الباحث القرآني

﴿وإذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ﴾ وهُمُ المُظْهِرُونَ لِلْإيمانِ المُبْطِنُونَ الكُفْرَ. ﴿والَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ هم ضُعَفاءُ الإيمانِ الَّذِينَ لَمْ يَتَمَكَّنِ الإيمانُ مِن قُلُوبِهِمْ، فَهم عَلى حَرْفٍ، والعَطْفُ دالٌّ عَلى التَّغايُرِ، نُبِّهَ عَلَيْهِمْ عَلى جِهَةِ الذَّمِّ. لَمّا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الصَّخْرَةَ، وبَرَقَتْ تِلْكَ البَوارِقُ، وبَشَّرَ بِفَتْحِ فارِسَ والرُّومِ واليَمَنِ والحَبَشَةِ، قالَ مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ: يَعِدُنا مُحَمَّدٌ أنْ نَفْتَحَ كُنُوزَ كِسْرى وقَيْصَرَ ومَكَّةَ، ونَحْنُ لا يَقْدِرُ أحَدُنا أنْ يَذْهَبَ إلى الغائِطِ، ما يَعِدُنا إلّا غُرُورًا: أيْ: أمْرًا يَغُرُّنا ويُوقِعُنا فِيما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. وقالَ غَيْرُهُ مِنَ المُنافِقِينَ نَحْوَ ذَلِكَ. وقَوْلُهم: ﴿ما وعَدَنا اللَّهُ ورَسُولُهُ إلّا غُرُورًا﴾ هو عَلى سَبِيلِ الهُزْءِ، إذْ لَوِ اعْتَقَدُوا أنَّهُ رَسُولٌ حَقِيقَةً ما قالُوا هَذِهِ المَقالَةَ، فالمَعْنى: ورَسُولُهُ عَلى زَعْمِكم وزَعْمِهِ، وفي مُعَتِّبٍ ونُظَرائِهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. ﴿وإذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنهُمْ﴾ أيْ: مِنَ المُنافِقِينَ ﴿لا مُقامَ لَكُمْ﴾ في حَوْمَةِ القِتالِ والمُمانَعَةِ ﴿فارْجِعُوا﴾ إلى بُيُوتِكم ومَنازِلِكم، أمَرُوهم بِالهَرَبِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وقِيلَ: فارْجِعُوا كُفّارًا إلى (p-٢١٨)دِينِكُمُ الأوَّلِ وأسْلِمُوهُ إلى أعْدائِهِ. قالَ السُّدِّيُّ: والقائِلُ لِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وأصْحابُهُ. وقالَ مُقاتِلٌ: بَنُو مَسْلَمَةَ. وقالَ أوْسُ بْنُ رُومانَ: أوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ وأصْحابُهُ. وقالَ الكَلْبِيُّ: بَنُو حارِثَةَ. ويُمْكِنُ صِحَّةُ هَذِهِ الأقْوالِ، فَإنَّ فِيهِمْ مَن كانَ مُنافِقًا. ﴿لا مُقامَ لَكُمْ﴾ وقَرَأ السُّلَمِيُّ والأعْرَجُ واليَمانِيُّ وحَفْصٌ: بِضَمِّ المِيمِ، فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مَكانًا، أيْ: لا مَكانَ إقامَةٍ؛ واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أيْ: لا إقامَةَ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، وأبُو رَجاءٍ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ، والنَّخَعِيُّ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ، وطَلْحَةُ، وباقِي السَّبْعَةِ: بِفَتْحِها، واحْتَمَلَ أيْضًا المَكانَ، أيْ: لا مَكانَ قِيامٍ، واحْتَمَلَ المَصْدَرَ، أيْ: لا قِيامَ لَكم. ﴿ويَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنهُمُ النَّبِيَّ﴾ هو أوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ، اسْتَأْذَنَ في الدُّخُولِ إلى المَدِينَةِ عَنِ اتِّفاقٍ مِن عَشِيرَتِهِ. (يَقُولُونَ) حالٌ، أيْ: قائِلِينَ: ﴿إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ﴾ أيْ: مُنْكَشِفَةٌ لِلْعَدُوِّ، وقِيلَ: خالِيَةٌ لِلسُّرّاقِ، يُقالُ: أعْوَرَ المَنزِلُ: انْكَشَفَ. وقالَ الشّاعِرُ: ؎لَهُ الشِّدَّةُ الأُولى إذا القَرْنُ أعْوَرا وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الفَرِيقُ بَنُو حارِثَةَ، وهم كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ لا يُوَلُّونَ الأدْبارَ، اعْتَذَرُوا بِأنَّ بُيُوتَهم مُعَرَّضَةٌ لِلْعَدُوِّ، مُمْكَنَةٌ لِلسُّرّاقِ؛ لِأنَّها غَيْرُ مُحْرَزَةٍ ولا مُحَصَّنَةٍ، فاسْتَأْذَنُوهُ لِيُحَصِّنُوها ثُمَّ يَرْجِعُوا إلَيْهِ، فَأكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِأنَّهم لا يَخافُونَ ذَلِكَ، وإنَّما يُرِيدُونَ الفِرارَ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ يَعْمُرَ، وقَتادَةُ، وأبُو رَجاءٍ، وأبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وأبُو طالُوتَ، وابْنُ مِقْسَمٍ، وإسْماعِيلُ بْنُ سُلَيْمانَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: ”﴿عَوْرَةٌ﴾“ و”بِعَوِرَةٍ“، بِكَسْرِ الواوِ فِيهِما؛ والجُمْهُورُ: بِإسْكانِها. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَخْفِيفُ ”﴿عَوْرَةٌ﴾“ وبِالكَسْرِ هو اسْمُ فاعِلٍ. وقالَ ابْنُ جِنِّي: صِحَّةُ الواوِ في هَذا إشارَةٌ لِأنَّها مُتَحَرِّكَةٌ قَبْلَها فَتْحَةٌ. انْتَهى. فَيَعْنِي أنَّها تَنْقَلِبُ ألِفًا، فَيُقالُ: عارَةٌ، كَما يَقُولُ: رَجُلٌ مالٌ، أيْ: مُمَوَّلٌ. وإذا كانَ ”عَوْرَةٌ“ اسْمَ فاعِلٍ، فَهو مِن عَوِرَ الَّذِي صَحَّتْ عَيْنُهُ، فاسْمُ الفاعِلِ كَذَلِكَ تَصِحُّ عَيْنُهُ، فَلا تَكُونُ صِحَّةُ العَيْنِ عَلى هَذا شُذُوذًا. وقِيلَ: السُّكُونُ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، والبَيْتُ العَوِرُ: هو المُنْفَرِدُ المُعَرَّضُ لِمَن أرادَ سُوءًا. وقالَ الزَّجّاجَ: عَوِرَ المَكانُ يَعْوَرُ عَوَرًا وعَوْرَةً فَهو عَوِرٌ، وبُيُوتٌ عَوْرَةٌ. وقالَ الفَرّاءُ: أعْوَرَ المَنزِلُ: بَدا مِنهُ عَوْرَةٌ، وأعْوَرَ الفارِسُ: كانَ فِيهِ مَوْضِعُ خَلَلٍ لِلضَّرْبِ والطَّعْنِ. قالَ الشّاعِرُ: ؎مَتّى تَلْقَهم لَمْ تَلْقَ في البَيْتِ مُعْوِرًا ∗∗∗ ولا الضَّيْفَ مَسْحُورًا ولا الجارَ مُرْسِلا قالَ الكَلْبِيُّ: ﴿عَوْرَةٌ﴾ خالِيَةٌ مِنَ الرِّجالِ ضائِعَةٌ. وقالَ قَتادَةُ: قاصِيَةٌ، يُخْشى عَلَيْها العَدُوُّ. وقالَ السُّدِّيُّ: قَصِيرَةُ الحِيطانِ، يُخافُ عَلَيْها السُّرّاقُ. وقالَ اللَّيْثُ: العَوْرَةُ: سَوْأةُ الإنْسانِ، وكُلُّ أمْرٍ يُسْتَحَيا مِنهُ فَهو عَوْرَةٌ، يُقالُ: عَوْرَةٌ في التَّذْكِيرِ والتَّأْنِيثِ، والجَمْعُ كالمَصْدَرِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: قالَتِ اليَهُودُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وأصْحابِهِ مِنَ المُنافِقِينَ: ما الَّذِي يَحْمِلُكم عَلى قَتْلِ أنْفُسِكم بِيَدِ أبِي سُفْيانَ وأصْحابِهِ ؟ فارْجِعُوا إلى المَدِينَةِ فَأنْتُمْ آمِنُونَ. ﴿إنْ يُرِيدُونَ إلّا فِرارًا﴾ مِنَ الدِّينِ، وقِيلَ: مِنَ القَتْلِ. وقالَ الضَّحّاكُ: ورَجَعَ ثَمانُونَ رَجُلًا مِن غَيْرِ إذْنٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ . والضَّمِيرُ في: ﴿دُخِلَتْ﴾ الظّاهِرُ عَوْدُهُ عَلى البُيُوتِ، إذْ هو أقْرَبُ مَذْكُورٍ. قِيلَ: أوْ عَلى المَدِينَةِ، أيْ: ولَوْ دَخَلَها الأحْزابُ الَّذِينَ يَفِرُّونَ خَوْفًا مِنها؛ والثّالِثُ عَلى أهالِيهِمْ وأوْلادِهِمْ. ﴿ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ﴾ أيِ: الرِّدَّةَ والرُّجُوعَ إلى إظْهارِ الكُفْرِ ومُقاتَلَةِ المُسْلِمِينَ. ﴿لَآتَوْها﴾ أيْ: لَجاءُوا إلَيْها وفَعَلُوا عَلى قِراءَةِ القَصْرِ، وهي قِراءَةُ نافِعٍ وابْنِ كَثِيرٍ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ: لَآتَوْها بِالمَدِّ، أيْ: لَأعْطَوْها. ﴿وما تَلَبَّثُوا بِها﴾ وما لَبِثُوا بِالمَدِينَةِ بَعْدَ ارْتِدادِهِمْ ﴿إلّا يَسِيرًا﴾ فَإنَّ اللَّهَ يُهْلِكُهم ويُخْرِجُهم بِالمُؤْمِنِينَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولَوْ دُخِلَتِ المَدِينَةُ مِن أقْطارِها، واشْتَدَّ الحَرْبُ الحَقِيقِيُّ، ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ والحَرْبَ لِمُحَمَّدٍ، لَطارُوا إلَيْها وأتَوْها مُجِيبِينَ فِيها، ولَمْ يَتَلَبَّثُوا في بُيُوتِهِمْ لِحِفْظِها إلّا يَسِيرًا، قِيلَ: قَدْرُ ما يَأْخُذُونَ سِلاحَهم. انْتَهى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿سُئِلُوا﴾، وقَرَأ الحَسَنُ: ”﴿سُئِلُوا﴾“، بِواوٍ (p-٢١٩)ساكِنَةٍ بَعْدَ السِّينِ المَضْمُومَةِ، قالُوا: وهي مِن سالَ يَسالُ، كَـ: خافَ يَخافُ، لُغَةٌ مِن: سَألَ، المَهْمُوزِ العَيْنِ. وحَكى أبُو زَيْدٍ: هُما يَتَساوَلانِ. انْتَهى. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أصْلُها الهَمْزَةَ؛ لِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ”﴿سُئِلُوا﴾“ عَلى قَوْلِ مَن يَقُولُ في ضَرَبَ: ضَرْبَ، ثُمَّ سَهَّلَ الهَمْزَةَ بِإبْدالِها واوًا عَلى قَوْلِ مَن قالَ في بُؤْسٍ: بُوسٌ، بِإبْدالِ الهَمْزَةِ واوًا لِضَمَّةِ ما قَبْلَها. وقَرَأ عَبْدُ الوارِثِ، عَنْ أبِي عَمْرٍو والأعْمَشِ: ”سِيلُوا“، بِكَسْرِ السِّينِ مِن غَيْرِ هَمْزٍ، نَحْوُ: قِيلَ. وقَرَأ مُجاهِدٌ: ”سُوئِلُوا“، بِواوٍ بَعْدَ السِّينِ المَضْمُومَةِ وياءٍ مَكْسُورَةٍ بَدَلًا مِنَ الهَمْزَةِ. وقالَ الضَّحّاكُ: ﴿ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ﴾ أيِ: القِتالَ في العَصَبِيَّةِ، لَأسْرَعُوا إلَيْهِ. وقالَ الحَسَنُ: الفِتْنَةُ: الشِّرْكُ، والظّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ بِها عَلى الفِتْنَةِ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى المَدِينَةِ. و(عاهَدُوا) أُجْرِيَ مَجْرى اليَمِينِ، ولِذَلِكَ يَتَلَقّى بِقَوْلِهِ: ﴿لا يُوَلُّونَ الأدْبارَ﴾ . وجَوابُ هَذا القَسَمِ جاءَ عَلى الغَيْبَةِ عَنْهم عَلى المَعْنى: ولَوْ جاءَ كَما لَفَظُوا بِهِ، لَكانَ التَّرْكِيبُ: لا نُوَلِّي الأدْبارَ. والَّذِينَ عاهَدُوا: بَنُو حارِثَةَ وبَنُو مَسْلَمَةَ، وهُما الطّائِفَتانِ اللَّتانِ هَمّا بِالفَشَلِ في يَوْمِ أُحُدٍ، ثُمَّ تابُوا وعاهَدُوا أنْ لا يَفِرُّوا، فَوَقَعَ يَوْمَ الخَنْدَقِ مِن بَنِي حارِثَةَ ذَلِكَ الِاسْتِئْذانُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: عاهَدُوا بِمَكَّةَ لَيْلَةَ العَقَبَةِ أنْ يَمْنَعُوهُ مِمّا يَمْنَعُونَ مِنهُ أنْفُسَهم. وقِيلَ: ناسٌ غابُوا عَنْ وقْعَةِ بَدْرٍ قالُوا: لَئِنْ أشْهَدَنا اللَّهُ قِتالًا لَنُقاتِلَنَّ مِن قَبْلُ: أيْ: مِن قَبْلِ هَذِهِ الغَزْوَةِ، غَزْوَةِ الخَنْدَقِ. ﴿لا يُوَلُّونَ الأدْبارَ﴾ كِنايَةً عَنِ الفِرارِ والِانْهِزامِ، سُئِلُوا مَطْلُوبًا مُقْتَضًى حَتّى يُوَفّى بِهِ، وفي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ ووَعِيدٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب