الباحث القرآني

(p-٢٨٩)﴿وما آتَيْناهم مِن كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وما أرْسَلْنا إلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَذِيرٍ﴾ ﴿وكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهم فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ﴾ ﴿قُلْ إنَّما أعِظُكم بِواحِدَةٍ أنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكم مِن جِنَّةٍ إنْ هو إلّا نَذِيرٌ لَكم بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ﴾ ﴿قُلْ ما سَألْتُكم مِن أجْرٍ فَهو لَكم إنْ أجْرِي إلّا عَلى اللَّهِ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ ﴿قُلْ إنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلّامُ الغُيُوبِ﴾ ﴿قُلْ جاءَ الحَقُّ وما يُبْدِئُ الباطِلُ وما يُعِيدُ﴾ ﴿قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإنَّما أضِلُّ عَلى نَفْسِي وإنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إلَيَّ رَبِّي إنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ ﴿ولَوْ تَرى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وأُخِذُوا مِن مَكانٍ قَرِيبٍ﴾ ﴿وقالُوا آمَنّا بِهِ وأنّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ ﴿وقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ ويَقْذِفُونَ بِالغَيْبِ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ ﴿وحِيلَ بَيْنَهم وبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأشْياعِهِمْ مِن قَبْلُ إنَّهم كانُوا في شَكٍّ مُرِيبٍ﴾ . ﴿وما آتَيْناهُمْ﴾ أهْلَ مَكَّةَ، ﴿مِن كُتُبٍ﴾، قالَ السُّدِّيُّ: مِن عِنْدِنا، فَيَعْلَمُوا بِدِراسَتِها بُطْلانَ ما جِئَتْ بِهِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: فَنَقَضُوا أنَّ الشِّرْكَ جائِزٌ، وهو كَقَوْلِهِ ﴿أمْ أنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطانًا فَهو يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: ٣٥] . وقالَ قَتادَةُ: ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى العَرَبِ كِتابًا قَبْلَ القُرْآنِ، ولا بَعَثَ إلَيْهِمْ نَبِيًّا قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ والمَعْنى: مِن أيْنَ كَذَّبُوا، ولَمْ يَأْتِهِمْ كِتابٌ، ولا نَذِيرٌ بِذَلِكَ ؟ وقِيلَ: وصَفَهم بِأنَّهم قَوْمٌ أُمِّيُّونَ، أهْلُ جاهِلِيَّةٍ، ولا مِلَّةَ لَهم، ولَيْسَ لَهم عَهْدٌ بِإنْزالِ الكِتابِ ولا بِعْثَةِ رَسُولٍ. كَما قالَ ﴿أمْ آتَيْناهم كِتابًا مِن قَبْلِهِ فَهم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ﴾ [الزخرف: ٢١]، فَلَيْسَ لِتَكْذِيبِهِمْ وجْهٌ مُثْبَتٌ، ولا شُبْهَةُ تَعَلُّقٍ. كَما يَقُولُ أهْلُ الكِتابِ، وإنْ كانُوا مُبْطِلِينَ: نَحْنُ أهْلُ الكِتابِ والشَّرائِعِ، ومُسْتَنِدُونَ إلى رُسُلٍ مِن رُسُلِ اللَّهِ. وقِيلَ: المَعْنى أنَّهم يَقُولُونَ بِآرائِهِمْ في كِتابِ اللَّهِ، يَقُولُ بَعْضُهم سِحْرٌ، وبَعْضُهُمُ افْتِراءٌ، ولا يَسْتَنِدُونَ فِيهِ إلى أثارَةٍ مِن عِلْمٍ، ولا إلى خَبَرِ مَن يُقْبَلُ خَبَرُهُ. فَإنّا آتَيْناهم كُتُبًا يَدْرُسُونَها، ولا أرْسَلْنا إلَيْهِمْ رَسُولًا ولا نَذِيرًا فَيُمْكِنُهم أنْ يَدَّعُوا، أنَّ أقْوالَهم تَسْتَنِدُ إلى أمْرِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿يَدْرُسُونَها﴾، مُضارِعُ دَرَسَ مُخَفَّفًا؛ أبُو حَيْوَةَ: بِفَتْحِ الدّالِ وشَدِّها وكَسْرِ الرّاءِ، مُضارِعُ ادَّرَسَ، افْتَعَلَ مِنَ الدَّرْسِ، ومَعْناهُ: تَتَدارَسُونَها. وعَنْ أبِي حَيْوَةَ أيْضًا: يُدَرَّسُونَها، مِنَ التَّدْرِيسِ، وهو تَكْرِيرُ الدَّرْسِ، أوْ مِن دُرِسَ الكِتابُ مُخَفَّفًا، ودُرِّسَ الكِتابُ مُشَدَّدًا التَّضْعِيفُ بِاعْتِبارِ الجَمْعِ. ومَعْنى (قَبْلَكَ)، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أيْ وما أرْسَلْنا مِن نَذِيرٍ يُشافِهُهم بِشَيْءٍ، ولا يُباشِرُ أهْلَ عَصْرِهِمْ، ولا مِن قُرْبٍ مِن آبائِهِمْ. وقَدْ كانَتِ النِّذارَةُ في العالَمِ، وفي العَرَبِ مَعَ شُعَيْبٍ وصالِحٍ وهُودٍ. ودَعْوَةُ اللَّهِ وتَوْحِيدُهُ قائِمٌ لَمْ تَخْلُ الأرْضُ مِن داعٍ إلَيْهِ، وإنَّما المَعْنى: مِن نَذِيرٍ يَخْتَصُّ بِهَؤُلاءِ الَّذِينَ بَقِيَتْ إلَيْهِمْ، وقَدْ كانَ عِنْدَ العَرَبِ كَثِيرٌ مِن نِذارَةِ إسْماعِيلَ، واللَّهُ تَعالى يَقُولُ ﴿إنَّهُ كانَ صادِقَ الوَعْدِ وكانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ [مريم: ٥٤]، ولَكِنْ لَمْ يَتَجَرَّدْ لِلنِّذارَةِ، وقاتَلَ عَلَيْها، إلّا مُحَمَّدٌ ﷺ . انْتَهى. ﴿وكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ تَوَعُّدٌ لَهم مِمَّنْ تَقَدَّمَهم مِنَ الأُمَمِ، وما آلَ إلَيْهِ أمْرُهم، وتَسْلِيَةٌ لِرَسُولِهِ بِأنَّ عادَتَهم في التَّكْذِيبِ عادَةُ الأُمَمِ السّابِقَةِ، وسَيَحِلُّ بِهِمْ ما حَلَّ بِأُولَئِكَ. وأنَّ الضَّمِيرَيْنِ في (بَلَغُوا) وفي ﴿ما آتَيْناهُمْ﴾ عائِدانِ عَلى (الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)، لِيَتَناسَقا مَعَ قَوْلِهِ تَعالى (فَكَذَّبُوا)، أيْ ما بَلَغُوا في شُكْرِ (p-٢٩٠)النِّعْمَةِ وجَزاءِ المِنَّةِ مِعْشارَ ما آتَيْناهم مِنَ النِّعَمِ والإحْسانِ إلَيْهِمْ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ: الضَّمِيرُ في (بَلَغُوا) لِقُرَيْشٍ، وفي ﴿ما آتَيْناهُمْ﴾ لِلْأُمَمِ (الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) . والمَعْنى: وما بَلَغَ هَؤُلاءِ بَعْضَ ما آتَيْنا أُولَئِكَ مِن طُولِ الأعْمارِ وقُوَّةِ الأجْسامِ وكَثْرَةِ الأمْوالِ، وحَيْثُ كَذَّبُوا رُسُلِي جاءَهم إنْكارِي بِالتَّدْمِيرِ والِاسْتِئْصالِ، ولَمْ يُغْنِ عَنْهم ما كانُوا فِيهِ مِنَ القُوَّةِ، فَكَيْفَ حالُ هَؤُلاءِ إذا جاءَهُمُ العَذابُ والهَلاكُ ؟ وقِيلَ: الضَّمِيرُ في (بَلَغُوا) عائِدٌ عَلى (الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)، وفي (آتَيْناهم) عَلى قُرَيْشٍ، وما بَلَغَ الأُمَمُ المُتَقَدِّمَةُ مِعْشارَ ما آتَيْنا قُرَيْشًا مِنَ الآياتِ والبَيِّناتِ والنُّورِ الَّذِي جِئْتَهم بِهِ. وأوْرَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذِهِ الأقْوالَ احْتِمالاتٍ، والزَّمَخْشَرِيُّ ذَكَرَ الثّانِيَ، وأبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ اخْتارَ الثّالِثَ، قالَ: أيِ (الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْنا قَوْمَ مُحَمَّدٍ مِنَ البُرْهانِ، وذَلِكَ لِأنَّ كِتابَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أكْمَلُ مِن سائِرِ الكُتُبِ وأوْضَحُ، ومُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أفْضَلُ مِن جَمِيعِ الرُّسُلِ وأفْصَحُ، وبُرْهانُهُ أوْفى، وبَيانُهُ أشْفى، ويُؤَيِّدُ ما ذَكَرْنا، ﴿وما آتَيْناهم مِن كُتُبٍ يَدْرُسُونَها﴾ تُغْنِي عَنِ القُرْآنِ. فَلَمّا كانَ المُؤْتى في الآيَةِ الأُولى هو الكِتابُ، حُمِلَ الإيتاءُ في الآيَةِ الثّانِيَةِ عَلى إيتاءِ الكِتابِ، وكانَ أوْلى. انْتَهى. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: فَلَيْسَ أنَّهُ أعْلَمُ مِن أُمَّتِهِ، ولا كِتابٌ أبْيَنَ مِن كِتابِهِ. والمِعْشارُ مِفْعالٌ مِنَ العُشْرِ، ولَمْ يُبْنَ عَلى هَذا الوَزْنِ مِن ألْفاظِ العَدَدِ غَيْرُهُ وغَيْرُ المِرْباعِ، ومَعْناهُما: العُشْرُ والرُّبْعُ. وقالَ قَوْمٌ: المِعْشارُ عُشْرُ العُشْرِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ. انْتَهى. وقِيلَ: والعُشْرُ في هَذا القَوْلِ عُشْرُ المُعْشَراتِ، فَيَكُونُ جُزْأً مِن ألْفِ جُزْءٍ. قالَ الماوَرْدِيُّ: وهو الأظْهَرُ؛ لِأنَّ المُرادَ بِهِ المُبالَغَةُ في التَّقْلِيلِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ما مَعْنى ﴿فَكَذَّبُوا رُسُلِي﴾، وهو مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِقَوْلِهِ ﴿وكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ ؟ قُلْتُ: لَمّا كانَ مَعْنى قَوْلِهِ ﴿وكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ وفَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمُ التَّكْذِيبَ، وأقْدَمُوا عَلَيْهِ، جُعِلَ تَكْذِيبُ الرُّسُلِ مُسَبَّبًا عَنْهُ، ونَظِيرُهُ أنْ يَقُولَ القائِلُ: أقْدَمَ فُلانٌ عَلى الكُفْرِ، فَكَفَرَ بِمُحَمَّدٍ. ويَجُوزُ أنْ يَنْعَطِفَ عَلى قَوْلِهِ (ما بَلَغُوا)، كَقَوْلِكَ: ما بَلَغَ زَيْدٌ مِعْشارَ فَضْلِ عَمْرٍو، فَيُفَضَّلَ عَلَيْهِ. ﴿فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ﴾ لِلْمُكَذِّبِينَ الأوَّلِينَ، لِيَحْذَرُوا مِن مِثْلِهِ. انْتَهى. و(فَكَيْفَ): تَعْظِيمٌ لِلْأمْرِ، ولَيْسَتِ اسْتِفْهامًا مُجَرَّدًا، وفِيهِ تَهْدِيدٌ لِقُرَيْشٍ، أيْ أنَّهم مُعَرَّضُونَ لِنَكِيرٍ مِثْلِهِ، والنَّكِيرُ مَصْدَرٌ كالإنْكارِ، وهو مِنَ المَصادِرِ الَّتِي جاءَتْ عَلى وزْنِ فَعِيلٍ، والفِعْلُ عَلى وزْنِ أفْعَلَ، كالنَّذِيرِ والعَذِيرِ مِن أنْذَرَ وأعْذَرَ، وحُذِفَتِ الياءُ مِن (نَكِيرِ) تَخْفِيفًا لِأنَّها أجْزَأتْهُ. ﴿قُلْ إنَّما أعِظُكم بِواحِدَةٍ﴾، قالَ: هي طاعَةُ اللَّهِ وتَوْحِيدُهُ. وقالَ السُّدِّيُّ: هي لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. قالَ قَتادَةُ: هي أنْ تَقُومُوا. قالَ أبُو عَلِيٍّ ﴿أنْ تَقُومُوا﴾ في مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلى البَدَلِ مِن واحِدَةٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ ﴿بِواحِدَةٍ﴾ بِخَصْلَةٍ واحِدَةٍ، وهو فَسَّرَها بِقَوْلِهِ ﴿أنْ تَقُومُوا﴾ عَلى أنَّهُ عَطْفُ بَيانٍ لَها. انْتَهى. وهَذا لا يَجُوزُ؛ لِأنَّ بِواحِدَةٍ نَكِرَةٌ، وأنْ تَقُومُوا مَعْرِفَةٌ لِتَقْدِيرِهِ قِيامُكم لِلَّهِ. وعَطْفُ البَيانِ فِيهِ مَذْهَبانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أنْ يَكُونَ مَعْرِفَةً مِن مَعْرِفَةٍ، وهو مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ، وأمّا التَّخالُفُ فَلَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ ذاهِبٌ، وإنَّما هو وهْمٌ مِن قائِلِهِ. وقَدْ رَدَّ النَّحْوِيُّونَ عَلى الزَّمَخْشَرِيِّ في قَوْلِهِ إنَّ (مَقامُ إبْراهِيمَ) عَطْفُ بَيانٍ مِن قَوْلِهِ (آياتٌ بَيِّناتٌ)، وذَلِكَ لِأجْلِ التَّحالُفِ، فَكَذَلِكَ هَذا. والظّاهِرُ أنَّ القِيامَ هُنا هو الِانْتِصابُ في الأمْرِ، والنُّهُوضُ فِيهِ بِالهِمَّةِ، لا القِيامُ الَّذِي يُرادُ بِهِ المَقُولُ عَلى القَوْلَيْنِ، ويَبْعُدُ أنْ يُرادَ بِهِ ما جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ القِيامِ عَنْ مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وتَفَرُّقِهِمْ عَنْ مُجْتَمَعِهِمْ عِنْدَهُ. والمَعْنى: إنَّما أعِظُكم بِواحِدَةٍ فِيها إصابَتُكُمُ الحَقَّ وخَلاصُكم، وهي أنْ تَقُومُوا لِوَجْهِ اللَّهِ مُتَفَرِّقِينَ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وواحِدًا واحِدًا، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في أمْرِ مُحَمَّدٍ وما جاءَ بِهِ. وإنَّما قالَ ﴿مَثْنى وفُرادى﴾؛ لِأنَّ الجَماعَةَ يَكُونُ مَعَ اجْتِماعِهِمْ تَشْوِيشُ الخاطِرِ والمَنعُ مِنَ التَّفَكُّرِ، وتَخْلِيطُ الكَلامِ، والتَّعَصُّبُ لِلْمَذاهِبِ، وقِلَّةُ الإنْصافِ، كَما هو مُشاهَدٌ في الدُّرُوسِ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيها الجَماعَةُ، فَلا (p-٢٩١)يُوقَفُ فِيها عَلى تَحْقِيقٍ. وأمّا الِاثْنانِ، إذا نَظَرا نَظَرَ إنْصافٍ، وعَرَضَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عَلى صاحِبِهِ ما ظَهَرَ لَهُ، فَلا يَكادُ الحَقُّ أنْ يَعْدُوهُما. وأمّا الواحِدُ، إذا كانَ جَيِّدَ الفِكْرِ، صَحِيحَ النَّظَرِ، عارِيًا عَنِ التَّعَصُّبِ، طالِبًا لِلْحَقِّ، فَبَعِيدٌ أنْ يَعْدُوهُ. وانْتُصِبَ ﴿مَثْنى وفُرادى﴾ عَلى الحالِ، وقُدِّمَ مَثْنى؛ لِأنَّ طَلَبَ الحَقائِقِ مِن مُتَعاضِدَيْنِ في النَّظَرِ أجْدى مِن فِكْرَةٍ واحِدَةٍ، إذا انْقَدَحَ الحَقُّ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ، فَكَرَّ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَزِيدُ بَصِيرَةً. قالَ الشّاعِرُ: ؎إذا اجْتَمَعُوا جاءُوا بِكُلِّ غَرِيبَةٍ فَيَزْدادُ بَعْضُ القَوْمِ مِن بَعْضِهِمْ عِلْما ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿أنْ تَقُومُوا﴾، فالفِكْرَةُ هُنا في حالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وفِيما نَسَبُوهُ إلَيْهِ. فَإنَّ الفِكْرَةَ تَهْدِي غالِبًا إلى الصَّوابِ إذا عُرِّيَ صاحِبُها عَمّا يُشَوِّشُ النَّظَرَ، والوَقْفُ عِنْدَ أبِي حاتِمٍ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكم مِن جِنَّةٍ﴾، نَفْيٌ مُسْتَأْنَفٌ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهو عِنْدَ سِيبَوَيْهِ جَوابُ ما يَنْزِلُ مَنزِلَةَ القَسَمِ؛ لِأنَّ (تَفَكَّرَ) مِنَ الأفْعالِ الَّتِي تُعْطِي التَّمْيِيزَ كَتَبَيَّنَ، ويَكُونُ عَلى هَذا في آياتِ اللَّهِ والإيمانِ بِهِ. انْتَهى. واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ تَتَفَكَّرُوا مُعَلَّقًا، والجُمْلَةُ المَنفِيَّةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، وهو مَحَطُّ التَّفَكُّرِ، أيْ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في انْتِفاءِ الجِنَّةِ عَلى مُحَمَّدٍ. فَإنَّ إثْباتَ ذَلِكَ لا يَصِحُّ أنْ يَتَّصِفَ بِهِ مَن كانَ أرْجَحَ قُرَيْشٍ عَقْلًا، وأثْبَتَهم ذِهْنًا، وأصْدَقَهم قَوْلًا، وأنْزَهَهم نَفْسًا، ومَن ظَهَرَ عَلى يَدَيْهِ هَذا القُرْآنُ المُعْجِزُ، فَيَعْلَمُونَ بِالفِكْرَةِ أنَّ نِسْبَتَهُ لِلْجُنُونِ لا يُمْكِنُ، ولا يَذْهَبُ إلى ذَلِكَ عاقِلٌ، وأنَّ مَن نَسَبَهُ إلى ذَلِكَ فَهو مُفْتَرٍ كاذِبٌ. والظّاهِرُ أنَّ ما لِلنَّفْيِ، كَما شَرَحْنا. وقِيلَ: ما اسْتِفْهامٌ، وهو اسْتِفْهامٌ لا يُرادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ، بَلْ يَئُولُ مَعْناهُ إلى النَّفْيِ، التَّقْدِيرُ: أيُّ شَيْءٍ بِصاحِبِكم مِنَ الجُنُونِ، أيْ لَيْسَ بِهِ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ. ولَمّا نَفى تَعالى عَنْهُ الجِنَّةَ أثْبَتَ أنَّهُ (نَذِيرٌ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) أيْ هو مُتَقَدِّمٌ في الزَّمانِ عَلى العَذابِ الَّذِي تُوُعِّدُوا بِهِ، و(بَيْنَ يَدَيْ) يُشْعِرُ بِقُرْبِ العَذابِ. ﴿قُلْ ما سَألْتُكم مِن أجْرٍ﴾ الآيَةُ في التَّبَرِّي مِن طَلَبِ الدُّنْيا، وطَلَبِ الأجْرِ عَلى النُّورِ الَّذِي أتى بِهِ، والتَّوَكُّلِ عَلى اللَّهِ فِيهِ. واحْتَمَلَتْ ما أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً، والعائِدُ مِنَ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: سَألَتْكُمُوهُ، و﴿فَهُوَ لَكُمْ﴾ الخَبَرُ. ودَخَلَتِ الفاءُ لِتَضَمُّنِ المُبْتَدَأِ مَعْنى الشَّرْطِ، واحْتَمَلَتْ أنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً مَفَعُولَةً بِسَألْتُكم، وفَهُوَ لَكم جُمْلَةٌ هي جَوابُ الشَّرْطِ. وقَوْلُهُ ﴿ما سَألْتُكم مِن أجْرٍ فَهو لَكُمْ﴾ عَلى مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: نَفْيُ مَسْألَةٍ لِلْأجْرِ، كَما يَقُولُ الرَّجُلُ لِصاحِبِهِ: إنْ أعْطَيْتَنِي شَيْئًا فَخُذْهُ، وهو يَعْلَمُ أنَّهُ لَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا، ولَكِنَّهُ أرادَ البَتَّ لِتَعْلِيقِهِ الأخْذَ بِما لَمْ يَكُنْ، ويُؤَيِّدُهُ ﴿إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى اللَّهِ﴾ . والثّانِي: أنْ يُرِيدَ بِالأجْرِ ما في قَوْلِهِ ﴿قُلْ ما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ إلّا مَن شاءَ أنْ يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٥٧]، وفي قَوْلِهِ ﴿لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ [الشورى: ٢٣]؛ لِأنَّ اتِّخاذَ السَّبِيلِ إلى اللَّهِ يُصِيبُهم ما فِيهِ نَفْعُهم، وكَذَلِكَ المَوَدَّةُ في القَرابَةِ؛ لِأنَّ القَرابَةَ قَدِ انْتَظَمَتْ وإيّاهم، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وفِيهِ بَعْضُ زِيادَةٍ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الأجْرُ: المَوَدَّةُ في القُرْبى. وقالَ قَتادَةُ ﴿فَهُوَ لَكُمْ﴾، أيْ ثَمَرَتُهُ وثَوابُهُ، لِأنِّي سَألْتُكم صِلَةَ الرَّحِمِ. وقالَ مُقاتِلٌ: تَرَكْتُهُ لَكم. ﴿وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ مُطَّلِعٌ حافِظٌ، يَعْلَمُ أنِّي لا أطْلُبُ أجْرًا عَلى نُصْحِكم ودُعائِكم إلَيْهِ إلّا مِنهُ، ولا أطْمَعُ مِنكم في شَيْءٍ. والقَذْفُ: الرَّمْيُ بِدَفْعٍ واعْتِمادٍ، ويُسْتَعارُ لِمَعْنى الإلْقاءِ لِقَوْلِهِ ﴿فاقْذِفِيهِ في اليَمِّ﴾ [طه: ٣٩]، ﴿وقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ [الأحزاب: ٢٦] . قالَ قَتادَةُ ﴿يَقْذِفُ بِالحَقِّ﴾ يُبَيِّنُ الحُجَّةَ ويُظْهِرُها. وقالَ ابْنُ القُشَيْرِيِّ: يُبَيِّنُ الحُجَّةَ بِحَيْثُ لا اعْتِراضَ عَلَيْها؛ لِأنَّهُ ﴿عَلّامُ الغُيُوبِ﴾، وأنا مُسْتَمْسِكٌ بِما يُقْذَفُ إلَيَّ مِنَ الحَقِّ. وأصْلُ القَذْفِ: الرَّمْيُ بِالسَّهْمِ، أوِ الحَصى والكَلامِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يَقْذِفُ الباطِلَ بِالحَقِّ، والظّاهِرُ أنَّ بِالحَقِّ هو المَفْعُولُ، فالحَقُّ هو المَقْذُوفُ مَحْذُوفًا، أيْ يَقْذِفُ، أيْ يُلْقِي ما يُلْقِي إلى أنْبِيائِهِ مِنَ الوَحْيِ والشَّرْعِ بِالحَقِّ لا بِالباطِلِ، فَتَكُونُ الباءُ إمّا لِلْمُصاحَبَةِ، وإمّا لِلسَّبَبِ، ويُؤَيِّدُ هَذا (p-٢٩٢)الِاحْتِمالَ كَوْنُ (قَذَفَ) مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، فَإذا جَعَلْتَ بِالحَقِّ هو المَفْعُولَ، كانَتِ الباءُ زائِدَةً في مَوْضِعٍ لا تَطَّرِدُ زِيادَتُها. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (عَلّامُ) بِالرَّفْعِ، فالظّاهِرُ أنَّهُ خَبَرٌ ثانٍ، وهو ظاهِرُ قَوْلِ الزَّجّاجِ، قالَ: هو رَفْعٌ؛ لِأنَّ التَّأْوِيلَ قُلْ: رَبِّ عَلّامُ الغُيُوبِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: رَفْعٌ مَحْمُولٌ عَلى مَحَلِّ إنَّ واسْمِها، أوْ عَلى المُسْتَكِنِّ في يَقْذِفُ، أوْ هو خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. انْتَهى. أمّا الحَمْلُ عَلى مَحَلِّ إنَّ واسْمِها فَهو غَيْرُ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، ولَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَ أصْحابِنا عَلى ما قَرَّرْناهُ في كُتُبِ النَّحْوِ. وأمّا قَوْلُهُ عَلى المُسْتَكِنِّ في يَقْذِفُ، فَلَمْ يُبَيِّنْ وجْهَ حَمْلِهِ، وكَأنَّهُ يُرِيدُ أنَّهُ بَدَلٌ مِن ضَمِيرِ يَقْذِفُ. وقالَ الكِسائِيُّ: هو نَعْتٌ لِذَلِكَ الضَّمِيرِ؛ لِأنَّ مَذْهَبَهُ جَوازُ نَعْتِ المُضْمَرِ الغائِبِ. وقَرَأ عِيسى، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وأبُو حَيْوَةَ، وحَرْبٌ عَنْ طَلْحَةَ: (عَلّامَ) بِالنَّصْبِ؛ فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صِفَةٌ لِرَبِّي. وقالَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ: بَدَلٌ. وقالَ الحَوْفِيُّ: بَدَلٌ أوْ صِفَةٌ؛ وقِيلَ: نُصِبَ عَلى المَدْحِ. وقُرِئَ: (الغُيُوبِ) بِالجَرِّ، أمّا الضَّمُّ فَجَمْعُ غَيْبٍ، وأمّا الكَسْرُ فَكَذَلِكَ اسْتَثْقَلُوا ضَمَّتَيْنِ والواوَ فَكُسِرَ، والتَّناسُبُ الكَسْرُ مَعَ الياءِ والضَّمَّةُ الَّتِي عَلى الياءِ مَعَ الواوِ؛ وأمّا الفَتْحُ فَمَفْعُولٌ لِلْمُبالَغَةِ، كالصَّبُورِ، وهو الشَّيْءُ الَّذِي غابَ وخَفِيَ جِدًّا. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ يَقْذِفُ بِالحَقِّ بِصِيغَةِ المُضارِعِ، أخْبَرَ أنَّ الحَقَّ قَدْ جاءَ، وهو القُرْآنُ والوَحْيُ، وبَطَلَ ما سِواهُ مِنَ الأدْيانِ، فَلَمْ يَبْقَ لِغَيْرِ الإسْلامِ ثَباتٌ، لا في بَدْءٍ ولا في عاقِبَةٍ، فَلا يُخافُ عَلى الإسْلامِ ما يُبْطِلُهُ، كَما قالَ ﴿لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِن خَلْفِهِ﴾ [فصلت: ٤٢] . وقالَ قَتادَةُ: الباطِلُ: الشَّيْطانُ، لا يَخْلُقُ شَيْئًا ولا يَبْعَثُهُ. وقالَ الضَّحّاكُ: الأصْنامُ لا تَفْعَلُ ذَلِكَ. وقالَ أبُو سُلَيْمانَ: لا يَبْتَدِئُ الصَّنَمُ مِن عِنْدِهِ كَلامًا فَيُجابُ، ولا يَرُدُّ ما جاءَ مِنَ الحَقِّ بِحُجَّةٍ. وقِيلَ: الباطِلُ: الَّذِي يُضادُّ الحَقَّ، فالمَعْنى: ذَهَبَ الباطِلُ بِمَجِيءِ الحَقِّ، فَلَمْ يَبْقى مِنهُ بَقِيَّةٌ، وذَلِكَ أنَّ الجائِيَ إذا هَلَكَ لَمْ يَبْقَ لَهُ إبْداءٌ ولا إعادَةٌ، فَصارَ قَوْلُهم: لا يُبْدِي ولا يُعِيدُ، مَثَلًا في الهَلاكِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎أفْقَرُ مِن أُهَيْلِهِ عَبِيدٌ ∗∗∗ فاليَوْمَ لا يُبْدِي ولا يُعِيدُ والظّاهِرُ أنَّ ما نَفْيٌ، وقِيلَ: اسْتِفْهامٌ ومَآلُهُ إلى النَّفْيِ، كَأنَّهُ قالَ: أيُّ شَيْءٍ يُبْدِئُ الباطِلَ، أيْ إبْلِيسُ، ويُعِيدُهُ، قالَهُ الزَّجّاجُ وفِرْقَةٌ مَعَهُ. وعَنِ الحَسَنِ: لا يُبْدِئُ، أيْ إبْلِيسُ، لِأهْلِهِ خَيْرًا، ولا يُعِيدُهُ: أيْ لا يَنْفَعُهم في الدُّنْيا والآخِرَةِ. وقِيلَ: الشَّيْطانُ: الباطِلُ؛ لِأنَّهُ صاحِبُ الباطِلِ؛ لِأنَّهُ هالِكٌ، كَما قِيلَ لَهُ الشَّيْطانُ مِن شاطَ إذا هَلَكَ. وقِيلَ: الحَقُّ: السَّيْفُ. عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ مَكَّةَ، وحَوْلَ الكَعْبَةِ ثَلاثُمِائَةٍ وسِتُّونَ صَنَمًا، فَجَعَلَ يَطْعَنُها بِعُودِ نَبْقَةٍ ويَقُولُ: ”﴿جاءَ الحَقُّ وزَهَقَ الباطِلُ إنَّ الباطِلَ كانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: ٨١]، ﴿جاءَ الحَقُّ وما يُبْدِئُ الباطِلُ وما يُعِيدُ﴾“ . وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿قُلْ إنْ ضَلَلْتُ﴾، بِفَتْحِ اللّامِ، ﴿فَإنَّما أضِلُّ﴾، بِكَسْرِ الضّادِ. وقَرَأ الحَسَنُ، وابْنُ وثّابٍ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ المُقْرِيُّ: بِكَسْرِ اللّامِ وفَتْحِ الضّادِ، وهي لُغَةُ تَمِيمٍ، وكَسَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَمْزَةَ (أضِلُّ) . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لُغَتانِ نَحْوُ: ضَلَلْتُ أضِلُّ، وظَلَلْتُ أظِلُّ. ﴿وإنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إلَيَّ رَبِّي﴾، وأنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أيْ فَبِوَحْيِ رَبِّي. والتَّقابُلُ اللَّفْظِيُّ: وإنِ اهْتَدَيْتُ فَإنَّما أهْتَدِي لَها، كَما قالَ ﴿ومَن أساءَ فَعَلَيْها﴾ [فصلت: ٤٦]، مُقابِلُ ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾ [فصلت: ٤٦]، ﴿ومَن ضَلَّ فَإنَّما يَضِلُّ عَلَيْها﴾ [يونس: ١٠٨]، مُقابِلُ ﴿فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ﴾ [الزمر: ٤١]، أوْ يُقالُ: فَإنَّما أضِلُّ بِنَفْسِي. وأمّا في الآيَةِ فالتَّقابُلُ مَعْنَوِيٌّ؛ لِأنَّ النَّفْسَ كُلُّ ما عَلَيْها فَهو لَها، أيْ كُلُّ وبالٍ عَلَيْها فَهو بِسَبَبِها. ﴿إنَّ النَّفْسَ لَأمّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف: ٥٣] وما لَها مِمّا يَنْفَعُها فَبِهِدايَةِ رَبِّها وتَوْفِيقِهِ، وهَذا حُكْمٌ عامٌّ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ. وأمَرَ رَسُولَهُ أنْ يُسْنِدَهُ إلى نَفْسِهِ؛ لِأنَّهُ إذا دَخَلَ تَحْتَهُ مَعَ جَلالَةِ مَحَلِّهِ وسِرِّ طَرِيقَتِهِ كَما غَيْرُهُ أوْلى بِهِ. انْتَهى، وهو مِن كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. ﴿إنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾، يُدْرِكُ قَوْلَ كُلِّ ضالٍّ ومُهْتَدٍ وفِعْلَهُ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ ﴿ولَوْ تَرى إذْ فَزِعُوا﴾، أنَّهُ وقْتُ البَعْثِ وقِيامِ السّاعَةِ، وكَثِيرًا جاءَ: (p-٢٩٣)﴿ولَوْ تَرى إذْ وُقِفُوا عَلى النّارِ﴾ [الأنعام: ٢٧]، ﴿ولَوْ تَرى إذِ المُجْرِمُونَ ناكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [السجدة: ١٢]، وكُلُّ ذَلِكَ في يَوْمِ القِيامَةِ؛ وعَبَّرَ بِفَزِعُوا، وأُخِذُوا، وقالُوا؛ وحِيَلَ بِلَفْظِ الماضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ بِالخَبَرِ الصّادِقِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والضَّحّاكُ: هَذا في عَذابِ الدُّنْيا. وقالَ الحَسَنُ: في الكُفّارِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ القُبُورِ. وقالَ مُجاهِدٌ: يَوْمَ القِيامَةِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ، والسُّدِّيُّ: في أهْلِ بَدْرٍ حِينَ ضُرِبَتْ أعْناقُهم، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا فِرارًا مِنَ العَذابِ، ولا رُجُوعًا إلى التَّوْبَةِ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وابْنُ أبِي أبْزى: في جَيْشٍ لِغَزْوِ الكَعْبَةِ، فَيُخْسَفُ بِهِمْ في بَيْداءَ مِنَ الأرْضِ، ولا يَنْجُو إلّا رَجُلٌ مِن جُهَيْنَةَ، فَيُخْبِرُ النّاسَ بِما نالَهُ، قالُوا، ولَهُ قِيلَ: وعِنْدَ جُهَيْنَةَ الخَبَرُ اليَقِينُ ورُوِيَ في هَذا المَعْنى حَدِيثٌ مُطَوَّلٌ عَنْ حُذَيْفَةَ. وذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أنَّهُ ضَعِيفُ السَّنَدِ، مَكْذُوبٌ فِيهِ عَلى رِوايَةِ ابْنِ الجَرّاحِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ في خَسْفِ البَيْداءِ، وذَلِكَ أنَّ ثَمانِينَ ألْفًا يَغْزُونَ الكَعْبَةَ لِيُخْرِبُوها، فَإذا دَخَلُوا البَيْداءَ خُسِفَ بِهِمْ. وذُكِرَ في حَدِيثِ حُذَيْفَةَ أنَّهُ «تَكُونُ فِتْنَةٌ بَيْنَ أهْلِ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، فَبَيْنَما هم كَذَلِكَ، إذْ خَرَجَ السُّفْيانِيُّ مِنَ الوادِي اليابِسِ في فَوْرِهِ، ذَلِكَ حِينَ يَنْزِلُ دِمَشْقَ، فَيَبْعَثُ جَيْشًا إلى المَدِينَةِ فَيَنْتَهِبُونَها ثَلاثَةَ أيّامٍ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ إلى مَكَّةَ فَيَأْتِيهِمْ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَيَضْرِبُها، أيِ الأرْضَ، بِرِجْلِهِ ضَرْبَةً، فَيَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ في بَيْداءَ مِنَ الأرْضِ، ولا يَنْجُو إلّا رَجُلٌ مِن جُهَيْنَةَ، فَيُخْبِرُ النّاسَ بِما نالَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿فَلا فَوْتَ﴾»، ولا يَتَفَلَّتُ مِنهم إلّا رَجُلانِ مِن جُهَيْنَةَ، ولِذَلِكَ جَرى المَثَلُ: ”وعِنْدَ جُهَيْنَةَ الخَبَرُ اليَقِينُ“، اسْمُ أحَدِهِما بَشِيرٌ، يُبَشِّرُ أهْلَ مَكَّةَ، والآخَرِ نَذِيرٌ، يَنْقَلِبُ بِخَبَرِ السُّفْيانِيِّ. وقِيلَ: لا يَنْقَلِبُ إلّا رَجُلٌ واحِدٌ يُسَمّى ناجِيَةَ مِن جُهَيْنَةَ، يَنْقَلِبُ وجْهُهُ إلى قَفاهُ. ومَفْعُولُ تَرى مَحْذُوفٌ، أيْ ولَوْ تَرى الكُفّارَ إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ، أيْ لا يَفُوتُونَ اللَّهَ، ولا يَهْرُبُ لَهم عَنْما يُرِيدُ بِهِمْ. وقالَ الحَسَنُ: فَلا فَوْتَ مِن صَيْحَةِ النُّشُورِ، وأُخِذُوا مِن بَطْنِ الأرْضِ إلى ظَهْرِها. انْتَهى. أوْ مِنَ المَوْقِفِ إلى النّارِ إذا بُعِثُوا، أوْ مِن ظَهْرِ الأرْضِ إلى بَطْنِها إذا ماتُوا، أوْ مِن صَحْراءِ بَدْرٍ إلى القَلِيبِ، أوْ مِن تَحْتِ أقْدامِهِمْ إذا خُسِفَ بِهِمْ، وهَذِهِ أقْوالٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى تِلْكَ الأقْوالِ السّابِقَةِ في عَوْدِ الضَّمِيرِ في فَزِعُوا. ووَصْفُ المَكانِ بِالقُرْبِ مِن حَيْثُ قُدْرَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَحَيْثُ ما كانُوا هو قَرِيبٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿فَلا فَوْتَ﴾، مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، ﴿وأُخِذُوا﴾ فِعْلًا ماضِيًا، والظّاهِرُ عَطْفُهُ عَلى ﴿فَزِعُوا﴾، وقِيلَ: عَلى ﴿فَلا فَوْتَ﴾؛ لِأنَّ مَعْناهُ فَلا يُفَوَّتُوا وأُخِذُوا. وقَرَأ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَوْلى بَنِي هاشِمٍ عَنْ أبِيهِ، وطَلْحَةُ؛ فَلا فَوْتٌ، وأخْذٌ مَصْدَرَيْنِ مُنَوَّنَيْنِ. وقَرَأ أُبَيٌّ: فَلا فَوْتَ مَبْنِيًّا، (وأخْذٌ) مَصْدَرًا مُنَوَّنًا، ومَن رَفَعَ (وأخْذٌ) فَخَبَرُ مُبْتَدَأٍ، أيْ وحالُهُما أخْذٌ أوْ مُبْتَدَأٌ، أيْ وهُناكَ أخْذٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقُرِئَ: وأخْذٌ، وهو مَعْطُوفٌ عَلى مَحَلِّ فَلا فَوْتَ، ومَعْناهُ: فَلا فَوْتَ هُناكَ، وهُناكَ أخْذٌ. انْتَهى. كَأنَّهُ يَقُولُ: لا فَوْتَ مَجْمُوعٌ لا، والمَبْنِيُّ مَعَها في مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ، وخَبَرُهُ هُناكَ، فَكَذَلِكَ (وأخْذٌ) مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ هُناكَ، فَهو مِن عَطْفِ الجُمَلِ، وإنْ كانَتْ إحْداهُما تَضَمَّنَتِ النَّفْيَ والأُخْرى تَضَمَّنَتِ الإيجابَ. والضَّمِيرُ في بِهِ عائِدٌ عَلى اللَّهِ، قالَهُ مُجاهِدٌ، أيْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عِنْدَما يَرَوْنَ العَذابَ. وقالَ الحَسَنُ: عَلى البَعْثِ. وقالَ مُقاتِلٌ: عَلى القُرْآنِ. وقِيلَ: عَلى العَذابِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ: عَلى الرَّسُولِ، لِمُرُورِ ذِكْرِهِ في قَوْلِهِ ﴿ما بِصاحِبِكم مِن جِنَّةٍ﴾ . ﴿وأنّى لَهُمُ التَّناوُشُ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: التَّناوُشُ: الرُّجُوعُ إلى الدُّنْيا، وأنْشَدَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: ؎تَمَنّى أنْ تَئُوبَ إلَيَّ مَيُّ ∗∗∗ ولَيْسَ إلى تَناوُشِها سَبِيلُ أيْ: تَتَمَنّى، وهَذا تَمْثِيلٌ لِطَلَبِهِمْ ما لا يَكُونُ، وهو أنْ يَنْفَعَهم إيمانُهم في ذَلِكَ الوَقْتِ، كَما يَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ إيمانُهم في الدُّنْيا. مُثِّلَ حالُهم بِحالِ مَن يُرِيدُ أنْ يَتَناوَلَ الشَّيْءَ مِن بُعْدٍ، كَما يَتَناوَلُهُ الآخَرُ مِن قُرْبٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: التَّناوُشُ بِالواوِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ. وأبُو عَمْرٍو، وأبُو بَكْرٍ: بِالهَمْزِ، ويَجُوزُ أنْ (p-٢٩٤)يَكُونا مادَّتَيْنِ، إحْداهُما النُّونُ والواوُ والشِّينُ، والأُخْرى والهَمْزَةُ والشِّينُ، وتَقَدَّمَ شَرْحُهُما في المُفْرَداتِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أصْلُ الهَمْزَةِ الواوَ، عَلى ما قالَهُ الزَّجّاجُ، وتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ والحَوْفِيُّ وأبُو البَقاءِ، وقالَ الزَّجّاجُ: كُلُّ واوٍ مَضْمُومَةٍ ضَمَّةً لازِمَةً، فَأنْتَ فِيها بِالخِيارِ، إنْ شِئْتَ تُثْبِتُ هَمْزَتَها، وإنْ شِئْتَ تَرَكْتَ هَمْزَتَها. تَقُولُ: ثَلاثُ أدْوُرٍ بِلا هَمْزٍ، وأدْؤُرٍ بِالهَمْزِ. قالَ: والمَعْنى: مِن أنّى لَهم تَناوَلُ ما طَلَبُوهُ مِنَ التَّوْبَةِ بَعْدَ فَواتِ وقْتِها؛ لِأنَّها إنَّما تُقْبَلُ في الدُّنْيا، وقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيا فَصارَتْ عَلى بُعْدٍ مِنَ الآخِرَةِ، وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمِزَتِ الواوُ المَضْمُومَةُ كَما هُمِزَتْ في أُجُوهٍ وأُدُورٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وأمّا التَّناؤُشُ بِالهَمْزِ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِنَ التَّناوُشِ، وهُمِزَتِ الواوُ لَمّا كانَتْ مَضْمُومَةً ضَمَّةً لازِمَةً، كَما قالُوا: أفْتَيْتُ. وقالَ الحَوْفِيُّ: ومَن هَمَزَ احْتَمَلَ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ مِنَ النّاشِ، وهو الحَرَكَةُ في إبْطاءٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن ناشَ يَنُوشُ، هُمِزَتِ الواوُ لِانْضِمامِها، كَما هُمِزَتِ أفْتَيْتُ وأدْوُرُ. وقالَ أبُو البَقاءِ: ويُقْرَأُ بِالهَمْزِ مِن أجْلِ الواوِ، وقِيلَ: هي أصْلٌ مِن ناشَهُ. انْتَهى. وما ذَكَرُوهُ مِن أنَّ الواوَ إذا كانَتْ مَضْمُومَةً ضَمَّةً لازِمَةً يَجُوزُ أنْ تُبْدَلَ هَمْزَةً، لَيْسَ عَلى إطْلاقِهِ، بَلْ لا يَجُوزُ ذَلِكَ في المُتَوَسِّطَةِ إذا كانَ مُدْغَمَةً فِيها، ونَحْوُ يَعُودُ وتَعُوذُ مَصْدَرَيْنِ؛ ولا إذا صَحَّتْ في الفِعْلِ نَحْوُ: تَرَهْوَكَ تَرَهْوُكًا، وتَعاوَنَ تَعاوُنًا، ولَمْ يَسْمَعْ هَمْزَتَيْنِ مِن ذَلِكَ، فَلا يَجُوزُ. والتَّناوُشُ مِثْلُ التَّعاوُنِ، فَلا يَجُوزُ هَمْزُهُ؛ لِأنَّ واوَهُ قَدْ صَحَّتْ في الفِعْلِ، إذْ يَقُولُ: تَناوَشَ. ﴿وقَدْ كَفَرُوا بِهِ﴾ الضَّمِيرُ في بِهِ عائِدٌ عَلى ما عادَ عَلَيْهِ (آمَنّا بِهِ) عَلى الأقْوالِ، والجُمْلَةُ حالِيَّةٌ، و(مِن قَبْلُ) نُزُولِ العَذابِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (ويَقْذِفُونَ) مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، حِكايَةَ حالٍ مُتَقَدِّمَةٍ. قالَ الحَسَنُ: قَوْلُهم لا جَنَّةَ ولا نارَ، وزادَ قَتادَةُ: ولا بَعْثَ ولا نارَ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: طاعِنِينَ في القُرْآنِ بِقَوْلِهِمْ ﴿أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ [الأنعام: ٢٥] . وقالَ مُجاهِدٌ في الرَّسُولِ ﷺ بِقَوْلِهِمْ: شاعِرٌ وساحِرٌ وكاهِنٌ. ﴿مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ أيْ في جِهَةٍ بَعِيدَةٍ؛ لِأنَّ نِسْبَتَهُ إلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ مِن أبْعَدِ الأشْياءِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهَذا تَكَلُّمٌ بِالغَيْبِ والأمْرِ الخَفِيِّ؛ لِأنَّهم لَمْ يُشاهِدُوا مِنهُ سِحْرًا ولا شِعْرًا ولا كَذِبًا، وقَدْ أتَوْا بِهَذا الغَيْبِ مِن جِهَةٍ بَعِيدَةٍ مِن حالِهِ؛ لِأنَّ أبْعَدَ شَيْءٍ مِمّا جاءَ بِهِ الشِّعْرُ والسِّحْرُ، وأبْعَدُ شَيْءٍ مِن عادَتِهِ الَّتِي عُرِفَتْ بَيْنَهم وجُرِّبَتِ الكَذِبُ والزُّورُ. انْتَهى. وقِيلَ: هو مُسْتَأْنَفٌ، أيْ يَتَلَفَّظُونَ بِكَلِمَةِ الإيمانِ حِينَ لا يَنْفَعُ نَفْسَها إيمانُها، فَمُثِّلَتْ حالَهم في طَلَبِهِمْ تَحْصِيلِ ما عَطَّلُوهُ مِنَ الإيمانِ في الدُّنْيا بِقَوْلِهِمْ: آمَنّا في الآخِرَةِ، وذَلِكَ مَطْلَبٌ مُسْتَبْعَدٌ مِمَّنْ يَقْذِفُ شَيْئًا مِن مَكانٍ بَعِيدٍ لا مَجالَ لِلنَّظَرِ في لُحُوقِهِ، حَيْثُ يُرِيدُ أنْ يَقَعَ فِيهِ لِكَوْنِهِ غائِبًا عَنْهُ بَعِيدًا. والغَيْبُ: الشَّيْءُ الغائِبُ. وقَرَأ مُجاهِدٌ، وأبُو حَيْوَةَ، ومَحْبُوبٌ عَنْ أبِي عَمْرٍو: ويُقْذَفُونَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. قالَ مُجاهِدٌ: ويَرْجُمُهم بِما يَكْرَهُونَ مِنَ السَّماءِ. وقالَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ: يُرْمُونَ بِالغَيْبِ مِن حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، ومَعْناهُ: يُجازَوْنَ بِسُوءِ أعْمالِهِمْ، ولا عِلْمَ لَهم بِما أتاهُ، إمّا في حالِ تَعَذُّرِ التَّوْبَةِ عِنْدَ مُعايَنَةِ المَوْتِ، وإمّا في الآخِرَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ يَأْتِيهِمْ بِهِ، يَعْنِي بِالغَيْبِ، شَياطِينُهم ويُلَقِّنُونَهم إيّاهم. وقِيلَ: يُرْمُونَ في النّارِ؛ وقِيلَ: هو مَثَلٌ؛ لِأنَّ مَن يُنادى مِن مَكانٍ بَعِيدٍ لا يَسْمَعُ، أيْ هم لا يَعْقِلُونَ ولا يَسْمَعُونَ. ﴿وحِيلَ بَيْنَهُمْ﴾، قالَ الحَوْفِيُّ: الظَّرْفُ قائِمٌ مَقامَ اسْمِ ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ. انْتَهى. ولَوْ كانَ عَلى ما ذَكَرَ، لَكانَ مَرْفُوعًا بَيْنَهم، كَقِراءَةِ مَن قَرَأ: (لَقَدْ تَّقَطَّعَ بَيْنَكم) في أحَدِ المَعْنَيْنِ، لا يُقالُ لِما أُضِيفَ إلى مَبْنِيٍّ وهو الضَّمِيرُ بَنى، فَهو في مَوْضِعِ رَفْعٍ، وإنْ كانَ مَبْنِيًّا. كَما قالَ بَعْضُهم في قَوْلِهِ: وإذْ ما مَثَّلَهم، يُشِيرُ إلى أنَّهُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ لِإضافَتِهِ إلى الضَّمِيرِ، وإنْ كانَ مَفْتُوحًا؛ لِأنَّهُ قَوْلٌ فاسِدٌ. يَجُوزُ أنْ تَقُولَ: مَرَرْتُ بِغُلامَكَ، وقامَ غُلامَكَ بِالفَتْحِ، وهَذا لا يَقُولُهُ أحَدٌ. والبِناءُ لِأجْلِ الإضافَةِ إلى المَبْنِيِّ لَيْسَ مُطْلَقًا، بَلْ لَهُ مَواضِعُ أُحْكِمَتْ في (p-٢٩٥)النَّحْوِ، وما يَقُولُ قائِلٌ ذَلِكَ فَيَقُولُ الشّاعِرُ: وقَدْ حِيلَ بَيْنَ العِيرِ والنَّزَوانِ فَإنَّهُ نَصَبَ بَيْنَ، وهي مُضافَةٌ إلى مُعْرَبٍ، وإنَّما يَخْرُجُ ما ورَدَ مِن نَحْوِ هَذا عَلى أنَّ القائِمَ مَقامَ الفاعِلِ هو ضَمِيرُ المَصْدَرِ الدّالُّ عَلَيْهِ، وحِيلَ هو، أيِ الحَوْلُ، ولِكَوْنِهِ أُضْمِرَ لَمْ يَكُنْ مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا، فَجازَ أنْ يُقامَ مَقامَ الفاعِلِ، وعَلى ذَلِكَ يَخْرُجُ قَوْلُ الشّاعِرِ: وقالَتْ مَتى يُبْخَلْ عَلَيْكَ ويُعْتَلَلْ بِسُوءٍ وإنْ يُكْشَفْ غَرامُكَ تَدْرُبِ أيْ: ويَعْتَلِلُ هو، أيِ الِاعْتِلالُ. والَّذِي يَشْتَهُونَ الرُّجُوعَ إلى الدُّنْيا، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ؛ أوِ الأهْلُ والمالُ والوَلَدُ، قالَهُ السُّدِّيُّ؛ أوْ بَيْنَ الجَيْشِ وتَخْرِيبِ الكَعْبَةِ، أوْ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ، أوْ بَيْنَ النَّجاةِ مِنَ العَذابِ، أوْ بَيْنَ نَعِيمِ الدُّنْيا ولَذَّتِها، قالَهُ مُجاهِدٌ أيْضًا. (كَما فُعِلَ بِأشْياعِهِمْ)، مِن كَفَرَةِ الأُمَمِ، أيْ حِيلَ بَيْنَهم وبَيْنَ مُشْتَهَياتِهِمْ. و(مِن قَبْلُ) يَصِحُّ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا (بِأشْياعِهِمْ)، أيْ مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَتِهِ مِمَّنْ قَبْلُ، أيْ في الزَّمانِ الأوَّلِ. ويَتَرَجَّحُ بِأنَّ ما يُفْعَلُ بِجَمِيعِهِمْ إنَّما هو في وقْتٍ واحِدٍ، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ إذا كانَتِ الحَيْلُولَةُ في الدُّنْيا. وقالَ الضَّحّاكُ: أشْياعُهم أصْحابُ الفِيلِ، يَعْنِي أشْياعَ قُرَيْشٍ، وكَأنَّهُ أخْرَجَهُ مُخْرَجَ التَّمْثِيلِ. وأمّا التَّخْصِيصُ، فَلا دَلِيلَ عَلَيْهِ. (إنَّهم كانُوا في شَكٍّ مُرِيبٍ) يَعْنِي في الدُّنْيا، (ومُرِيبٍ) اسْمُ فاعِلٍ مِن أرابَ الرَّجُلُ: أتى بِرِيبَةٍ ودَخَلَ فِيها، وأرَبْتُ الرَّجُلَ: أوْقَعْتَهُ في رِيبَةٍ، ونِسْبَةُ الإرابَةِ إلى الشَّكِّ مَجازٌ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إلّا أنَّ بَيْنَهُما فَرْقًا، وهو أنَّ المُرِيبَ مِنَ المُتَعَدِّي مَنقُولٌ مِمَّنْ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ مُرِيبًا مِنَ الأعْيانِ إلى المَعْنى، ومِنَ اللّازِمِ مَنقُولٌ مِن صاحِبِ الشَّكِّ إلى الشَّكِّ، كَما تَقُولُ: شِعْرُ شاعِرٍ. انْتَهى، وفِيهِ بَعْضُ تَبْيِينٍ. قِيلَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أرْدَفَهُ عَلى الشَّكِّ، وهُما بِمَعْنًى لِتَناسُقِ آخِرِ الآيَةِ بِالَّتِي قَبْلَها مِن مَكانٍ قَرِيبٍ، كَما تَقُولُ: عَجَبٌ عَجِيبٌ، وشِتاءٌ شاتٍ، ولَيْلَةٌ لَيْلاءُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الشَّكُّ المُرِيبُ أقْوى ما يَكُونُ مِنَ الشَّكِّ وأشَدُّهُ إظْلامًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب