الباحث القرآني

﴿ولَهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ﴾ ﴿وهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهو أهْوَنُ عَلَيْهِ ولَهُ المَثَلُ الأعْلى في السَّماواتِ والأرْضِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿ضَرَبَ لَكم مَثَلًا مِن أنْفُسِكم هَلْ لَكم مِمّا مَلَكَتْ أيْمانُكم مِن شُرَكاءَ فِيما رَزَقْناكم فَأنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهم كَخِيفَتِكم أنْفُسَكم كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أهْواءَهم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَن أضَلَّ اللَّهُ وما لَهم مِن ناصِرِينَ﴾ ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿مُنِيبِينَ إلَيْهِ واتَّقُوهُ وأقِيمُوا الصَّلاةَ ولا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهم وكانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ . ﴿مَن في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ عامٌّ في كَوْنِهِمْ تَحْتَ مُلْكِهِ وقَهْرِهِ. وقالَ الحَسَنُ: (قانِتُونَ) قائِمُونَ بِالشَّهادَةِ عَلى وحْدانِيَّتِهِ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎وفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ واحِدُ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مُطِيعُونَ، أيْ: في تَصْرِيفِهِ، لا يَمْتَنِعُ عَنْهُ شَيْءٌ يُرِيدُ فِعْلَهُ بِهِمْ، مِن حَياةٍ ومَوْتٍ وصِحَّةٍ ومَرَضٍ، فَهي طاعَةُ الإرادَةِ لا طاعَةَ العِبادَةِ. وقِيلَ: قائِمُونَ يَوْمَ القِيامَةِ، يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ العالَمِينَ. وإذا حُمِلَ القُنُوتُ عَلى الإخْلاصِ، كَما قالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، أوْ عَلى الإقْرارِ بِالعُبُودِيَّةِ، أوْ قانِتُونَ مِن مَلَكٍ ومُؤْمِنٍ؛ لِأنَّ كُلَّ عامٍّ مَخْصُوصٌ. ﴿وهُوَ أهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ أيْ: والعَوْدُ أهْوَنُ عَلَيْهِ، ولَيْسَتْ (أهْوَنُ) أفْعَلَ تَفْضِيلٍ؛ لِأنَّهُ تَفاوُتٌ عِنْدَ اللَّهِ في النَّشْأتَيْنِ: الإبْداءِ والإعادَةِ، فَلِذَلِكَ تَأوَّلَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ عَلى أنَّهُ بِمَعْنى هَيِّنٍ، وكَذا هو في مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. والضَّمِيرُ في (عَلَيْهِ) عائِدٌ عَلى اللَّهِ. وقِيلَ: (أهْوَنُ) لِلتَّفْضِيلِ، وذَلِكَ بِحَسَبِ مُعْتَقَدِ البَشَرِ وما يُعْطِيهِمُ النَّظَرُ في المَشاهِدِ مِن أنَّ الإعادَةَ في كَثِيرٍ مِنَ الأشْياءِ أهْوَنُ مِنَ البَداءَةِ، لِلِاسْتِغْناءِ عَنِ الرَّوِيَّةِ الَّتِي كانَتْ في البَداءَةِ؛ وهَذا، وإنْ كانَ الِاثْنانِ عِنْدَهُ تَعالى مِنَ اليُسْرِ في حَيِّزٍ واحِدٍ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في (عَلَيْهِ) عائِدٌ عَلى الخَلْقِ، أيْ: والعَوْدُ أهْوَنُ عَلى الخَلْقِ: بِمَعْنى: أسْرَعُ؛ لِأنَّ البَداءَةَ فِيها تَدَرُّجٌ مِن طَوْرٍ إلى طَوْرٍ، إلى أنْ يَصِيرَ إنْسانًا، والإعادَةُ لا تَحْتاجُ إلى هَذِهِ التَّدْرِيجاتِ في (p-١٧٠)الأطْوارِ، إنَّما يَدْعُوهُ اللَّهُ فَيَخْرُجُ، فَكَأنَّهُ قالَ: وهو أيْسَرُ عَلَيْهِ، أيْ: أقْصَرُ مُدَّةً وأقَلُّ انْتِقالًا. وقِيلَ: المَعْنى وهو أهْوَنُ عَلى المَخْلُوقِ، أيْ: يُعِيدُ شَيْئًا بَعْدَ إنْشائِهِ، فَهَذا عُرْفُ المَخْلُوقِينَ، فَكَيْفَ تُنْكِرُونَ أنْتُمُ الإعادَةَ في جانِبِ الخالِقِ ؟ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والأظْهَرُ عِنْدِي عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلى اللَّهِ تَعالى، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَهُ المَثَلُ الأعْلى﴾ كَما جاءَ بِلَفْظٍ فِيهِ اسْتِعاذَةٌ واسْتِشْهادٌ بِالمَخْلُوقِ عَلى الخالِقِ، وتَشْبِيهٌ بِما يَعْهَدُهُ النّاسُ مِن أنْفُسِهِمْ، خَلُصَ جانِبُ العَظَمَةِ، بِأنْ جَعَلَ لَهُ المَثَلَ الأعْلى الَّذِي لا يَتَّصِلُ بِهِ، فَكَيْفَ ولا تِمْثالَ مَعَ شَيْءٍ ؟ انْتَهى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: لِمَ أُخِّرَتِ الصِّلَةُ في قَوْلِهِ: ﴿وهُوَ أهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ وقُدِّمَتْ في قَوْلِهِ: ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ [مريم: ٩] ؟ قُلْتُ: هُنالِكَ قُصِدَ الِاخْتِصاصُ، وهو تَجَبُّرُهُ، فَقِيلَ: وهو عَلَيَّ هَيِّنٌ، وإنْ كانَ مُسْتَصْعَبًا عِنْدَكَ، وإنْ تَوَلَّدَ بَيْنَ هَرَمٍ وعاقِرٍ. وأمّا هُنا لا مَعْنى لِلِاخْتِصاصِ، كَيْفَ والأمْرُ مَبْنِيٌّ عَلى ما يَعْقِلُونَ مِن أنَّ الإعادَةَ أسْهَلُ مِنَ الِابْتِداءِ ؟ فَلَوْ قُدِّمَتِ الصِّلَةُ لَتَغَيَّرَ المَعْنى. انْتَهى. ومَبْنى كَلامِهِ عَلى أنَّ تَقْدِيمَ المَعْمُولِ يُؤْذِنُ بِالِاخْتِصاصِ، وقَدْ تَكَلَّمْنا مَعَهُ في ذَلِكَ، ولَمْ نُسَلِّمْهُ في قَوْلِهِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] . ﴿ولَهُ المَثَلُ الأعْلى﴾ قِيلَ: هو مُتَعَلِّقٌ بِما قَبْلَهُ، قالَهُ الزَّجّاجُ، وهو قَوْلُهُ: ﴿وهُوَ أهْوَنُ﴾؛ قَدْ ضَرَبَهُ لَكم مَثَلًا فِيما يَسْهُلُ أوْ يَصْعُبُ. وقِيلَ: بِما بَعْدَهُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ضَرَبَ لَكم مَثَلًا مِن أنْفُسِكُمْ﴾ . وقِيلَ: المَثَلُ: الوَصْفُ الأرْفَعُ الأعْلى الَّذِي لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِثْلُهُ، وهو أنَّهُ القادِرُ الَّذِي لا يَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ مِن إنْشاءٍ وإعادَةٍ وغَيْرِهِما. (وهو العَزِيزُ) أيِ: القاهِرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الحَكِيمُ الَّذِي أفْعالُهُ عَلى مُقْتَضى حِكْمَتِهِ. وعَنْ مُجاهِدٍ: المَثَلُ الأعْلى قَوْلُ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، ولَهُ الوَصْفُ بِالوَحْدانِيَّةِ، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ﴾ . وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ: بَيَّنَ تَعالى أمْرَ الأصْنامِ وفَسادَ مُعْتَقَدِ مَن يُشْرِكُها بِاللَّهِ، بِضَرْبِهِ هَذا المَثَلَ، ومَعْناهُ: أنَّكم أيُّها النّاسُ، إذا كانَ لَكم عَبِيدٌ تَمْلِكُونَهم، فَإنَّكم لا تُشْرِكُونَهم في أمْوالِكم ومُهِمِّ أُمُورِكم، ولا في شَيْءٍ عَلى جِهَةِ اسْتِواءِ المَنزِلَةِ، ولَيْسَ مِن شَأْنِكم أنْ تَخافُوهم في أنْ يَرِثُوا أمْوالَكم، أوْ يُقاسِمُونَكم إيّاها في حَياتِكم، كَما يَفْعَلُ بَعْضُكم بِبَعْضٍ؛ فَإذا كانَ هَذا فِيكم، فَكَيْفَ تَقُولُونَ: إنَّ مِن عَبِيدِهِ ومُلْكِهِ شُرَكاءَ في سُلْطانِهِ وأُلُوهِيَّتِهِ، وتُثْبِتُونَ في جانِبِهِ ما لا يَلِيقُ عِنْدَكم بِجَوانِبِكم ؟ وجاءَ هَذا المَعْنى في مَعْرِضِ السُّؤالِ والتَّقْرِيرِ. وقالَ السُّدِّيُّ: كانُوا يُوَرِّثُونَ آلِهَتَهم، فَنَزَلَتْ. وقِيلَ: لَمّا نَزَلَتْ قالَ أهْلُ مَكَّةَ: لا يَكُونُ ذَلِكَ أبَدًا، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”فَلِمَ يَجُوزُ لِرَبِّكم“ ؟ و”مِن“ في: (مِن أنْفُسِكم) لِابْتِداءِ الغايَةِ، كَأنَّهُ قالَ: أخَذَ مَثَلًا، وانْتَزَعَهُ مِن أقْرَبِ شَيْءٍ مِنكم، وهو أنْفُسُكم، ولا يَبْعُدُ. و”مِن“ في: ﴿مِمّا مَلَكَتْ﴾ [النور: ٣٣] لِلتَّبْعِيضِ، و”مِن“ في: ﴿مِن شُرَكاءَ﴾ زائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِفْهامِ الجارِي مَجْرى النَّفْيِ. يَقُولُ: لَيْسَ يَرْضى أحَدٌ مِنكم أنْ يُشْرِكَهُ عَبْدُهُ في مالِهِ وزَوْجَتِهِ وما يَخْتَصُّ بِهِ حَتّى يَكُونَ مِثْلَهُ، فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ شَرِيكًا لِلَّهِ، وهو رَبُّ الأرْبابِ ومالِكُ الأحْرارِ والعَبِيدِ ؟ وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: وبَيْنَ المَثَلِ والمُمَثَّلِ بِهِ مُشابَهَةٌ ومُخالَفَةٌ. فالمُشابَهَةُ مَعْلُومَةٌ، والمُخالَفَةُ مِن وُجُوهٍ: قَوْلُهُ: (مِن أنْفُسِكم) أيْ: مِن نَسْلِكم، مَعَ حَقارَةِ الأنْفُسِ ونَقْصِها وعَجْزِها، وقاسَ نَفْسَهُ عَلَيْكم مَعَ عَظْمَتِها وجَلالَتِها وقُدْرَتِها. وقَوْلُهُ: ﴿مِمّا مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النور: ٣٣] أيْ: عَبِيدِكم، والمِلْكُ ما قَبَلَ النَّقْلَ بِالبَيْعِ، والزَّوالَ بِالعِتْقِ، ومَمْلُوكُهُ تَعالى لا خُرُوجَ لَهُ عَنِ المِلْكِ. فَإذا لَمْ يَجُزْ أنْ يَشْرَكَكم مَمْلُوكُكم، وهو مِثْلُكم مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ ومِثْلُكم في الآدَمِيَّةِ، حالَةَ الرِّقِّ، فَكَيْفَ يَشْرَكُ اللَّهَ مَمْلُوكُهُ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ المُبايِنَ لَهُ بِالكُلِّيَّةِ ؟ وقَوْلُهُ: (فِيما رَزَقْناكم) يَعْنِي أنَّ المُيَسِّرَ لَكم في الحَقِيقَةِ إنَّما هو اللَّهُ ومِن رِزْقِهِ حَقِيقَةً، فَإذا لَمْ يَجُزْ أنْ يَشْرِكَكم فِيما هو لَكم مِن حَيْثُ الِاسْمِ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ تَعالى شَرِيكٌ فِيما لَهُ مِن جِهَةِ الحَقِيقَةِ ؟ انْتَهى، وفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. و(شُرَكاءَ) في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، و(فِيما رَزَقْناكم) مُتَعَلِّقٌ بِهِ، و(لَكم) الخَبَرُ، و﴿مِمّا مَلَكَتْ﴾ [النور: ٣٣] في مَوْضِعِ الحالِ؛ لِأنَّهُ نَعْتٌ نَكِرَةٌ تَقَدَّمَ عَلَيْها، وانْتَصَبَ عَلى الحالِ، والعامِلُ (p-١٧١)فِيها العامِلُ في الجارِّ والمَجْرُورِ، والواقِعُ خَبَرًا، وهو مُقَدَّرٌ بَعْدَ المُبْتَدَأِ. و”ما“ في (رَزَقْناكم) واقِعَةٌ عَلى النَّوْعِ، والتَّقْدِيرُ: هَلْ شُرَكاءُ فِيما رَزَقْناكم كائِنُونَ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي مَلَكَتْهُ أيْمانُكم كائِنُونَ لَكم ؟ ويَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ (لَكم) بِـ: (شُرَكاءَ)، ويَكُونُ (مِمّا رَزَقْناكم) في مَوْضِعِ الخَبَرِ، كَما تَقُولُ: لِزَيْدٍ في المَدِينَةِ مُبْغِضٌ، فَـ: ”لِزَيْدٍ“ مُتَعَلِّقٌ بِـ: ”مُبْغِضٌ“ الَّذِي هو مُبْتَدَأٌ، و”في المَدِينَةِ“ الخَبَرُ، و﴿فَأنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ﴾ جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الجَوابِ لِلِاسْتِفْهامِ المُضَمَّنِ مَعْنى النَّفْيِ، وفِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِـ ”سَواءٌ“، و﴿تَخافُونَهُمْ﴾ خَبَرٌ ثانٍ لِـ: ”أنْتُمْ“، والتَّقْدِيرُ: فَأنْتُمْ مُسْتَوُونَ مَعَهم فِيما رَزَقْناكم، تَخافُونَهم كَما يَخافُ بَعْضُكم بَعْضًا أيُّها السّادَةُ. والمَقْصُودُ نَفْيُ الشَّرِكَةِ والِاسْتِواءِ والخَوْفِ، ولَيْسَ النَّفْيُ مُنْسَحِبًا عَلى الجَوابِ وما بَعْدَهُ فَقَطْ، كَأحَدِ وجْهَيْ: ما تَأْتِينا فَتُحَدِّثُنا، أيْ: ما تَأْتِينا فَتُحَدِّثُنا، إنَّما تَأْتِي ولا تُحَدِّثُ، بَلْ هو عَلى الوَجْهِ الآخَرِ، أيْ: ما تَأْتِينا فَكَيْفَ تُحَدِّثُنا ؟ أيْ: لَيْسَ مِنكَ إتْيانٌ فَلا يَكُونُ حَدِيثٌ. وكَذَلِكَ هَذا لَيْسَ لَهم شَرِيكٌ، فَلا اسْتِواءَ ولا خَوْفَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِالنَّصْبِ، أُضِيفَ المَصْدَرُ إلى الفاعِلِ؛ وابْنُ أبِي عُبَيْدَةَ: بِالرَّفْعِ، أُضِيفَ المَصْدَرُ لِلْمَفْعُولِ، وهُما وجْهانِ حَسَنانِ، ولا قُبْحَ في إضافَةِ المَصْدَرِ إلى المَفْعُولِ مَعَ وُجُودِ الفاعِلِ. (كَذَلِكَ) أيْ: مِثْلُ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ (نُفَصِّلُ الآياتِ) أيْ: نُبَيِّنُها؛ لِأنَّ التَّمْثِيلَ مِمّا يَكْشِفُ المَعانِيَ ويُوَضِّحُها؛ لِأنَّهُ بِمَنزِلَةِ التَّصْوِيرِ والتَّشْكِيلِ لَها. ألا تَرى كَيْفَ صَوَّرَ الشِّرْكَ بِالصُّورَةِ المُشَوَّهَةِ ؟ وقَرَأ الجُمْهُورُ: (نُفَصِّلُ)، بِالنُّونِ، حَمْلًا عَلى (رَزَقْناكم)؛ وعَبّاسٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: بِياءِ الغَيْبَةِ، رَعْيًا لِـ: (ضَرَبَ)، إذْ هو مُسْنَدٌ لِلْغائِبِ. وذَكَرَ بَعْضُ العُلَماءِ في هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلًا عَلى صِحَّةِ أصْلِ الشَّرِكَةِ بَيْنَ المَخْلُوقِينَ، لِافْتِقارِ بَعْضِهِمْ إلى بَعْضٍ، كَأنَّهُ يَقُولُ: المُمْتَنِعُ والمُسْتَقْبَحُ شَرِكَةُ العَبِيدِ لِساداتِهِمْ؛ أمّا شَرِكَةُ السّاداتِ بَعْضُهم لِبَعْضٍ فَلا يَمْتَنِعُ ولا يُسْتَقْبَحُ. والإضْرابُ بِـ: ”بَلْ“ في قَوْلِهِ: ﴿بَلِ اتَّبَعَ﴾ جاءَ عَلى ما تَضَمَّنَتْهُ الآيَةُ، إذِ المَعْنى: لَيْسَ لَهم حُجَّةٌ ولا مَعْذِرَةٌ فِيما فَعَلُوا مِن إشْراكِهِمْ بِاللَّهِ، بَلْ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ هَوًى بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ لِأنَّهُ قَدْ يَكُونُ هَوًى لِلْإنْسانِ، وهو يَعْلَمُ. و(الَّذِينَ ظَلَمُوا) هُمُ المُشْرِكُونَ، اتَّبَعُوا أهْواءَهم جاهِلِينَ هائِمِينَ عَلى أوْجُهِهِمْ، لا يُرْغِمُهم عَنْ هَواهم عِلْمٌ، إذْ هم خالُونَ مِنَ العِلْمِ الَّذِي قَدْ يَرْدَعُ مُتَّبِعَ الهَوى. ﴿فَمَن يَهْدِي مَن أضَلَّ اللَّهُ﴾ أيْ: لا أحَدَ يَهْدِي مَن أضَلَّهُ اللَّهُ، أيْ: هَؤُلاءِ مِمَّنْ أضَلَّهُمُ اللَّهُ، فَلا هادِيَ لَهم. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَن أضَلَّ اللَّهُ: مَن خَذَلَهُ اللَّهُ ولَمْ يَلْطُفْ بِهِ، لِعِلْمِهِ أنَّهُ مِمَّنْ لا لُطْفَ لَهُ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلى هِدايَةِ مِثْلِهِ. ﴿وما لَهم مِن ناصِرِينَ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّ المُرادَ بِالإضْلالِ الخِذْلانُ. انْتَهى، وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ. ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ﴾ فَقَوِّمْ وجْهَكَ لَهُ وعُدْ لَهُ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ، وهو تَمْثِيلٌ لِإقْبالِهِ عَلى الدِّينِ، واسْتِقامَتِهِ عَلَيْهِ، وثَباتِهِ واهْتِمامِهِ بِأسْبابِهِ. فَإنَّ مَنِ اهْتَمَّ بِالشَّيْءِ، عَقَدَ عَلَيْهِ طَرْفَهُ وقَوَّمَ لَهُ وجْهَهُ مُقْبِلًا بِهِ عَلَيْهِ، والدِّينُ دِينُ الإسْلامِ. وذَكَرَ الوَجْهَ؛ لِأنَّهُ جامِعُ حَواسِّ الإنْسانِ وأشْرَفُهُ. و(حَنِيفًا) حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في ”أقِمْ“، أوْ مِنَ الوَجْهِ، أوْ مِنَ الدِّينِ، ومَعْناهُ: مائِلًا عَنِ الأدْيانِ المُحَرَّفَةِ المَنسُوخَةِ. ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ﴾ مَنصُوبٌ عَلى المَصْدَرِ، كَقَوْلِهِ: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٣٨] وقِيلَ: مَنصُوبٌ بِإضْمارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: التَزِمْ فِطْرَةَ اللَّهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الزَمُوا فِطْرَةَ اللَّهِ، أوْ عَلَيْكم فِطْرَةَ اللَّهِ. وإنَّما أُضْمِرَتْ عَلى خِطابِ الجَماعَةِ لِقَوْلِهِ: ﴿مُنِيبِينَ إلَيْهِ﴾ و”مُنِيبِينَ“ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في ”الزَمُوا“ . وقَوْلُهُ: (وأقِيمُوا) (ولا تَكُونُوا) مَعْطُوفٌ عَلى هَذا المُضْمَرِ. انْتَهى. وقِيلَ: (فَأقِمْ وجْهَكَ) المُرادُ بِهِ: فَأقِيمُوا وُجُوهَكم، ولَيْسَ مَخْصُوصًا بِالرَّسُولِ وحْدَهُ، وكَأنَّهُ خِطابٌ لِمُفْرَدٍ أُرِيدَ بِهِ الجَمْعُ، أيْ: فَأقِمْ أيُّها المُخاطَبُ، ثُمَّ جَمَعَ عَلى المَعْنى؛ لِأنَّهُ لا يُرادُ بِهِ مُخاطَبٌ واحِدٌ. فَإذا كانَ هَذا، فَقَوْلُهُ: (مُنِيبِينَ) (وأقِيمُوا) (ولا تَكُونُوا) مَلْحُوظٌ فِيهِ مَعْنى الجَمْعِ. وقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: أوْ عَلَيْكم فِطْرَةَ اللَّهِ لا يَجُوزُ؛ لِأنَّ فِيهِ حَذْفَ كَلِمَةِ الإغْراءِ، ولا يَجُوزُ حَذْفُها؛ لِأنَّهُ قَدْ حَذَفَ الفِعْلَ وعَوَّضَ ”عَلَيْكَ“ مِنهُ. فَلَوْ جاءَ حَذْفُهُ لَكانَ إجْحافًا، إذْ فِيهِ حَذْفُ العِوَضِ والمُعَوَّضِ مِنهُ. والفِطْرَةُ، قِيلَ: دِينُ الإسْلامِ، و”النّاسَ“ مَخْصُوصُونَ (p-١٧٢)بِالمُؤْمِنِينَ. وقِيلَ: العَهْدُ الَّذِي أخَذَهُ اللَّهُ عَلى ذُرِّيَّةِ آدَمَ حِينَ أخْرَجَهم نَسَمًا مِن ظَهْرِهِ، ورَجَّحَ الحُذّاقُ أنَّها القابِلِيَّةُ الَّتِي في الطِّفْلِ لِلنَّظَرِ في مَصْنُوعاتِ اللَّهِ، والِاسْتِدْلالِ بِها عَلى مُوجِدِهِ، فَيُؤْمِنُ بِهِ ويَتَّبِعُ شَرائِعَهُ، لَكِنْ قَدْ تَعْرِضُ لَهُ عَوارِضُ تَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ، كَتَهْوِيدِ أبَوَيْهِ لَهُ، وتَنْصِيرِهِما، وإغْواءِ شَياطِينِ الإنْسِ والجِنِّ. ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ أيْ: لا تَبْدِيلَ لِهَذِهِ القابِلِيَّةِ مِن جِهَةِ الخالِقِ. وقالَ مُجاهِدٌ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والضَّحّاكُ، والنَّخَعِيُّ، وابْنُ زَيْدٍ: لا تَبْدِيلَ لِدِينِ اللَّهِ، والمَعْنى: لِمُعْتَقَداتِ الأدْيانِ، إذْ هي مُتَّفِقَةٌ في ذَلِكَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ: ما يَنْبَغِي أنْ تُبَدَّلَ تِلْكَ الفِطْرَةُ أوْ تُغَيَّرَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لا تَبْدِيلَ لِقَضاءِ اللَّهِ بِسَعادَتِهِمْ وشَقاوَتِهِمْ، وقِيلَ: هو نَفْيٌ مَعْناهُ: النَّهْيُ، أيْ: لا تُبَدِّلُوا ذَلِكَ الدِّينَ. وقِيلَ: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ بِمَعْنى: الوَحْدانِيَّةُ مُتَرَشِّحَةٌ فِيهِ، لا تَغَيُّرَ لَها، حَتّى لَوْ سَألْتَهُ: مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ ؟ يَقُولُ: اللَّهُ. ويُسْتَغْرَبُ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ مَعْنى ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ النَّهْيُ عَنْ خِصاءِ الفُحُولِ مِنَ الحَيَوانِ. وقَوْلُ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ المَعْنى في هَذِهِ الجُمْلَةِ ألْجَأُ عَلى الكَفَرَةِ، اعْتُرِضَ بِهِ أثْناءَ الكَلامِ، كَأنَّهُ يَقُولُ: أقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ الَّذِي مِن صِفَتِهِ كَذا وكَذا، فَإنَّ هَؤُلاءِ الكَفَرَةَ ومَن خَلَقَ اللَّهُ لَهُمُ الكُفْرَ، و﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ أيْ: أنَّهم لا يُفْلِحُونَ، ذَلِكَ الَّذِي أُمِرْتَ بِإقامَةِ وجْهِكَ لَهُ، هو الدِّينُ المُبالِغُ في الِاسْتِقامَةِ. والقَيِّمُ: بِياءِ مُبالَغَةٍ، مِنَ القِيامِ، بِمَعْنى الِاسْتِقامَةِ، ووَزْنُهُ: فَعِيلٌ، أصْلُهُ قَيْوِمٌ كَيَدٍ، اجْتَمَعَتِ الياءُ والواوُ، وسُبِقَتْ إحْداهُما بِالسُّكُونِ، فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً، وأُدْغِمَتِ الياءُ فِيها، وهو بِناءٌ مُخْتَصٌّ بِالمُعْتَلِّ العَيْنِ، لَمْ يَجِئْ مِنهُ في الصَّحِيحِ إلّا بَيْئِسٌ وصَيْقِلٌ عَلَمٌ لِامْرَأةٍ. (مُنِيبِينَ) حالٌ مِنَ (النّاسِ) ولا سِيَّما إذا أُرِيدَ بِالنّاسِ: المُؤْمِنُونَ، أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في: الزَمُوا فِطْرَةَ اللَّهِ، وهو تَقْدِيرُ الزَّمَخْشَرِيِّ، أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في: (فَأقِمْ) إذِ المَقْصُودُ: الرَّسُولُ ﷺ وأُمَّتُهُ، وكَأنَّهُ حُذِفَ مَعْطُوفٌ، أيْ: فَأقِمْ وجْهَكَ وأُمَّتَكَ. وكَذا زَعَمَ الزَّجّاجُ في: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ﴾ [الطلاق: ١] أيْ: يا أيُّها النَّبِيُّ والنّاسُ، ودَلَّ عَلى ذَلِكَ مَجِيءُ الحالِ في (مُنِيبِينَ) جَمْعًا، وفي ﴿إذا طَلَّقْتُمُ﴾ [الطلاق: ١] جاءَ الخِطابُ فِيهِ وفي ما بَعْدَهُ جَمْعًا، أوْ عَلى خَبَرِ ”كانَ“ مُضْمَرَةً، أيْ: كُونُوا مُنِيبِينَ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ (ولا تَكُونُوا) وهَذِهِ احْتِمالاتٌ مَنقُولَةٌ كُلُّها. (مِنَ المُشْرِكِينَ) مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى، قالَهُ قَتادَةُ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمُ اليَهُودُ؛ وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ وعائِشَةَ: أنَّهم أهْلُ القِبْلَةِ، ولَفْظَةُ الإشْراكِ عَلى هَذا تَجُوزُ بِأنَّهم صارُوا في دِينِهِمْ فِرَقًا. والظّاهِرُ أنَّ المُشْرِكِينَ: كُلٌّ مَن أشْرَكَ، فَيَدْخُلُ فِيهِمْ أهْلُ الكِتابِ وغَيْرُهم. و(مِنَ الَّذِينَ) بَدَلٌ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴿فَرَّقُوا دِينَهُمْ﴾ أيْ: دِينَ الإسْلامِ وجَعَلُوهُ أدْيانًا مُخْتَلِفَةً لِاخْتِلافِ أهْوائِهِمْ. ﴿وكانُوا شِيَعًا﴾ كُلُّ فِرْقَةٍ تُشايِعُ إمامَها الَّذِي كانَ سَبَبَ ضَلالِها. ﴿كُلُّ حِزْبٍ﴾ أيْ: مِنهم فَرِحٌ بِمَذْهَبِهِ مَفْتُونٌ بِهِ. والظّاهِرُ أنَّ ﴿كُلُّ حِزْبٍ﴾ مُبْتَدَأٌ و(فَرِحُونَ) الخَبَرُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (مِنَ الَّذِينَ) مُنْقَطِعًا مِمّا قَبْلَهُ ومَعْناهُ: مِنَ المُفارِقِينَ دِينَهم. كُلُّ حِزْبٍ فَرِحِينَ بِما لَدَيْهِمْ، ولَكِنَّهُ رَفَعَ (فَرِحُونَ) عَلى الوَصْفِ لِـ: (كُلُّ)، كَقَوْلِهِ: ؎وكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هاضِمِ نَفْسِهِ انْتَهى. قُدِّرَ أوَّلًا (فَرِحِينَ) مَجْرُورَةً صِفَةً لِحِزْبٍ، ثُمَّ قالَ: ولَكِنَّهُ رُفِعَ عَلى الوَصْفِ لِـ: (كُلُّ)؛ لِأنَّكَ إذا قُلْتَ: مِن قَوْمِكَ كُلُّ رَجُلٍ صالِحٍ، جازَ في ”صالِحٍ“ الخَفْضُ نَعْتًا لِـ: ”رَجُلٍ“، وهو الأكْثَرُ، كَقَوْلِهِ: ؎جادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ∗∗∗ فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كالدِّرْهَمِ وجازَ الرَّفْعُ نَعْتًا لِـ: (كُلُّ)، كَقَوْلِهِ: ؎وعَلَيْهِ هَبَّتْ كُلُّ مُعْصِفَةٍ ∗∗∗ هَوْجاءُ لَيْسَ لِلُبِّها زَبْرُ يَرْفَعُ ”هَوْجاءُ“ صِفَةً لِـ: ”كُلُّ“ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب