الباحث القرآني
(p-٢٣٩)﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكم عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَراحًا جَمِيلًا﴾ ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْواجَكَ اللّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّا أفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وبَناتِ عَمِّكَ وبَناتِ عَمّاتِكَ وبَناتِ خالِكَ وبَناتِ خالاتِكَ اللّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وامْرَأةً مُؤْمِنَةً إنْ وهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إنْ أرادَ النَّبِيُّ أنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ في أزْواجِهِمْ وما مَلَكَتْ أيْمانُهم لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ﴿تُرْجِي مَن تَشاءُ مِنهُنَّ وتُؤْوِي إلَيْكَ مَن تَشاءُ ومَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أدْنى أنْ تَقَرَّ أعْيُنُهُنَّ ولا يَحْزَنَّ ويَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ واللَّهُ يَعْلَمُ ما في قُلُوبِكم وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا﴾ ﴿لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِن بَعْدُ ولا أنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِن أزْواجٍ ولَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إلّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ .
لَمّا ذَكَرَ تَعالى قِصَّةَ زَيْدٍ وزَيْنَبَ وتَطْلِيقَهُ إيّاها، وكانَتْ مَدْخُولًا بِها، واعْتَدَّتْ، وخَطَبَها الرَّسُولُ، عَلَيْهِ السَّلامُ، بَعْدَ انْقِضاءٍ عِدَّتِها، بَيَّنَ حالَ مَن طُلِّقَتْ قَبْلَ المَسِيسِ، وأنَّها لا عِدَّةَ عَلَيْها.
ومَعْنى ﴿نَكَحْتُمُ﴾ عَقَدْتُمْ عَلَيْهِنَّ. وسُمِّيَ العَقْدُ نِكاحًا لِأنَّهُ سَبَبٌ إلَيْهِ، كَما سُمِّيَتِ الخَمْرُ إثْمًا لِأنَّها سَبَبٌ لَهُ. قالُوا: ولَفْظُ النِّكاحِ في كِتابِ اللَّهِ لَمْ يَرِدْ إلّا في العَقْدِ، وهو مِن آدابِ القُرْآنِ؛ كَما كَنّى عَنِ الوَطْءِ بِالمُماسَّةِ والمُلامَسَةِ والقُرْبانِ والتَّغَشِّي والإتْيانِ، قِيلَ: إلّا في قَوْلِهِ: ﴿حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] فَإنَّهُ بِمَعْنى الوَطْءِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِ في البَقَرَةِ. والكِتابِيّاتُ، وإنْ شارَكَتِ المُؤْمِناتِ في هَذا الحُكْمِ، فَتَخْصِيصُ المُؤْمِناتِ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ المُؤْمِنَ لا يَنْبَغِي أنْ يَتَخَيَّرَ لِنُطْفَتِهِ إلّا المُؤْمِنَةَ. وفائِدَةُ المَجِيءِ بِثُمَّ، وإنْ كانَ الحُكْمُ ثابِتًا، إنْ تَزَوَّجَتْ وطُلِّقَتْ عَلى الفَوْرِ، ولِمَن تَأخَّرَ طَلاقُها. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَفى التَّوَهُّمَ عَمَّنْ عَسى يَتَوَهَّمُ تَفاوُتَ الحُكْمِ بَيْنَ أنْ يُطَلِّقَها، وهي قَرِيبَةُ العَهْدِ مِنَ النِّكاحِ، وبَيْنَ أنْ يَبْعُدَ عَهْدُها بِالنِّكاحِ، وتَتَراخى بِها المُدَّةُ في حِيالَةِ الزَّوْجِ ثُمَّ يُطَلِّقُها. انْتَهى. واسْتَعْمَلَ صِلَةً لِمَن: عَسى، وهو لا يَجُوزُ، أوْ لُوحِظَ في ذَلِكَ الغالِبُ، فَإنَّ مَن أقْدَمَ عَلى العَقْدِ عَلى امْرَأةٍ، إنَّما يَكُونُ ذَلِكَ (p-٢٤٠)لِرَغْبَةٍ، فَيَبْعُدُ أنْ يُطَلِّقَها عَلى الفَوْرِ؛ لِأنَّ الطَّلاقَ مُشْعِرٌ بِعَدَمِ الرَّغْبَةِ، فَلا بُدَّ أنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَ العَقْدِ والطَّلاقِ مُهْلَةٌ يَظْهَرُ فِيها لِلزَّوْجِ نَأْيُهُ عَنِ المَرْأةِ، وأنَّ المَصْلَحَةَ في ذَلِكَ لَهُ. والظّاهِرُ أنَّ الطَّلاقَ لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ العَقْدِ، ولا يَصِحُّ طَلاقُ مَن لَمْ يُعْقَدْ عَلَيْها عَيْنَها أوْ قَبِيلَتَها أوِ البَلَدَ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ. وقالَتْ طائِفَةٌ كَبِيرَةٌ مِنهم مالِكٌ: يَصِحُّ ذَلِكَ. والظّاهِرُ أنَّ المَسِيسَ هُنا كِنايَةٌ عَنِ الجِماعِ، وأنَّهُ إذا خَلا بِها ثُمَّ طَلَّقَها، لا يَعْقِدُ. وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ: حُكْمُ الخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ حُكْمُ المَسِيسِ. والظّاهِرُ أنَّ المُطَلَّقَةَ رَجْعِيَّةً، إذا راجَعَها زَوْجُها قَبْلَ أنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُها، ثُمَّ فارَقَها قَبْلَ أنْ يَمَسَّها، لا تَتِمُّ عِدَّتُها مِنَ الطَّلْقَةِ الأُولى، ولا تَسْتَقْبِلُ عِدَّةً؛ لِأنَّها مُطَلَّقَةٌ قَبْلَ الدُّخُولِ، وبِهِ قالَ داوُدُ. وقالَ عَطاءٌ وجَماعَةٌ: تَمْضِي في عِدَّتِها عَنْ طَلاقِها الأوَّلِ، وهو أحَدُ قَوْلَيِ الشّافِعِيِّ. وقالَ مالِكٌ: لا تَبْنِي عَلى العِدَّةِ مِنَ الطَّلاقِ الأوَّلِ، وتَسْتَأْنِفُ العِدَّةَ مِن يَوْمِ طَلَّقَها الطَّلاقَ الثّانِيَ، وهو قَوْلُ فُقَهاءِ جُمْهُورِ الأمْصارِ. والظّاهِرُ أيْضًا أنَّها لَوْ كانَتْ بائِنًا غَيْرَ مَبْتُوتَةٍ، فَتَزَوَّجَها في العِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَها قَبْلَ الدُّخُولِ، كالرَّجْعِيَّةِ في قَوْلِ داوُدَ، لَيْسَ عَلَيْها عِدَّةٌ، لا بَقِيَّةُ عِدَّةِ الطَّلاقِ الأوَّلِ ولا اسْتِئْنافُ عِدَّةِ الثّانِي، ولَها نِصْفُ المَهْرِ. وقالَ الحَسَنُ، وعَطاءٌ، وعِكْرِمَةُ، وابْنُ شِهابٍ، ومالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وعُثْمانُ البَتِّيُّ، وزُفَرُ: لَها نِصْفُ الصَّداقِ، وتُتِمُّ بَقِيَّةَ العِدَّةِ الأُولى. وقالَ الثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، وأبُو يُونُسَ: لَها مَهْرٌ كامِلٌ لِلنِّكاحِ الثّانِي، وعِدَّةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ، جَعَلُوها في حُكْمِ المَدْخُولِ بِها، لِاعْتِدادِها مِن مِائَةٍ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿تَعْتَدُّونَها﴾ بِتَشْدِيدِ الدّالِ: افْتَعَلَ مِنَ العَدِّ، أيْ: تَسْتَوْفُونَ عَدَدَها، مِن قَوْلِكَ: عَدَّ الدَّراهِمَ فاعْتَدَّها، أيِ: اسْتَوْفى عَدَدَها؛ نَحْوَ قَوْلِكَ: كِلْتُهُ واكْتالَهُ، وزِنْتُهُ فاتَّزَنْتُهُ. وعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وغَيْرِهِ مِن أهْلِ مَكَّةَ: بِتَخْفِيفِ الدّالِ، ونَقَلَها عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ ابْنُ خالَوَيْهِ وأبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ورُوِيَ عَنْ أبِي بَرْزَةَ، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: بِتَخْفِيفِ الدّالِ مِنَ العُدْوانِ، كَأنَّهُ قالَ: فَما لَكم عِدَّةٌ تَلْزَمُونَها عُدْوانًا وظُلْمًا لَهُنَّ، والقِراءَةُ الأُولى أشْهَرُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وتَخْفِيفُ الدّالِ وهْمٌ مِن أبِي بَرْزَةَ. انْتَهى. ولَيْسَ بِوَهْمٍ، إذْ قَدْ نَقَلَها عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ ابْنُ خالَوَيْهِ وأبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ في (كِتابِ اللَّوامِحِ في شَواذِّ القِراءاتِ) ونَقَلَها الرّازِيُّ المَذْكُورُ عَنْ أهْلِ مَكَّةَ وقالَ: هو مِنَ الِاعْتِدادِ لا مَحالَةَ، لَكِنَّهم كَرِهُوا التَّضْعِيفَ فَخَفَّفُوهُ. فَإنْ جُعِلَتْ مِنَ الِاعْتِداءِ الَّذِي هو الظُّلْمُ ضُعِّفَ؛ لِأنَّ الِاعْتِداءَ يَتَعَدّى بِعَلى. انْتَهى. وإذا كانَ يَتَعَدّى بِعَلى، فَيَجُوزُ أنْ لا يَحْذِفَ عَلى، ويَصِلُ الفِعْلُ إلى الضَّمِيرِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
؎تَحِنُّ فَتُبْدِي ما بِها مِن صَبابَةٍ وأُخْفِي الَّذِي لَوْلا الأسى لَقَضانِي
أيْ: لَقَضى عَلَيَّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقُرِئَ: تَعْتَدُونَها مُخَفَّفًا، أيْ: تَعْتَدُونَ فِيها، كَقَوْلِهِ: ويَوْمًا شَهِدْناهُ. والمُرادُ بِالِاعْتِداءِ ما في قَوْلِهِ: ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا. انْتَهى. ويَعْنِي أنَّهُ اتَّصَلَ بِالفِعْلِ لَمّا حُذِفَ حَرْفُ الجَرِّ وصَّلَ الفِعْلَ إلى ضَمِيرِ العِدَّةِ، كَقَوْلِهِ:
؎ويَوْمًا شَهِدْناهُ سُلَيْمًا وعامِرًا
أيْ: شَهِدْنا فِيهِ. وأمّا عَلى تَقْدِيرِ ”عَلى“، فالمَعْنى: تَعْتَدُونَ عَلَيْهِنَّ فِيها. وقَرَأ الحَسَنُ: بِإسْكانِ العَيْنِ كَغَيْرِهِ، وتَشْدِيدِ الدّالِ جَمْعًا بَيْنَ السّاكِنَيْنِ. وقَوْلُهُ: (فَما لَكم) يَدُلُّ عَلى أنَّ العِدَّةَ حَقُّ الزَّوْجِ فِيها غالِبٌ، وإنْ كانَتْ لا تَسْقُطُ بِإسْقاطِهِ، لِما فِيهِ مِن حَقِّ اللَّهِ تَعالى. والظّاهِرُ أنَّ مَن طُلِّقَتْ قَبْلَ المَسِيسِ لَها المُتْعَةُ مُطْلَقًا، سَواءٌ كانَتْ مَمْدُودَةً أمْ مَفْرُوضًا لَها. وقِيلَ: يَخْتَصُّ هَذا الحُكْمُ بِمَن لا مُسَمًّى لَها. والظّاهِرُ أنَّ الأمْرَ في ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ لِلْوُجُوبِ، وقِيلَ: لِلنَّدْبِ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ مُشَبَّعًا في المُتْعَةِ في البَقَرَةِ. والسَّراحُ الجَمِيلُ: هو كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ دُونَ أذًى ولا مَنعِ واجِبٍ. وقِيلَ: أنْ لا يُطالِبَها بِما آتاها. ولَمّا بَيَّنَ تَعالى بَعْضَ أحْكامِ أنْكِحَةِ المُؤْمِنِينَ، أتْبَعَهُ بِذِكْرِ طَرَفٍ مِن نِساءِ النَّبِيِّ ﷺ . والأُجُورُ: المُهُورُ؛ لِأنَّهُ أجْرٌ عَلى (p-٢٤١)الِاسْتِمْتاعِ بِالبِضْعِ وغَيْرِهِ مِمّا يَجُوزُ بِهِ الِاسْتِمْتاعُ. وفي وصْفِهِنَّ بِـ ﴿اللّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ اللَّهَ اخْتارَ لِنَبِيِّهِ الأفْضَلَ والأوْلى؛ لِأنَّ إيتاءَ المَهْرِ أوْلى وأفْضَلُ مِن تَأْخِيرِهِ، لِيَتَفَصّى الزَّوْجُ عَنْ عُهْدَةِ الدِّينِ وشَغْلِ ذِمَّتِهِ بِهِ، ولِأنَّ تَأْخِيرَهُ يَقْتَضِي أنَّهُ يَسْتَمْتِعُ بِها مَجّانًا دُونَ عِوَضٍ تَسَلَّمَتْهُ، والتَّعْجِيلُ كانَ سُنَّةَ السَّلَفِ، لا يُعْرَفُ مِنهم غَيْرُهُ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ، عَلَيْهِ السَّلامُ، لِبَعْضِ الصَّحابَةِ حِينَ شَكا حالَةَ التَّزَوُّجِ: «فَأيْنَ دِرْعُكَ الحُطَمِيَّةَ» ؟ وكَذَلِكَ تَخْصِيصُ ما مَلَكَتْ يَمِينُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿مِمّا أفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ﴾ لِأنَّها إذا كانَتْ مَسْبِيَّةً، فَمَلَكَها مِمّا غَنَّمَهُ اللَّهُ مِن أهْلِ دارِ الحَرْبِ كانَتْ أحَلَّ وأطْيَبَ مِمّا تُشْتَرى مِنَ الجَلَبِ. فَما سُبِيَ مِن دارِ الحَرْبِ قِيلَ فِيهِ سَبْيٌ طَيِّبَةٌ، ومِمَّنْ لَهُ عَهْدٌ قِيلَ فِيهِ سَبْيٌ خَبِيثَةٌ، وفَيْءُ اللَّهِ لا يُطْلَقُ إلّا عَلى الطَّيِّبِ دُونَ الخَبِيثِ.
والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْواجَكَ﴾ مَخْصُوصُ لَفْظَةِ (أزْواجِكَ) بِمَن كانَتْ في عِصْمَتِهِ، كَعائِشَةَ وحَفْصَةَ، ومَن تَزَوَّجَها بِمَهْرٍ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: أيْ: مَن تَزَوَّجَها بِمَهْرٍ، ومَن تَزَوَّجَها بِلا مَهْرٍ، وجَمِيعُ النِّساءِ حَتّى ذَواتِ المَحارِمِ مِن مَمْهُورَةٍ ورَقِيقَةٍ وواهِبَةٍ نَفْسَها مَخْصُوصَةٌ بِهِ. ثُمَّ قالَ بَعْدُ ﴿تُرْجِي مَن تَشاءُ مِنهُنَّ﴾ أيْ: مِن هَذِهِ الأصْنافِ كُلِّها، ثُمَّ الضَّمِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ يَعُمُّ إلى قَوْلِهِ: ﴿ولا أنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِن أزْواجٍ﴾ فَيَنْقَطِعُ مِنَ الأوَّلِ ويَعُودُ عَلى أزْواجِهِ التِّسْعِ فَقَطْ، وفي التَّأْوِيلِ الأوَّلِ تَضْيِيقٌ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَزَوَّجُ أيَّ النِّساءِ شاءَ، وكانَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلى نِسائِهِ. فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وحُرِّمَ عَلَيْهِ بِها النِّساءُ، إلّا مَن سُمِّيَ، سُرَّ نِساؤُهُ بِذَلِكَ، ومِلْكُ اليَمِينِ إنَّما يُعَلِّقُهُ في النّادِرِ، وبَناتُ العَمِّ، ومَن ذُكِرَ مَعَهُنَّ يَسِيرٌ. ومَن يُمْكِنُ أنْ يَتَزَوَّجَ مِنهُنَّ مَحْصُورٌ عِنْدَ نِسائِهِ، ولا سِيَّما وقَدْ قُرِنَ بِشَرْطِ الهِجْرَةِ، والواجِبُ أيْضًا مِنَ النِّساءِ قَلِيلٌ، فَلِذَلِكَ سُرَّ بِانْحِصارِ الأمْرِ. ثُمَّ مَجِيءُ ﴿تُرْجِي مَن تَشاءُ مِنهُنَّ﴾ إشارَةٌ إلى ما تَقَدَّمَ، ثُمَّ مَجِيءُ ﴿ولا أنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِن أزْواجٍ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ أزْواجَهُ اللَّواتِي تَقَدَّمَ النَّصُّ عَلَيْهِنَّ بِالتَّحْلِيلِ، فَيَأْتِي الكَلامُ مُثْبَتًا مُطَّرِدًا أكْثَرَ مِنَ اطِّرادِهِ عَلى التَّأْوِيلِ الآخَرِ.
﴿وبَناتِ عَمِّكَ﴾ قالَتْ أُمُّ هانِئِ بِنْتُ أبِي طالِبٍ: خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فاعْتَذَرْتُ إلَيْهِ فَعَذَرَنِي، ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَحَرَّمَتْنِي عَلَيْهِ؛ لِأنِّي لَمْ أُهاجِرْ مَعَهُ، وإنَّما كُنْتُ مِنَ الطُّلَقاءِ. والتَّخْصِيصُ بِـ ﴿اللّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ﴾ لِأنَّ مَن هاجَرَ مَعَهُ مِن قَرابَتِهِ غَيْرِ المَحارِمِ أفْضَلُ مِن غَيْرِ المُهاجِراتِ. وقِيلَ: شَرْطُ الهِجْرَةِ في التَّحْلِيلِ مَنسُوخٌ. وحَكى الماوَرْدِيُّ في ذَلِكَ قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ الهِجْرَةَ شَرْطٌ في إحْلالِ الأزْواجِ عَلى الإطْلاقِ. والثّانِي: أنَّهُ شَرْطٌ في إحْلالِ قَراباتِ المَذْكُوراتِ في الآيَةِ دُونَ الأجْنَبِيّاتِ، والمَعِيَّةُ هُنا: الِاشْتِراكُ في الهِجْرَةِ لا في الصُّحْبَةِ فِيها، فَيُقالُ: دَخَلَ فُلانٌ مَعِي وخَرَجَ مَعِي، أيْ: كانَ عَمَلُهُ كَعَمَلِي وإنْ لَمْ يَقْتَرِنا في الزَّمانِ. ولَوْ قُلْتَ: فَرَجَعْنا مَعًا، اقْتَضى المَعْنَيانِ الِاشْتِراكَ في الفِعْلِ، والِاقْتِرانُ في الزَّمانِ. وأفْرَدَ العَمَّ والخالَ لِأنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، والعَمَّةُ والخالَةُ كَذَلِكَ، وهَذا حَرْفٌ لُغَوِيٌّ قالَهُ أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ القاضِي.
﴿وامْرَأةً مُؤْمِنَةً﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ: هي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الحارِثِ. وقالَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ، والضَّحّاكُ، ومُقاتِلٌ: هي أُمُّ شَرِيكٍ. وقالَ عُرْوَةُ، والشَّعْبِيُّ: هي زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ، أُمُّ المَساكِينَ، امْرَأةٌ مِنَ الأنْصارِ. وقالَ عُرْوَةُ أيْضًا: هي خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمِ بْنِ الأوْقَصِ السُّلَمِيَّةُ. واخْتُلِفَ في ذَلِكَ. فَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: لَمْ يَكُنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أحَدٌ مِنهُنَّ بِالهِبَةِ. وقِيلَ: المُوهِباتُ أرْبَعٌ: مَيْمُونَةُ بِنْتُ الحارِثِ، ومَن ذُكِرَ مَعَها قَبْلُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (وامْرَأةً) بِالنَّصْبِ؛ ﴿إنْ وهَبَتْ﴾ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ: أيْ: أحْلَلْناها لَكَ إنْ وهَبَتْ إنْ أرادَ، فَهُنا شَرْطانِ، والثّانِي في مَعْنى الحالِ، شَرْطٌ في الإحْلالِ هِبَتُها نَفْسَها، وفي الهِبَةِ إرادَةُ اسْتِنْكاحِ النَّبِيِّ ﷺ، كَأنَّهُ قالَ: أحْلَلْناها لَكَ إنْ وهَبَتْ لَكَ نَفْسَها، وأنْتَ تُرِيدُ أنْ تَسْتَنْكِحَها؛ لِأنَّ إرادَتَهُ هي قَبُولُهُ الهِبَةَ وما بِهِ تَتِمُّ، وهَذانِ الشَّرْطانِ نَظِيرُ الشَّرْطَيْنِ في قَوْلِهِ: (p-٢٤٢)﴿ولا يَنْفَعُكم نُصْحِي إنْ أرَدْتُ أنْ أنْصَحَ لَكم إنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ [هود: ٣٤] . وإذا اجْتَمَعَ شَرْطانِ، فالثّانِي شَرْطٌ في الأوَّلِ، مُتَأخِّرٌ في اللَّفْظِ، مُتَقَدِّمٌ في الوُقُوعِ، ما لَمْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ عَلى التَّرْتِيبِ، نَحْوَ: إنْ تَزَوَّجْتُكِ أوْ طَلَّقْتُكِ فَعَبْدِي حُرٌّ. واجْتِماعُ الشَّرْطَيْنِ مَسْألَةٌ فِيها خِلافٌ وتَفْصِيلٌ، وقَدِ اسْتَوْفَيْنا ذَلِكَ في (شَرْحِ التَّسْهِيلِ) في بابِ الجَوازِمِ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: ”وامْرَأةٌ مُؤْمِنَةٌ“، بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ: أيْ: أحْلَلْناها لَكَ. وقَرَأ أُبَيٌّ، والحَسَنُ، والشَّعْبِيُّ، وعِيسى، وسَلامٌ: ”أنْ“ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وتَقْدِيرُهُ: لِأنْ وهَبَتْ، وذَلِكَ حُكْمٌ في امْرَأةٍ بِعَيْنِها، فَهو فِعْلٌ ماضٍ، وقِراءَةُ الكَسْرِ اسْتِقْبالٌ في كُلِّ امْرَأةٍ كانَتْ تَهَبُ نَفْسَها دُونَ واحِدَةٍ بِعَيْنِها. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: إذْ وهَبَتْ، إذْ ظَرْفٌ لِما مَضى، فَهو في امْرَأةٍ بِعَيْنِها.
وعَدَلَ عَنِ الخِطابِ إلى الغَيْبَةِ في النَّبِيِّ ﷺ ﴿إنْ أرادَ النَّبِيُّ﴾ ثُمَّ رَجَعَ إلى الخِطابِ في قَوْلِهِ: ﴿خالِصَةً لَكَ﴾ لِلْإيذانِ بِأنَّهُ مِمّا خُصَّ بِهِ وأُوثِرَ. ومَجِيئُهُ عَلى لَفْظِ النَّبِيِّ، لِدَلالَةٍ عَلى أنَّ الِاخْتِصاصَ تَكْرِمَةٌ لَهُ لِأجْلِ النُّبُوَّةِ، وتَكْرِيرُهُ تَفْخِيمٌ لَهُ وتَقْرِيرٌ لِاسْتِحْقاقِهِ الكَرامَةَ لِنُبُوَّتِهِ. واسْتِنْكاحُها: طَلَبُ نِكاحِها والرَّغْبَةُ فِيهِ. والجُمْهُورُ: عَلى أنَّ التَّزْوِيجَ لا يَجُوزُ بِلَفْظِ الإجارَةِ ولا بِلَفْظِ الهِبَةِ. وقالَ أبُو الحَسَنِ الكَرْخِيُّ: يَجُوزُ بِلَفْظِ الإجارَةِ لِقَوْلِهِ: ﴿اللّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ وحُجَّةُ مَن مَنَعَ أنَّ عَقْدَ الإجارَةِ مُؤَقَّتٌ، وعَقْدَ النِّكاحِ مُؤَبَّدٌ، فَتَنافَيا. وذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ وصاحِباهُ إلى جَوازِ عَقْدِ النِّكاحِ بِلَفْظِ الهِبَةِ إذا وُهِبَتْ، فَأشْهَدَ عَلى نَفْسِهِ بِمَهْرٍ؛ لِأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وأُمَّتَهُ سَواءٌ في الأحْكامِ، إلّا فِيما خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وحُجَّةُ الجُمْهُورِ: أنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلامُ، خُصَّ بِمَعْنى الهِبَةِ ولَفْظُها جَمِيعًا؛ لِأنَّ اللَّفْظَ تابِعٌ لِلْمَعْنى، والمُدَّعِي لِلِاشْتِراكِ في اللَّفْظِ يَحْتاجُ إلى دَلِيلٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (خالِصَةً) بِالنَّصْبِ، وهو مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ (كَوَعْدِ اللَّهِ) و﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٣٨] أيْ: أخْلَصَ لَكَ إخْلاصًا.
﴿أحْلَلْنا لَكَ﴾ (خالِصَةً) بِمَعْنى خُلُوصًا، ويَجِيءُ المَصْدَرُ عَلى فاعِلٍ وعَلى فاعِلَةٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والفاعِلُ والفاعِلَةُ في المَصادِرِ عَلى غَيْرِ عَزِيزِينِ، كالخارِجِ والقاعِدِ والعاقِبَةِ والكاذِبَةِ. انْتَهى، ولَيْسَ كَما ذَكَرَ، بَلْ هُما عَزِيزانِ، وتَمْثِيلُهُ كالخارِجِ يُشِيرُ إلى قَوْلِ الفَرَزْدَقِ:
؎ولا خارِجًا مِن فِيَّ زُورُ كَلامٍ
والقاعِدُ إلى أحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ في قَوْلِهِ:
؎أقاعِدًا وقَدْ سارَ الرَّكْبُ
والكاذِبَةُ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ﴾ [الواقعة: ٢] . وقَدْ تُتَأوَّلُ هَذِهِ الألْفاظُ عَلى أنَّها لَيْسَتْ مَصادِرَ. وقُرِئَ: ”خالِصَةٌ“، بِالرَّفْعِ، فَمَن جَعَلَهُ مَصْدَرًا، قَدَّرَهُ: ذَلِكَ خُلُوصٌ لَكَ، وخُلُوصٌ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿خالِصَةً لَكَ﴾ مِن صِفَةِ الواهِبَةِ نَفْسَها لَكَ، فَقِراءَةُ النَّصْبِ عَلى الحالِ، قالَهُ الزَّجّاجُ: أيْ: أحْلَلْناها خالِصَةً لَكَ، والرَّفْعُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ: أيْ: هي خالِصَةٌ لَكَ، أيْ: هِبَةُ النِّساءِ أنْفُسَهُنَّ مُخْتَصٌّ بِكَ، لا يَجُوزُ أنْ تَهَبَ المَرْأةُ نَفْسَها لِغَيْرِكَ. وأجْمَعُوا عَلى أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ لِغَيْرِهِ، عَلَيْهِ السَّلامُ. ويَظْهَرُ مِن كَلامٍ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿خالِصَةً لَكَ﴾ يُرادُ بِهِ جَمِيعُ هَذِهِ الإباحَةِ؛ لِأنَّ المُؤْمِنِينَ قَصَرُوا عَلى مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والدَّلِيلُ عَلى أنَّها ورَدَتْ في أثَرِ الإحْلالاتِ الأرْبَعِ مَخْصُوصَةً بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لَها قَوْلُهُ: ﴿قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ في أزْواجِهِمْ وما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ بَعْدَ قَوْلِهِ: (مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ) وهي جُمْلَةٌ اعْتِراضِيَّةٌ. وقَوْلُهُ: ﴿لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ﴾ مُتَّصِلٌ بِـ ﴿خالِصَةً لَكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ في الأزْواجِ الإماءِ، وعَلى أيِّ حَدٍّ وصَفَهُ يَجِبُ أنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِمْ، فَفَرَضَهُ وعَلِمَ المَصْلَحَةَ في اخْتِصاصِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِما اخْتَصَّهُ بِهِ، فَفَعَلَ.
ومَعْنى ﴿لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ﴾ أيْ: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ ضِيقٌ في دِينِكَ، حَيْثُ اخْتَصَصْناكَ بِالتَّنْزِيهِ، واخْتِصاصُ ما هو أوْلى وأفْضَلُ في دُنْياكَ، حَيْثُ أحْلَلْنا لَكَ أجْناسَ المَنكُوحاتِ، وزِدْناكَ الواهِبَةَ نَفْسَها؛ ومَن جَعَلَ (خالِصَةً) نَعْتًا لِلْمَرْأةِ، فَعَلى مَذْهَبِهِ: هَذِهِ المَرْأةُ خالِصَةٌ لَكَ مِن دُونِهِمْ. انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ (لِكَيْلا) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿أحْلَلْنا لَكَ أزْواجَكَ﴾ . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ﴿لِكَيْلا يَكُونَ﴾ أيْ: بَيَّنّا هَذا البَيانَ (p-٢٤٣)وشَرَحْنا هَذا الشَّرْحَ لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ، ويُظَنُّ بِكَ أنَّكَ قَدْ أثِمْتَ عِنْدَ رَبِّكَ، ثُمَّ آنَسَ جَمِيعَ المُؤْمِنِينَ بِغُفْرانِهِ ورَحْمَتِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (غَفُورًا) لِلْواقِعِ في الحَرَجِ إذا تابَ (رَحِيمًا) بِالتَّوْسِعَةِ عَلى عِبادِهِ. انْتَهى، وفِيهِ دَسِيسَةٌ اعْتِزالِيَّةٌ.
﴿قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ﴾ الآيَةَ، مَعْناهُ: أنَّ ما ذَكَرْنا فَرْضُكَ وحُكْمُكَ مَعَ نِسائِكَ، وأمّا حُكْمُ أُمَّتِكَ فَعِنْدَنا عِلْمُهُ، وسَنُبَيِّنُهُ لَهم. وإنَّما ذَكَرَ هَذا لِئَلّا يَحْمِلَ واحِدٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ نَفْسَهُ عَلى ما كانَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَإنَّ لَهُ في النِّكاحِ والتَّسَرِّي خَصائِصَ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ. وقالَ مُجاهِدٌ: ﴿ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ﴾ هو أنْ لا يُجاوِزُوا أرْبَعًا. وقالَ قَتادَةُ: هو الوَلِيُّ والشُّهُودُ والمَهْرُ. وقِيلَ: ما فَرَضْنا مِنَ المَهْرِ والنَّفَقَةِ والكِسْوَةِ.
﴿وما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ قِيلَ: لا يَثْبُتُ المِلْكُ إلّا إذا كانَتْ مِمَّنْ يَجُوزُ سَبْيُها. وقِيلَ: ما أبَحْنا لَهم مِن مِلْكِ اليَمِينِ مَعَ الأرْبَعِ الحَرائِرِ مِن غَيْرِ عَدَدٍ مَحْصُورٍ، والمَعْنى: قَدْ عَلِمْنا إصْلاحَ كُلٍّ مِنكَ ومِن أُمَّتِكَ، وما هو الأصْلَحُ لَكَ ولَهم، فَشَرَعْنا في حَقِّكَ وحَقِّهِمْ عَلى وفْقِ ما عَلِمْنا.
رُوِيَ أنَّ أزْواجَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا تَغايَرْنَ وابْتَغَيْنَ زِيادَةَ النَّفَقَةِ، فَهَجَرَهُنَّ شَهْرًا، ونَزَلَ التَّخْيِيرُ، فَأشْفَقْنَ أنْ يُطَلَّقْنَ فَقُلْنَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، افْرِضْ لَنا مِن نَفْسِكَ ومالِكَ ما شِئْتَ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في مَعْنى ﴿تُرْجِي﴾ في قَوْلِهِ: ﴿وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأمْرِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ١٠٦] في سُورَةِ بَراءَةَ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (مِنهُنَّ) عائِدٌ عَلى أزْواجِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، والإرْجاءُ: الإيواءُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ: في طَلاقٍ مِمَّنْ تَشاءُ مِمَّنْ حَصَلَ في عِصْمَتِكَ، وإمْساكِ مَن تَشاءُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: في تَزَوُّجِ مَن تَشاءُ مِنَ الواهِباتِ، وتَأْخِيرِ مَن تَشاءُ. وقالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والضَّحّاكُ: وتُقَرِّرُ مَن شِئْتَ في القِسْمَةِ لَها، وتُؤَخِّرُ عَنْكَ مَن شِئْتَ، وتُقَلِّلُ لِمَن شِئْتَ، وتُكْثِرُ لِمَن شِئْتَ، لا حَرَجَ عَلَيْكَ في ذَلِكَ، فَإذا عَلِمْنَ أنَّ هَذا حُكْمُ اللَّهِ وقَضاؤُهُ، زالَتِ الإحْنَةُ والغَيْرَةُ عَنْهُنَّ ورَضِينَ وقَرَّتْ أعْيُنُهُنَّ، وهَذا مُناسِبٌ لِما رُوِيَ في سَبَبِ هَذِهِ الآيَةِ المُتَقَدَّمِ ذِكْرُهُ.
﴿ومَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ﴾ أيْ: ومَن طَلَبْتَها مِنَ المَعْزُولاتِ ومِنَ المُفْرَداتِ ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْكَ﴾ في رَدِّها وإيوائِها إلَيْكَ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَوْكِيدًا لِما قَبْلَهُ، أيْ: ومَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ ومَن عَزَلْتَ سَواءٌ، لا جُناحَ عَلَيْكَ. كَما تَقُولُ: مَن لَقِيَكَ مِمَّنْ لَمْ يَلْقَكَ، جَمِيعُهم لَكَ شاكِرٌ، تُرِيدُ مَن لَقِيَكَ ومَن لَمْ يَلْقَكَ، وفي هَذا الوَجْهِ حَذْفُ المَعْطُوفِ، وغَرابَةٌ في الدَّلالَةِ عَلى هَذا المَعْنى بِهَذا التَّرْكِيبِ، والرّاجِحُ القَوْلُ الأوَّلُ. وقالَ الحَسَنُ: المَعْنى: مَن ماتَ مِن نِسائِكَ اللَّواتِي عِنْدَكَ، أوْ خَلَّيْتَ سَبِيلَها، فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أنْ تَسْتَبْدِلَ عِوَضَها مِنَ اللّاتِي أحْلَلْتُ لَكَ، فَلا تَزْدادُ عَلى عِدَّةِ نِسائِكَ اللّاتِي عِنْدَكَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمَعْنى تَتْرُكُ مَضاجِعَ مَن تَشاءُ مِنهُنَّ وتُضاجِعُ مَن تَشاءُ، أوْ تُطَلِّقُ مَن تَشاءُ وتُمْسِكُ مَن تَشاءُ، أوْ لا تُقَسِّمُ لِأيَّتِهِنَّ شِئْتَ وتَقْسِمُ لِمَن شِئْتَ، أوْ تَتْرُكُ مَن تَشاءُ مِن أُمَّتِكَ وتَتَزَوَّجُ مَن شِئْتَ. وعَنِ الحَسَنِ: كانَ النَّبِيُّ ﷺ، إذا خَطَبَ امْرَأةً لَمْ يَكُنْ لِأحَدٍ أنْ يَخْطُبَها حَتّى يَدَعَها، وهَذِهِ قِسْمَةٌ جامِعَةٌ لِما هو الغَرَضُ؛ لِأنَّهُ إمّا أنْ يُطَلِّقَ، وإمّا أنْ يُمْسِكَ. فَإذا أمْسَكَ ضاجَعَ، أوْ تَرَكَ وقَسَمَ، أوْ لَمْ يَقْسِمْ. وإذا طَلَّقَ وعَزَلَ، فَإمّا أنْ يُخَلِّيَ المَعْزُولَةَ لا يَتْبَعُها، أوْ يَتْبَعُها. ورُوِيَ أنَّهُ أرْجَأ مِنهُنَّ: سَوْدَةَ، وجُوَيْرِيَّةَ، وصَفِيَّةَ، ومَيْمُونَةَ، وأُمَّ حَبِيبَةَ. فَكانَ يَقْسِمُ لَهُنَّ ما شاءَ كَما شاءَ، وكانَتْ مِمَّنْ أوى إلَيْهِ: عائِشَةُ، وحَفْصَةُ، وأُمُّ سَلَمَةَ، وزَيْنَبُ، أرْجَأ خَمْسًا وأوى أرْبَعًا. ورُوِيَ أنَّهُ كانَ يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ مَعَ ما أُطْلِقَ لَهُ وخُيِّرَ فِيهِ إلّا سَوْدَةَ، فَإنَّها وهَبَتْ نَفْسَها لِعائِشَةَ وقالَتْ: لا تُطَلِّقْنِي حَتّى أُحْشَرَ في زُمْرَةِ نِسائِكَ. انْتَهى. ذَلِكَ التَّفْوِيضُ إلى مَشِيئَتِكَ أدْنى إلى قُرَّةِ عُيُونِهِنَّ وانْتِفاءِ حُزْنِهِنَّ ووُجُودِ رِضاهُنَّ، إذا عَلِمْتَ أنَّ ذَلِكَ التَّفْوِيضَ مِن عِنْدِ اللَّهِ، فَحالَةُ كُلٍّ مِنهُنَّ كَحالَةِ الأُخْرى في ذَلِكَ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿أنْ تَقَرَّ أعْيُنُهُنَّ﴾ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ مِن قَرَّتِ العَيْنُ؛ وابْنُ مُحَيْصِنٍ: ”يُقِرَّ“ مِن: أقَرَّ أعْيُنَهُنَّ، بِالنَّصْبِ، وفاعِلُ ”تُقِرَّ“ ضَمِيرُ الخِطابِ، أيْ: أنْتَ. وقُرِئَ: ”تُقَرَّ“ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وأعْيُنُهُنَّ بِالرَّفْعِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿كُلُّهُنَّ﴾ بِالرَّفْعِ، (p-٢٤٤)تَأْكِيدًا لِنُونِ (يَرْضَيْنَ)؛ وأبُو إياسٍ حَوْبَةُ بْنُ عائِذٍ: بِالنَّصْبِ تَأْكِيدًا لِضَمِيرِ النَّصْبِ في ﴿آتَيْتَهُنَّ﴾ .
﴿واللَّهُ يَعْلَمُ ما في قُلُوبِكُمْ﴾ عامٌّ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والإشارَةُ بِهِ هَهُنا إلى ما في قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن مَحَبَّةِ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، ويَدْخُلُ في المَعْنى المُؤْمِنُونَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وعُبَيْدَةُ: مَن لَمْ يَرْضَ مِنهُنَّ بِما يُرِيدُ اللَّهُ مِن ذَلِكَ، وفَوَّضَ إلى مَشِيئَةِ رَسُولِهِ، وبَعَثَ عَلى تَواطُؤِ قُلُوبِهِنَّ، والتَّصافِي بَيْنَهُنَّ، والتَّوافُقِ عَلى طَلَبِ رِضا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وما فِيهِ طِيبُ نَفْسِهِ. انْتَهى. (وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا) بِما انْطَوَتْ عَلَيْهِ القُلُوبُ (حَلِيمًا) يَصْفَحُ عَمّا يَغْلِبُ عَلى القَلْبِ مِنَ المَسْئُولِ، إذْ هي مِمّا لا يَمْلِكُ غالِبًا. واتَّفَقَتِ الرِّواياتُ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، كانَ يَعْدِلُ بَيْنَهُنَّ في القِسْمَةِ حَتّى ماتَ، ولَمْ يَسْتَعْمِلْ شَيْئًا مِمّا أُبِيحَ لَهُ، ضَبْطًا لِنَفْسِهِ وأخْذًا بِالفَضْلِ، غَيْرَ ما جَرى لِسَوْدَةَ مِمّا ذَكَرْناهُ.
﴿لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِن بَعْدُ﴾ الظّاهِرُ أنَّها مُحْكَمَةٌ، وهو قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وجَماعَةٍ، مِنهُمُ الحَسَنُ وابْنُ سِيرِينَ، واخْتارَهُ الطَّبَرِيُّ. و(مِن بَعْدُ) المَحْذُوفُ مِنهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَقالَ أُبَيٌّ، وعِكْرِمَةُ، والضَّحّاكُ: ومِن بَعْدِ اللَّواتِي أحْلَلْنا لَكَ في قَوْلِهِ: ﴿إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْواجَكَ﴾ . فَعَلى هَذا المَعْنى، لا تَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِن بَعْدِ النِّساءِ اللّاتِي نُصَّ عَلَيْهِنَّ أنَّهُنَّ يَحْلِلْنَ لَكَ مِنَ الأصْنافِ الأرْبَعَةِ: لا أعْرابِيَّةً، ولا عَرَبِيَّةً، ولا كِتابِيَّةً، ولا أمَةً بِنِكاحٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ: مِن بَعْدُ؛ لِأنَّ التِّسْعَ نِصابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الأزْواجِ، كَما أنَّ الأرْبَعَ نِصابُ أُمَّتِهِ مِنهُنَّ. قالَ: لَمّا خُيِّرْنَ فاخْتَرْنَ اللَّهَ ورَسُولَهُ، جازاهُنَّ اللَّهُ أنْ حَظَرَ عَلَيْهِ النِّساءَ غَيْرَهُنَّ وتَبْدِيلَهُنَّ، ونَسَخَ بِذَلِكَ ما أباحَهُ لَهُ قَبْلُ مِنَ التَّوْسِعَةِ في جَمِيعِ النِّساءِ. وقالَ مُجاهِدٌ، وابْنُ جُبَيْرٍ: ورُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ: مِن بَعْدُ، أيْ: مِن بَعْدِ إباحَةِ النِّساءِ عَلى العُمُومِ، ولا تَحِلُّ لَكَ النِّساءُ غَيْرُ المُسْلِماتِ مِن يَهُودِيَّةٍ ولا نَصْرانِيَّةٍ. وكَذَلِكَ: ﴿ولا أنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِن أزْواجٍ﴾ أيْ: بِالمُسْلِماتِ مِن أزْواجٍ يَهُودِيّاتٍ ونَصْرانِيّاتٍ. وقِيلَ: في قَوْلِهِ ﴿ولا أنْ تَبَدَّلَ﴾ هو مِنَ البَدَلِ الَّذِي كانَ في الجاهِلِيَّةِ. كانَ يَقُولُ الرَّجُلُ: بادِلْنِي بِامْرَأتِكَ وأُبادِلُكَ بِامْرَأتِي، فَيَنْزِلُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عَنِ امْرَأتِهِ لِلْآخَرِ. قالَ مَعْناهُ ابْنُ زَيْدٍ، وأنَّهُ كانَ في الجاهِلِيَّةِ، وأنْكَرَ هَذا القَوْلَ الطَّبَرِيُّ وغَيْرُهُ في مَعْنى الآيَةِ، وما فَعَلَتِ العَرَبُ قَطُّ هَذا. وما رُوِيَ مِن حَدِيثِ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، أنَّهُ قالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اسْتِئْذانٍ، وعِنْدَهُ عائِشَةُ. مَن هَذِهِ الحُمَيْراءُ ؟ فَقالَ: ”عائِشَةُ“، فَقالَ عُيَيْنَةُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ شِئْتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْ سَيِّدَةِ نِساءِ العَرَبِ جَمالًا ونَسَبًا، فَلَيْسَ بِتَبْدِيلٍ، ولا أرادَ ذَلِكَ، وإنَّما احْتَقَرَ عائِشَةَ لِأنَّها كانَتْ صَبِيَّةً. ومِن في ﴿مِن أزْواجٍ﴾ زائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وفائِدَتُهُ اسْتِغْراقُ جِنْسِ الأزْواجِ بِالتَّحْرِيمِ. وقِيلَ: الآيَةُ مَنسُوخَةٌ، واخْتُلِفَ في النّاسِخِ فَقِيلَ: بِالسُّنَّةِ. قالَتْ عائِشَةُ: ما ماتَ حَتّى حَلَّ لَهُ النِّساءُ. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وهو قَوْلُ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ والضَّحّاكِ، وقِيلَ بِالقُرْآنِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿تُرْجِي مَن تَشاءُ مِنهُنَّ﴾ الآيَةَ. قالَ هِبَةُ اللَّهِ الضَّرِيرُ في النّاسِخِ والمَنسُوخِ لَهُ، وقالَ: لَيْسَ في كِتابِ اللَّهِ ناسِخٌ تَقَدَّمَ المَنسُوخَ سِوى هَذا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وكَلامُهُ يَضْعُفُ مِن جِهاتٍ. انْتَهى. وقِيلَ: قَوْلُهُ ﴿إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْواجَكَ﴾ الآيَةَ، فَتَرْتِيبُ النُّزُولِ لَيْسَ عَلى تَرْتِيبِ كِتابَةِ المُصْحَفِ. وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ القَوْلانِ: إنَّها مُحْكَمَةٌ، وإنَّها مَنسُوخَةٌ.
﴿ولَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ قِيلَ: مِنهُنَّ أسْماءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ الخَثْعَمِيَّةُ، امْرَأةُ جَعْفَرِ بْنِ أبِي طالِبٍ. والجُمْلَةُ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الفاعِلِ، وهو الضَّمِيرُ في (تَبَدَّلَ) لا مِنَ المَفْعُولِ الَّذِي هو ﴿مِن أزْواجٍ﴾ لِأنَّهُ مُوغِلٌ في التَّنْكِيرِ، وتَقْدِيرُهُ: مَفْرُوضًا إعْجابُكَ لَهُنَّ؛ وتَقَدَّمَ لَنا في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى حالٍ مَحْذُوفَةٍ، أيْ: ﴿ولا أنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِن أزْواجٍ﴾ عَلى كُلِّ حالٍ، ولَوْ في هَذِهِ الحالِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّبَدُّلَ، وهي حالَةُ الإعْجابِ بِالحُسْنِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وفي هَذا اللَّفْظِ ﴿أعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ أنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلى مَن يُرِيدُ زَواجَها. انْتَهى. وقَدْ جاءَ ذَلِكَ في السُّنَّةِ مِن (p-٢٤٥)حَدِيثِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ.
﴿إلّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ أيْ: فَإنَّهُ يَحِلُّ لَكَ. وأمّا إنْ كانَتْ مَوْصُولَةً واقِعَةً عَلى الجِنْسِ، فَهو اسْتِثْناءٌ مِنَ الجِنْسِ، يُخْتارُ فِيهِ الرَّفْعُ عَلى البَدَلِ مِنَ (النِّساءُ) . ويَجُوزُ النَّصْبُ عَلى الِاسْتِثْناءِ، وإنْ كانَتْ مَصْدَرِيَّةً، فَفي مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ لِأنَّهُ اسْتِثْناءٌ مِن غَيْرِ جِنْسِ الأوَّلِ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، ولَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأنَّهُ قالَ: والتَّقْدِيرُ: إلّا مِلْكُ اليَمِينِ، ومِلْكُ بِمَعْنى مَمْلُوكٍ، فَإذا كانَ بِمَعْنى مَمْلُوكٍ صارَ مِن جُمْلَةِ النِّساءِ لِأنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ المَصْدَرِ، فَيَكُونُ الرَّفْعُ هو أرْجَحُ، ولِأنَّهُ قالَ: وهو في مَوْضِعِ نَصْبٍ، ولا يَتَحَتَّمُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ. ولَوْ فَرَضْنا أنَّهُ مِن غَيْرِ الجِنْسِ حَقِيقَةً، بَلِ الحِجازُ تَنْصِبُ وتَمِيمٌ تُبْدِلُ؛ لِأنَّهُ مُسْتَثْنًى يُمْكِنُ تَوَجُّهُ العامِلِ عَلَيْهِ، وإنَّما يَكُونُ النَّصْبُ مُتَحَتِّمًا حَيْثُ كانَ المُسْتَثْنى لا يُمْكِنُ تَوَجُّهُ العامِلِ عَلَيْهِ نَحْوُ: ما زادَ المالَ إلّا النَّقْصُ، فَلا يُمْكِنُ تَوَجُّهُ الزِّيادَةُ عَلى النَّقْصِ، ولِأنَّهُ قالَ: اسْتِثْناءٌ مِن غَيْرِ الجِنْسِ. وقالَ مالِكٌ: بِمَعْنى مَمْلُوكٍ فَناقَضَ.
﴿وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ أيْ: راقِبًا، أوْ مُراقِبًا، ومَعْناهُ: حافِظٌ وشاهِدٌ ومُطَّلِعٌ، وهو تَحْذِيرٌ عَنْ مُجاوَزَةِ حُدُودِهِ وتَخَطِّي حَلالِهِ وحَرامِهِ.
{"ayahs_start":49,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَیۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةࣲ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحࣰا جَمِیلࣰا","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ إِنَّاۤ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَ ٰجَكَ ٱلَّـٰتِیۤ ءَاتَیۡتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتۡ یَمِینُكَ مِمَّاۤ أَفَاۤءَ ٱللَّهُ عَلَیۡكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَـٰلَـٰتِكَ ٱلَّـٰتِی هَاجَرۡنَ مَعَكَ وَٱمۡرَأَةࣰ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِیِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِیُّ أَن یَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةࣰ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۗ قَدۡ عَلِمۡنَا مَا فَرَضۡنَا عَلَیۡهِمۡ فِیۤ أَزۡوَ ٰجِهِمۡ وَمَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُهُمۡ لِكَیۡلَا یَكُونَ عَلَیۡكَ حَرَجࣱۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا","۞ تُرۡجِی مَن تَشَاۤءُ مِنۡهُنَّ وَتُـٔۡوِیۤ إِلَیۡكَ مَن تَشَاۤءُۖ وَمَنِ ٱبۡتَغَیۡتَ مِمَّنۡ عَزَلۡتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكَۚ ذَ ٰلِكَ أَدۡنَىٰۤ أَن تَقَرَّ أَعۡیُنُهُنَّ وَلَا یَحۡزَنَّ وَیَرۡضَیۡنَ بِمَاۤ ءَاتَیۡتَهُنَّ كُلُّهُنَّۚ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا فِی قُلُوبِكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِیمًا حَلِیمࣰا","لَّا یَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَاۤءُ مِنۢ بَعۡدُ وَلَاۤ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنۡ أَزۡوَ ٰجࣲ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ حُسۡنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ یَمِینُكَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ رَّقِیبࣰا"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ إِنَّاۤ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَ ٰجَكَ ٱلَّـٰتِیۤ ءَاتَیۡتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتۡ یَمِینُكَ مِمَّاۤ أَفَاۤءَ ٱللَّهُ عَلَیۡكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَـٰلَـٰتِكَ ٱلَّـٰتِی هَاجَرۡنَ مَعَكَ وَٱمۡرَأَةࣰ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِیِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِیُّ أَن یَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةࣰ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۗ قَدۡ عَلِمۡنَا مَا فَرَضۡنَا عَلَیۡهِمۡ فِیۤ أَزۡوَ ٰجِهِمۡ وَمَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُهُمۡ لِكَیۡلَا یَكُونَ عَلَیۡكَ حَرَجࣱۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق