الباحث القرآني

﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ فَلا تَكُنْ في مِرْيَةٍ مِن لِقائِهِ وجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِي إسْرائِيلَ﴾ ﴿وجَعَلْنا مِنهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ﴾ ﴿إنَّ رَبَّكَ هو يَفْصِلُ بَيْنَهم يَوْمَ القِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ ﴿أوَلَمْ يَهْدِ لَهم كَمْ أهْلَكْنا مِن قَبْلِهِمْ مِنَ القُرُونِ يَمْشُونَ في مَساكِنِهِمْ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ أفَلا يَسْمَعُونَ﴾ ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا نَسُوقُ الماءَ إلى الأرْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنهُ أنْعامُهم وأنْفُسُهم أفَلا يُبْصِرُونَ﴾ ﴿ويَقُولُونَ مَتى هَذا الفَتْحُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ ﴿قُلْ يَوْمَ الفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إيمانُهم ولا هم يُنْظَرُونَ﴾ ﴿فَأعْرِضْ عَنْهم وانْتَظِرْ إنَّهم مُنْتَظِرُونَ﴾ . لَمّا قَرَّرَ الأُصُولَ الثَّلاثَةَ: الرِّسالَةَ، وبَدْءَ الخَلْقِ، والمَعادَ، عادَ إلى الأصْلِ الَّذِي بَدَأ بِهِ، وهو الرِّسالَةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِدْعًا في الرِّسالَةِ، إذْ قَدْ سَبَقَ قَبْلَكَ رُسُلٌ. وذَكَرَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، لِقُرْبِ (p-٢٠٥)زَمانِهِ، وإلْزامًا لِمَن كانَ عَلى دِينِهِ؛ ولَمْ يَذْكُرْ عِيسى؛ لِأنَّ مُعْظَمَ شَرِيعَتِهِ مُسْتَفادٌ مِنَ التَّوْراةِ، ولِأنَّ أتْباعَ مُوسى لا يُوافِقُونَ عَلى نُبُوَّتِهِ، وأتْباعَ عِيسى مُتَّفِقُونَ عَلى نُبُوَّةِ مُوسى. و(الكِتابَ) التَّوْراةَ. وقَرَأ الحَسَنُ: ”في مُرْيَةٍ“، بِضَمِّ المِيمِ، والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ عائِدٌ عَلى مُوسى، مُضافًا إلَيْهِ عَلى طَرِيقِ المَفْعُولِ، والفاعِلُ مَحْذُوفٌ ضَمِيرُ الرَّسُولِ ﷺ، أيْ: مِن لِقائِكَ مُوسى، أيْ: في لَيْلَةِ الإسْراءِ، أيْ: شاهَدْتَهُ حَقِيقَةً، وهو النَّبِيُّ ﷺ الَّذِي أُوتِيَ التَّوْراةَ، وقَدْ وصَفَهُ الرَّسُولُ ﷺ فَقالَ: «آدَمُ طُوالٌ جَعْدٌ، كَأنَّهُ مِن رِجالِ شَنُوءَةَ حِينَ رَآهُ لَيْلَةَ الإسْراءِ»، قالَهُ أبُو العالِيَةِ وقَتادَةُ وجَماعَةٌ مِنَ السَّلَفِ. وقالَ المُبَرِّدُ: حِينَ امْتُحِنَ الزَّجّاجُ بِهَذِهِ المَسْألَةِ. وقِيلَ: عائِدٌ عَلى الكِتابِ، فَإمّا مُضافٌ إلَيْهِ عَلى طَرِيقِ الفاعِلِ والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أيْ: مِن لِقاءِ الكِتابِ مُوسى ووُصُولِهِ إلَيْهِ، وإمّا بِالعَكْسِ، أيْ: مِن لِقاءِ مُوسى الكِتابِ وتَلَقِّيهِ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى الكِتابِ عَلى تَقْدِيرِ مُضْمَرٍ، أيْ: مِن لِقاءِ مِثْلِهِ، أيْ: إنّا آتَيْناكَ مِثْلَ ما آتَيْنا مُوسى، ولَقَّنّاكَ بِمِثْلِ ما لُقِّنَ مِنَ الوَحْيِ، فَلا تَكُ في شَكٍّ مِن أنَّكَ لُقِّنْتَ مِثْلَهُ ولَقِيتَ نَظِيرَهُ، ونَحْوُهُ مِن لِقائِهِ قَوْلُهُ: ﴿وإنَّكَ لَتُلَقّى القُرْآنَ﴾ [النمل: ٦] . وقالَ الحَسَنُ: يَعُودُ عَلى ما تَضَمَّنَهُ القَوْلُ مِنَ الشِّدَّةِ والمِحْنَةِ الَّتِي لَقِيَ مُوسى، وذَلِكَ أنَّ إخْبارَهُ بِأنَّهُ آتى مُوسى الكِتابَ كَأنَّهُ قالَ: ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى هَذا العِبْءَ الَّذِي أنْتَ بِسَبِيلِهِ، فَلا تَمْتَرِ أنَّكَ تُلَقّى ما لَقِيَ هو مِنَ المِحْنَةِ بِالنّاسِ. انْتَهى، وهَذا قَوْلٌ بَعِيدٌ. وأبْعَدُ مِن هَذا، مَن جَعَلَهُ عائِدًا عَلى مَلَكِ المَوْتِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، والجُمْلَةُ اعْتِراضِيَّةٌ. وقِيلَ: عائِدٌ عَلى الرُّجُوعِ إلى الآخِرَةِ، وفي الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، والتَّقْدِيرُ: (ثُمَّ إلى رَبِّكم تُرْجَعُونَ) . ﴿فَلا تَكُنْ في مِرْيَةٍ مِن لِقائِهِ﴾ أيْ: مِن لِقاءِ البَعْثِ، وهَذِهِ أنْقالٌ كانَ يَنْبَغِي أنْ يُنَزَّهَ كِتابُنا عَنْ نَقْلِها، ولَكِنْ نَقَلَها المُفَسِّرُونَ، فاتَّبَعْناهم. والضَّمِيرُ في (وجَعَلْناهُ) لِمُوسى، وهو قَوْلُ قَتادَةَ. وقِيلَ: لِلْكِتابِ، جَعَلَهُ هادِيًا مِنَ الضَّلالَةِ؛ وخَصَّ بَنِي إسْرائِيلَ بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَتَعَبَّدْ بِما فِيها ولَدَ إسْماعِيلَ. ﴿وجَعَلْنا مِنهُمْ﴾ أيْ: مِن بَنِي إسْرائِيلَ (أئِمَّةً) قادَةً يُقْتَدى بِهِمْ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿لَمّا صَبَرُوا﴾ بِفَتْحِ اللّامِ وشَدِّ المِيمِ. وعَبْدُ اللَّهِ وطَلْحَةُ، والأعْمَشُ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، ورُوَيْسٌ: بِكَسْرِ اللّامِ وتَخْفِيفِ المِيمِ. (وكانُوا) يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى (صَبَرُوا) فَيَكُونَ داخِلًا في التَّعْلِيقِ. ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى ﴿وجَعَلْنا مِنهُمْ﴾ . وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ أيْضًا: ”بِما صَبَرُوا“، بِباءِ الجَرِّ، والضَّمِيرُ في ”مِنهم“ ظاهِرُهُ يَعُودُ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ. والفَصْلُ يَوْمَ القِيامَةِ يَعُمُّ الخَلْقَ كُلَّهم. ﴿أوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَحْوِ هَذِهِ الآيَةِ إعْرابًا وقِراءَةً وتَفْسِيرًا في طه، إلّا أنَّ هُنا: (مِن قَبْلِهِمْ) والقَوْمُ (يَسْمَعُونَ) وهُناكَ: (قَبْلَهم) و(لِأُولِي النُّهى) . ويَسْمَعُونَ، والنُّهى مِنَ الفَواصِلِ. ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا نَسُوقُ الماءَ﴾ أقامَ تَعالى الحُجَّةَ عَلى الكَفَرَةِ بِالأُمَمِ السّالِفَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُهْلِكُوا، ثُمَّ أقامَها عَلَيْهِمْ بِإظْهارِ قُدْرَتِهِ وتَنْبِيهِهِمْ عَلى البَعْثِ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ﴿الجُرُزِ﴾ في الكَهْفِ، وكُلُّ أرْضٍ جُرُزٍ داخِلَةٌ في هَذا، فَلا تَخْصِيصَ لَها بِمَكانٍ مُعَيَّنٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هي أرْضُ أبْيَنَ مِنَ اليَمَنِ، وهي أرْضٌ تُشْرَبُ بِسُيُولٍ لا تُمْطَرُ. وقُرِئَ: ”الجُرْزِ“، بِسُكُونِ الرّاءِ. ﴿فَنُخْرِجُ بِهِ﴾ أيْ: بِالماءِ، وخَصَّ الزَّرْعَ بِالذِّكْرِ، وإنْ كانَ يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ أنْواعًا كَثِيرَةً مِنَ الفَواكِهِ والبُقُولِ والعُشْبِ المُنْتَفَعِ بِهِ في الطِّبِّ وغَيْرِهِ، تَشْرِيفًا لِلزَّرْعِ، ولِأنَّهُ أعْظَمُ ما يُقْصَدُ مِنَ النَّباتِ، وأوْقَعَ الزَّرْعَ مَوْقِعَ النَّباتِ. وقُدِّمَتِ الأنْعامُ؛ لِأنَّ ما يَنْبُتُ يَأْكُلُهُ الأنْعامُ أوَّلَ فَأوَّلَ، مِن قَبْلِ أنْ يَأْكُلَ بَنُو آدَمَ الحَبَّ. ألا تَرى أنَّ القَصِيلَ، وهو شَعِيرٌ يُزْرَعُ، تَأْكُلُهُ الأنْعامُ قَبْلَ أنْ يُسْبِلَ؛ والبِرْسِيمُ والفِصْفِصَةُ وأمْثالُ ذَلِكَ تُبادِرُهُ الأنْعامُ بِالأكْلِ قَبْلَ أنْ يَأْكُلَ بَنُو آدَمَ حَبَّ الزَّرْعِ، أوْ لِأنَّهُ غِذاءُ الدَّوابِّ، والإنْسانُ قَدْ يَتَغَذّى بِغَيْرِهِ مِن حَيَوانٍ وغَيْرِهِ، أوْ بَدَأ بِالأدْنى ثُمَّ تَرَقّى إلى الأشْرَفِ، وهم بَنُو آدَمَ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ، وأبُو بَكْرٍ في رِوايَةٍ: يَأْكُلُ، بِالياءِ مِن أسْفَلَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (يُبْصِرُونَ) بِياءِ الغَيْبَةِ؛ وابْنُ مَسْعُودٍ: بِتاءِ الخِطابِ. وجاءَتِ الفاصِلَةُ: ﴿أفَلا يُبْصِرُونَ﴾ (p-٢٠٦)لِأنَّ ما سَبَقَ مَرْئِيٌّ، وفي الآيَةِ قَبْلَهُ مَسْمُوعٌ، فَناسَبَ: ﴿أفَلا يَسْمَعُونَ﴾ . ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عَنِ الكَفَرَةِ، بِاسْتِعْجالِ فَصْلِ القَضاءِ بَيْنَهم وبَيْنَ الرَّسُولِ ﷺ عَلى مَعْنى الهُزْءِ والتَّكْذِيبِ. و(الفَتْحُ) الحُكْمُ، قالَهُ الجُمْهُورُ، وهو الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿قُلْ يَوْمَ الفَتْحِ﴾ إلَخْ، ويَضْعُفُ قَوْلُ الحَسَنِ ومُجاهِدٍ: فَتْحُ مَكَّةَ، لِعَدَمِ مُطابَقَتِهِ لِما بَعْدَهُ؛ لِأنَّ مَن آمَنَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، إيمانُهُ يَنْفَعُهُ، وكَذا قَوْلُ مَن قالَ: يَوْمُ بَدْرٍ. (ولا هم يُنْظَرُونَ) أيْ: لا يُؤَخَّرُونَ عَنِ العَذابِ. ولَمّا عَرَفَ غَرَضَهم في سُؤالِهِمْ عَلى سَبِيلِ الهُزْءِ، وقِيلَ لَهم: لا تَسْتَعْجِلُوا بِهِ ولا تَسْتَهْزِئُوا، فَكَأنْ قَدْ حَصَلْتُمْ في ذَلِكَ اليَوْمِ وآمَنتُمْ، فَلَمْ يَنْفَعْكُمُ الإيمانُ، واسْتَنْظَرْتُمْ في حُلُولِ العَذابِ، فَلَمْ تُنْظَرُوا، فَـ: (يَوْمَ) مَنصُوبٌ بِـ: (لا يَنْفَعُ) . ثُمَّ أمَرَ بِالإعْراضِ عَنْهم وانْتِظارِ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ والظَّفَرِ بِهِمْ. ﴿إنَّهم مُنْتَظِرُونَ﴾ لِلْغَلَبَةِ عَلَيْكم لِقَوْلِهِ: ﴿فَتَرَبَّصُوا إنّا مَعَكم مُتَرَبِّصُونَ﴾ [التوبة: ٥٢] وقِيلَ: إنَّهم مُنْتَظِرُونَ العَذابَ، أيْ: هَذا حُكْمُهم، وإنْ كانُوا لا يَشْعُرُونَ. وقَرَأ اليَمانِيُّ: ”مُنْتَظَرُونَ“، بِفَتْحِ الظّاءِ، اسْمَ مَفْعُولٍ؛ والجُمْهُورُ: بِكَسْرِها، اسْمَ فاعِلٍ، أيْ: مُنْتَظِرٌ هَلاكَهم، فَإنَّهم أحِقّاءُ أنْ يُنْتَظَرَ هَلاكُهم، يَعْنِي: إنَّهم هالِكُونَ لا مَحالَةَ، أوْ: وانْتَظِرْ ذَلِكَ، فَإنَّ المَلائِكَةَ في السَّماءِ يَنْتَظِرُونَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب