الباحث القرآني

﴿ألَمْ تَرَوْا أنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكم ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وأسْبَغَ عَلَيْكم نِعَمَهُ ظاهِرَةً وباطِنَةً ومِنَ النّاسِ مَن يُجادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ولا هُدًى ولا كِتابٍ مُنِيرٍ﴾ ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهم إلى عَذابِ السَّعِيرِ﴾ ﴿ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إلى اللَّهِ وهو مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى وإلى اللَّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ ﴿ومَن كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إلَيْنا مَرْجِعُهم فَنُنَبِّئُهم بِما عَمِلُوا إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ ﴿نُمَتِّعُهم قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهم إلى عَذابٍ غَلِيظٍ﴾ ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿لِلَّهِ ما في السَّماواتِ والأرْضِ إنَّ اللَّهَ هو الغَنِيُّ الحَمِيدُ﴾ ﴿ولَوْ أنَّما في الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أقْلامٌ والبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ﴿ما خَلْقُكم ولا بَعْثُكم إلّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ . ﴿سَخَّرَ لَكُمْ﴾ تَنْبِيهٌ عَلى الصَّنْعَةِ الدّالَّةِ عَلى الصّانِعِ مِن تَسْخِيرِ ﴿ما في السَّماواتِ﴾ مِنَ الشَّمْسِ، والقَمَرِ، والنُّجُومِ، والسَّحابِ؛ (p-١٩٠)﴿وما في الأرْضِ﴾ مِنَ الحَيَوانِ، والنَّباتِ، والمَعادِنِ، والبِحارِ، وغَيْرِ ذَلِكَ؛ وذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا بِمُسَخَّرٍ مِن مالِكٍ مُتَصَرِّفٍ كَما يَشاءُ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، ويَحْيى بْنُ عُمارَةَ: ”وأصْبَغَ“ بِالصّادِ، وهي لُغَةٌ لِبَنِي كَلْبٍ، يُبَدِّلُونَها مِنَ السِّينِ، إذا جامَعَتِ الغَيْنُ أوِ الخاءُ أوِ القافُ صادًا؛ وباقِي القُرّاءِ: بِالسِّينِ عَلى الأصْلِ. وقَرَأ الحَسَنُ، والأعْرَجُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وحَفْصٌ: ﴿نِعَمَهُ﴾ جَمْعًا مُضافًا لِلضَّمِيرِ؛ وباقِي السَّبْعَةِ، وزِيدُ بْنُ عَلِيٍّ: ”نِعْمَةً“، عَلى الإفْرادِ. والظّاهِرُ أنَّهُ يُرادُ بِالنِّعْمَةِ الظّاهِرَةِ: الإسْلامُ، والباطِنَةِ: السِّتْرُ. وعَنِ الضَّحّاكِ، الظّاهِرَةُ: حُسْنُ الصُّورَةِ وامْتِدادُ القامَةِ وتَسْوِيَةُ الأعْضاءِ، والباطِنَةُ: المَعْرِفَةُ. وقِيلَ: الظّاهِرَةُ: البَصَرُ والسَّمْعُ واللِّسانُ وسائِرُ الجَوارِحِ، والباطِنَةُ: القَلْبُ والعَقْلُ والفَهْمُ. والَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُقالَ: إنَّ الظّاهِرَةَ مِمّا يُدْرَكُ بِالمُشاهِدَةِ، والباطِنَةَ ما لا يُعْلَمُ إلّا بِدَلِيلٍ، أوْ لا يُعْلَمُ أصْلًا. فَكَمْ مِن نِعْمَةٍ في بَدَنِ الإنْسانِ لا يَعْلَمُها، ولا يَهْتَدِي إلى العِلْمِ بِها ؟ وانْتَصَبَ ﴿ظاهِرَةً﴾ عَلى الحالِ مِن ﴿نِعَمَهُ﴾ الجَمْعُ عَلى الصِّفَةِ، ومِن نِعْمَةٍ عَلى الإفْرادِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى: ﴿ومِنَ النّاسِ﴾ إلى: ﴿مُنِيرٍ﴾ في الحَجِّ، وعَلى ما بَعْدَهُ إلى: ﴿آباءَنا﴾ في نَظِيرِهِ في البَقَرَةِ. ﴿أوَلَوْ﴾ كانَ تَقْدِيرُهُ: أيَتْبَعُونَهم في أحْوالِهِمْ ؟ وفي هَذِهِ الحالِ الَّتِي لا يَنْبَغِي أنْ لا يُتْبَعَ فِيها الآباءُ ؟ لِأنَّها حالُ تَلَفٍ وعَذابٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا أنَّ مِثْلَ هَذا التَّرْكِيبِ الَّذِي فِيهِ ”ولَوْ أنَّما“ يَكُونُ في الشَّيْءِ الَّذِي كانَ يَنْبَغِي أنْ لا يَكُونَ، نَحْوَ: أعْطُوا السّائِلَ ولَوْ جاءَ عَلى فَرَسٍ، رُدُّوا السّائِلَ ولَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ ﴿وما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا ولَوْ كُنّا صادِقِينَ﴾ [يوسف: ١٧] . وكَذَلِكَ هَذا، كانَ يَنْبَغِي مَن دَعا إلى عَذابِ السَّعِيرِ أنْ لا يَتْبَعَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ومَن يُسْلِمْ﴾ مُضارِعُ أسْلَمَ؛ وعَلِيٌّ، والسُّلَمِيُّ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسارٍ: بِتَشْدِيدِ اللّامِ، مُضارِعَ سَلَّمَ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَظِيرِ هَذِهِ الجُمْلَةِ في البَقَرَةِ، والمُرادُ: التَّفْوِيضُ إلى اللَّهِ. ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى﴾ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِ في البَقَرَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِن بابِ التَّمْثِيلِ مُثِّلَتْ حالُ المُتَوَكِّلِ بِحالِ مَن تَدَلّى مِن شاهِقٍ، فاحْتاطَ لِنَفْسِهِ بِأنِ اسْتَمْسَكَ بِأوْثَقِ عُرْوَةٍ مِن حَبْلٍ مَتِينٍ مَأْمُونٌ انْقِطاعُهُ. انْتَهى. ولَمّا ذَكَرَ حالَ الكافِرِ المُجادِلِ، ذَكَرَ حالَ المُسْلِمِ، وأخْبَرَ بِأنَّ مُنْتَهى الأُمُورِ صائِرَةٌ إلَيْهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والعُرْوَةُ: مَوْضِعُ التَّعْلِيقِ، فَكَأنَّ المُؤْمِنَ مُتَعَلِّقٌ بِأمْرِ اللَّهِ، فَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالعُرْوَةِ. وسَلّى رَسُولَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن كَفَرَ﴾ إلى آخِرِهِ، وشَبَّهَ إلْزامَ العَذابِ وإرْهاقَهم إلَيْهِ بِاضْطِرارِ مَن يُضْطَرُّ إلى الشَّيْءِ الَّذِي لا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ، ولا الِانْفِكاكُ مِنهُ. والغِلَظُ يَكُونُ في الإجْرامِ، فاسْتُعِيرَ لِلْمَعْنى، والمُرادُ: الشِّدَّةُ. ﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ أقامَ الحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم يُقِرُّونَ بِأنَّ اللَّهَ هو خالِقُ العالَمِ بِأسْرِهِ، ويَدْعُونَ مَعَ ذَلِكَ إلَهًا غَيْرَهُ. ﴿قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ عَلى ظُهُورِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. ﴿بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ إضْرابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: لَيْسَ دَعْواهم، نَحْوَ: لا يَعْلَمُونَ أنَّ ما ارْتَكَبُوهُ مِنَ ادِّعاءِ إلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ لا يَصِحُّ، ولا يَذْهَبُ إلَيْهِ ذُو عِلْمٍ. ثُمَّ أخْبَرَ أنَّهُ مالِكٌ لِلْعالَمِ كُلِّهِ، وأنَّهُ هو الغَنِيُّ، فَلا افْتِقارَ لَهُ لِشَيْءٍ مِنَ المَوْجُوداتِ. ﴿الحَمِيدُ﴾ المُسْتَحِقُّ الحَمْدَ عَلى ما أنْشَأ وأنْعَمَ. ﴿ولَوْ أنَّما في الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أقْلامٌ﴾ تَقَدَّمَ في أوَّلِ السُّورَةِ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّ ما في السَّماواتِ والأرْضِ مِلْكٌ لَهُ، وكانَ ذَلِكَ مُتَناهِيًا، بَيَّنَ أنَّ في قُدْرَتِهِ وعِلْمِهِ عَجائِبَ لا نِهايَةَ لَها، فَقالَ: ﴿ولَوْ أنَّما في الأرْضِ﴾ وأنَّ بَعْدَ لَوْ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الفاعِلِيَّةِ، أيْ: لَوْ وقَعَ أوْ ثَبَتَ عَلى رَأْيِ المُبَرِّدِ، أوْ في مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفِ الخَبَرِ عَلى رَأْيِ غَيْرِهِ، وتَقَرَّرَ ذَلِكَ في عِلْمِ النَّحْوِ. و﴿مِن شَجَرَةٍ﴾ تَبْيِينٌ لِـ: ”ما“، وهو في التَّقْرِيرِ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي في الجارِّ والمَجْرُورِ المُنْتَقِلِ مِنَ العامِلِ فِيهِ، وتَقْدِيرُهُ: ولَوْ أنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ في الأرْضِ كائِنًا مِن شَجَرَةٍ وأقْلامٍ خَبَرٌ لِـ: ”أنَّ“، وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى بُطْلانِ دَعْوى الزَّمَخْشَرِيِّ وبَعْضِ العَجَمِ مِمَّنْ يَنْصُرُ قَوْلَهُ: إنَّ خَبَرَ أنَّ الجائِيَةِ بَعْدَ لَوْ لا يَكُونُ اسْمًا جامِدًا ولا اسْمًا مُشْتَقًّا، بَلْ يَجِبُ أنْ يَكُونَ فِعْلًا، وهو قَوْلٌ باطِلٌ، ولِسانُ العَرَبِ طافِحٌ بِالزِّيادَةِ عَلَيْهِ. قالَ الشّاعِرُ:(p-١٩١) ؎ولَوْ أنَّها عُصْفُورَةٌ لَحَسِبْتُها مُسَوَّمَةً تَدْعُو عُبَيْدًا وأزْنَما وقالَ الآخَرُ: ؎ما أطْيَبَ العَيْشَ لَوْ أنَّ الفَتى حَجَرٌ ∗∗∗ تَنْبُو الحَوادِثُ عَنْهُ وهو مَلْمُومُ وقالَ آخَرُ: ؎ولَوْ أنَّ حَيًّا فائِتُ المَوْتِ فاتَهُ ∗∗∗ أخُو الحَرْبِ فَوْقَ القارِحِ العَدَوانِ وهُوَ كَثِيرٌ في لِسانِهِمْ. والظّاهِرُ أنَّ الواوَ في قَوْلِهِ: ﴿والبَحْرُ﴾ في قِراءَةِ مَن رَفَعَ، وهُمُ الجُمْهُورُ، واوُ الحالِ؛ والبَحْرُ مُبْتَدَأٌ، و﴿يَمُدُّهُ﴾ الخَبَرُ، أيْ: حالُ كَوْنِ البَحْرِ مَمْدُودًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفًا عَلى مَحَلِّ إنَّ ومَعْمُولِها عَلى ولَوْ ثَبَتَ كَوْنُ الأشْجارِ أقْلامًا، وثَبَتَ أنَّ البَحْرَ مَمْدُودًا بِسَبْعَةِ أبْحُرٍ. انْتَهى. وهَذا لا يَتِمُّ إلّا عَلى رَأْيِ المُبَرِّدِ، حَيْثُ زَعَمَ أنَّ (أنَّ) في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الفاعِلِيَّةِ. وقالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: هو عَطْفٌ عَلى أنَّ؛ لِأنَّها في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، وهو لا يَتِمُّ إلّا عَلى رَأْيِ مَن يَقُولُ: إنَّ ”أنَّ“ بَعْدَ ”لَوْ“ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ، ولَوْلا يَلِيها المُبْتَدَأُ اسْمًا صَرِيحًا إلّا في ضَرُورَةِ شِعْرٍ، نَحْوُ قَوْلِهِ: ؎لَوْ بِغَيْرِ الماءِ حَلْقِي شَرِقٌ ∗∗∗ كُنْتُ كالغَصّانِ بِالماءِ اعْتِصارِي فَإذا عَطَفْتَ (والبَحْرُ) عَلى أنَّ ومَعْمُولَيْها، وهُما رَفْعٌ بِالِابْتِداءِ، لَزِمَ مِن ذَلِكَ أنَّ ”لَوْ“ يَلِيها الِاسْمُ مُبْتَدَأً، إذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: ولَوِ البَحْرُ، وذَلِكَ لا يَجُوزُ إلّا في الضَّرُورَةِ، إلّا أنَّهُ قَدْ يُقالُ: إنَّهُ يَجُوزُ في المَعْطُوفِ عَلَيْهِ نَحْوُ: رُبَّ رَجُلٍ وأخِيهِ يَقُولانِ ذَلِكَ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: ”وبَحْرٌ يَمُدُّهُ“، بِالتَّنْكِيرِ بِالرَّفْعِ، والواوُ لِلْحالِ، أوْ لِلْعَطْفِ عَلى ما تَقَدَّمَ؛ وإنْ كانَتِ الواوُ واوَ الحالِ، كانَ ”بَحْرٌ“، وهو نَكِرَةٌ، مُبْتَدَأً، وذَكَرُوا في مُسَوِّغاتِ الِابْتِداءِ بِالنَّكِرَةِ أنْ تَكُونَ واوُ الحالِ تَقَدَّمَتْهُ، نَحْوُ قَوْلِهِ: ؎سَرَيْنا ونَجْمٌ قَدْ أضاءَ فَقَدْ بَدا ∗∗∗ مُحَيّاكَ أخْفى ضَوْؤُهُ كُلَّ شارِقِ وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿يَمُدُّهُ﴾ بِالياءِ، مِن مَدَّ؛ وابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ: بِتاءِ التَّأْنِيثِ، مِن مَدَّ أيْضًا؛ وعَبْدُ اللَّهِ أيْضًا، والحَسَنُ، وابْنُ مُطَرِّفٍ، وابْنُ هُرْمُزَ: بِالياءِ مِن تَحْتَ، مِن أمَدَّ؛ وجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: ”والبَحْرُ مِدادُهُ“، أيْ: يُكْتَبُ بِهِ مِنَ السَّوادِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هو مَصْدَرٌ. انْتَهى. ﴿مِن بَعْدِهِ﴾ أيْ: مِن بَعْدِ نَفادِ ما فِيهِ ﴿سَبْعَةُ أبْحُرٍ﴾ لا يُرادُ بِهِ الِاقْتِصارُ عَلى هَذا العَدَدِ، بَلْ جِيءَ لِلْكَثْرَةِ، كَقَوْلِهِ: «المُؤْمِنُ يَأْكُلُ في مِعًى واحِدٍ، والكافِرُ في سَبْعَةِ أمْعاءَ»، لا يُرادُ بِهِ العَدَدُ، بَلْ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى القِلَّةِ والكَثْرَةِ. ولَمّا كانَ لَفْظُ ”سَبْعَةُ“ لَيْسَ مَوْضُوعًا في الأصْلِ لِلتَّكْثِيرِ، وإنْ كانَ مُرادًا بِهِ التَّكْثِيرُ، جاءَ مُمَيِّزُهُ بِلَفْظِ القِلَّةِ، وهو ”أبْحُرٍ“، ولَمْ يَقُلْ: بُحُورٍ، وإنْ كانَ لا يُرادُ بِهِ أيْضًا إلّا التَّكْثِيرُ، لِيُناسِبَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ. فَكَما يَجُوزُ في ”سَبْعَةُ“، واسْتُعْمِلَ لِلتَّكْثِيرِ، كَذَلِكَ يَجُوزُ في ”أبْحُرٍ“، واسْتُعْمِلَ لِلتَّكْثِيرِ. وفي الكَلامِ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ يَدُلُّ عَلَيْها المَعْنى: وكَتَبَ بِها الكُتّابُ كَلِماتِ اللَّهِ ﴿ما نَفِدَتْ﴾ والمَعْنى: ولَوْ أنَّ أشْجارَ الأرْضِ أقْلامٌ، والبَحْرُ مَمْدُودٌ بِسَبْعَةِ أبْحُرٍ، وكُتِبَتْ بِتِلْكَ الأقْلامِ وبِذَلِكَ المِدادِ كَلِماتِ اللَّهِ ﴿ما نَفِدَتْ﴾ ونَفِدَتِ الأقْلامُ والمِدادُ الَّذِي في البَحْرِ وما يَمُدُّهُ، كَما قالَ: ﴿لَوْ كانَ البَحْرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبِّي﴾ [الكهف: ١٠٩] الآيَةَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: زَعَمْتَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿والبَحْرُ يَمُدُّهُ﴾ حالٌ في أحَدِ وجْهَيِ الرَّفْعِ، ولَيْسَ فِيهِ ضَمِيرٌ راجِعٌ إلى ذِي الحالِ، قُلْتُ: هو كَقَوْلِهِ: ؎وقَدْ أغْتَدِي والطَّيْرُ في وُكْناتِها وجِئْتُ والجَيْشُ مُصْطَفٌّ، وما أشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأحْوالِ الَّتِي حُكْمُها حُكْمُ الظُّرُوفِ. يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: وبَحْرُها، والضَّمِيرُ لِلْأرْضِ. انْتَهى. وهَذا الَّذِي جَعَلَهُ سُؤالًا وجَوابًا مِن واضِحِ النَّحْوِ الَّذِي لا يَجْهَلُهُ المُبْتَدِئُونَ فِيهِ، وهو أنَّ الجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ إذا كانَتْ حالًا بِالواوِ، لا يُحْتاجُ إلى ضَمِيرٍ يَرْبُطُ، واكْتُفِيَ بِالواوِ فِيها. وأمّا قَوْلُهُ: وما أشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأحْوالِ الَّتِي حُكْمُها حُكْمُ الظُّرُوفِ، فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأنَّ الظَّرْفَ (p-١٩٢)إذا وقَعَ حالًا، فَفي العامِلِ فِيهِ ضَمِيرٌ يَنْتَقِلُ إلى الظَّرْفِ. والجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ إذا كانَتْ حالًا بِالواوِ، فَلَيْسَ فِيها ضَمِيرٌ مُنْتَقِلٌ. وأمّا قَوْلُهُ: ويَجُوزُ، فَلا يَجُوزُ إلّا عَلى رَأْيِ الكُوفِيِّينَ، حَيْثُ يَجْعَلُونَ ”ألْ“ عِوَضًا مِنَ الضَّمِيرِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: لِمَ قِيلَ: ﴿مِن شَجَرَةٍ﴾ عَلى التَّوْحِيدِ دُونَ اسْمِ الجِنْسِ الَّذِي هو شَجَرٌ ؟ قُلْتُ: أُرِيدَ تَفْصِيلُ الشَّجَرِ ونَقْضُها شَجَرَةً شَجَرَةً، حَتّى لا يَبْقى مِن جِنْسِ الشَّجَرِ واحِدَةٌ إلّا قَدْ بُرِيَتْ أقْلامًا. انْتَهى. وهَذا النَّوْعُ هو مِمّا أُوقِعَ فِيهِ المُفْرَدُ مَوْقِعَ الجَمْعِ، والنَّكِرَةُ مَوْقِعَ المَعْرِفَةِ، ونَظِيرُهُ: ﴿ما نَنْسَخْ مِن آيَةٍ﴾ [البقرة: ١٠٦] ﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ﴾ [فاطر: ٢] ﴿ولِلَّهِ يَسْجُدُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ مِن دابَّةٍ﴾ [النحل: ٤٩]؛ وكَقَوْلِ العَرَبِ: هو أوَّلُ فارِسٍ، وهَذا أفْضَلُ عالِمٍ، يُرِيدُ مِنَ الآياتِ ومِنَ الرَّحَماتِ ومِنَ الدَّوابِّ، وأوَّلُ الفُرْسانِ. أخْبَرُوا بِالمُفْرَدِ والنَّكِرَةِ، وأرادُوا بِهِ مَعْنى الجَمْعِ المُعَرَّفِ بِألْ، وهو مَهْيَعٌ في كَلامِ العَرَبِ مَعْرُوفٌ. وكَذَلِكَ يَتَقَدَّرُ هَذا مِنَ الشَّجَراتِ، أوْ مِنَ الأشْجارِ. وفي هَذا الكَلامِ مِنَ المُبالَغَةِ في تَكْثِيرِ الأقْلامِ والمِدادِ ما يَنْبَغِي أنْ يُتَأمَّلَ، وذَلِكَ أنَّ الأشْجارَ مُشْتَمِلٌ كُلَّ واحِدَةٍ مِنها عَلى الأغْصانِ الكَثِيرَةِ، وتِلْكَ الأغْصانُ كُلُّ غُصْنٍ مِنها يُقْطَعُ عَلى قَدْرِ القَلَمِ، فَيَبْلُغُ عَدَدُ الأقْلامِ في التَّناهِي إلى ما لا يَعْلَمُ بِهِ، ولا يُحِيطُ إلّا اللَّهُ تَعالى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ﴾ بِالألِفِ والتّاءِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: ”كَلِمَةُ اللَّهِ“، عَلى التَّوْحِيدِ. وقَرَأ الحَسَنُ: ”ما نَفِدَ“، بِغَيْرِ تاءٍ، ”كَلامُ اللَّهِ“ . قالَ أبُو عَلِيٍّ: المُرادُ بِالكَلِماتِ، واللَّهُ أعْلَمُ: ما في المَعْدُومِ دُونَ ما خَرَجَ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: المُرادُ بِكَلِماتِ اللَّهِ: مَعْلُوماتُهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: الكَلِماتُ جَمْعُ قِلَّةٍ، والمَواضِعُ مَواضِعُ التَّكْثِيرِ لا التَّقْلِيلِ، فَهَلّا قِيلَ: كَلِمُ اللَّهِ ؟ (قُلْتُ) مَعْناهُ أنَّ كَلِماتِهِ لا تَفِي بِكَتْبِها البِحارُ، فَكَيْفَ بِكَلِمَهِ ؟ انْتَهى. وعَلى تَسْلِيمِ أنَّ كَلِماتٍ جَمْعُ قِلَّةٍ، فَجُمُوعُ القِلَّةِ إذا تَعَرَّفَتْ بِالألِفِ واللّامِ غَيْرِ العَهْدِيَّةِ، أوْ أُضِيفَتْ، عَمَّتْ وصارَتْ لا تَخُصُّ القَلِيلَ، والعامُّ مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ الأفْرادِ. ﴿إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ كامِلُ القُدْرَةِ، فَمَقْدُوراتُهُ لا نِهايَةَ لَها. ﴿حَكِيمٌ﴾ كامِلُ العِلْمِ، فَمَعْلُوماتُهُ لا نِهايَةَ لَها. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى كَمالَ قُدْرَتِهِ وعِلْمِهِ، ذَكَرَ ما يُبْطِلُ اسْتِبْعادَهم لِلْحَشْرِ. ﴿إلّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ إلّا كَخَلْقِ نَفْسٍ واحِدَةٍ وبَعْثِها، ومَن لا نَفادَ لِكَلِماتِهِ يَقُولُ لِلْمَوْتى: كُونُوا، فَيَكُونُونَ، فالقَلِيلُ والكَثِيرُ، والواحِدُ والجَمْعُ، لا يُتَفاوَتُ في قُدْرَتِهِ. وقالَ النَّقّاشُ: هَذِهِ الآيَةُ في أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، وأبِي الأسَدِ، ونُبَيْهٍ ومُنَبَّهِ ابْنَيِ الحَجّاجِ، قالُوا: يا مُحَمَّدُ: إنّا نَرى الطِّفْلَ يُخْلَقُ بِتَدْرِيجٍ، وأنْتَ تَقُولُ: اللَّهُ يُعِيدُنا دُفْعَةً واحِدَةً، فَنَزَلَتْ. ﴿إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ سَمِيعٌ كُلَّ صَوْتٍ، بَصِيرٌ يُبْصِرُ كُلَّ مُبْصِرٍ في حالَةٍ واحِدَةٍ، لا يَشْغَلُهُ إدْراكُ بَعْضِها عَنْ بَعْضٍ، فَكَذَلِكَ الخَلْقُ والبَعْثُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب