الباحث القرآني

﴿قُلْ لا تُسْألُونَ عَمّا أجْرَمْنا﴾ هَذا أدْخَلُ في الإنْصافِ وأبْلَغُ مِنَ الأوَّلِ، وأكْثَرُ تَلَطُّفًا واسْتِدْراجًا، حَيْثُ سَمّى فِعْلَهُ جُرْمًا، كَما يَزْعُمُونَ، مَعَ أنَّهُ مُثابٌ مَشْكُورٌ. وسَمّى فِعْلَهم عَمَلًا، مَعَ أنَّهُ مَزْجُورٌ عَنْهُ مَحْظُورٌ. وقَدْ يُرادُ بِأجْرَمْنا نِسْبَةُ ذَلِكَ إلى المُؤْمِنِينَ دُونَ الرَّسُولِ، وذَلِكَ ما لا يَكادُ يَخْلُو المُؤْمِنُ مِنهُ مِنَ الصَّغائِرِ، والَّذِي تَعْمَلُونَ هو الكُفْرُ وما دُونَهُ مِنَ المَعاصِي الكَبائِرُ. قِيلَ: وهَذِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا﴾ أيْ يَوْمَ القِيامَةِ، ﴿ثُمَّ يَفْتَحُ﴾ أيْ يَحْكُمُ، (بِالحَقِّ) بِالعَدْلِ، فَيُدْخِلُ المُؤْمِنِينَ الجَنَّةَ والكُفّارَ النّارَ. ﴿وهُوَ الفَتّاحُ﴾ الحاكِمُ الفاصِلُ، (العَلِيمُ) بِأعْمالِ العِبادِ. والفَتّاحُ والعَلِيمُ صِيغَتا مُبالَغَةٍ، وهَذا فِيهِ تَهْدِيدٌ وتَوْبِيخٌ. تَقُولُ لِمَن نَصَحْتَهُ وخَوَّفْتَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ: سَتَرى سُوءَ عاقِبَةِ الأمْرِ. وقَرَأ عِيسى: الفاتِحُ اسْمُ فاعِلٍ، والجُمْهُورُ: الفَتّاحُ. ﴿قُلْ أرُونِيَ الَّذِينَ ألْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ﴾ الظّاهِرُ أنْ أرى هُنا بِمَعْنى أعْلَمَ، فَيَتَعَدّى إلى ثَلاثَةٍ: الضَّمِيرُ لِلْمُتَكَلِّمِ هو الأوَّلُ، والَّذِينَ الثّانِي، و(شُرَكاءَ) الثّالِثُ، أيْ أرُونِي بِالحُجَّةِ والدَّلِيلِ كَيْفَ وجْهُ الشِّرْكَةِ، وهَلْ يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ أوْ يَرْزُقُونَكم ؟ وقِيلَ: هي رُؤْيَةُ بَصَرٍ، و(شُرَكاءَ) نُصِبَ عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المَحْذُوفِ في ألْحَقْتُمْ، إذْ تَقْدِيرُهُ: ألْحَقْتُمُوهم بِهِ في حالِ تَوَهُّمِهِ شُرَكاءَ لَهُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ اسْتِدْعاءَ رُؤْيَةِ العَيْنِ في هَذا لا غِناءَ لَهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ما مَعْنى قَوْلِهِ: أرُونِي، وكانَ يَراهم ويَعْرِفُهم ؟ قُلْتُ: أرادَ بِذَلِكَ أنْ يُرِيَهُمُ الخَطَأ العَظِيمَ في إلْحاقِ الشُّرَكاءِ بِاللَّهِ، وأنْ يُقايِسَ عَلى أعْيُنِهِمْ بَيْنَهُ وبَيْنَ أصْنامِهِمْ، لِيُطْلِعَهم عَلى حالَةِ القِياسِ إلَيْهِ والإشْراكِ بِهِ. و(كَلّا) رَدْعٌ لَهم عَنْ مَذْهَبِهِمْ بَعْدَ ما كَسَرَهُ بِإبْطالِ المُقايَسَةِ، كَما قالَ إبْراهِيمُ ﴿أُفٍّ لَكم ولِما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [الأنبياء: ٦٧]، بَعْدَ ما حَجَّهم، وقَدْ نَبَّهَ عَلى تَفاحُشِ غَلَطِهِمْ، وأنْ يُقَدِّرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ بِقَوْلِهِ ﴿هُوَ اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾، كَأنَّهُ قالَ: أيِ الَّذِينَ ألْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ مِن هَذِهِ الصِّفاتِ ؟ وهو راجِعٌ إلى اللَّهِ وحْدَهُ، أوْ هو ضَمِيرُ الشَّأْنِ كَما في قَوْلِهِ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١] . انْتَهى. وقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ؛ لِأنَّ اسْتِدْعاءَ رُؤْيَةِ العَيْنِ في هَذا لا غِناءَ لَهُ، أيْ لا نَفْعَ لَهُ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلْ في ذَلِكَ تَبْكِيتٌ لَهم وتَوْبِيخٌ، ولا يُرِيدُ حَقِيقَةَ الأمْرِ، بَلِ المَعْنى: أنَّ الَّذِينَ هم شُرَكاءُ اللَّهِ عَلى زَعْمِكم، هم مِمَّنْ إنْ أرَيْتُمُوهُمُ افْتَضَحْتُمْ؛ لِأنَّهم خَشَبٌ وحَجَرٌ وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الحِجارَةِ والجَمادِ، كَما تَقُولُ لِلرَّجُلِ الخَسِيسِ الأصْلِ: اذْكُرْ لِي أباكَ الَّذِي قايَسْتَ بِهِ فُلانًا الشَّرِيفَ ولا تُرِيدُ حَقِيقَةَ الذِّكْرِ، وإنَّما أرَدْتَ (p-٢٨١)تَبْكِيتَهُ، وأنَّهُ إنْ ذَكَرَ أباهُ افْتَضَحَ. و(كافَّةً) اسْمُ فاعِلٍ مِن كَفَّ، وقِيلَ: مَصْدَرٌ كالعاقِبَةِ والعافِيَةِ، فَيَكُونُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ إلّا ذا كافَّةٍ، أيْ ذا كَفٍّ لِلنّاسِ، أيْ مَنعٍ لَهم مِنَ الكُفْرِ، أوْ ذا مَنعٍ مِن أنْ يَشِذُّوا عَنْ تَبْلِيغِكَ. وإذا كانَ اسْمَ فاعِلٍ، فَقالَ الزَّجّاجُ وغَيْرُهُ: هو حالٌ مِنَ الكافِ في (أرْسَلْناكَ)، والمَعْنى: إلّا جامِعًا لِلنّاسِ في الإبْلاغِ، والكافَّةُ بِمَعْنى الجامِعِ، والهاءُ فِيهِ لِلْمُبالَغَةِ، كَهي في عَلّامَةٍ وراوِيَةٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إلّا إرْسالَةً عامَّةً لَهم مُحِيطَةً بِهِمْ؛ لِأنَّها إذا شَمِلَتْهم فَقَدْ كَفَتْهم أنْ يَخْرُجَ مِنها أحَدٌ مِنهم، قالَ: ومَن جَعَلَهُ حالًا مِنَ المَجْرُورِ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ فَقَدْ أخْطَأ؛ لِأنَّ تَقَدُّمَ حالِ المَجْرُورِ عَلَيْهِ في الأصالَةِ بِمَنزِلَةِ تَقَدُّمِ المَجْرُورِ عَلى الجارِّ، وكَمْ تَرى مِمَّنْ يَرْتَكِبُ هَذا الخَطَأ ثُمَّ لا يَقْنَعُ بِهِ حَتّى يَضُمَّ إلَيْهِ أنْ يَجْعَلَ اللّامَ بِمَعْنى إلى؛ لِأنَّهُ لا يَسْتَوِي لَهُ الخَطَأُ الأوَّلُ إلّا بِالخَطَأِ الثّانِي، فَلا بُدَّ مِنِ ارْتِكابِ الخَطَأيْنِ. انْتَهى. أمّا (كافَّةً) بِمَعْنى (عامَّةً)، فالمَنقُولُ عَنِ النَّحْوِيِّينَ أنَّها لا تَكُونُ إلّا حالًا، ولَمْ يَتَصَرَّفْ فِيها بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَجَعْلُها صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، خُرُوجٌ عَمّا نَقَلُوا، ولا يُحْفَظُ أيْضًا اسْتِعْمالُهُ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ. وأمّا قَوْلُ الزَّجّاجِ: إنَّ كافَّةً بِمَعْنى جامِعًا، والهاءُ فِيهِ لِلْمُبالَغَةِ، فَإنَّ اللُّغَةَ لا تُساعِدُ عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّ كَفَّ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ أنَّ مَعْناهُ جَمَعَ. وأمّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: ومَن جَعَلَهُ حالًا إلى آخِرِهِ، فَذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. ذَهَبَ الأكْثَرُونَ إلى أنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ، وذَهَبَ أبُو عَلِيٍّ وابْنُ كَيْسانَ وابْنُ بُرْهانَ ومِن مُعاصِرِينا ابْنُ مالِكٍ إلى أنَّهُ يَجُوزُ، وهو الصَّحِيحُ. ومِن أمْثِلَةِ أبِي عَلِيٍّ: زَيْدٌ خَيْرُ ما يَكُونُ خَيْرٌ مِنكَ، التَّقْدِيرُ: زِيدٌ خَيْرٌ مِنكَ خَيْرُ ما يَكُونُ، فَجَعَلَ ما يَكُونُ حالًا مِنَ الكافِ في مِنكَ، وقَدَّمَها عَلَيْهِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎إذا المَرْءُ أعْيَتْهُ المُرُوءَةُ ناشِئًا فَمَطْلَبُها كَهْلًا عَلَيْهِ شَدِيدُ وقالَ آخَرُ: ؎تَسَلَّيْتُ طُرًّا عَنْكم بَعْدَ بَيْنِكم ∗∗∗ بِذِكْرِكم حَتّى كَأنَّكم عِنْدِي أيْ: تَسَلَّيْتُ عَنْكم طُرًّا، أيْ جَمِيعًا. وقَدْ جاءَ تَقْدِيمُ الحالِ عَلى صاحِبِها المَجْرُورِ وعَلى ما يَتَعَلَّقُ بِهِ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎مَشْغُوفَةً بِكَ قَدْ شَغَفَتْ وإنَّما ∗∗∗ حَتَمَ الفِراقُ فَما إلَيْكَ سَبِيلُ وقالَ الآخَرُ: ؎غافِلًا تَعْرِضُ المَنِيَّةُ لِلْمَرْ ∗∗∗ ءِ فَيُدْعى ولاتَ حِينَ إباءِ أيْ: شَغَفَتْ بِكَ مَشْغُوفَةً، وتَعْرِضُ المَنِيَّةُ لِلْمَرْءِ غافِلًا. وإذا جازَ تَقْدِيمُها عَلى المَجْرُورِ والعامِلِ، فَتَقْدِيمُها عَلَيْهِ دُونَ العامِلِ أجْوَزُ، وعَلى أنَّ (كافَّةً) حالٌ مِنَ النّاسِ، حَمَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وقالَ: قُدِّمَتْ لِلِاهْتِمامِ والمَنقُولُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قَوْلُهُ: أيْ إلى العَرَبِ والعَجَمِ وسائِرِ الأُمَمِ، وتَقْدِيرًا إلى النّاسِ كافَّةً. انْتَهى. وقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وكَمْ تَرى مِمَّنْ يَرْتَكِبُ هَذا الخَطَأ، إلى آخِرِ كَلامِهِ، شَنِيعٌ ؟ لِأنَّ قائِلَ ذَلِكَ لا يَحْتاجُ إلى أنْ (p-٢٨٢)يَتَأوَّلَ اللّامَ بِمَعْنى إلى؛ لِأنَّ أرْسَلَ يَتَعَدّى بِإلى ويَتَعَدّى بِاللّامِ، كَقَوْلِهِ ﴿وأرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولًا﴾ [النساء: ٧٩] . ولَوْ تَأوَّلَ اللّامَ بِمَعْنى إلى، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خَطَأً؛ لِأنَّ اللّامَ قَدْ جاءَتْ بِمَعْنى إلى، وإلى قَدْ جاءَتْ بِمَعْنى اللّامِ، وأرْسَلَ مِمّا جاءَ مُتَعَدِّيًا بِهِما إلى المَجْرُورِ. ثُمَّ حَكى تَعالى مَقالَتَهم في الِاسْتِهْزاءِ بِالبَعْثِ، واسْتِعْجالِهِمْ عَلى سَبِيلِ التَّكْذِيبِ، ولَمْ يُجابُوا بِتَعْيِينِ الزَّمانِ، إذْ ذاكَ مِمّا انْفَرَدَ تَعالى بِعِلْمِهِ، بَلْ أُجِيبُوا بِأنَّ ما وُعِدُوا بِهِ لا بُدَّ مِن وُقُوعِهِ، وهو مِيعادُ يَوْمِ القِيامَةِ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مِثْلِ هَذِهِ الجُمْلَةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ سُؤالُهم عَمّا وُعِدُوا بِهِ مِنَ العَذابِ في الدُّنْيا واسْتَعْجَلُوا بِهِ اسْتِهْزاءً مِنهم. وقالَ أبُو عُبَيْدٍ: الوَعْدُ والوَعِيدُ والمِيعادُ بِمَعْنى. وقالَ الجُمْهُورُ: الوَعْدُ في الخَيْرِ، والوَعِيدُ في الشَّرِّ، والمِيعادُ يَقَعُ لِهَذا. والظّاهِرُ أنَّ المِيعادَ اسْمٌ عَلى وزْنِ (مِفْعالٍ) اسْتُعْمِلَ بِمَعْنى المَصْدَرِ، أيْ قُلْ لَكم وُقُوعُ وعْدِ يَوْمٍ وتَنْجِيزُهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: المِيعادُ ظَرْفُ الوَعْدِ مِن مَكانٍ أوْ زَمانٍ، وهو هاهُنا الزَّمانُ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قِراءَةُ مَن قَرَأ مِيعادَ يَوْمٍ فَأُبْدِلَ مِنهُ اليَوْمُ. انْتَهى. ولا يَتَعَيَّنُ ما قالَ، إذْ يَكُونُ بَدَلًا عَلى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، أيْ قُلْ لَكم مِيعادُ يَوْمٍ، فَلَمّا حُذِفَ أُعْرِبَ ما قامَ مَقامَهُ بِإعْرابِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿مِيعادُ يَوْمٍ﴾ بِالإضافَةِ. ولَمّا جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ المِيعادَ ظَرْفَ زَمانٍ قالَ: أمّا الإضافَةُ فَإضافَتُهُ تَبْيِينٌ، كَما تَقُولُ: سَحْقُ ثَوْبٍ وبَعِيرُ سانِيَةٍ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ، واليَزِيدِيُّ: مِيعادٌ يَوْمًا بِتَنْوِينِهِما. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وأمّا نَصْبُ اليَوْمِ فَعَلى التَّعْظِيمِ بِإضْمارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ لَكم مِيعادٌ، أعْنِي يَوْمًا، وأُرِيدُ يَوْمًا مِن صِفَتِهِ، أعْنِي كَيْتَ وكَيْتَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ انْتِصابُهُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الرَّفْعُ عَلى هَذا لِلتَّعْظِيمِ. انْتَهى. لَمّا جُعِلَ المِيعادُ ظَرْفَ زَمانٍ، خَرَجَ الرَّفْعُ والنَّصْبُ عَلى ذَلِكَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ انْتِصابُهُ عَلى الظَّرْفِ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ إنْجازُ وعْدِ يَوْمٍ مِن صِفَتِهِ كَيْتَ وكَيْتَ. وقَرَأ عِيسى: مِيعادٌ مُنَوَّنًا، ويَوْمَ بِالنَّصْبِ مِن غَيْرِ تَنْوِينٍ مُضافًا إلى الجُمْلَةِ، فاحْتَمَلَ تَخْرِيجُ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلى التَّعْظِيمِ، واحْتَمَلَ تَخْرِيجًا عَلى الظَّرْفِ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ إنْجازُ وعْدِ يَوْمِ كَذا. وجاءَ هَذا الجَوابُ عَلى طَرِيقِ التَّهْدِيدِ مُطابِقًا لِمَجِيءِ السُّؤالِ عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ والتَّعَنُّتِ، وأنَّهم مَرْصُدُونَ بِيَوْمِ القِيامَةِ، يُفاجِئُهم فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَأخُّرًا عَنْهُ ولا تَقَدُّمًا عَلَيْهِ. واليَوْمُ: يَوْمُ القِيامَةِ، وهو السّابِقُ إلى الذِّهْنِ، أوْ يَوْمُ مَجِيءِ أجَلِهِمْ عِنْدَ حُضُورِ مَنِيَّتِهِمْ، أوْ يَوْمُ بَدْرٍ، أقْوالٌ. و﴿لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذا القُرْآنِ﴾ يَعْنِي الَّذِي تَضَمَّنَ التَّوْحِيدَ والرِّسالَةَ والبَعْثَ المُتَقَدِّمَ ذِكْرُها فِيهِ. ﴿ولا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ هو ما نَزَلَ مِن كُتُبِ اللَّهِ المُبَشِّرَةِ بِرَسُولِ اللَّهِ. يُرْوى أنَّ كُفّارَ مَكَّةَ سَألُوا أهْلَ الكِتابِ، فَأخْبَرُوهم أنَّهم يَجِدُونَ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في كُتُبِهِمْ، وأغْضَبَهم ذَلِكَ، وقَرَنُوا إلى القُرْآنِ ما تَقَدَّمَ مِن كُتُبِ اللَّهِ في الكُفْرِ، ويَكُونُ (الَّذِينَ كَفَرُوا) مُشْرِكِي قُرَيْشٍ ومَن جَرى مَجْراهم. والمَشْهُورُ أنَّ ﴿بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ التَّوْراةُ والإنْجِيلُ وما تَقَدَّمَ مِنَ الكُتُبِ، وهو مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وقالَتْ فِرْقَةٌ ﴿الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ هي القِيامَةُ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا خَطَأٌ، قائِلُهُ لَمْ يَفْهَمْ أمْرَ بَيْنِ اليَدِ في اللُّغَةِ، وأنَّهُ المُتَقَدِّمُ في الزَّمانِ، وقَدْ بَيَّناهُ فِيما تَقَدَّمَ. انْتَهى. ﴿ولَوْ تَرى إذِ الظّالِمُونَ﴾ أخْبَرَ عَنْ حالِهِمْ في صِفَةِ التَّعَجُّبِ مِنها، وتَرى في مَعْنى رَأيْتَ لِإعْمالِها في الظَّرْفِ الماضِي، ومَفْعُولُ تَرى مَحْذُوفٌ، أيْ حالَ الظّالِمِينَ، إذْ هم ﴿مَوْقُوفُونَ﴾ . وجَوابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، أيْ لَرَأيْتَ لَهم حالًا مُنْكَرَةً مِن ذُلِّهِمْ وتَخاذُلِهِمْ وتَحاوُرِهِمْ، حَيْثُ لا يَنْفَعُهم شَيْءٌ مِن ذَلِكَ. ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ الرُّجُوعَ والجَدَلَ بِأنَّ الأتْباعَ، وهُمُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا، قالُوا لِرُؤَسائِهِمْ عَلى جِهَةِ التَّذْنِيبِ والتَّوْبِيخِ ورَدِّ اللّائِمَةِ عَلَيْهِمْ ﴿لَوْلا أنْتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ﴾ أيْ أنْتُمْ أغْوَيْتُمُونا وأمَرْتُمُونا بِالكُفْرِ. وأتى الضَّمِيرُ بَعْدَ لَوْلا ضَمِيرُ رَفْعٍ عَلى الأفْصَحِ. وحَكى الأئِمَّةُ سِيبَوَيْهِ والخَلِيلُ وغَيْرُهُما مَجِيئَهُ بِضَمِيرِ الجَرِّ نَحْوُ: لَوْلاكم، وإنْكارُ المُبَرِّدِ ذَلِكَ لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. ولَمّا كانَ مَقامًا، اسْتَوى فِيهِ المَرْؤُوسُ والرَّئِيسُ. (p-٢٨٣)بَدَأ الأتْباعُ بِتَوْبِيخِ مُضِلِّيهِمْ، إذْ زالَتْ عَنْهم رِئاسَتُهم، ولَمْ يُمْكِنْهم أنْ يُنْكِرُوا أنَّهم ما جاءَهم رَسُولٌ، بَلْ هم مُقِرُّونَ. ألا تَرى إلى قَوْلِ المَتْبُوعِينَ ﴿بَعْدَ إذْ جاءَكُمْ﴾ ؟ فالجَمْعُ المُقِرُّونَ بِأنَّ الذِّكْرَ قَدْ جاءَهم، فَقالَ لَهم رُؤَساؤُهم ﴿أنَحْنُ صَدَدْناكُمْ﴾، فَأتَوْا بِالِاسْمِ بَعْدَ أداةِ الِاسْتِفْهامِ إنْكارًا؛ لِأنْ يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ صَدُّوهم. صُدِدْتُمْ مِن قِبَلِ أنْفُسِكم وبِاخْتِيارِكم بَعْدَ أداةِ الِاسْتِفْهامِ، كَأنَّهم قالُوا: نَحْنُ أخْبَرْناكم وحُلْنا بَيْنَكم وبَيْنَ الذِّكْرِ بَعْدَ أنْ هَمَمْتُمْ عَلى الدُّخُولِ في الإيمانِ، بَلْ أنْتُمْ مَنَعْتُمْ أنْفُسَكم حَظَّها وآثَرْتُمُ الضَّلالَةَ عَلى الهُدى، فَكُنْتُمْ مُجْرِمِينَ كافِرِينَ بِاخْتِيارِكم، لا لِقَوْلِنا وتَسْوِيلِنا. ولَمّا أنْكَرَ رُؤَساؤُهم أنَّهُمُ السَّبَبُ في كُفْرِهِمْ، وأثْبَتُوا بِقَوْلِهِمْ ﴿بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ﴾، أنَّ كُفْرَهم هو مِن قِبَلِ أنْفُسِهِمْ، قابَلُوا إضْرابًا بِإضْرابٍ، فَقالَ الأتْباعُ ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ والنَّهارِ﴾ أيْ ما كانَ إجْرامُنا مِن جِهَتِنا، بَلْ مَكْرُكم لَنا دائِمًا ومُخادَعَتُكم لَنا لَيْلًا ونَهارًا، إذْ تَأْمُرُونَنا ونَحْنُ أتْباعٌ لا نَقْدِرُ عَلى مُخالَفَتِكم، مُطِيعُونَ لَكم لِاسْتِيلائِكم عَلَيْنا بِالكُفْرِ بِاللَّهِ واتِّخاذِ الأنْدادِ. وأُضِيفَ المَكْرُ إلى اللَّيْلِ والنَّهارِ اتَّسَعَ في الظَّرْفَيْنِ، فَهُما في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى المَفْعُولِ بِهِ عَلى السِّعَةِ، أوْ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الإسْنادِ المَجازِيِّ، كَما قالُوا: لَيْلٌ نائِمٌ، والأوْلى عِنْدِي أنْ يَرْتَفِعَ (مَكْرُ) عَلى الفاعِلِيَّةِ، أيْ بَلْ صَدَّنا مَكْرُكم بِاللَّيْلِ والنَّهارِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُ القائِلِ: أنا ضَرَبْتُ زَيْدًا بَلْ ضَرَبَهُ عَمْرٌو، فَيَقُولُ: بَلْ ضَرَبَهُ غُلامُكَ، والأحْسَنُ في التَّقْدِيرِ أنْ يَكُونَ المَعْنى: ضَرَبَهُ غُلامُكَ. وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وخَبَرًا، أيْ سَبَبُ كُفْرِنا. وقَرَأ قَتادَةُ، ويَحْيى بْنُ يَعْمَرَ: بَلْ (مَكْرٌ) بِالتَّنْوِينِ، (اللَّيْلَ والنَّهارُ) نُصِبَ عَلى الظَّرْفِ. وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وأبُو رَزِينٍ، وابْنُ يَعْمَرَ أيْضًا: بِفَتْحِ الكافِ وشَدِّ الرّاءِ مَرْفُوعَةً مُضافَةً، ومَعْناهُ: كَدَوْرِ اللَّيْلِ والنَّهارِ واخْتِلافِهِما، ومَعْناها: الإحالَةُ عَلى طُولِ الأمَلِ، والِاغْتِرارِ بِالأيّامِ مَعَ أمْرِ هَؤُلاءِ الرُّؤَساءِ الكُفْرَ بِاللَّهِ. وقَرَأ ابْنُ جُبَيْرٍ أيْضًا، وطَلْحَةُ، وراشِدٌ هَذا مِنَ التّابِعِينَ مِمَّنْ صَحَّحَ المَصاحِفَ بِأمْرِ الحَجّاجِ: كَذَلِكَ، إلّا أنَّهم نَصَبُوا الرّاءَ عَلى الظَّرْفِ، وناصِبُهُ فِعْلٌ مُضْمَرٌ، أيْ صَدَدْتُمُونا مَكْرَ اللَّيْلِ والنَّهارِ، أيْ في مَكْرِهِما، ومَعْناهُ دائِمًا. وقالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: يَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ بِإذْ تَأْمُرُونَنا مَكْرَ اللَّيْلِ والنَّهارِ. انْتَهى. وهَذا وهْمٌ؛ لِأنَّ ما بَعْدَ إذْ لا يَعْمَلُ فِيما قَبْلَها. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَلْ يَكُونُ الإغْراءُ مَكْرًا دائِمًا لا يَفْتَرُونَ عَنْهُ. انْتَهى. وجاءَ ﴿قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ بِغَيْرِ واوٍ؛ لِأنَّهُ جَوابٌ لِكَلامِ المُسْتَضْعَفِينَ، فاسْتُؤْنِفَ، وعُطِفَ ﴿وقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ عَلى ما سَبَقَ مِن كَلامِهِمْ، والضَّمِيرُ في (وأسَرُّوا) لِلْجَمِيعِ المُسْتَكْبِرِينَ والمُسْتَضْعَفِينَ، وهم (الظّالِمُونَ المَوْقُوفُونَ)، وتَقَدَّمَ الكَلامُ في ﴿وأسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأوُا العَذابَ﴾ في سُورَةِ يُونُسَ، والنَّدامَةُ مِنَ المَعانِي القَلْبِيَّةِ، فَلا تَظْهَرُ، إنَّما يَظْهَرُ ما يَدُلُّ عَلَيْها، وما يَدُلُّ عَلَيْها غَيْرُها، وقِيلَ: هو مِنَ الأضْدادِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذا لَمْ يَثْبُتْ قَطُّ في لُغَةٍ أنَّ أسَرَّ مِنَ الأضْدادِ ونَدامَةُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَلى ضَلالِهِمْ في أنْفُسِهِمْ وإضْلالِهِمْ ونَدامَةُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا عَلى ضَلالِهِمْ واتِّباعِهِمُ المُضِلِّينَ. ﴿وجَعَلْنا الأغْلالَ في أعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، والظّاهِرُ عُمُومُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَيَدْخُلُ فِيهِ المُسْتَكْبِرُونَ والمُسْتَضْعَفُونَ؛ لِأنَّ مِنَ الكُفّارِ مَن لا يَكُونُ لَهُ اتِّباعُ مُراجَعَةِ القَوْلِ في الآخِرَةِ، ولا يَكُونُ أيْضًا تابِعًا لِرَئِيسٍ لَهُ كافِرٍ، كالغُلامِ الَّذِي قَتَلَهُ الخَضِرُ. وقِيلَ (الَّذِينَ كَفَرُوا) هُمُ الَّذِينَ سَبَقَتْ مِنهُمُ المُحاوَرَةُ، وجَعَلَ الأغْلالَ إشارَةً إلى كَيْفِيَّةِ العَذابِ قَطَعُوا بِأنَّهم واقِعُونَ فِيهِ فَتَرَكُوا التَّنَدُّمَ. (هَلْ يُجْزَوْنَ) مَعْناهُ النَّفْيُ، ولِذَلِكَ دَخَلَتْ إلّا بَعْدَ النَّفْيِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب