الباحث القرآني

﴿يا أيُّها النَّبِيُّ قُلْ لِأزْواجِكَ وبَناتِكَ ونِساءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أدْنى أنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنافِقُونَ والَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والمُرْجِفُونَ في المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إلّا قَلِيلًا﴾ ﴿مَلْعُونِينَ أيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾ ﴿سُنَّةَ اللَّهِ في الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ ﴿يَسْألُكَ النّاسُ عَنِ السّاعَةِ قُلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ ﴿إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الكافِرِينَ وأعَدَّ لَهم سَعِيرًا﴾ ﴿خالِدِينَ فِيها أبَدًا لا يَجِدُونَ ولِيًّا ولا نَصِيرًا﴾ ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهم في النّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أطَعْنا اللَّهَ وأطَعْنا الرَّسُولا﴾ ﴿وقالُوا رَبَّنا إنّا أطَعْنا سادَتَنا وكُبَراءَنا فَأضَلُّونا السَّبِيلا﴾ ﴿رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذابِ والعَنْهم لَعْنًا كَبِيرًا﴾ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأهُ اللَّهُ مِمّا قالُوا وكانَ عِنْدَ اللَّهِ وجِيهًا﴾ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ ﴿يُصْلِحْ لَكم أعْمالَكم ويَغْفِرْ لَكم ذُنُوبَكم ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ ﴿إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ عَلى السَّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنها وحَمَلَها الإنْسانُ إنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: ٧٢] ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ المُنافِقِينَ والمُنافِقاتِ والمُشْرِكِينَ والمُشْرِكاتِ ويَتُوبَ اللَّهُ عَلى المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٣] . (p-٢٥٠)كانَ دَأْبُ الجاهِلِيَّةِ أنْ تَخْرُجَ الحُرَّةُ والأمَةُ مَكْشُوفَتَيِ الوَجْهِ في دِرْعٍ وخِمارٍ، وكانَ الزُّناةُ يَتَعَرَّضُونَ إذا خَرَجْنَ بِاللَّيْلِ لِقَضاءِ حَوائِجِهِنَّ في النَّخِيلِ والغِيطانِ لِلْإماءِ، ورُبَّما تَعَرَّضُوا لِلْحُرَّةِ بِعِلَّةِ الأمَةِ، يَقُولُونَ: حَسِبْناها أمَةً، فَأُمِرْنَ أنْ يُخالِفْنَ بِزِيِّهِنَّ عَنْ زِيِّ الإماءِ، بِلُبْسِ الأرْدِيَةِ والمَلاحِفِ، وسَتْرِ الرُّءُوسِ والوُجُوهِ، لِيَحْتَشِمْنَ ويُهَبْنَ، فَلا يُطْمَعُ فِيهِنَّ. ورُوِيَ أنَّهُ كانَ في المَدِينَةِ قَوْمٌ يَجْلِسُونَ عَلى الصُّعُداتِ لِرُؤْيَةِ النِّساءِ ومُعارَضَتِهِنَّ ومُراوَدَتِهِنَّ، فَنَزَلَتْ. قِيلَ: والجَلابِيبُ: الأرْدِيَةُ الَّتِي تَسْتُرُ مِن فَوْقَ إلى أسْفَلَ، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: المَقانِعُ؛ وقِيلَ: المَلاحِفُ، وقِيلَ: الجِلْبابُ: كُلُّ ثَوْبٍ تَلْبَسُهُ المَرْأةُ فَوْقَ ثِيابِها، وقِيلَ: كُلُّ ما تَسْتَتِرُ بِهِ مِن كِساءٍ أوْ غَيْرِهِ. قالَ أبُو زَيْدٍ: ؎تَجَلْبَبْتُ مِن سَوادِ اللَّيْلِ جِلْبابًا وقِيلَ: الجِلْبابُ أكْبَرُ مِنَ الخِمارِ. وقالَ عِكْرِمَةُ: تُلْقِي جانِبَ الجِلْبابِ عَلى غَيْرِها ولا يُرى. وقالَ عَبِيدَةُ السَّلْمانِيُّ حِينَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقالَ: أنْ تَضَعَ رِداءَها فَوْقَ الحاجِبِ، ثُمَّ تُدِيرُهُ حَتّى تَضَعَهُ عَلى أنْفِها. وقالَ السُّدِّيُّ: تُغَطِّي إحْدى عَيْنَيْها وجَبْهَتَها والشِّقَّ الآخَرَ إلّا العَيْنَ. انْتَهى. وكَذا عادَةُ بِلادِ الأنْدَلُسِ، لا يَظْهَرُ مِنَ المَرْأةِ إلّا عَيْنُها الواحِدَةُ. وقالَ الكِسائِيُّ: يَتَقَنَّعْنَ بِمَلاحِفِهِنَّ مُنْضَمَّةً عَلَيْهِنَّ، أرادَ بِالِانْضِمامِ مَعْنى الإدْناءِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ: وذَلِكَ أنْ تَلْوِيَهُ فَوْقَ الجَبِينِ وتَشُدَّهُ، ثُمَّ تَعْطِفَهُ عَلى الأنْفِ، وإنْ ظَهَرَتْ عَيْناها، لَكِنَّهُ يَسْتُرُ الصَّدْرَ ومُعْظَمَ الوَجْهِ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ونِساءِ المُؤْمِنِينَ﴾ يَشْمَلُ الحَرائِرَ والإماءَ، والفِتْنَةُ بِالإماءِ أكْثَرُ، لِكَثْرَةِ تَصَرُّفِهِنَّ بِخِلافِ الحَرائِرِ، فَيَحْتاجُ إخْراجُهُنَّ مِن عُمُومِ النِّساءِ إلى دَلِيلٍ واضِحٍ. و”مِن“ في: ﴿مِن جَلابِيبِهِنَّ﴾ لِلتَّبْعِيضِ، و(عَلَيْهِنَّ) شامِلٌ لِجَمِيعِ أجْسادِهِنَّ، أوْ (عَلَيْهِنَّ) عَلى وُجُوهِهِنَّ؛ لِأنَّ الَّذِي كانَ يَبْدُو مِنهُنَّ في الجاهِلِيَّةِ هو الوَجْهُ. ﴿ذَلِكَ أدْنى أنْ يُعْرَفْنَ﴾ لِتَسَتُّرِهِنَّ بِالعِفَّةِ، فَلا يُتَعَرَّضُ لَهُنَّ، ولا يُلْقَيْنَ بِما يَكْرَهْنَ؛ لِأنَّ المَرْأةَ إذا كانَتْ في غايَةِ التَّسَتُّرِ والِانْضِمامِ لَمْ يُقْدَمْ عَلَيْها بِخِلافِ المُتَبَرِّجَةِ، فَإنَّها مَطْمُوعٌ فِيها. (وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) تَأْنِيسٌ لِلنِّساءِ في تَرْكِ الِاسْتِتارِ قَبْلَ أنْ يُؤْمَرْنَ بِذَلِكَ. ولَمّا ذَكَرَ حالَ المُشْرِكِ الَّذِي يُؤْذِي اللَّهَ ورَسُولَهُ، والمُجاهِرَ الَّذِي يُؤْذِي المُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ حالَ المُسِرِّ الَّذِي يُؤْذِي اللَّهَ ورَسُولَهُ، ويُظْهِرُ الحَقَّ ويُضْمِرُ النِّفاقَ. ولَمّا كانَ المُؤْذُونَ ثَلاثَةً بِاعْتِبارِ إذايَتِهِمْ لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ، كانَ المُشْرِكُونَ ثَلاثَةً: مُنافِقٌ، ومَن في قَلْبِهِ مَرَضٌ، ومُرْجِفٌ. فالمُنافِقُ يُؤْذِي سِرًّا، والثّانِي يُؤْذِي المُؤْمِنَ بِاتِّباعِ نِسائِهِ، والثّالِثُ يُرْجِفُ بِالرَّسُولِ، يَقُولُ: غُلِبَ، سَيُخْرَجُ مِنَ المَدِينَةِ، سَيُؤْخَذُ، هُزِمَتْ سَراياهُ. وظاهِرُ العَطْفِ التَّغايُرُ بِالشَّخْصِ، فَيَكُونُ المَعْنى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنافِقُونَ عَنْ عَداوَتِهِمْ وكَيْدِهِمْ، والفَسَقَةُ عَنْ فُجُورِهِمْ، والمُرْجِفُونَ عَمّا يَقُولُونَ (p-٢٥١)مِن أخْبارِ السُّوءِ ويُشِيعُونَهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّغايُرُ بِالوَصْفِ، فَيَكُونُ واحِدًا بِالشَّخْصِ ثَلاثَةً بِالوَصْفِ. كَما جاءَ: إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ، فَذَكَرَ أوْصافًا عَشَرَةً، والمَوْصُوفُ بِها واحِدٌ، ونَصَّ عَلى هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ مِنَ المُنافِقِينَ لِشِدَّةِ ضَرَرِهِما عَلى المُؤْمِنِينَ. قالَ عِكْرِمَةُ: (الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هو الغَزَلُ وحُبُّ الزِّنى، ومِنهُ: ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي في قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ [الأحزاب: ٣٢] . وقالَ السُّدِّيُّ: المَرَضُ: النِّفاقُ، ومَن في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ آذَوْا عُمَرَ. وقالَ الكَلْبِيُّ: مَن آذى المُسْلِمِينَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: (المُرْجِفُونَ) مُلْتَمِسُو الفِتَنَ. وقالَ قَتادَةُ: الَّذِينَ يُؤْذُونَ قُلُوبَ المُؤْمِنِينَ بِإيهامِ القَتْلِ والهَزِيمَةِ. ﴿لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾ أيْ: لَنُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقالَ قَتادَةُ: لَنَحْرُسُنَّكَ بِهِمْ. ﴿ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها﴾ أيْ في المَدِينَةِ، و﴿ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ﴿لَنُغْرِيَنَّكَ﴾ ولَمْ يَكُنِ العَطْفُ بِالفاءِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ أنَّهُ مُتَسَبِّبٌ عَنِ الإغْراءِ، بَلْ كَوْنُهُ جَوابًا لِلْقَسَمِ أبْلَغُ. وكانَ العَطْفُ بِـ: ثُمَّ؛ لِأنَّ الجَلاءَ عَنِ الوَطَنِ كانَ أعْظَمَ عَلَيْهِمْ مِن جَمِيعِ ما أُصِيبُوا بِهِ، فَتَراخَتْ حالَةُ الجَلاءِ عَنْ حالَةِ الإغْراءِ. (إلّا قَلِيلًا) أيْ: جِوارًا قَلِيلًا، أوْ زَمانًا قَلِيلًا، أوْ عَدَدًا قَلِيلًا، وهَذا الأخِيرُ اسْتِثْناءٌ مِنَ المَنطُوقِ، وهو ضَمِيرُ الرَّفْعِ في ﴿يُجاوِرُونَكَ﴾ أوْ يَنْتَصِبُ قَلِيلًا عَلى الحالِ، أيْ: إلّا قَلِيلِينَ، والأوَّلُ اسْتِثْناءٌ مِنَ المَصْدَرِ الدّالِّ عَلَيْهِ ﴿يُجاوِرُونَكَ﴾ والثّانِي مِنَ الزَّمانِ الدّالِّ عَلَيْهِ ﴿يُجاوِرُونَكَ﴾ والمَعْنى: أنَّهم يُضْطَرُّونَ إلى طَلَبِ الجَلاءِ عَنِ المَدِينَةِ خَوْفَ القَتْلِ. وانْتَصَبَ ﴿مَلْعُونِينَ﴾ عَلى الذَّمِّ، قالَهُ الطَّبَرِيُّ. وأجازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن (قَلِيلًا) قالَ: هو مِن إقْلاءِ الَّذِي قَدَّرْناهُ؛ وأجازَ هو أيْضًا أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ في ﴿يُجاوِرُونَكَ﴾ قالَ: كَأنَّهُ قالَ: يَنْتَفُونَ مِنَ المَدِينَةِ مُعَلْوِنِينَ، فَلا يُقَدِّرُ ﴿لا يُجاوِرُونَكَ﴾ فَقَدَّرَ ”يَنْتَفُونَ“ حَسَنٌ هَذا. انْتَهى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ والحَوْفِيُّ وتَبِعَهُما أبُو البَقاءِ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ في (لا ﴿يُجاوِرُونَكَ﴾) كَما قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهَذا نَصُّهُ مَلْعُونِينَ، نُصِبَ عَلى الشَّتْمِ أوِ الحالِ أيْ: لا يُجاوِرُونَكَ إلّا مَلْعُونِينَ. دَخَلَ حَرْفُ الِاسْتِثْناءِ عَلى الظَّرْفِ والحالِ مَعًا، كَما مَرَّ في قَوْلِ: ﴿إلّا أنْ يُؤْذَنَ لَكم إلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إناهُ﴾ [الأحزاب: ٥٣] ولا يَصِحُّ أنْ يَنْتَصِبَ مِن أُخِذُوا لِأنَّ ما بَعْدَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ لا يَعْمَلُ فِيما قَبْلَها. انْتَهى. وتَقَدَّمَ الكَلامُ مَعَهُ في مَجِيءِ الحالِ مِمّا قَبْلُ إلّا مَذْكُورَةً بَعْدَما اسْتَثْنى بِإلّا، فَيَكُونُ الِاسْتِثْناءُ مُنْصَبًّا عَلَيْهِما، وأنَّ جُمْهُورَ البَصْرِيِّينَ مَنَعُوا مِن ذَلِكَ. وأمّا تَجْوِيزُ ابْنِ عَطِيَّةَ أنْ يَكُونَ بَدَلًا فالبَدَلُ بِالمُشْتَقِّ قَلِيلٌ. وأمّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: لِأنَّ ما بَعْدَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ لا يَعْمَلُ فِيما قَبْلَها فَلَيْسَ هَذا مُجْمَعًا عَلَيْهِ؛ لِأنَّ ما بَعْدَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ شَيْئانِ: فِعْلُ الشَّرْطِ والجَوابُ، فَأمّا فِعْلُ الشَّرْطِ فَأجازَ الكِسائِيُّ تَقْدِيمَ مَعْمُولِهِ عَلى الكَلِمَةِ، أجازَ: زَيْدٌ أنْ يَضْرِبَ اضْرِبْهُ، وأمّا الجَوابُ فَقَدْ أجازَ أيْضًا تَقْدِيمَ مَعْمُولِهِ عَلَيْهِ نَحْوُ: إنْ يُقِمْ زَيْدٌ عَمْرًا يُضْرَبْ. وقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ أنَّهُ قالَ المَعْنى: ﴿أيْنَما ثُقِفُوا﴾ أُخِذُوا مَلْعُونِينَ، والصَّحِيحُ أنَّ مَلْعُونِينَ صِفَةً لِقَلِيلٍ، أيْ: إلّا قَلِيلِينَ مَلْعُونِينَ، ويَكُونُ قَلِيلًا مُسْتَثْنًى مِنَ الواوِ في ﴿لا يُجاوِرُونَكَ﴾، والجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ صِفَةٌ أيْضًا أيْ: مَقْهُورِينَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِمْ. ومَعْنى (ثُقِفُوا) حُصِرُوا وظَفِرَ بِهِمْ، ومَعْنى ﴿أُخِذُوا﴾ أُسِرُوا، والأخِيذُ: الأسِيرُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (قُتِّلُوا) بِتَشْدِيدِ التّاءِ. وفِرْقَةٌ: بِتَخْفِيفِها فَيَكُونُ ﴿تَقْتِيلًا﴾ مَصْدَرًا عَلى غَيْرِ قِياسِ المَصْدَرِ. والظّاهِرُ أنَّ المُنافِقِينَ انْتَهَوْا عَمّا كانُوا يُؤْذُونَ بِهِ الرَّسُولَ ﷺ والمُؤْمِنِينَ، وتَسَتَّرَ جَمِيعُهم، وكَفُّوا خَوْفًا مِن أنْ يَقَعَ بِهِمْ ما وقَعَ القَسَمُ عَلَيْهِ، وهو الإغْراءُ والجَلاءُ والأخْذُ والقَتْلُ. وقِيلَ: لَمْ يَمْتَثِلُوا لِلِانْتِهاءِ جُمْلَةً، ولا نُفِّذَ عَلَيْهِمُ الوَعِيدُ كامِلًا. ألا تَرى إلى إخْراجِهِمْ مِنَ المَسْجِدِ، ونَهْيِهِ عَنِ الصَّلاةِ عَلَيْهِمْ، وما نَزَلَ فِيهِمْ في سُورَةِ بَراءَةَ ؟ وأبْعَدَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّهُ لَمْ يَنْتَهِ هَؤُلاءِ الأصْنافُ، ولَمْ يُنَفِّذِ اللَّهُ الوَعِيدَ عَلَيْهِمْ فَفِيهِ (p-٢٥٢)دَلِيلٌ عَلى بُطْلانِ القَوْلِ بِإنْفاذِ الوَعِيدِ في الآخِرَةِ، ويَكُونُ هَذا الوَعِيدُ مَفْرُوضًا ومَشْرُوطًا بِالمَشِيئَةِ. (سُنَّةَ اللَّهِ) مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أيْ: سَنَّ اللَّهُ في الَّذِينَ يُنافِقُونَ الأنْبِياءَ أنْ يُقْتَلُوا حَيْثُما ظُفِرَ بِهِمْ. وعَنْ مُقاتِلٍ: كَما قُتِلَ أهْلُ بَدْرٍ وأُسِرُوا، فالَّذِينَ خَلَوْا يَشْمَلُ أتْباعَ الأنْبِياءِ الَّذِينَ نافَقُوا، ومَن قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ. ﴿يَسْألُكَ النّاسُ﴾ أيِ: المُشْرِكُونَ، عَنْ وقْتِ قِيامِ السّاعَةِ اسْتِعْجالًا عَلى سَبِيلِ الهُزْءِ، واليَهُودُ عَلى سَبِيلِ الِامْتِحانِ، إذْ كانَتْ مُعَمًّى وقْتُها في التَّوْراةِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ بِأنْ يَرُدَّ العِلْمَ إلى اللَّهِ، إذْ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْها مَلَكًا ولا نَبِيًّا. ولَمّا ذَكَرَ حالَهم في الدُّنْيا أنَّهم مَلْعُونُونَ مُهانُونَ مَقْتُولُونَ بَيَّنَ حالَهم في الآخِرَةِ. (وما يُدْرِيكَ) ما اسْتِفْهامٌ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ أيْ: وأيُّ شَيْءٍ يُدْرِيكَ بِها ؟ ومَعْناهُ النَّفْيُ أيْ: ما يُدْرِيكَ بِها أحَدٌ. ﴿لَعَلَّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ بَيَّنَ قُرْبَ السّاعَةِ، وفي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلْمُمْتَحَنِ، وتَهْدِيدٌ لِلْمُسْتَعْجِلِ. وانْتَصَبَ (قَرِيبًا) عَلى الظَّرْفِ أيْ: في زَمانٍ قَرِيبٍ، إذِ اسْتِعْمالُهُ ظَرْفًا كَثِيرٌ، ويُسْتَعْمَلُ أيْضًا غَيْرَ ظَرْفٍ، تَقُولُ: إنَّ قَرِيبًا مِنكَ زَيْدًا، فَجازَ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: شَيْئًا قَرِيبًا، أوْ تَكُونَ السّاعَةُ بِمَعْنى الوَقْتِ، فَذَكَّرَ (قَرِيبًا) عَلى المَعْنى. أوْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لَعَلَّ قِيامَ السّاعَةِ، فَلُوحِظَ السّاعَةُ في (تَكُونُ) فَأُنِّثَ، ولُوحِظَ المُضافُ المَحْذُوفُ وهو ”قِيامُ“ في (قَرِيبًا) فَذُكِّرَ. ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهم في النّارِ﴾ يَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ (يَوْمَ) بِقَوْلِهِ: (لا يَجِدُونَ) ويَكُونُ (يَقُولُونَ) اسْتِئْنافٌ إخْبارٌ عَنْهم، أوْ تَمَّ الكَلامُ عِنْدَ قَوْلِهِمْ: (ولا نَصِيرًا) . ويَنْتَصِبُ (يَوْمَ) بِقَوْلِهِ: (يَقُولُونَ) أوْ بِمَحْذُوفٍ أيِ: اذْكُرْ و(يَقُولُونَ) حالٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (تُقَلَّبُ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. والحَسَنُ وعِيسى وأبُو جَعْفَرٍ الرُّؤاسِيُّ: بِفَتْحِ التّاءِ، أيْ: تَتَقَلَّبُ وحَكاها ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أبِي حَيْوَةَ. وقالَ ابْنُ خالَوَيْهِ عَنْ أبِي حَيْوَةَ: ”نُقَلِّبُ“ بِالنُّونِ، (وُجُوهَهم) بِالنَّصْبِ. وحَكاها ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أبِي حَيْوَةَ أيْضًا وخارِجَةَ. زادَ صاحِبُ اللَّوامِحِ أنَّها قِراءَةُ عِيسى البَصْرِيِّ. وقَرَأ عِيسى الكُوفِيُّ كَذَلِكَ إلّا أنَّ بَدَلَ النُّونِ تاءٌ، وفاعِلُ (تُقَلَّبُ) ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى (سَعِيرًا) وعَلى جَهَنَّمَ أُسْنِدَ إلَيْهِما اتِّساعًا. وقِراءَةُ ابْنِ أبِي عَبْلَةَ: تَتَقَلَّبُ بِتاءَيْنِ، وتَقْلِيبُ الوُجُوهِ في النّارِ: تَحَرُّكُها في الجِهاتِ، أوْ تَغَيُّرُها عَنْ هَيْئاتِها، أوْ إلْقاؤُها في النّارِ مَنكُوسَةً. والظّاهِرُ هو الأوَّلُ، والوَجْهُ أشْرَفُ ما في الإنْسانِ، فَإذا قُلِّبَ في النّارِ كانَ تَقْلِيبُ ما سِواهُ أوْلى. وعَبَّرَ بِالوَجْهِ عَنِ الجُمْلَةِ، وتَمَنِّيهم حَيْثُ لا يَنْفَعُ، وتَشَكِّيهِمْ مِن كُبَرائِهِمْ لا يُجْدِي. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿سادَتَنا﴾ جَمْعًا عَلى وزْنِ فَعَلاتٍ، أصْلُهُ سُوَدَةٌ، وهو شاذٌّ في جَمْعِ فَيْعِلٍ، فَإنْ جُعِلَتْ جَمْعَ سائِدٍ قَرُبَ مِنَ القِياسِ. وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو رَجاءٍ، وقَتادَةُ، والسُّلَمِيُّ، وابْنُ عامِرٍ، والعامَّةُ في الجامِعِ بِالبَصْرَةِ: ”ساداتِنا“ عَلى الجَمْعِ بِالألِفِ والتّاءِ، وهو لا يَنْقاسُ، كَسُوقاتِ ومُوالِياتِ بَنِي هاشِمٍ. وسادَتُهم: رُؤَساءُ الكُفْرِ الَّذِينَ لَقَّنُوهُمُ الكُفْرَ وزَيَّنُوهُ لَهم. قالَ قَتادَةُ: سادَتُنا: رُؤَساؤُنا. وقالَ طاوُسٌ: أشْرافُنا. وقالَ أبُو أُسامَةَ: أُمَراؤُنا وقالَ الشّاعِرُ: ؎تَسَلْسَلَ قَوْمٌ سادَةٌ ثُمَّ زادَةٌ ∗∗∗ يُبْدُونَ أهْلَ الجَمْعِ يَوْمَ المُحَصَّبِ ويُقالُ: ضَلَّ السَّبِيلَ، وضَلَّ عَنِ السَّبِيلِ. فَإذا دَخَلَتْ هَمْزَةُ النَّقْلِ تَعَدّى لِاثْنَيْنِ؛ وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى إثْباتِ الألِفِ في (الرَّسُولا) و(السَّبِيلا) في قَوْلِهِ: ﴿وتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونا﴾ [الأحزاب: ١٠] . ولَمّا لَمْ يُجْدِ تَمَنِّيهِمُ الإيمانَ بِطاعَةِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، ولا قامَ لَهم عُذْرٌ في تَشَكِّيهِمْ مِمَّنْ أضَلَّهم، دَعَوْا عَلى ساداتِهِمْ. ﴿رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذابِ﴾ ضِعْفًا عَلى ضَلالِهِمْ في أنْفُسِهِمْ، وضِعْفًا عَلى إضْلالِ مَن أضَلُّوا. وقَرَأ الجُمْهُورُ: كَثِيرًا بِالثّاءِ المُثَلَّثَةِ. وقَرَأ حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمانِ، وابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ، والأعْرَجُ بِخِلافٍ عَنْهُ بِالباءِ. ﴿كالَّذِينَ آذَوْا مُوسى﴾ قِيلَ: نَزَلَتْ في شَأْنِ زَيْدٍ وزَيْنَبَ، وما سُمِعَ فِيهِ مِن قالَةِ بَعْضِ النّاسِ. وقِيلَ: المُرادُ حَدِيثُ الإفْكِ عَلى أنَّهُ ما أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ ما أُوذِيتَ. وفي حَدِيثِ الرَّجُلِ الَّذِي قالَ لِقَسْمٍ قَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ ما أُرِيدَ بِها وجْهُ اللَّهِ، فَغَضِبَ وقالَ: «رَحِمَ اللَّهُ أخِي مُوسى، لَقَدْ أُوذِيَ أكْثَرَ مِن هَذا فَصَبَرَ» . وإذايَةُ مُوسى قَوْلُهم: (p-٢٥٣)إنَّهُ أبْرَصُ وآدَرُ، وأنَّهُ حَسَدَ أخاهُ هارُونَ وقَتَلَهُ. أوْ حَدِيثُ المُومِسَةِ المُسْتَأْجَرَةِ لِأنْ تَقُولَ: إنَّ مُوسى زَنى بِها، أوْ ما نَسَبُوهُ إلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ والجُنُونِ، أقْوالٌ. ﴿مِمّا قالُوا﴾ أيْ: مِن وصْمِ ما قالُوا، و”ما“ مَوْصُولَةٌ أوْ مَصْدَرِيَّةٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿وكانَ عِنْدَ اللَّهِ﴾ الظَّرْفُ مَعْمُولٌ لِـ: (وجِيهًا) أيْ: ذا وجْهٍ ومَنزِلَةٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، تُمِيطُ عَنْهُ الأذى وتَدْفَعُ التُّهَمَ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، والأعْمَشُ، وأبُو حَيْوَةَ: عَبْدٌ مِنَ العُبُودِيَّةِ، لِلَّهِ جَرٌّ بِلامِ الجَرِّ، و(عَبْدًا) خَبَرُ كانَ، و(وجِيهًا) صِفَةً لَهُ. قالَ ابْنُ خالَوَيْهِ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنَ شَنَبُوذَ في شَهْرِ رَمَضانَ فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ: وكانَ عَبْدُ اللَّهِ عَلى قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: (وجِيهًا) مَقْبُولًا. وقالَ الحَسَنُ: مُسْتَجابَ الدَّعْوَةِ، ما سَألَ شَيْئًا إلّا أُعْطِيَ، إلّا الرُّؤْيَةَ في الدُّنْيا. وقالَ قُطْرُبٌ: رَفِيعَ القَدْرِ. وقِيلَ: وجاهَتُهُ أنَّهُ كَلَّمَهُ ولَقَّبَهُ كَلِيمَ اللَّهِ. والسَّدِيدُ: تَقَدَّمَ شَرْحُهُ في أوائِلِ النِّساءِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هُنا صَوابًا. وقالَ مُقاتِلٌ وقَتادَةُ: سَدِيدًا في شَأْنِ زَيْدٍ وزَيْنَبَ والرَّسُولِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ أيْضًا: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وقِيلَ: ما يُوافِقُ ظاهِرُهُ باطِنَهُ، وقِيلَ: ما هو إصْلاحٌ مِن تَسْدِيدِ السَّهْمِ لِيُصِيبَ الغَرَضَ، وقِيلَ: السَّدِيدُ يَعُمُّ الخَيْراتِ. ورُتِّبَ عَلى القَوْلِ السَّدِيدِ: صَلاحُ الأعْمالِ وغُفْرانُ الذُّنُوبِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهَذِهِ الآيَةُ مُقَرِّرَةٌ لِلَّتِي قَبْلَها. بُنِيَتْ تِلْكَ عَلى النَّهْيِ عَمّا يُؤْذى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وهَذِهِ عَلى الأمْرِ بِاتِّقاءِ اللَّهِ في حِفْظِ اللِّسانِ، لِيَتَرادَفَ عَلَيْهِمُ النَّهْيُ والأمْرُ، مَعَ إتْباعِ النَّهْيِ ما يَتَضَمَّنُ الوَعِيدَ مِن قِصَّةِ مُوسى، وإتْباعِ الأمْرِ الوَعْدَ البَلِيغَ، فَيَقْوى الصّارِفُ عَنِ الأذى والدّاعِي إلى تَرْكِهِ. انْتَهى، وهو كَلامٌ حَسَنٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب