﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفًا ألْوانُها ومِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُها وغَرابِيبُ سُودٌ﴾ ﴿ومِنَ النّاسِ والدَّوابِّ والأنْعامِ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ كَذَلِكَ إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وأقامُوا الصَّلاةَ وأنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهم سِرًّا وعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ ﴿لِيُوَفِّيَهم أُجُورَهم ويَزِيدَهم مِن فَضْلِهِ إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ ﴿والَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ مِنَ الكِتابِ هو الحَقُّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ ﴿ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِن عِبادِنا فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنهم مُقْتَصِدٌ ومِنهم سابِقٌ بِالخَيْراتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هو الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾ ﴿جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِن أساوِرَ مِن ذَهَبٍ ولُؤْلُؤًا ولِباسُهم فِيها حَرِيرٌ﴾ ﴿وقالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أذْهَبَ عَنّا الحَزَنَ إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ ﴿الَّذِي أحَلَّنا دارَ المُقامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ ولا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ﴾ .
(p-٣١١)لَمّا قَرَّرَ تَعالى وحْدانِيَّتَهُ بِأدِلَّةٍ قَرَّبَها وأمْثالٍ ضَرَبَها، أتْبَعَها بِأدِلَّةٍ سَماوِيَّةٍ وأرْضِيَّةٍ فَقالَ ﴿ألَمْ تَرَ﴾، وهَذا الِاسْتِفْهامُ تَقْرِيرِيٌّ، ولا يَكُونُ إلّا في الشَّيْءِ الظّاهِرِ جِدًّا. والخِطابُ لِلسّامِعِ، و(تَرَ) مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ؛ لِأنَّ إسْنادَ إنْزالِهِ تَعالى لا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ إلّا بِالعَقْلِ المُوافِقِ لِلنَّقْلِ، وإنْ كانَ إنْزالُ المَطَرِ مُشاهَدًا بِالعَيْنِ، لَكِنَّ رُؤْيَةَ القَلْبِ قَدْ تَكُونُ مُسْنَدَةً لِرُؤْيَةِ البَصَرِ ولِغَيْرِها. وخَرَجَ مِن ضَمِيرِ الغَيْبَةِ إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ في قَوْلِهِ ﴿فَأخْرَجْنا﴾، لِما في ذَلِكَ مِنَ الفَخامَةِ، إذْ هو مُسْنَدٌ لِلْمُعَظَّمِ المُتَكَلِّمِ. ولِأنَّ نِعْمَةَ الإخْراجِ أتَمُّ مِن نِعْمَةِ الإنْزالِ لِفائِدَةِ الإخْراجِ، فَأُسْنِدَ الأتَمُّ إلى ذاتِهِ بِضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ، وما دُونَهُ بِضَمِيرِ الغائِبِ. والظّاهِرُ أنَّ الألْوانَ، إنْ أُرِيدَ بِها ما يَتَبادَرُ إلَيْهِ الذِّهْنُ مِنَ الحُمْرَةِ والصُّفْرَةِ والخُضْرَةِ والسَّوادِ وغَيْرِ ذَلِكَ، والألْوانُ بِهَذا المَعْنى أوْسَعُ وأكْثَرُ مِنَ الألْوانِ بِمَعْنى الأصْباغِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿مُخْتَلِفًا ألْوانُها﴾، عَلى حَدِّ اخْتَلَفَ ألْوانُها. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مُخْتَلِفَةٌ ألْوانُها، عَلى حَدِّ اخْتَلَفَتْ ألْوانُها، وجَمْعُ التَّكْسِيرِ يَجُوزُ فِيهِ أنْ تَلْحَقَ التّاءُ، وأنْ لا تَلْحَقَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿جُدَدٌ﴾، بِضَمِّ الجِيمِ وفَتْحِ الدّالِ، جَمْعُ جُدَّةٍ. قالَ ابْنُ بَحْرٍ: قَطْعٌ مِن قَوْلِكَ: جَدَدْتُ الشَّيْءَ: قَطَعْتُهُ. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ: كَقِراءَةِ الجُمْهُورِ. قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: جَمْعُ جُدَّةٍ، وهي ما تُخالِفُ مِنَ الطَّرِيقِ في الجِبالِ لَوْنَ ما يَلِيها. وعَنْهُ أيْضًا، بِضَمِّ الجِيمِ والدّالِ: جَمْعُ جَدِيدَةٍ وجُدُدٍ وجَدائِدَ، كَما يُقالُ في الِاسْمِ: سَفِينَةٌ وسُفُنٌ وسَفائِنُ. قالَ أبُو ذُؤَيْبٍ:
؎جَوْنُ السَّراةِ أمْ جَدائِدُ أرْبَعُ
وعَنْهُ أيْضًا: بِفَتْحِ الجِيمِ والدّالِ، ولَمْ يُجِزْهُ أبُو حاتِمٍ في المَعْنى، ولا صَحَّحَهُ أثَرًا. وقالَ غَيْرُهُ: هو الطَّرِيقُ الواضِحُ المُبِينُ، وضَعَهُ مَوْضِعَ الطَّرائِقِ والخُطُوطِ الواضِحَةِ المُنْفَصِلِ بَعْضُها مِن بَعْضٍ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: يُقالُ جُدَدٌ في جَمْعِ جَدِيدٍ، ولا مَدْخَلَ لِمَعْنى الجَدِيدِ في هَذِهِ الآيَةِ. وقالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: جُدَدٌ جَمْعُ جَدِيدٍ بِمَعْنى: آثارٌ جَدِيدَةٌ واضِحَةُ الألْوانِ. انْتَهى. وقالَ: مُخْتَلِفٌ ألْوانُها؛ لِأنَّ البَياضَ والحُمْرَةَ تَتَفاوَتُ بِالشِّدَّةِ والضَّعْفِ، فَأبْيَضُ لا يُشْبِهُ أبْيَضَ، وأحْمَرُ لا يُشْبِهُ أحْمَرَ، وإنِ اشْتَرَكا في القَدْرِ المُشْتَرَكِ، لَكِنَّهُ مُشْكِلٌ. والظّاهِرُ عَطْفُ ﴿وغَرابِيبُ﴾ عَلى ﴿حُمُرٌ﴾ [المدثر: ٥٠]، عَطْفُ ذِي لَوْنٍ عَلى ذِي لَوْنٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْطُوفٌ عَلى (بِيضٌ) أوْ عَلى (جُدَدٌ)، كَأنَّهُ قِيلَ: ومِنَ الجِبالِ مُخَطَّطٌ ذُو جُدَدٍ، ومِنها ما هو عَلى لَوْنٍ واحِدٍ. وقالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ولا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ حَذْفِ المُضافِ في قَوْلِهِ ﴿ومِنَ الجِبالِ جُدَدٌ﴾، بِمَعْنى: ذُو جُدَدٍ بِيضٍ وحُمْرٍ وسُودٍ، حَتّى تَؤُولَ إلى قَوْلِكَ: ومِنِ الجِبالِ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ، كَما قالَ ﴿ثَمَراتٍ مُخْتَلِفًا ألْوانُها﴾ .
﴿ومِنَ النّاسِ والدَّوابِّ والأنْعامِ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ﴾ يَعْنِي: ومِنهم بَعْضٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ. وقَرَأ ابْنُ السَّمَيْقَعِ: ألْوانُها. انْتَهى.
والظّاهِرُ أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ الغَرابِيبَ، وهو الشَّدِيدُ السَّوادِ، لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ؛ لِأنَّهُ مِن حَيْثُ جَعْلُهُ شَدِيدَ السَّوادِ، وهو المُبالِغُ في غايَةِ السَّوادِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ألْوانٌ، بَلْ هَذا لَوْنٌ واحِدٌ، بِخِلافِ البِيضِ والحُمْرِ، فَإنَّها مُخْتَلِفَةٌ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ ﴿بِيضٌ وحُمْرٌ﴾ لَيْسا مَجْمُوعَيْنِ بِجُدَّةٍ واحِدَةٍ، بَلِ المَعْنى: جُدَدٌ بِيضٌ، وجُدَدٌ حُمْرٌ، وجَدَدٌ غَرابِيبُ. ويُقالُ: أسْوَدُ حَلَكُوكٌ، وأسْوَدُ غِرْبِيبٌ، ومِن حَقِّ الواضِحِ الغايَةِ في ذَلِكَ اللَّوْنِ أنْ يَكُونَ تابِعًا. فَقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قُدِّمَ الوَصْفُ الأبْلَغُ، وكانَ حَقُّهُ أنْ يَتَأخَّرَ، وكَذَلِكَ هو في المَعْنى، لَكِنَّ كَلامَ العَرَبِ الفَصِيحَ يَأْتِي كَثِيرًا عَلى هَذا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الغِرْبِيبُ تَأْكِيدٌ لِلْأسْوَدِ، ومِن حَقِّ التَّوْكِيدِ أنْ يَتْبَعَ المُؤَكَّدَ، كَقَوْلِكَ: أصْفَرُ فاقِعٌ، وأبْيَضُ يَقِقٌ، وما أشْبَهَ ذَلِكَ؛ ووَجْهُهُ أنْ يَظْهَرَ المُؤَكَّدُ قَبْلَهُ، فَيَكُونُ الَّذِي بَعْدَهُ تَفْسِيرًا لِما أُضْمِرَ، كَقَوْلِ النّابِغَةِ:
؎والمُؤْمِنِ العائِذاتِ الطَّيْرِ
وإنَّما يُفْعَلُ لِزِيادَةِ التَّوْكِيدِ، حَيْثُ يَدُلُّ عَلى المَعْنى الواحِدِ مِن طَرِيقِ الإظْهارِ والإضْمارِ جَمِيعًا. انْتَهى. وهَذا لا يَصِحُّ إلّا عَلى مَذْهَبِ مَن يُجِيزُ حَذْفَ المُؤَكَّدِ. ومِنَ النُّحاةِ مَن مَنَعَ ذَلِكَ، وهو اخْتِيارُ ابْنِ مالِكٍ. وقِيلَ: هو عَلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، (p-٣١٢)أيْ سُودٌ غَرابِيبُ. وقِيلَ: سُودٌ بَدَلٌ مِن (غَرابِيبُ)، وهَذا أحْسَنُ، ويُحَسِّنُهُ كَوْنُ (غَرابِيبُ) لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ أنْ يُسْتَعْمَلَ تَأْكِيدًا، ومِنهُ ما جاءَ في الحَدِيثِ: «أنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الشَّيْخَ الغِرْبِيبَ»، يَعْنِي الَّذِي يُخَضِّبُ بِالسَّوادِ، وقالَ الشّاعِرُ:
؎العَيْنُ طامِحَةٌ واليَدُ سابِحَةٌ ∗∗∗ والرِّجْلُ لائِحَةٌ والوَجْهُ غِرْبِيبُ
وقالَ آخَرُ:
؎ومِن تَعاجِيبِ خَلْقِ اللَّهِ غالِيَةٌ ∗∗∗ البَعْضُ مِنها مِلاحِيٌّ وغِرْبِيبُ
وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿والدَّوابِّ﴾، مُشَدَّدَ الباءِ؛ والزُّهْرِيُّ: بِتَخْفِيفِها، كَراهِيَةَ التَّضْعِيفِ، إذْ فِيهِ التِقاءُ السّاكِنَيْنِ. كَما هَمَزَ بَعْضُهم (ولا الضَّألِّينَ)، فِرارًا مِنَ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ، فَحُذِفَ هُنا آخِرُ المُضَعَّفَيْنِ وحُرِّكَ أوَّلُ السّاكِنِينَ. ومُخْتَلِفَةٌ، صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أيْ خَلْقٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ كَذَلِكَ، أيْ كاخْتِلافِ الثَّمَراتِ والجِبالِ؛ فَهَذا التَّشْبِيهُ مِن تَمامِ الكَلامِ قَبْلَهُ، والوَقْفُ عَلَيْهِ حَسَنٌ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِنَ الكَلامِ الثّانِي يَخْرُجُ مَخْرَجَ السَّبَبِ، كَأنَّهُ قالَ: كَما جاءَتِ القُدْرَةُ في هَذا كُلِّهِ.
﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾ أيِ المُخْلِصُونَ لِهَذِهِ العِبَرِ، النّاظِرُونَ فِيها. انْتَهى. وهَذا الِاحْتِمالُ لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ ما بَعْدَ إنَّما لا يُمْكِنُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِهَذا المَجْرُورِ قَبْلَها، ولَوْ خَرَجَ مَخْرَجَ السَّبَبِ، لَكانَ التَّرْكِيبُ: كَذَلِكَ يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ، أيْ لِذَلِكَ الِاعْتِبارِ، والنَّظَرُ في مَخْلُوقاتِ اللَّهِ واخْتِلافِ ألْوانِها يُخْشِي. ولَكِنَّ التَّرْكِيبَ جاءَ بِإنَّما، وهي تَقْطَعُ هَذا المَجْرُورَ عَمّا بَعْدَها، والعُلَماءُ هُمُ الَّذِينَ عَلِمُوهُ بِصِفاتِهِ وتَوْحِيدِهِ وما يَجُوزُ عَلَيْهِ وما يَجِبُ لَهُ وما يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، فَعَظَّمُوهُ وقَدَّرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وخَشَوْهُ حَقَّ خَشْيَتِهِ، ومَنِ ازْدادَ بِهِ عِلْمًا ازْدادَ مِنهُ خَوْفًا، ومَن كانَ عِلْمُهُ بِهِ أقَلَّ كانَ آمَنَ، وقَدْ ورَدَتْ أحادِيثُ وآثارٌ في الخَشْيَةِ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وقَدْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الخَشْيَةُ حَتّى عُرِفَتْ فِيهِ. ومَنِ ادَّعى أنَّ إنَّما لِلْحَصْرِ قالَ: المَعْنى ما يَخْشى اللَّهَ إلّا العُلَماءُ، فَغَيْرُهم لا يَخْشاهُ، وهو قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وإنَّما في هَذِهِ الآيَةِ تَخْصِيصُ العُلَماءِ لا الحَصْرُ، وهي لَفْظَةٌ تَصْلُحُ لِلْحَصْرِ وتَأْتِي أيْضًا دُونَهُ، وإنَّما ذَلِكَ بِحَسَبِ المَعْنى الَّذِي جاءَتْ فِيهِ. انْتَهى.
وجاءَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿ألَمْ تَرَ﴾، إذْ ظاهِرُهُ خِطابٌ لِلرَّسُولِ، حَيْثُ عَدَّدَ آياتِهِ وأعْلامَ قُدْرَتِهِ وآثارَ صَنْعَتِهِ، وما خَلَقَ مِنَ الفِطَرِ المُخْتَلِفَةِ الأجْناسِ، وما يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيْهِ وعَلى صِفاتِهِ، فَكَأنَّهُ قالَ: إنَّما يَخْشاهُ مِثْلُكَ ومَن عَلى صِفَتِكَ مِمَّنْ عَرَفَهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِنَصْبِ الجَلالَةِ ورَفْعِ العُلَماءِ. ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ وأبِي حَنِيفَةَ عَكْسُ ذَلِكَ، وتُؤُوِّلَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَلى أنَّ الخَشْيَةَ اسْتِعارَةٌ لِلتَّعْظِيمِ؛ لِأنَّ مَن خَشِيَ وهابَ أجَلَّ وعَظَّمَ مَن خَشِيَهُ وهابَ، ولَعَلَّ ذَلِكَ لا يَصِحُّ عَنْهُما. وقَدْ رَأيْنا كُتُبًا في الشَّواذِّ، ولَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ القِراءَةَ، وإنَّما ذَكَرَها الزَّمَخْشَرِيُّ، وذَكَرَها عَنْ أبِي حَيْوَةَ أبُو القاسِمِ يُوسُفُ بْنُ جُبارَةَ في كِتابِهِ الكامِلِ.
﴿إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ تَعْلِيلٌ لِلْخَشْيَةِ، إذِ العِزَّةُ تَدُلُّ عَلى عُقُوبَةِ العُصاةِ وقَهْرِهِمْ، والمَغْفِرَةُ عَلى إنابَةِ الطّائِعِينَ والعَفْوِ عَنْهم.
﴿إنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ﴾ ظاهِرُهُ يَقْرَأُونَ، ﴿كِتابَ اللَّهِ﴾ أيْ يُداوِمُونَ تِلاوَتَهُ. وقالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ: هَذِهِ آيَةُ القُرّاءِ، ويَتَّبِعُونَ كِتابَ اللَّهِ، فَيَعْمَلُونَ بِما فِيهِ؛ وعَنِ الكَلْبِيِّ: يَأْخُذُونَ بِما فِيهِ. وقالَ السُّدِّيُّ: هم أصْحابُ الرَّسُولِ ﷺ ورَضِيَ عَنْهم وقالَ عَطاءٌ: هُمُ المُؤْمِنُونَ ”. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى وصْفَهم بِالخَشْيَةِ، وهي عَمَلُ القَلْبِ، ذَكَرَ أنَّهم يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ، وهو عَمَلُ اللِّسانِ.
﴿وأقامُوا الصَّلاةَ﴾ وهو عَمَلُ الجَوارِحِ، ويُنْفِقُونَ: وهو العَمَلُ المالِيُّ. وإقامَةُ الصَّلاةِ والإنْفاقُ: يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ وجْهَ اللَّهِ، لا لِلرِّياءِ والسُّمْعَةِ.
﴿تِجارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ لَنْ تَكْسُدَ، ولا يَتَعَذَّرَ الرِّبْحُ فِيها، بَلْ يُنْفِقُ عِنْدَ اللَّهِ.
﴿لِيُوَفِّيَهُمْ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِيَرْجُونَ، (p-٣١٣)أوْ بِلْنَ تَبُورَ، أوْ بِمُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: فَعَلُوا ذَلِكَ، أقْوالٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإنْ شِئْتَ فَقُلْتَ: يَرْجُونَ في مَوْضِعِ الحالِ عَلى وأنْفَقُوا راجِينَ لِيُوَفِّيَهم، أيْ فَعَلُوا جَمِيعَ ذَلِكَ لِهَذا الغَرَضِ. وخَبَرُ إنَّ قَوْلُهُ ﴿إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ لِأعْمالِهِمْ، والشُّكْرُ مَجازٌ عَنِ الإثابَةِ. انْتَهى. وأُجُورُهم هي الَّتِي رَتَّبَها تَعالى عَلى أعْمالِهِمْ، وزِيادَتُهُ مِن فَضْلِهِ. قالَ أبُو وائِلٍ: بِتَشْفِيعِهِمْ فِيمَن أحْسَنَ إلَيْهِمْ. وقالَ الضَّحّاكُ: بِتَفْسِيحِ القُلُوبِ، وفي الحَدِيثِ: «بِتَضْعِيفِ حَسَناتِهِمْ». وقِيلَ: بِالنَّظَرِ إلى وجْهِهِ. والكِتابُ: هو القُرْآنُ، ومِن: لِلتَّبْيِينِ أوِ الجِنْسِ أوِ التَّبْعِيضِ، تَخْرِيجاتٌ لِلزَّمَخْشَرِيِّ.
﴿مُصَدِّقًا﴾ حالٌ مُؤَكِّدَةٌ ﴿لِما بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ مِنَ الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ: التَّوْراةِ والإنْجِيلِ والزَّبُورِ وغَيْرِهِ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى كَوْنِهِ وحْيًا؛ لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَكُنْ قارِئًا كاتِبًا، وأتى بِبَيانِ ما في كُتُبِ اللَّهِ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ إلّا مِنَ اللَّهِ تَعالى.
﴿إنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ عالِمٌ بِدَقائِقِ الأشْياءِ وبَواطِنِها، بَصِيرٌ بِما ظَهَرَ مِنها، وحَيْثُ أهَّلَكَ لِوَحْيِهِ، واخْتارَكَ بِرِسالَتِهِ وكِتابِهِ، اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالاتِهِ.
﴿ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ﴾، وثُمَّ قِيلَ: بِمَعْنى الواوِ، وقِيلَ: لِلْمُهْلَةِ، إمّا في الزَّمانِ، وإمّا في الإخْبارِ عَلى ما يَأْتِي بَيانُهُ. والكِتابُ فِيهِ قَوْلانِ، أحَدُهُما: أنَّ المَعْنى: أنْزَلْنا الكُتُبَ الإلَهِيَّةَ، والكِتابُ عَلى هَذا اسْمُ جِنْسٍ. والمُصْطَفَوْنَ، عَلى ما يَأْتِي بَيانُهُ أنَّ المَعْنى: الأنْبِياءُ وأتْباعُهم، قالَهُ الحَسَنُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هم هَذِهِ الأُمَّةُ، أُورِثَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ كُلَّ كِتابٍ أنْزَلَهُ اللَّهُ. وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أوْرَثَهُمُ الإيمانَ، فالكُتُبُ تَأْمُرُ بِاتِّباعِ القُرْآنِ، فَهم مُؤْمِنُونَ بِها عامِلُونَ بِمُقْتَضاها، يَدُلُّ عَلَيْهِ ﴿والَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ مِنَ الكِتابِ هو الحَقُّ﴾، ثُمَّ أتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ ﴿ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ﴾، فَعَلِمْنا أنَّهم أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ إذْ كانَ مَعْنى المِيراثِ: انْتِقالَ شَيْءٍ مِن قَوْمٍ إلى قَوْمٍ، ولَمْ تَكُنْ أُمَّةٌ انْتَقَلَ إلَيْها كِتابٌ مِن قَوْمٍ كانُوا قَبْلَهم غَيْرَ أُمَّتِهِ. فَإذا قُلْنا: هُمُ الأنْبِياءُ وأتْباعُهم، كانَ المَعْنى: أوْرَثْنا كُلَّ كِتابٍ أُنْزِلَ عَلى نَبِيٍّ، ذَلِكَ النَّبِيَّ وأتْباعَهُ. والقَوْلُ الثّانِي: إنَّ الكِتابَ هو القُرْآنُ، والمُصْطَفَوْنَ أُمَّةُ الرَّسُولِ، ومَعْنى أوْرَثْنا، قالَ مُجاهِدٌ: أعْطَيْنا؛ لِأنَّ المِيراثَ عَطاءٌ. ثُمَّ قَسَّمَ الوارِثِينَ إلى هَذِهِ الأقْسامِ الثَّلاثَةِ، قالَ مَكِّيٌّ: فَقِيلَ هُمُ المَذْكُرُونَ في الواقِعَةِ. فالسّابِقُ بِالخَيْراتِ هو المُقَرَّبُ، والمُقْتَصِدُ أصْحابُ المَيْمَنَةِ، والظّالِمُ لِنَفْسِهِ أصْحابُ المَشْأمَةِ، وهو قَوْلٌ يُرْوى مَعْناهُ عَنْ عِكْرِمَةَ والحَسَنِ وقَتادَةَ، قالُوا: الضَّمِيرُ في مِنهم عائِدٌ عَلى العِبادِ. فالظّالِمُ لِنَفَسِهِ الكافِرُ والمُنافِقُ، والمُقْتَصِدُ المُؤْمِنُ العاصِي، والسّابِقُ التَّقِيُّ عَلى الإطْلاقِ، وقالُوا: هو نَظِيرُ ما في الواقِعَةِ. والأكْثَرُونَ عَلى أنَّ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةَ هم في أُمَّةِ الرَّسُولِ، ومَن كانَ مِن أصْحابِ المَشْأمَةِ مُكَذِّبًا ضالًّا لا يُورَثُ الكِتابَ ولا اصْطَفاهُ اللَّهُ، وإنَّما الَّذِي في الواقِعَةِ أصْنافُ الخَلْقِ مِنَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ. قالَ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ: سابِقُنا أهْلُ جِهادٍ، ومُقْتَصِدُنا أهْلُ حَضَرِنا، وظالِمُنا أهْلُ بَدْوِنا، لا يَشْهَدُونَ جُمُعَةً ولا جَماعَةً. وقالَ مُعاذٌ: الظّالِمُ لِنَفْسِهِ: الَّذِي ماتَ عَلى كَبِيرَةٍ لَمْ يَتُبْ مِنها، والمُقْتَصِدُ: مَن ماتَ عَلى صَغِيرَةٍ ولَمْ يُصِبْ كَبِيرَةً لَمْ يَتُبْ مِنها، والسّابِقُ: مَن ماتَ تائِبًا عَنْ كَبِيرَةٍ أوْ صَغِيرَةٍ أوْ لَمْ يُصِبْ ذَلِكَ. وقِيلَ: الظّالِمُ لِنَفْسِهِ: العاصِي المُسْرِفُ، والمُقْتَصِدُ: مُتَّقِي الكَبائِرِ، والسّابِقُ: المُتَّقِي عَلى الإطْلاقِ. وقالَ الحَسَنُ: الظّالِمُ: مَن خَفَّتْ حَسَناتُهُ، والمُقْتَصِدُ: مَنِ اسْتَوَتْ، والسّابِقُ: مَن رَجَحَتْ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَسَّمَهم إلى ظالِمٍ مُجْرِمٍ، وهو المُرْجِئُ لِأمْرِ اللَّهِ، ومُقْتَصِدٍ، وهو الَّذِي خَلَطَ عَمَلًا صالَحًا وآخَرَ سَيِّئًا؛ وسابِقٍ مِنَ السّابِقِينَ. انْتَهى. وذَكَرَ في التَّجْرِيدِ ثَلاثَةً وأرْبَعِينَ قَوْلًا في هَؤُلاءِ الأصْنافِ الثَّلاثَةِ. وقَرَأ أبُو عِمْرانَ الحَوْفِيُّ، وعُمَرُ بْنُ أبِي شُجاعٍ، ويَعْقُوبُ في رِوايَةٍ، والقِراءَةُ عَنْ أبِي عَمْرٍو: سَبّاقٌ؛ والجُمْهُورُ. سابِقٌ، قِيلَ: وقُدِّمَ الظّالِمُ لِأنَّهُ لا يَتَّكِلُ إلّا عَلى رَحْمَةِ اللَّهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِلْإيذانِ بِكَثْرَةِ الفاسِقِينَ مِنهم وغَلَبَتِهِمْ، وأنَّ المُقْتَصِدَ قَلِيلٌ بِالإضافَةِ إلَيْهِمْ، والسّابِقُونَ أقَلُّ مِنَ القَلِيلِ. انْتَهى.
﴿بِإذْنِ اللَّهِ﴾ بِتَيْسِيرِهِ وتَمْكِينِهِ، أيْ أنَّ (p-٣١٤)سَبْقَهُ لَيْسَ مِن جِهَةِ ذاتِهِ، بَلْ ذَلِكَ مِنهُ تَعالى. والظّاهِرُ أنَّ الإشارَةَ بِذَلِكَ إلى إيراثِ الكِتابِ واصْطِفاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ.
و﴿جَنّاتُ﴾ عَلى هَذا مُبْتَدَأٌ، و﴿يَدْخُلُونَها﴾ الخَبَرُ. (وجَنّاتُ) قِراءَةُ الجُمْهُورِ جَمْعًا بِالرَّفْعِ، ويَكُونُ ذَلِكَ إخْبارًا بِمِقْدارِ أُولَئِكَ المُصْطَفَيْنَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ ﴿جَنّاتُ﴾ بَدَلٌ مِنَ ﴿الفَضْلُ﴾ . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ جُعِلَتْ ﴿جَنّاتُ عَدْنٍ﴾ بَدَلًا مِنَ ﴿الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾ الَّذِي هو السَّبْقُ بِالخَيْراتِ المُشارُ إلَيْهِ بِذَلِكَ ؟ قُلْتُ: لَمّا كانَ السَّبَبَ في نَيْلِ الثَّوابِ نَزَلَ مَنزِلَةَ المُسَبَّبِ كَأنَّهُ هو الثَّوابُ، فَأُبْدِلَتْ عَنْهُ جَنّاتُ عَدْنٍ. انْتَهى. ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ قِراءَةُ الجَحْدَرِيِّ. وهارُونَ عَنْ عاصِمٍ (جَنّاتِ) مَنصُوبًا عَلى الِاشْتِغالِ، أيْ يَدْخُلُونَ جَنّاتِ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها. وقَرَأ رَزِينٌ، وحُبَيْشٌ، والزُّهْرِيُّ: جَنَّةٌ عَلى الإفْرادِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو: يُدْخَلُونَها مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، ورُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ والجُمْهُورِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ المَرْفُوعَ في يَدْخُلُونَها عائِدٌ عَلى الأصْنافِ الثَّلاثَةِ، وهو قُولُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، وعُثْمانَ بْنِ عَفّانَ، وأبِي الدَّرْداءِ، وعُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ، وأبِي سَعِيدٍ، وعائِشَةَ، ومُحَمَّدِ بْنِ الحَنَفِيَّةِ، وجَعْفَرٍ الصّادِقِ، وأبِي إسْحاقَ السُّبَيْعِيِّ، وكَعْبِ الأحْبارِ. وقَرَأ عُمَرُ هَذِهِ الآيَةَ، ثُمَّ «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ“ سابِقُنا سابِقٌ، ومُقْتَصِدُنا ناجٍ، وظالِمُنا مَغْفُورٌ لَهُ ”» . ومَن جَعَلَ ثَلاثَةَ الأصْنافِ هي الَّتِي في الواقِعَةِ؛ لِأنَّ الضَّمِيرَ في يَدْخُلُونَها عائِدٌ عِنْدَهُ عَلى المُقْتَصِدِ والسّابِقِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هو عائِدٌ عَلى السّابِقِ فَقَطْ، ولِذَلِكَ جَعَلَ ذَلِكَ إشارَةً إلى السَّبْقِ بَعْدَ التَّقْسِيمِ، فَذَكَرَ ثَوابَهم. والسُّكُوتُ عَنِ الآخَرَيْنِ فِيهِ ما فِيهِ مِن وُجُوبِ الحَذَرِ، فَلْيَحْذَرِ المُقْتَصِدُ، ولْيَهْلِكِ الظّالِمُ لِنَفْسِهِ حَذَرًا، وعَلَيْهِما بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ المُخَلِّصَةِ مِن عَذابِ اللَّهِ، ولا يَغْتَرُّ بِما رَواهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ:“ سابِقُنا سابِقٌ، ومُقْتَصِدُنا ناجٍ، وظالِمُنا مَغْفُورٌ لَهُ "»، فَإنَّ شَرْطَ ذَلِكَ صِحَّةُ التَّوْبَةِ، عَسى اللَّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. وقَوْلُهُ: إمّا يُعَذِّبُهم، وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، ولَقَدْ نَطَقَ القُرْآنُ بِذَلِكَ في مَواضِعَ مَنِ اسْتَقْرَأها اطَّلَعَ عَلى حَقِيقَةِ الأمْرِ ولَمْ يُعَلِّلْ نَفْسَهُ بِالخِداعِ. انْتَهى، وهو عَلى طَرِيقِ المُعْتَزِلَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿يُحَلَّوْنَ﴾ بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الحاءِ وشَدِّ اللّامِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقُرِئَ: بِفَتْحِ الياءِ وسُكُونِ الحاءِ وتَخْفِيفِ اللّامِ، مِن حَلِيَتِ المَرْأةُ فَهي حالٍ، إذا لَبِسَتِ الحُلِيَّ. ويُقالُ: جِيدٌ حالٍ، إذا كانَ فِيهِ الحَلْيُ، وتَقَدَّمَ في سُورَةِ الحَجِّ الكَلامُ عَلى ﴿يُحَلَّوْنَ فِيها مِن أساوِرَ مِن ذَهَبٍ ولُؤْلُؤًا ولِباسُهم فِيها حَرِيرٌ﴾ . وقَرَأ الجُمْهُورُ (الحَزَنَ) بِفَتْحَتَيْنِ؛ وقُرِئَ: بِضَمِّ الحاءِ وسُكُونِ الزّايِ، ذَكَرَهُ جَناحُ بْنُ حُبَيْشٍ، والحَزَنُ يَعُمُّ جَمِيعَ الأحْزانِ، وقَدْ خَصَّ المُفَسِّرُونَ هُنا وأكْثَرُوا، ويَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلى التَّمْثِيلِ لا عَلى التَّعْيِينِ، فَقالَ أبُو الدَّرْداءِ: حَزَنٌ: أهْوالُ يَوْمِ القِيامَةِ، وما يُصِيبُ هُنالِكَ مِن ظُلْمِ نَفْسِهِ مِنَ الغَمِّ والحُزْنِ. وقالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: مَعِيشَةُ الدُّنْيا الخَيْرُ ونَحْوُهُ. وقالَ قَتادَةُ: حَزَنُ الدُّنْيا في الحَوْفَةِ أنْ لا يَتَقَبَّلَ أعْمالَهم. وقالَ مُقاتِلٌ: حَزَنُ الِانْتِقالِ، يَقُولُونَها إذا اسْتَقَرُّوا فِيها. وقالَ الكَلْبِيُّ: خَوْفُ الشَّيْطانِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَزَنٌ: تَظالُمُ الآخِرَةِ، والوُقُوفُ عَنْ قَبُولِ الطّاعاتِ ورَدِّها، وطُولُ المُكْثِ عَلى الصِّراطِ. وقالَ القاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَزَنٌ: زَوالُ الغَمِّ وتَقَلُّبُ القَلْبِ وخَوْفُ العاقِبَةِ، وقَدْ أكْثَرُوا حَتّى قالَ بَعْضُهم: كِراءُ الدّارِ، ومَعْناهُ أنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ حَزَنٍ مِن أحْزانِ الدِّينِ والدُّنْيا حَتّى هَذا.
﴿إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾، لَغَفُورٌ: فِيهِ إشارَةٌ إلى دُخُولِ الظّالِمِ لِنَفْسِهِ الجَنَّةَ.
﴿شَكُورٌ﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى السّابِقِ، وأنَّهُ كَثِيرُ الحَسَناتِ. و﴿المُقامَةِ﴾: هي الإقامَةُ أيِ الجَنَّةُ؛ لِأنَّها دارُ إقامَةٍ دائِمًا لا يُرْحَلُ عَنْها.
﴿مِن فَضْلِهِ﴾ مِن عَطائِهِ.
﴿لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ﴾ أيْ تَعَبُ بَدَنٍ، ﴿ولا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ﴾ أيْ تَعَبُ نَفْسٍ، وهو لازِمٌ عَنْ تَعَبِ البَدَنِ. وقالَ قَتادَةُ: اللُّغُوبُ: الوَضْعُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: النَّصَبُ: التَّعَبُ والمَشَقَّةُ الَّتِي تُصِيبُ المُنْتَصِبَ المُزاوِلَ لَهُ، وأمّا اللُّغُوبُ: فَما يَلْحَقُهُ مِنَ الفُتُورِ بِسَبَبِ (p-٣١٥)النَّصَبِ. فالنَّصَبُ: نَفْسُ المَشَقَّةِ والكُلْفَةِ، واللُّغُوبُ: نَتِيجَتُهُ، وما يَحْدُثُ مِنهُ مِنَ الكَلالِ والفَتْرَةِ. انْتَهى. فَإنْ قُلْتَ: إذا انْتَفى السَّبَبُ انْتَفى مُسَبَّبُهُ، فَما حُكْمُهُ إذا نُفِيَ السَّبَبُ وانْتَفى مُسَبَّبُهُ ؟ وأنْتَ تَقُولُ: ما شَبِعْتُ ولا أكَلْتُ، ولا يَحْسُنُ ما أكَلْتُ ولا شَبِعْتُ؛ لِأنَّهُ يَلْزَمُ مِنِ انْتِفاءِ الأكْلِ انْتِفاءُ الشِّبَعِ، ولا يَنْعَكِسُ، فَلَوْ جاءَ عَلى هَذا الأُسْلُوبِ لَكانَ التَّرْكِيبُ لا يَمَسُّنا فِيها إعْياءٌ ولا مَشَقَّةٌ ؟ فالجَوابُ: أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ مُخالَفَةَ الجَنَّةِ لِدارِ الدُّنْيا، فَإنَّ أماكِنَها عَلى قِسْمَيْنِ: مَوْضِعٌ يُمَسُّ فِيهِ المَشاقُّ والمَتاعِبُ كالبَرارِي والصَّحارِي، ومَوْضِعٌ يُمَسُّ فِيهِ الإعْياءُ كالبُيُوتِ والمَنازِلِ الَّتِي فِيها الصِّغارُ، فَقالَ ﴿لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ﴾؛ لِأنَّها لَيْسَتْ مَظانَّ المَتاعِبِ لِدارِ الدُّنْيا؛ ﴿ولا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ﴾ أيْ ولا نَخْرُجُ مِنها إلى مَوْضِعِ نَصَبٍ ونَرْجِعُ إلَيْها فَيَمَسُّنا فِيها الإعْياءُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: لُغُوبٌ، بِضَمِّ اللّامِ، وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ والسُّلَمِيُّ: بِفَتْحِها. قالَ الفَرّاءُ: هو ما يُلْغَبُ بِهِ، كالفُطُورِ والسَّحُورِ، وجازَ أنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْمَصْدَرِ المَحْذُوفِ، كَأنَّهُ لُغُوبٌ، كَقَوْلِهِمْ: مَوْتٌ مائِتٌ. وقالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كالقَبُولِ، وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ صِفَةً لِمُضْمَرٍ، أيْ أمْرٌ لُغُوبٌ، واللُّغُوبُ أيْضًا في غَيْرِ هَذا لِلْأحْمَقِ. قالَ أعْرابِيٌّ إنَّ فُلانًا لُغُوبٌ جاءَتْ كِتابِي فاحْتَقَرَها، أيْ أحْمَقُ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ أنَّثْتَهُ ؟ فَقالَ: ألَيْسَ صَحِيفَةً ؟
{"ayahs_start":27,"ayahs":["أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ ثَمَرَ ٰتࣲ مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَ ٰنُهَاۚ وَمِنَ ٱلۡجِبَالِ جُدَدُۢ بِیضࣱ وَحُمۡرࣱ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰنُهَا وَغَرَابِیبُ سُودࣱ","وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَاۤبِّ وَٱلۡأَنۡعَـٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰنُهُۥ كَذَ ٰلِكَۗ إِنَّمَا یَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰۤؤُا۟ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ غَفُورٌ","إِنَّ ٱلَّذِینَ یَتۡلُونَ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُوا۟ مِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ سِرࣰّا وَعَلَانِیَةࣰ یَرۡجُونَ تِجَـٰرَةࣰ لَّن تَبُورَ","لِیُوَفِّیَهُمۡ أُجُورَهُمۡ وَیَزِیدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦۤۚ إِنَّهُۥ غَفُورࣱ شَكُورࣱ","وَٱلَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ هُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِۦ لَخَبِیرُۢ بَصِیرࣱ","ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَـٰبَ ٱلَّذِینَ ٱصۡطَفَیۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمࣱ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدࣱ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَیۡرَ ٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَ ٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِیرُ","جَنَّـٰتُ عَدۡنࣲ یَدۡخُلُونَهَا یُحَلَّوۡنَ فِیهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبࣲ وَلُؤۡلُؤࣰاۖ وَلِبَاسُهُمۡ فِیهَا حَرِیرࣱ","وَقَالُوا۟ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِیۤ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورࣱ شَكُورٌ","ٱلَّذِیۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا یَمَسُّنَا فِیهَا نَصَبࣱ وَلَا یَمَسُّنَا فِیهَا لُغُوبࣱ"],"ayah":"جَنَّـٰتُ عَدۡنࣲ یَدۡخُلُونَهَا یُحَلَّوۡنَ فِیهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبࣲ وَلُؤۡلُؤࣰاۖ وَلِبَاسُهُمۡ فِیهَا حَرِیرࣱ"}