّاتِ هَؤُلاءِ، وهم آباؤُهُمُ الأقْدَمُونَ، في سَفِينَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وجَماعَةٌ. ومِن مِثْلِهِ: لِلسُّفُنِ المَوْجُودَةِ في جِنْسِ بَنِي آدَمَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ أوْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ (ذُرِّيّاتِهِمْ) حَذْفُ مُضافٍ، أيْ ذُرِّيّاتِ جِنْسِهِمْ، وأُرِيدَ بِالذُّرِّيَّةِ مَن لا يُطِيقُ المَشْيَ والرُّكُوبَ مِنَ الذُّرِّيَّةِ والضُّعَفاءِ. فالفَلَكُ اسْمُ جِنْسٍ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وكَوْنُ الفَلَكِ مُرادًا بِهِ الجِنْسُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا ومُجاهِدٌ والسُّدِّيٌّ، ومِن مِثْلِهِ: الإبِلُ وسائِرُ ما يُرْكَبُ. وقِيلَ: الضَّمِيرانِ مُخْتَلِفانِ، أيْ ذُرِّيَّةُ القُرُونِ الماضِيَةِ، قالَهُ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمانَ، وكانَ آيَةً لِهَؤُلاءِ، إذْ هم نَسْلُ تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ. وقِيلَ: الذُّرِّيَّةُ: النُّطَفُ، (والفُلْكِ المَشْحُونِ) بُطُونُ النِّساءِ، ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ، ونُسِبَ إلى عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، وهَذا لا يَصِحُّ؛ لِأنَّهُ مِن نَوْعِ تَفْسِيرِ الباطِنِيَّةِ وغُلاةِ المُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ كِتابَ اللَّهِ عَلى شَيْءٍ لا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِجِهَةٍ مِن جِهاتِ الدَّلالَةِ، يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ. ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ أُرِيدَ ظاهِرُ الفُلْكِ قَوْلُهُ ﴿وخَلَقْنا لَهم مِن مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ﴾ يَعْنِي الإبِلَ والخَيْلَ والبِغالَ والحَمِيرَ، والمُماثَلَةُ في أنَّهُ مَرْكُوبٌ مُبَلِّغٌ لِلْأوْطانِ فَقَطْ، هَذا إذا كانَ الفُلْكُ جِنْسًا. وأمّا إنْ أُرِيدَ بِهِ سَفِينَةُ نُوحٍ، فالمُماثَلَةُ تَكُونُ في كَوْنِها سُفُنًا مِثْلَها، وهي المَوْجُودَةُ في بَنِي آدَمَ. ويَبْعُدُ قَوْلُ مَن قالَ: الذُّرِّيَّةُ في الفُلْكِ قَوْمُ نُوحٍ في سَفِينَتِهِ، والمِثْلُ: الأجَلُ وما يُرْكَبُ؛ لِأنَّهُ يَدْفَعُهُ قَوْلُهُ ﴿وإنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ﴾ . وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، والأعْمَشُ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وأبانُ بْنُ عُثْمانَ: ذُرِّيّاتِهِمْ بِالجَمْعِ؛ وكَسَرَ زَيْدٌ وأبانٌ الذّالَ؛ وباقِي السَّبْعَةِ، وطَلْحَةُ، وعِيسى: بِالإفْرادِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذُرِّيَّتَهم: أوْلادَهم ومَن يُهِمُّهم حَمْلُهُ. وقِيلَ: اسْمُ الذُّرِّيَّةِ يَقَعُ عَلى النِّساءِ؛ لِأنَّهُنَّ مَزارِعُها. وفي الحَدِيثِ:«أنَّهُ نَهى عَنْ قَتْلِ الذَّرارِي»، يَعْنِي النِّساءَ.
﴿مِن مِثْلِهِ﴾ مِن مِثْلِ الفُلْكِ، ﴿ما يَرْكَبُونَ﴾ مِنَ الإبِلِ، وهي سَفائِنُ البَرِّ. وقِيلَ ﴿الفُلْكِ المَشْحُونِ﴾ سَفِينَةُ نُوحٍ. ومَعْنى حَمَلَ اللَّهُ ذُرِّيّاتِهِمْ فِيها: أنَّهُ حُمِلَ فِيها آباؤُهُمُ الأقْدَمُونَ، وفِيِ أصْلابِهِمْ هم وذُرِّيّاتُهم. وإنَّما ذَكَرَ ذُرِّيّاتِهِمْ دُونَهم؛ لِأنَّهُ أبْلَغُ في الِامْتِنانِ عَلَيْهِمْ، وأدْخَلُ في التَّعَجُّبِ مِن قُدْرَتِهِ في حَمْلِ أعْقابِهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ في سَفِينَةِ نُوحٍ. و﴿مِن مِثْلِهِ﴾ مِن مِثْلِ ذَلِكَ الفُلْكِ، ﴿ما يَرْكَبُونَ﴾ مِنَ السُّفُنِ. انْتَهى. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: إنَّما خَصَّ الذُّرِّيّاتِ بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّ المَوْجُودِينَ كانُوا كُفّارًا لا فائِدَةَ في وُجُودِهِمْ، أيْ لَمْ يَكُنِ الحَمْلُ حَمْلًا لَهم، وإنَّما كانَ حَمْلًا لِما في أصْلابِهِمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ. وقالَ أيْضًا: الضَّمِيرُ في وآيَةٌ لَهم عائِدٌ عَلى العِبادِ في قَوْلِهِ ﴿ياحَسْرَةً عَلى العِبادِ﴾ ثُمَّ قالَ بَعْدُ ﴿وآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ المَيْتَةُ أحْيَيْناها﴾، ﴿وآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ﴾، ﴿وآيَةٌ لَهم أنّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ ذُرِّيّاتِ العِبادِ، ولا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في المَوْضِعَيْنِ لِمَعْنَيَيْنِ، فَهو كَقَوْلِهِ ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩]، إنَّما يُرِيدُ: لا يَقْتُلُ بَعْضُكم بَعْضًا، فَذَلِكَ هَذا.
﴿وآيَةٌ لَهُمْ﴾ أيْ آيَةُ كُلِّ بَعْضٍ مِنهم، ﴿أنّا حَمَلْنا﴾ ذُرِّيَّةَ كُلِّ بَعْضٍ مِنهم، أوْ ذُرِّيَّةَ بَعْضٍ مِنهم. انْتَهى. والظّاهِرُ في قَوْلِهِ (وخَلَقْنا) أنَّهُ أُرِيدَ الإنْشاءُ والِاخْتِراعُ، فالمُرادُ الإبِلُ وما يُرْكَبُ، وتَكُونُ مِن لِلْبَيانِ، وإنْ كانَ ما يَصْنَعُهُ الإنْسانُ قَدْ يُنْسَبُ إلى اللَّهِ خَلْقًا، لَكِنَّ الأكْثَرَ ما ذَكَرْنا. وإذا أُرِيدَ بِهِ السُّفُنُ، تَكُونُ مِن لِلتَّبْعِيضِ، ولَهُمُ الظّاهِرُ عَوْدُهُ عَلى ما عادَ عَلَيْهِ ﴿وآيَةٌ لَهُمْ﴾؛ لِأنَّهُ المُحَدِّثَ عَنْهم، وجُوِّزَ أنْ يَعُودَ عَلى الذُّرِّيَّةِ؛ والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في مِثْلِهِ عائِدٌ عَلى (p-٣٣٩)الفُلْكِ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ وتَقْدِيرُهُ: مِن مِثْلِ ما ذَكَرْنا مِنَ المَخْلُوقاتِ في قَوْلِهِ ﴿سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ﴾، كَما قالُوا: في قَوْلِهِ ﴿مِن ثَمَرِهِ﴾، أيْ مِن ثَمَرِ ما ذَكَرْنا. وقَرَأ الحَسَنُ: (نُغَرِّقُهم) مُشَدَّدًا؛ والجُمْهُورُ: مُخَفَّفًا؛ والصَّرِيخُ: فَعِيلٌ بِمَعْنى صارِخٍ: أيْ مُسْتَغِيثٍ، وبِمَعْنى مُصْرِخٍ: أيْ مُغِيثٍ، وهَذا مَعْناهُ هُنا، أيْ فَلا مُغِيثَ لَهم ولا مُعِينَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ ﴿فَلا صَرِيخَ لَهُمْ﴾ أيْ فَلا إغاثَةَ لَهم. انْتَهى. كَأنَّهُ جَعَلَهُ مَصْدَرًا مِن أفْعَلَ، ويَحْتاجُ إلى نَقْلِ أنَّ صَرِيخًا يَكُونُ مَصْدَرًا بِمَعْنى صُراخٍ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ ﴿فَلا صَرِيخَ لَهُمْ﴾ أيْ لا مُغِيثَ لِهَؤُلاءِ الَّذِينَ شاءَ اللَّهُ إغْراقَهم، ﴿ولا هم يُنْقَذُونَ﴾ أيْ يَنْجُونَ مِنَ المَوْتِ بِالغَرَقِ. نَفى أوَّلًا الصَّرِيخَ، وهو خاصٌّ؛ ثُمَّ نَفى ثانِيًا إنْقاذَهم بِصَرِيخٍ أوْ غَيْرِهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَوْلُهُ ﴿فَلا صَرِيخَ لَهُمْ﴾ اسْتِئْنافُ إخْبارٍ عَنِ المُسافِرِينَ في البَحْرِ، ناجِينَ كانُوا أوْ مُغْرَقِينَ، فَهم في هَذِهِ الحالِ لا نَجاةَ لَهم إلّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ. ولَيْسَ قَوْلُهُ ﴿فَلا صَرِيخَ لَهُمْ﴾ مَرْبُوطًا بِالمُغْرَقِينَ، وقَدْ يَصِحُّ رَبْطُهُ بِهِ، والأوَّلُ أحْسَنُ فَتَأمَّلْهُ. انْتَهى، ولَيْسَ بِحَسَنٍ ولا أحْسَنَ. والفاءُ في ﴿فَلا صَرِيخَ لَهُمْ﴾ تُعَلِّقُ الجُمْلَةَ بِما قَبْلَها تَعْلِيقًا واضِحًا، وتَرْتَبِطُ بِهِ رَبْطًا لائِحًا. والخَلاصُ مِنَ العَذابِ بِما يَدْفَعُهُ مِن أصْلِهِ، فَنُفِيَ بِقَوْلِهِ ﴿فَلا صَرِيخَ لَهُمْ﴾، وما يَرْفَعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَنُفِيَ بِقَوْلِهِ ﴿ولا هم يُنْقَذُونَ﴾ . وانْتُصِبَ (رَحْمَةً) عَلى الِاسْتِثْناءِ المُفَرَّغِ لِلْمَفْعُولِ مِن أجْلِهِ، أيْ لِرَحْمَةٍ مِنّا. وقالَ الكِسائِيُ، والزَّجّاجُ ﴿إلى حِينٍ﴾ أيْ إلى حِينِ المَوْتِ، قالَهُ قَتادَةُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إمّا لِرَحْمَةٍ مِنّا، ولِيَتَمَتَّعَ بِالحَياةِ إلى حِينٍ: أيْ إلى أجَلٍ يَمُوتُونَ فِيهِ لا بُدَّ لَهم مِنهُ بَعْدَ النَّجاةِ مِن مَوْتِ الغَرَقِ. انْتَهى. وإنَّما قالَ: لا بُدَّ لَهم مِن مَوْتِ الغَرَقِ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ ﴿وإنْ نَشَأْ﴾ أيْ إغْراقَهم، ﴿نُغْرِقْهُمْ﴾ فَمَن شاءَ إغْراقَهُ لا بُدَّ أنْ يَمُوتَ بِالغَرَقِ. والظّاهِرُ أنَّ ﴿مِنّا ومَتاعًا إلى حِينٍ﴾ يَكُونُ لِلَّذِينِ يُنْقَذُونَ، فَلا يُفِيدُ الدَّوامَ، بَلْ يُنْقِذُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لَهُ ويُمَتِّعُهُ إلى حِينٍ ثُمَّ يُمِيتُهُ. وقِيلَ: فِيهِ تَقْسِيمٌ، إلّا رَحْمَةً لِمَن عَلِمَ أنَّهُ يُؤْمِنُ فَيُنْقِذُهُ اللَّهُ رَحْمَةً، ومَن عَلِمَ أنَّهُ لا يُؤْمِنُ يَمْنَعُهُ زَمانًا ويَزْدادُ إثْمًا.
{"ayahs_start":28,"ayahs":["۞ وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِن جُندࣲ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِینَ","إِن كَانَتۡ إِلَّا صَیۡحَةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ فَإِذَا هُمۡ خَـٰمِدُونَ","یَـٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ مَا یَأۡتِیهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا۟ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ","أَلَمۡ یَرَوۡا۟ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ أَنَّهُمۡ إِلَیۡهِمۡ لَا یَرۡجِعُونَ","وَإِن كُلࣱّ لَّمَّا جَمِیعࣱ لَّدَیۡنَا مُحۡضَرُونَ","وَءَایَةࣱ لَّهُمُ ٱلۡأَرۡضُ ٱلۡمَیۡتَةُ أَحۡیَیۡنَـٰهَا وَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهَا حَبࣰّا فَمِنۡهُ یَأۡكُلُونَ","وَجَعَلۡنَا فِیهَا جَنَّـٰتࣲ مِّن نَّخِیلࣲ وَأَعۡنَـٰبࣲ وَفَجَّرۡنَا فِیهَا مِنَ ٱلۡعُیُونِ","لِیَأۡكُلُوا۟ مِن ثَمَرِهِۦ وَمَا عَمِلَتۡهُ أَیۡدِیهِمۡۚ أَفَلَا یَشۡكُرُونَ","سُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡأَزۡوَ ٰجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ وَمِنۡ أَنفُسِهِمۡ وَمِمَّا لَا یَعۡلَمُونَ","وَءَایَةࣱ لَّهُمُ ٱلَّیۡلُ نَسۡلَخُ مِنۡهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظۡلِمُونَ","وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِی لِمُسۡتَقَرࣲّ لَّهَاۚ ذَ ٰلِكَ تَقۡدِیرُ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡعَلِیمِ","وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَـٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِیمِ","لَا ٱلشَّمۡسُ یَنۢبَغِی لَهَاۤ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّیۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلࣱّ فِی فَلَكࣲ یَسۡبَحُونَ","وَءَایَةࣱ لَّهُمۡ أَنَّا حَمَلۡنَا ذُرِّیَّتَهُمۡ فِی ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ","وَخَلَقۡنَا لَهُم مِّن مِّثۡلِهِۦ مَا یَرۡكَبُونَ","وَإِن نَّشَأۡ نُغۡرِقۡهُمۡ فَلَا صَرِیخَ لَهُمۡ وَلَا هُمۡ یُنقَذُونَ","إِلَّا رَحۡمَةࣰ مِّنَّا وَمَتَـٰعًا إِلَىٰ حِینࣲ"],"ayah":"یَـٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ مَا یَأۡتِیهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا۟ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق