الباحث القرآني

﴿والَّذِينَ كَفَرُوا لَهم نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ولا يُخَفَّفُ عَنْهم مِن عَذابِها كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ ﴿وهم يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ أوَلَمْ نُعَمِّرْكم ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظّالِمِينَ مِن نَصِيرٍ﴾ ﴿إنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ والأرْضِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكم خَلائِفَ في الأرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ولا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ إلّا مَقْتًا ولا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهم إلّا خَسارًا﴾ ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أمْ لَهم شِرْكٌ في السَّماواتِ أمْ آتَيْناهم كِتابًا فَهم عَلى بَيِّنَةٍ مِنهُ بَلْ إنْ يَعِدُ الظّالِمُونَ بَعْضُهم بَعْضًا إلّا غُرُورًا﴾ ﴿إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ والأرْضَ أنْ تَزُولا ولَئِنْ زالَتا إنْ أمْسَكَهُما مِن أحَدٍ مِن بَعْدِهِ إنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ . لَمّا ذَكَرَ حالَ المُؤْمِنِينَ ومَقَرَّهم، (p-٣١٦)ذَكَرَ حالَ الكافِرِينَ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ أُولَئِكَ الثَّلاثَةَ هم في الجَنَّةِ، ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هم مُقابِلُوهم، ﴿لا يُقْضى عَلَيْهِمْ﴾ أيْ لا يُجْهَزُ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا؛ لِأنَّهم إذا ماتُوا بَطَلَتْ حَواسُّهم فاسْتَراحُوا. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿فَيَمُوتُوا﴾، بِحَذْفِ النُّونِ مَنصُوبًا في جَوابِ النَّفْيِ، وهو عَلى أحَدِ مَعْنَيَيِّ النَّصْبِ؛ فالمَعْنى انْتَفى القَضاءُ عَلَيْهِمْ، فانْتَفى مُسَبَّبُهُ، أيْ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ ولا يَمُوتُونَ، كَقَوْلِكَ: ما تَأْتِينا فَتُحَدِّثَنا، أيْ ما يَكُونُ حَدِيثٌ، انْتَفى الإتْيانُ، فانْتَفى الحَدِيثُ. ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ عَلى المَعْنى الثّانِي مِن مَعْنى النَّصْبِ؛ لِأنَّ المَعْنى: ما تَأْتِينا مُحَدِّثًا، إنَّما تَأْتِي ولا تُحَدِّثُ، ولَيْسَ المَعْنى هُنا: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ مَيِّتِينَ، إنَّما يُقْضى عَلَيْهِمْ ولا يَمُوتُونَ. وقَرَأ عِيسى، والحَسَنُ: فَيَمُوتُونَ، بِالنُّونِ، وجْهُها أنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلى لا يُقْضى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهي قِراءَةٌ ضَعِيفَةٌ. انْتَهى. وقالَ أبُو عُثْمانَ المازِنِيُّ: هو عَطْفٌ، أيْ فَلا يَمُوتُونَ، لِقَوْلِهِ ﴿ولا يُؤْذَنُ لَهم فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٦]، أيْ فَلا يَعْتَذِرُونَ ولا يُخَفَّفُ عَنْهم نَوْعُ عَذابِهِمْ. والنَّوْعُ في نَفْسِهِ يَدْخُلُهُ أنْ يُحْيَوْا ويُسْعَدُوا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَرَأ عَبْدُ الوارِثِ عَنْ أبِي عَمْرٍو: ولا يُخَفَّفْ بِإسْكانِ الفاءِ شَبَّهَ المُنْفَصِلَ بِالمُتَّصِلِ، كَقَوْلِهِ: ؎فاليَوْمَ أشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿نَجْزِي كُلَّ﴾، مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، ونَصَبَ (كُلَّ)؛ وأبُو عَمْرٍو، وأبُو حاتِمٍ عَنْ نافِعٍ: بِالياءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، (كُلُّ) بِالرَّفْعِ. ﴿وهم يَصْطَرِخُونَ﴾ بُنِيَ مِنَ الصَّرْخِ يَفْتَعِلُ، وأُبْدِلَتْ مِنَ التّاءِ طاءٌ، وأصْلُهُ يَصْرِخُونَ، والصُّراخُ: شِدَّةُ الصِّياحِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎صَرَخَتْ حُبْلى أسْلَمَتْها قَبِيلُها واسْتُعْمِلَ في الِاسْتِغاثَةِ لِجِهَةِ المُسْتَغِيثِ صَوْتُهُ، قالَ الشّاعِرُ: ؎وطُولُ اصْطِراخِ المَرْءِ في بُعْدِ قَعْرِها ∗∗∗ وجُهْدُ شَقِيٍّ طالَ في النّارِ ما عَوى ﴿رَبَّنا أخْرِجْنا﴾ أيْ قائِلِينَ رَبَّنا أخْرِجْنا مِنها، أيْ مِنَ النّارِ، ورُدَّنا إلى الدُّنْيا. ﴿نَعْمَلْ صالِحًا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَقُلْ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، ﴿غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ﴾، أيْ مِنَ الشِّرْكِ، ونَمْتَثِلُ أمْرَ الرُّسُلِ، فَنُؤْمِنُ بَدَلَ الكُفْرِ، ونُطِيعُ بَدَلَ المَعْصِيَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَلِ اكْتَفى بِصالِحًا، كَما اكْتَفى بِهِ في (ارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحًا) ؟ وما فائِدَةُ زِيادَةِ ﴿غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ﴾ عَلى أنَّهُ يُوهِمُ أنَّهم يَعْمَلُونَ صالِحًا آخَرَ غَيْرَ الصّالِحِ الَّذِي عَمِلُوهُ ؟ قُلْتُ: فائِدَتُهُ زِيادَةُ التَّحَسُّرِ عَلى ما عَمِلُوهُ مِن غَيْرِ الصّالِحِ مَعَ الِاعْتِرافِ بِهِ، وأمّا الوَهْمُ فَزائِلٌ بِظُهُورِ حالِهِمْ في الكُفْرِ ورُكُوبِ المَعاصِي، ولِأنَّهم كانُوا يُحْسِنُونَ صُنْعًا فَقالُوا: أخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَحْسَبُهُ صالِحًا فَنَعْمَلَهُ. انْتَهى. رُوِيَ أنَّهم يُجابُونَ بَعْدَ مِقْدارِ الدُّنْيا ﴿أوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ﴾، وهو اسْتِفْهامُ تَوْبِيخٍ وتَوْقِيفٍ وتَقْرِيرٍ، وما مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، أيْ مُدَّةَ يَذَّكَّرُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ﴾ . وقَرَأ الأعْمَشُ: ما يَذَّكَّرُ فِيهِ، مَنِ اذَّكَّرَ، بِالِادْغامِ واجْتِلابِ هَمْزَةِ الوَصْلِ مَلْفُوظًا بِها في الدَّرْجِ. وهَذِهِ المُدَّةُ، قالَ الحَسَنُ: البُلُوغُ، يُرِيدُ أنَّهُ أوَّلُ حالِ التَّذَكُّرِ، وقِيلَ: سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وقالَ قَتادَةُ: ثَمانِ عَشْرَةَ سَنَةً. وقالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: عِشْرُونَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أرْبَعُونَ؛ وقِيلَ: خَمْسُونَ. وقالَ عَلِيٌّ: سِتُّونَ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. ﴿وجاءَكُمُ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ﴿أوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ﴾؛ لِأنَّ مَعْناهُ: قَدْ عَمَّرْناكم، كَقَوْلِهِ ﴿ألَمْ نُرَبِّكَ فِينا ولِيدًا﴾ [الشعراء: ١٨]، وقَوْلِهِ ﴿ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: ١]، ثُمَّ قالَ ﴿ولَبِثْتَ فِينا﴾ [الشعراء: ١٨] وقالَ ﴿ووَضَعْنا﴾ [الشرح: ٢]؛ لِأنَّ المَعْنى قَدْ رَبَّيْناكَ وشَرَحْنا. والنَّذِيرُ جِنْسٌ، وهُمُ الأنْبِياءُ، كُلُّ نَبِيٍّ نَذِيرُ أُمَّتِهِ. وقُرِئَ: النُّذُرُ جَمْعًا، وقِيلَ: النَّذِيرُ: الشَّيْبُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، وسُفْيانُ، ووَكِيعٌ، والحَسَنُ بْنُ الفَضْلِ، والفَرّاءُ، والطَّبَرِيُّ. وقِيلَ: مَوْتُ الأهْلِ والأقارِبِ؛ وقِيلَ: كَمالُ السُّفْلِ. ﴿فَذُوقُوا﴾ أيْ عَذابَ جَهَنَّمَ. وقَرَأ جَناحُ بْنُ حُبَيْشٍ: (عالِمٌ) مُنَوَّنًا، غَيْبَ نَصْبًا؛ والجُمْهُورُ: عَلى الإضافَةِ. ومَجِيءُ هَذِهِ الجُمْلَةِ عَقِيبَ ما قَبْلَها هو أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ أنَّ الكافِرِينَ يُعَذَّبُونَ دائِمًا مُدَّةَ كُفْرِهِمْ. كانَتْ مُدَّةً يَسِيرَةً مُنْقَطِعَةً، فَأخْبَرَ أنَّهُ تَعالى ﴿عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾، فَلا يَخْفى عَلَيْهِ ما تَنْطَوِي عَلَيْهِ الصُّدُورُ مِنَ المُضْمَراتِ. وكانَ يَعْلَمُ مِنَ الكافِرِ أنَّهُ تَمَكَّنَ (p-٣١٧)الكُفْرُ في قَلْبِهِ، بِحَيْثُ لَوْ دامَ إلى الأبَدِ ما آمَنَ بِاللَّهِ ولا عَبَدَهُ. وخَلائِفُ: جَمْعُ خَلِيفَةٍ، وخُلَفاءُ: جَمْعُ خَلِيفٍ ويُقالُ لِلْمُسْتَخْلَفِ: خَلِيفَةٌ وخَلِيفٌ، وفي هَذا تَنْبِيهٌ عَلى أنَّهُ تَعالى اسْتَخْلَفَهم بَدَلُ مَن كانَ قَبْلَهم، فَلَمْ يَتَّعِظُوا بِحالِ مَن تَقَدَّمَهم مِن مُكَذِّبِي الرُّسُلِ وما حَلَّ بِهِمْ مِنَ الهَلاكِ، ولا اعْتَبَرُوا بِمَن كَفَرَ، ولَمْ يَتَّعِظُوا بِمَن تَقَدَّمَ. ﴿فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ أيْ عِقابُ كُفْرِهِ، والظّاهِرُ أنَّهُ خِطابٌ عامٌّ؛ وقِيلَ: لِأهْلِ مَكَّةَ. والمَقْتُ: أشَدُّ الِاحْتِقارِ والبُغْضِ والغَضَبِ، والخَسارُ: خَسارُ العُمُرِ. كَأنَّ العُمُرَ رَأْسُ مالٍ، فَإنِ انْقَضى في غَيْرِ طاعَةِ اللَّهِ، فَقَدْ خَسِرَهُ واسْتَعاضَ بِهِ بَدَلَ الرِّبْحِ بِما يَفْعَلُ مِنَ الطّاعاتِ سُخْطَ اللَّهِ وغَضَبَهُ، بِحَيْثُ صارُوا إلى النّارِ. ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ﴾، قالَ الحَوْفِيُّ: ألِفُ الِاسْتِفْهامِ ذَلِكَ لِلتَّقْرِيرِ، وفي التَّحْرِيرِ: أرَأيْتُمْ: المُرادُ مِنهُ أخْبِرُونِي؛ لِأنَّ الِاسْتِفْهامَ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ. يَقُولُ القائِلُ: أرَأيْتَ ماذا فَعَلَ زَيْدٌ ؟ فَيَقُولُ السّامِعُ: باعَ واشْتَرى، ولَوْلا تَضَمُّنُهُ مَعْنى أخْبِرُونِي لَكانَ الجَوابُ نَعَمْ أوْ لا. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أرَأيْتُمْ يَنْزِلُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ مَنزِلَةَ أخْبِرُونِي. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أرُونِي بَدَلٌ مِن أرَأيْتُمْ لِأنَّ مَعْنى أرَأيْتُمْ أخْبِرُونِي، كَأنَّهُ قالَ: أخْبِرُونِي عَنْ هَؤُلاءِ الشُّرَكاءِ وعَنْ ما اسْتَحَقُّوا بِهِ الإلَهِيَّةَ والشِّرْكَةَ، أرُونِي أيَّ جُزْءٍ مِن أجْزاءِ الأرْضِ اسْتَبَدُّوا بِخَلْقِهِ دُونَ اللَّهِ، أمْ لَهم مَعَ اللَّهِ شِرْكَةٌ في خَلْقِ السَّماواتِ ؟ أمْ مَعَهم كِتابٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ يَنْطِقُ بِأنَّهم شُرَكاؤُهُ ؟ فَهم عَلى حُجَّةٍ وبُرْهانٍ مِن ذَلِكَ الكِتابِ، أوْ يَكُونُ الضَّمِيرُ في ﴿آتَيْناهُمْ﴾ لِلْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ ﴿أمْ أنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطانًا﴾ [الروم: ٣٥]، ﴿أمْ آتَيْناهم كِتابًا مِن قَبْلِهِ﴾ [الزخرف: ٢١] . ﴿بَلْ إنْ يَعِدُ الظّالِمُونَ بَعْضُهُمْ﴾ وهُمُ الرُّؤَساءُ، ﴿بَعْضًا﴾ وهُمُ الأتْباعُ، ﴿إلّا غُرُورًا﴾ وهو قَوْلُهم ﴿هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: ١٨] . انْتَهى. أمّا قَوْلُهُ ﴿أرُونِي﴾ بَدَلٌ مِن ﴿أرَأيْتُمْ﴾ فَلا يَصِحُّ؛ لِأنَّهُ إذا أُبْدِلَ مِمّا دَخَلَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهامُ فَلا بُدَّ مِن دُخُولِ الأداةِ عَلى البَدَلِ، وأيْضًا فَإبْدالُ الجُمْلَةِ مِنَ الجُمْلَةِ لَمْ يُعْهَدْ في لِسانِهِمْ، ثُمَّ البَدَلُ عَلى نِيَّةِ تَكْرارِ العامِلِ، ولا يَتَأتّى ذَلِكَ هُنا؛ لِأنَّهُ لا عامِلَ في أرَأيْتُمْ فَيُتَخَيَّلُ دُخُولُهُ عَلى أرُونِي. وقَدْ تَكَلَّمْنا في الأنْعامِ عَلى أرَأيْتُمْ كَلامًا شافِيًا. والَّذِي أذْهَبُ إلَيْهِ أنَّ أرَأيْتُمْ بِمَعْنى أخْبِرْنِي، وهي تَطْلُبُ مَفْعُولَيْنِ: أحَدُهُما مَنصُوبٌ، والآخَرُ مُشْتَمِلٌ عَلى اسْتِفْهامٍ. تَقُولُ العَرَبُ: أرَأيْتَ زَيْدًا ما صَنَعَ ؟ فالأوَّلُ هُنا هو ﴿شُرَكاءَكُمُ﴾، والثّانِي ﴿ماذا خَلَقُوا﴾، وأرُونِي جُمْلَةٌ اعْتِراضِيَّةٌ فِيها تَأْكِيدٌ لِلْكَلامِ وتَسْدِيدٌ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ أيْضًا مِن بابِ الإعْمالِ؛ لِأنَّهُ تَوارَدَ عَلى ماذا خَلَقُوا، أرَأيْتُمْ وأرُونِي؛ لِأنَّ أرُونِي قَدْ تَعَلَّقَ عَلى مَفْعُولِها في قَوْلِهِمْ: أما تَرى، أيْ تَرى هاهُنا، ويَكُونُ قَدْ أُعْمِلَ الثّانِي عَلى المُخْتارِ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ. وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ أرَأيْتُمُ اسْتِفْهامًا حَقِيقِيًّا، وأرُونِي أمْرُ تَعْجِيزٍ لِلتَّبْيِينِ، أيْ أعَلِمْتُمْ هَذِهِ الَّتِي تَدْعُونَها كَما هي وعَلى ما هي عَلَيْهِ مِنَ العَجْزِ، أوْ تَتَوَهَّمُونَ فِيها قُدْرَةً ؟ فَإنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَها عاجِزَةً، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَها ؟ أوْ تَوَهَّمْتُمْ لَها قُدْرَةً، فَأرُونِي قُدْرَتَها في أيِّ شَيْءٍ هي، أهِيَ في الأرْضِ ؟ كَما قالَ بَعْضُهم: إنَّ اللَّهَ إلَهٌ في السَّماءِ، وهَؤُلاءِ آلِهَةٌ في الأرْضِ. قالُوا: وفِيها مِنَ الكَواكِبِ والأصْنامِ صُوَرُها، أمْ في السَّماواتِ ؟ كَما قالَ بَعْضُهم: إنِ السَّماءَ خُلِقَتْ بِاسْتِعانَةِ المَلائِكَةِ، فالمَلائِكَةُ شُرَكاءُ في خَلْقِها، وهَذِهِ الأصْنامُ صُوَرُها، أمْ قُدْرَتُها في الشَّفاعَةِ لَكم ؟ كَما قالَ بَعْضُهم: إنَّ المَلائِكَةَ ما خَلَقُوا شَيْئًا، ولَكِنَّهم مُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللَّهِ، فَنَعْبُدُهم لِتَشْفَعَ لَنا، فَهَلْ مَعَهم مِنَ اللَّهِ كِتابٌ فِيهِ إذْنُهُ لَهم بِالشَّفاعَةِ ؟ انْتَهى. وأضافَ الشُّرَكاءُ إلَيْهِمْ مِن حَيْثُ هم جَعَلُوهم شُرَكاءَ اللَّهِ، أيْ لَيْسَ لِلْأصْنامِ شِرْكَةٌ بِوَجْهٍ إلّا بِقَوْلِهِمْ وجَعْلِهِمْ، قِيلَ: ويُحْتَمَلُ شُرَكاءُكم في النّارِ لِقَوْلِهِ ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] . والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في ﴿آتَيْناهُمْ﴾ عائِدٌ عَلى الشُّرَكاءِ، (p-٣١٨)لِتُناسِبَ الضَّمائِرَ، أيْ هَلْ مَعَ مَن جَعَلَ شُرَكاءَ لِلَّهِ كِتابٌ مِنَ اللَّهِ فِيهِ أنَّ لَهُ شَفاعَةً عِنْدَهُ ؟ فَإنَّهُ لا يُشْفَعُ إلّا بِإذْنِهِ. وقِيلَ: عائِدٌ عَلى المُشْرِكِينَ، ويَكُونُ التِفاتًا خَرَجَ مِن ضَمِيرِ الخِطابِ إلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ إعْراضًا عَنْهم وتَنْزِيلًا لَهم مَنزِلَةَ الغائِبِ الَّذِي لا يَحْصُلُ لِلْخِطابِ، ومَعْناهُ: أنَّ عِبادَةَ هَؤُلاءِ إمّا بِالعَقْلِ، ولا عَقْلَ لِمَن يَعْبُدُ ما لا يَخْلُقُ مِنَ الأرْضِ جُزْءًا مِنَ الأجْزاءِ ولا لَهُ شِرْكٌ في السَّماءِ؛ وإمّا بِالنَّقْلِ، ولَمْ نُؤْتِ المُشْرِكِينَ كِتابًا فِيهِ أمْرٌ بِعِبادَةِ هَؤُلاءِ، فَهَذِهِ عِبادَةٌ لا عَقْلِيَّةً ولا نَقْلِيَّةً. انْتَهى. وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ، وحَمْزَةُ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ كَثِيرٍ، وحَفْصٌ، وأبانٌ عَنْ عاصِمٍ ﴿عَلى بَيِّنَةٍ﴾، بِالإفْرادِ؛ وباقِي السَّبْعَةِ: بِالجَمْعِ. ولَمّا بَيَّنَ تَعالى فَسادَ أمْرِ الأصْنامِ ووَقَفَ الحُجَّةَ عَلى بُطْلانِها، عَقَّبَهُ بِذِكْرِ عَظَمَتِهِ وقُدْرَتِهِ لِيَتَبَيَّنَ الشَّيْءُ بِضِدِّهِ، وتَتَأكَّدَ حَقارَةُ الأصْنامِ بِذِكْرِ عَظَمَةِ اللَّهِ فَقالَ ﴿إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ والأرْضَ أنْ تَزُولا﴾ والظّاهِرُ أنَّ مَعْناهُ أنْ تَنْتَقِلا عَنْ أماكِنِهِما وتَسْقُطَ السَّماواتُ عَنْ عُلُوِّها. وقِيلَ: مَعْناهُ أنْ تَزُولا عَنِ الدَّوَرانِ. انْتَهى. ولا يَصِحُّ أنَّ الأرْضَ لا تَدُورُ. ويَظْهَرُ مِن قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أنَّ السَّماءَ لا تَدُورُ، وإنَّما تَجْرِي فِيها الكَواكِبُ. وقالَ: كَفى بِها زَوالًا أنْ تَدُورَ، ولَوْ دارَتْ لَكانَتْ قَدْ زالَتْ. وأنْ تَزُولا في مَوْضِعِ المَفْعُولِ لَهُ، وقُدِّرَ لِئَلّا تَزُولا، وكَراهَةَ أنْ تَزُولا. وقالَ الزَّجّاجُ: يُمْسِكُ: يَمْنَعُ مِن أنْ تَزُولا، فَيَكُونُ مَفْعُولًا ثانِيًا عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَدَلًا، أيْ يَمْنَعُ زَوالَ السَّماواتِ والأرْضِ، بَدَلَ اشْتِمالٍ. ﴿ولَئِنْ زالَتا﴾ إنْ تَدْخُلُ غالِبًا عَلى المُمْكِنِ، فَإنْ قَدَّرْنا دُخُولَها عَلى المُمْكِنِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِاعْتِبارِ يَوْمِ القِيامَةِ عِنْدَ طَيِّ السَّماءِ ونَسْفِ الجِبالِ، فَإنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ، ثُمَّ واقِعٌ بِالخَبَرِ الصّادِقِ، أيْ ولَئِنْ جاءَ وقْتُ زَوالِهِما. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الفَرْضِ، أيْ ولَئِنْ فَرَضْنا زَوالَهُما، فَيَكُونُ مِثْلَ (لَوْ) في المَعْنى. وقَدْ قَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: ولَوْ زالَتا، وإنْ نافِيَةٌ، وأمْسَكَهُما في مَعْنى المُضارِعِ جَوابٌ لِلْقَسَمِ المُقَدَّرِ قَبْلَ لامِ التَّوْطِئَةِ في لَئِنْ، وإنَّما هو في مَعْنى المُضارِعِ لِدُخُولِ إنِ الشَّرْطِيَّةِ، كَقَوْلِهِ ﴿ولَئِنْ أتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ [البقرة: ١٤٥] . أيْ ما يَتَّبِعُونَ، وكَقَوْلِهِ ﴿ولَئِنْ أرْسَلْنا رِيحًا فَرَأوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا﴾ [الروم: ٥١] أيْ لَيَظَلُّوا، فَيُقَدَّرُ هَذا كُلُّهُ مُضارِعًا لِأجْلِ إنِ الشَّرْطِيَّةِ، وجَوابُ إنْ في هَذِهِ المَواضِعِ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ جَوابِ القَسَمِ عَلَيْهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: و(إنْ أمْسَكَها) جَوابُ القَسَمِ في ﴿ولَئِنْ زالَتا﴾، سَدَّ مَسَدَّ الجَوابَيْنِ. انْتَهى، يَعْنِي أنَّهُ دَلَّ عَلى الجَوابِ المَحْذُوفِ، وإنْ أُخِذَ كَلامُهُ عَلى ظاهِرِهِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأنَّهُ لَوْ سَدَّ مَسَدَّهُما لَكانَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ بِاعْتِبارِ جَوابِ الشَّرْطِ، ولا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الإعْرابِ بِاعْتِبارِ جَوابِ القَسَمِ. والشَّيْءُ الواحِدُ لا يَكُونُ مَعْمُولًا غَيْرَ مَعْمُولٍ. و(مِن) في ﴿مِن أحَدٍ﴾ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْراقِ، و(مِن) في ﴿مِن بَعْدِهِ﴾ لِابْتِداءِ الغايَةِ، أيْ مِن بَعْدِ تَرْكِ إمْساكِهِ. وسَألَ ابْنُ عَبّاسٍ رَجُلًا أقْبَلَ مِنَ الشّامِ: مَن لَقِيتَ ؟ قالَ كَعْبًا، قالَ: وما سَمِعْتُهُ يَقُولُ ؟ قالَ: إنَّ السَّماواتِ عَلى مَنكِبِ مَلَكٍ، قالَ: كَذَبَ كَعْبٌ، أما تَرَكَ يَهُودِيَّتَهُ بَعْدُ ؟ ثُمَّ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِجُنْدُبٍ البَجَلِيِّ، وكانَ رَجِلَ أيْ كَعْبُ الأحْبارِ في كَلامٍ آخِرُهُ ما تَمَكَّنَتِ اليَهُودِيَّةُ في قَلْبٍ وكادَتْ أنْ تُفارِقَهُ. وقالَتْ طائِفَةٌ: اتِّصافُهُ بِالحِلْمِ والغُفْرانِ في هَذِهِ الآيَةِ إنَّما هو إشارَةٌ إلى أنَّ السَّماءَ كادَتْ تَزُولُ، والأرْضَ كَذَلِكَ، لِإشْراكِ الكَفَرَةِ، فَيُمْسِكُها حُكْمًا مِنهُ عَنِ المُشْرِكِينَ وتَرَبُّصًا لِيَغْفِرَ لِمَن آمَنَ مِنهم، كَما قالَ في آخِرِ آيَةٍ أُخْرى ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنهُ﴾ [مريم: ٩٠] . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ ﴿حَلِيمًا غَفُورًا﴾، غَيْرَ مُعاجِلٍ بِالعُقُوبَةِ، حَيْثُ يُمْسِكُها، وكانَتا جَدِيرَتَيْنِ بِأنْ تُهَدْهِدَ العَظْمَ كَلِمَةُ الشِّرْكِ، كَما قالَ ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنهُ﴾ [مريم: ٩٠] الآيَةَ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب