الباحث القرآني

(p-١٦٠)سُورَةُ الرُّومِ مَكِّيَّةٌ ﷽ ﴿الم﴾ ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ ﴿فِي أدْنى الأرْضِ وهم مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ ويَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ﴾ ﴿بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَن يَشاءُ وهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ ﴿وعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وعْدَهُ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا وهم عَنِ الآخِرَةِ هم غافِلُونَ﴾ ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما إلّا بِالحَقِّ وأجَلٍ مُسَمًّى وإنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ﴾ ﴿أوَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كانُوا أشَدَّ مِنهم قُوَّةً وأثارُوا الأرْضَ وعَمَرُوها أكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها وجاءَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهم ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ ﴿ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أساءُوا السُّوءى أنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وكانُوا بِها يَسْتَهْزِءُونَ﴾ ﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ﴿ويَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُبْلِسُ المُجْرِمُونَ﴾ ﴿ولَمْ يَكُنْ لَهم مِن شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ﴾ ﴿ويَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَهم في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾ ﴿وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآياتِنا ولِقاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ في العَذابِ مُحْضَرُونَ﴾ . (p-١٦١)هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وغَيْرُهُ، بِلا خِلافٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إلّا قَوْلَهُ: ﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ﴾ [الروم: ١٧] . وسَبَبُ نُزُولِها أنَّ كِسْرى بَعَثَ جَيْشًا إلى الرُّومِ، وأمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا، واخْتَلَفَ النَّقَلَةُ في اسْمِهِ؛ فَسارَ إلَيْهِمْ بِأهْلِ فارِسَ، وظَفِرَ وقَتَلَ وخَرَّبَ وقَطَعَ زَيْتُونَهم، وكانَ التِقاؤُهم بِأذْرِعاتٍ وبُصْرى، وكانَ قَدْ بَعَثَ قَيْصَرُ رَجُلًا أمِيرًا عَلى الرُّومِ. وقالَ مُجاهِدٌ: التَقَتْ بِالجَزِيرَةِ. وقالَ السُّدِّيُّ: بِأرْضِ الأُرْدُنِّ وفِلَسْطِينَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلى المُسْلِمِينَ لِكَوْنِهِمْ مَعَ الرُّومِ أهْلِ الكِتابِ، وفَرِحَ بِذَلِكَ المُشْرِكُونَ لِكَوْنِهِمْ مَعَ المَجُوسِ لَيْسُوا بِأهْلِ كِتابٍ. وأخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، أنَّ الرُّومَ ﴿سَيَغْلِبُونَ في بِضْعِ سِنِينَ﴾ . ونَزَلَتْ أوائِلُ الرُّومِ، فَصاحَ أبُو بَكْرٍ بِها في نَواحِي مَكَّةَ: ﴿الم﴾ ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ ﴿فِي أدْنى الأرْضِ وهم مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ . فَقالَ ناسٌ مِن مُشْرِكِي قُرَيْشٍ: زَعَمَ صاحِبُكَ أنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فارِسًا في بِضْعِ سِنِينَ، أفَلا نُراهِنُكَ عَلى ذَلِكَ ؟ فَقالَ: بَلى، وذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهانِ. فاتَّفَقُوا أنْ جَعَلُوا بِضْعَ سِنِينَ وثَلاثَ قَلائِصَ، وأخْبَرَ أبُو بَكْرٍ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِذَلِكَ فَقالَ: «هَلّا اخْتَطَبْتَ ؟ فارْجِعْ فَزِدْهم في الأجَلِ والرِّهانِ» . فَجَعَلُوا القَلائِصَ مِائَةً، والأجْلَ تِسْعَةَ أعْوامٍ. فَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلى فارِسَ في السَّنَةِ السّابِعَةِ، وكانَ مِمَّنْ راهَنَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. فَلَمّا أرادَ أبُو بَكْرٍ الهِجْرَةَ، طَلَبَ مِنهُ أُبَيٌّ كَفِيلًا بِالخَطَرِ إنْ غَلَبَتْ، فَكَفَلَ بِهِ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. فَلَمّا أرادَ أُبَيٌّ الخُرُوجَ إلى أُحُدٍ، طَلَبَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِالكَفِيلِ، فَأعْطاهُ كَفِيلًا وماتَ أُبَيٌّ مِن جُرْحٍ جَرَحَهُ النَّبِيُّ ﷺ . وظَهَرَ الرُّومُ عَلى فارِسَ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةَ. وقِيلَ: كانَ النَّصْرُ يَوْمَ بَدْرٍ لِلْفَرِيقَيْنِ، فَأخَذَ أبُو بَكْرٍ الخَطَرَ مِن ذُرِّيَّةِ أُبَيٍّ، وجاءَ بِهِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ لَهُ: «تَصَدَّقْ بِهِ» . وسَبَبُ ظُهُورِ الرُّومِ، أنَّ كِسْرى بَعَثَ إلى شَهْرَيَزانَ، وهو الَّذِي ولّاهُ عَلى مُحارَبَةِ الرُّومِ، أنِ اقْتُلْ أخاكَ فَرْخانَ لِمَقالَةٍ قالَها، وهي قَوْلُهُ: لَقَدْ رَأيْتُنِي جالِسًا عَلى سَرِيرِ كِسْرى، فَلَمْ يَقْتُلْهُ. فَبَعَثَ إلى فارِسَ أنِّي عَزَلْتُ شَهْرَيَزانَ ووَلَّيْتُ أخاهُ فَرْخانَ، وكَتَبَ إلَيْهِ: إذا ولِيَ، أنْ يَقْتُلَ أخاهُ شَهْرَيَزانَ، فَأرادَ قَتْلَهُ، فَأخْرَجَ لَهُ شَهْرَيَزانَ ثَلاثَ صَحائِفَ مِن كِسْرى يَأْمُرُهُ بِقَتْلِ أخِيهِ فَرْخانَ. قالَ: وراجَعْتُهُ في أمْرِكَ مِرارًا، ثُمَّ تَقْتُلُنِي بِكِتابٍ واحِدٍ ؟ فَرَدَّ المُلْكَ إلى أخِيهِ. وكَتَبَ شَهْرَيَزانَ إلى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، فَتَعاوَنا عَلى كِسْرى، فَغَلَبَتِ الرُّومُ فارِسَ، وجاءَ الخَبَرُ، فَفَرِحَ المُسْلِمُونَ. وكانَ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ البَيِّناتِ الشّاهِدَةِ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ، وأنَّ القُرْآنَ مِن عِنْدِ اللَّهِ؛ لِأنَّها إيتاءٌ مِن عِلْمِ الغَيْبِ الَّذِي لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ. وقَرَأ عَلِيٌّ، وأبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، وابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ عُمَرَ، ومُعاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ، والحَسَنُ: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ: ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ؛ والجُمْهُورُ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾: مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ. وتَأْوِيلُ ذَلِكَ عَلى ما فَسَّرَهُ ابْنُ عِمْرانَ: الرُّومُ غَلَبَتْ عَلى أدْنى رِيفِ الشَّأْمِ، يَعْنِي بِالرِّيفِ: السَّوادَ. وجاءَ كَذَلِكَ عَنْ عُثْمانَ، وتَأوَّلَهُ أبُو حاتِمٍ عَلى أنَّ الرُّومَ غَلَبَتْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَعَزَّ ذَلِكَ عَلى كُفّارِ قُرَيْشٍ، وسُرَّ المُؤْمِنُونَ، وبَشَّرَ اللَّهُ عِبادَهُ بِأنَّهم سَيَغْلِبُونَ في بِضْعِ سِنِينَ. انْتَهى. فَيَكُونُ قَدْ أخْبَرَ عَنِ الرُّومِ بِأنَّهم قَدْ غُلِبُوا، وبِأنَّهم سَيَغْلِبُونَ، فَيَكُونُ غَلَبُهم مَرَّتَيْنِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والقِراءَةُ بِضَمِّ الغَيْنِ أصَحُّ. وأجْمَعَ النّاسُ عَلى ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾ بِفَتْحِ الياءِ، يُرادُ بِهِ الرُّومُ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ قَرَأ ”سَيُغْلِبُونَ“ بِضَمِّ الياءِ، وفي هَذِهِ القِراءَةِ قَلْبُ المَعْنى الَّذِي تَظاهَرَتْ بِهِ الرِّواياتُ. انْتَهى. وقَوْلُهُ: وأجْمَعُوا، لَيْسَ كَذَلِكَ. ألا تَرى أنَّ الَّذِينَ قَرَءُوا ”غَلَبَتْ“ بِفَتْحِ الغَيْنِ هُمُ الَّذِينَ قَرَءُوا (سَيُغْلَبُونَ) بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ اللّامِ، ولَيْسَتْ هَذِهِ مَخْصُوصَةً بِابْنِ عُمَرَ ؟ وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿غَلَبِهِمْ﴾ بِفَتْحِ الغَيْنِ واللّامِ: وعَلِيٌّ، وابْنُ عُمَرَ، ومُعاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: بِإسْكانِها؛ والقِياسُ عَنِ ابْنِ (p-١٦٢)عُمَرَ: وغِلابِهِمْ، عَلى وزْنِ كِتابٍ. والرُّومُ: طائِفَةٌ مِنَ النَّصارى، وأدْنى الأرْضِ: أقْرَبُها: فَإنْ كانَتِ الواقِعَةُ في أذْرِعاتٍ، فَهي أدْنى الأرْضِ بِالنَّظَرِ إلى مَكَّةَ، وهي الَّتِي ذَكَرَها امْرُؤُ القَيْسِ في قَوْلِهِ: ؎تَنَوَّرْتُها مِن أذْرِعاتِ وأهْلُها بِيَثْرِبَ أدْنى دارِها نَظَرٌ عالٍ وإنْ كانَتْ بِالجَزِيرَةِ، فَهي أدْنى بِالنَّظَرِ إلى أرْضِ كِسْرى. فَإنْ كانَتْ بِالأُرْدُنِّ، فَهي أدْنى بِالنَّظَرِ إلى أرْضِ الرُّومِ. وقَرَأ الكَلْبِيُّ: ﴿فِي أدْنى الأرْضِ﴾ وتَقَدَّمَ الكَلامُ في مَدْلُولِ البِضْعِ بِاعْتِبارِ القِراءَتَيْنِ. فَفي ”غُلِبَتْ“، بِضَمِّ الغَيْنِ، يَكُونُ مُضافًا لِلْمَفْعُولِ؛ وبِالفَتْحِ، يَكُونُ مُضافًا لِلْفاعِلِ، ويَكُونُ المَعْنى: سَيَغْلِبُهُمُ المُسْلِمُونَ في بِضْعِ سِنِينَ، عِنْدَ انْقِضاءِ هَذِهِ المُدَّةِ الَّتِي هي أقْصى مَدْلُولِ البِضْعِ. أخَذَ المُسْلِمُونَ في جِهادِ الرُّومِ، وكانَ شَيْخُنا الأُسْتاذُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَحْكِي عَنْ أبِي الحَكَمِ بْنِ بُرْجانَ أنَّهُ اسْتَخْرَجَ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الم﴾ ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ افْتِتاحَ المُسْلِمِينَ بَيْتَ المَقْدِسِ، مُعَيِّنًا زَمانَهُ ويَوْمَهُ، وكانَ إذْ ذاكَ بَيْتُ المَقْدِسِ قَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ النَّصارى، وأنَّ ابْنَ بُرْجانَ ماتَ قَبْلَ الوَقْتِ الَّذِي كانَ عَيَّنَهُ لِلْفَتْحِ، وأنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِزَمانٍ افْتَتَحَهُ المُسْلِمُونَ في الوَقْتِ الَّذِي عَيَّنَهُ أبُو الحَكَمِ. وكانَ أبُو جَعْفَرٍ يَعْتَقِدُ في أبِي الحَكَمِ هَذا، أنَّهُ كانَ يَطَّلِعُ عَلى أشْياءَ مِنَ المُغَيَّباتِ يَسْتَخْرِجُها مِن كِتابِ اللَّهِ. ﴿لِلَّهِ الأمْرُ﴾ أيْ: إنْفاذُ الأحْكامِ وتَصْرِيفُها عَلى ما يُرِيدُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ﴾ بِضَمِّهِما: أيْ: مِن قَبْلِ غَلَبَةِ الرُّومِ ومِن بَعْدِها. ولَمّا كانا مُضافَيْنِ إلى مَعْرِفَةٍ، وحُذِفَتْ بُنِيا عَلى الضَّمِّ، والكَلامُ عَلى ذَلِكَ مَذْكُورٌ في عِلْمِ النَّحْوِ. وقَرَأ أبُو السِّماكِ، والجَحْدَرِيُّ، وعَوْنٌ العُقَيْلِيُّ: ﴿مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ﴾، بِالكَسْرِ والتَّنْوِينِ فِيهِما. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلى الجَرِّ مِن غَيْرِ تَقْدِيرِ مُضافٍ إلَيْهِ واقْتِطاعِهِ، كَأنَّهُ قِيلَ: قَبْلًا وبَعْدًا، بِمَعْنى أوَّلًا وآخِرًا. انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ومِنَ العَرَبِ مَن يَقُولُ: ﴿مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ﴾، بِالخَفْضِ والتَّنْوِينِ. قالَ الفَرّاءُ: ويَجُوزُ تَرْكُ التَّنْوِينِ، فَيَبْقى كَما هو في الإضافَةِ، وإنْ حُذِفَ المُضافُ. انْتَهى. وأنْكَرَ النَّحّاسُ ما قالَهُ الفَرّاءُ ورَدَّهُ، وقالَ لِلْفَرّاءِ في كِتابِهِ: في القُرْآنِ أشْياءٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الغَلَطِ، مِنها: أنَّهُ زَعَمَ أنَّهُ يَجُوزُ مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ، وإنَّما يَجُوزُ مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ عَلى أنَّهُما نَكِرَتانِ، والمَعْنى: مِن مُتَقَدِّمٍ ومِن مُتَأخِّرٍ. وحَكى الكِسائِيُّ عَنْ بَعْضِ بَنِي أسَدٍ: لِلَّهِ الأمْرُ مِن قَبْلٍ ومِن بَعْدُ: الأوَّلُ مَخْفُوضٌ مُنَوَّنٌ، والثّانِي مَضْمُومٌ بِلا تَنْوِينٍ. والظّاهِرُ أنَّ يَوْمَئِذٍ ظَرْفٌ ﴿يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ﴾ وعَلى هَذا المَعْنى فَسَّرَهُ المُفَسِّرُونَ. وقِيلَ: ﴿ويَوْمَئِذٍ﴾ عَطْفٌ عَلى: ﴿مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ﴾ كَأنَّهُ حَصَرَ الأزْمِنَةَ الثَّلاثَةَ: الماضِيَ والمُسْتَقْبَلَ والحالَ، ثُمَّ ابْتَدَأ الإخْبارَ بِفَرَحِ المُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ. و﴿بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ أيِ: الرُّومَ عَلى فارِسَ، أوِ المُسْلِمِينَ عَلى عَدُوِّهِمْ، أوْ في أنَّ صِدْقَ ما قالَ الرَّسُولُ ﷺ مِن أنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فارِسَ، أوْ في أنْ يُسَلِّطَ بَعْضَ الظّالِمِينَ عَلى بَعْضٍ، حَتّى تَفانَوْا وتَناكَصُوا، احْتِمالاتٌ. وفي الحَدِيثِ: «فارِسُ نَطْحَةٌ أوْ نَطْحَتانِ، ثُمَّ لا فارِسَ بَعْدَها أبَدًا، والرُّومُ ذاتُ القُرُونِ، كُلَّما ذَهَبَ قَرْنٌ خَلَفَ قَرْنٌ إلى آخِرِ الأبَدِ» . وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يَوْمَ بَدْرٍ كانَتْ هَزِيمَةُ عَبْدَةِ الأوْثانِ وعَبَدَةِ النِّيرانِ، وقالَ مَعْناهُ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، وقِيلَ: ورَدَ الخَبَرُ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ بِوَفاةِ كِسْرى، فَسُّرَ المُسْلِمُونَ بِحَرْبِ المُشْرِكِينَ، ولِمَوْتِ عَدُوٍّ لَهم في الأرْضِ مُتَمَكِّنٍ. وهو ﴿العَزِيزُ﴾ بِانْتِقامِهِ مِن أعْدائِهِ ﴿الرَّحِيمُ﴾ لِأوْلِيائِهِ. وانْتَصَبَ ﴿وعْدَ اللَّهِ﴾ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وهو قَوْلُهُ: ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ﴾ . ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ﴾ الكُفّارَ مِن قُرَيْشٍ وغَيْرِهِمْ ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ نَفى عَنْهُمُ العِلْمَ النّافِعَ لِلْآخِرَةِ، وقَدْ أثْبَتَ لَهُمُ العِلْمَ بِأحْوالِ الدُّنْيا. قِيلَ: والمَعْنى لا يَعْلَمُونَ أنَّ الأُمُورَ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وأنَّ وعْدَهُ لا يُخْلِفُهُ، وأنَّ ما يُورِدُهُ بِعَيْنِهِ ﷺ، حَقٌّ. ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِرًا﴾ أيْ: بَيِّنًا، أيْ: ما أدَّتْهُ إلَيْهِمْ حَواسُّهم، فَكَأنَّ عُلُومَهم إنَّما هي عُلُومُ البَهائِمِ. (p-١٦٣)وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، والجُمْهُورُ: مَعْناهُ ما فِيهِ الظُّهُورُ والعُلُوُّ في الدُّنْيا مِنِ اتَّقانِ الصِّناعاتِ والمَبانِي ومَظانِّ كَسْبِ المالِ والفِلاحاتِ، ونَحْوِ هَذا. وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ ذاهِبًا زائِلًا، أيْ: يَعْلَمُونَ أُمُورَ الدُّنْيا الَّتِي لا بَقاءَ لَها ولا عاقِبَةَ. وقالالهُذَلِيُّ: ؎وعَيَّرَها الواشُونَ أنِّي أُحِبُّها ∗∗∗ وتِلْكَ شَكاةٌ ظاهِرٌ عَنْكَ عارُها أيْ: زائِلٌ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: ﴿ظاهِرًا﴾ أيْ: يَعْلَمُونَ مِن قِبَلِ الكَهَنَةِ مِمّا يَسْتَرِقُهُ الشَّياطِينُ. وقالَ الرُّمّانِيُّ: كُلُّ ما يَعْلَمُ بِأوائِلَ الرُّؤْيَةِ فَهو الظّاهِرُ، وما يُعْلَمُ بِدَلِيلِ العَقْلِ فَهو الباطِنُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿يَعْلَمُونَ﴾ بَدَلٌ مِن قَوْلِ: ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ وفي هَذا الإبْدالِ مِنَ النُّكْتَةِ أنَّهُ أبْدَلَهُ مِنهُ، وجَعَلَهُ بِحَيْثُ يَقُومُ مَقامَهُ ويَسُدُّ مَسَدَّهُ، لِنُعْلِمَكَ أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ عَدَمِ العِلْمِ الَّذِي هو الجَهْلُ، وبَيْنَ وُجُودِ العِلْمِ الَّذِي لا يَتَجاوَزُ الدُّنْيا. وقَوْلُهُ: ﴿ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ يُفِيدُ أنَّ لِلدُّنْيا ظاهِرًا وباطِنًا، فَظاهِرُها ما يَعْرِفُهُ الجُهّالُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِزَخارِفِها والتَّنَعُّمِ بِمَلاذِّها، وباطِنُها وحَقِيقَتُها أنَّها مَجازٌ لِلْآخِرَةِ، يُتَزَوَّدُ إلَيْها مِنها بِالطّاعَةِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ؛ و(هم) الثّانِيَةُ تَوْكِيدٌ لِـ: (هم) الأُولى، أوْ مُبْتَدَأٌ. وفي إظْهارِهِمْ عَلى أيِّ الوَجْهَيْنِ كانَتْ، تَنْبِيهٌ عَلى غَفْلَتِهِمُ الَّتِي صارُوا مُلْتَبَسِينَ بِها، لا يَنْفَكُّونَ عَنْها. و﴿فِي أنْفُسِهِمْ﴾ مَعْمُولٌ لِـ: (يَتَفَكَّرُوا)، إمّا عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ، أيْ: في خَلْقِ أنْفُسِهِمْ لِيَخْرُجُوا مِنَ الغَفْلَةِ، فَيَعْلَمُوا أنَّهم يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا فَقَطْ، ويَسْتَدِلُّوا بِذَلِكَ عَلى الخالِقِ المُخْتَرِعِ. ثُمَّ أخْبَرَ عَقِبَ هَذا بِأنَّ الحَقَّ هو السَّبَبُ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ؛ وإمّا عَلى أنْ يَكُونَ ﴿فِي أنْفُسِهِمْ﴾ ظَرْفًا لِلْفِكْرَةِ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ، فَيَكُونُ (في أنْفُسِهِمْ) تَوْكِيدًا لِقَوْلِهِ: (يَتَفَكَّرُونَ) كَما تَقُولُ: أبْصِرْ بِعَيْنِكَ واسْمَعْ بِأُذُنِكَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: في هَذا الوَجْهِ كَأنَّهُ قالَ: أوَلَمْ يُحَدِّثُوا التَّفَكُّرَ في أنْفُسِهِمْ ؟ أيْ: في قُلُوبِهِمُ الفارِغَةِ مِنَ الفِكْرِ. والفِكْرُ لا يَكُونُ إلّا في القُلُوبِ، ولَكِنَّهُ زِيادَةُ تَصْوِيرٍ لِحالِ المُتَفَكِّرِينَ، كَقَوْلِكَ: اعْتَقِدْهُ في قَلْبِكَ وأضْمِرْهُ في نَفْسِكَ. وقالَ أيْضًا: يَكُونُ صِلَةَ المُتَفَكِّرِ، كَقَوْلِكَ: تَفَكَّرَ في الأمْرِ وأجالَ فِكْرَهُ. و(ما خَلَقَ اللَّهُ) مُتَعَلِّقٌ بِالقَوْلِ المَحْذُوفِ، مَعْناهُ: أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا، فَيَقُولُوا هَذا القَوْلَ ؟ وقِيلَ مَعْناهُ: فَيَعْلَمُوا؛ لِأنَّ في الكَلامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ. انْتَهى. والدَّلِيلُ هو قَوْلُهُ: (أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) . وقِيلَ: (أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) مُتَّصِلٌ بِما بَعْدَهُ، ومِثْلُهُ: ثُمَّ ﴿يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِن جِنَّةٍ﴾ [الأعراف: ١٨٤] ومَثْلُهُ: ﴿وظَنُّوا ما لَهم مِن مَحِيصٍ﴾ [فصلت: ٤٨] فَيَكُونُ في بِمَعْنى الباءِ، ثُمَّ ﴿يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِن﴾ [الأعراف: ١٨٤] كَأنَّهُ قالَ: أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا بِقُلُوبِهِمْ فَيَعْلَمُوا. انْتَهى. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَفَكَّرُوا هُنا مُعَلَّقَةً، ومُتَعَلِّقُها الجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: (ما خَلَقَ) إلى آخِرِها. و(في أنْفُسِهِمْ) ظَرْفٌ عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ؛ لِأنَّ الفِكْرَ لا يَكُونُ إلّا في النَّفْسِ، كَما أنَّ الكِتابَةَ لا تَكُونُ إلّا بِاليَدِ. و(بِالحَقِّ) في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: وهي مُلْتَبِسَةٌ بِالحَقِّ مُقْتَرِنَةٌ بِهِ، وبِتَقْدِيرِ أجَلٍ مُسَمًّى لا بُدَّ لَها أنْ تَنْتَهِيَ إلَيْهِ وهو: قِيامُ السّاعَةِ، ووَقْتُ الحِسابِ والثَّوابِ والعِقابِ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿أفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْناكم عَبَثًا وأنَّكم إلَيْنا لا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٥] . كَيْفَ سَمّى تَرْكَهم غَيْرَ راجِعِينَ إلَيْهِ عَبَثًا ؟ والمُرادُ بِلِقاءِ رَبِّهِمُ: الأجَلُ المُسَمّى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (إلّا بِالحَقِّ) أيْ: بِسَبَبِ المَنافِعِ الَّتِي هي حَقٌّ واجِبٌ، يُرِيدُ مِنَ الدَّلالَةِ عَلَيْهِ والعِبادَةِ لَهُ دُونَ فُتُورٍ، والِانْتِصارِ لِلْعِبْرَةِ ومَنافِعِ الإرْفاقِ، وغَيْرِ ذَلِكَ. (وأجَلٍ) عَطْفٌ عَلى ”الحَقِّ“، أيْ: وبِأجَلٍ مُسَمًّى، وهو يَوْمُ القِيامَةِ. فَفي الآيَةِ إشارَةٌ إلى البَعْثِ والنُّشُورِ وفَسادِ بِنْيَةِ هَذا العالَمِ. ثُمَّ أخْبَرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ أنَّهم كَفَرُوا بِذَلِكَ المَعْنى، فَعَبَّرَ عَنْها بِلِقاءِ اللَّهِ؛ لِأنَّ لِقاءَ اللَّهِ هو عَظِيمُ الأمْرِ، فِيهِ النَّجاةُ والهَلَكَةُ. انْتَهى. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: قَدَّمَ هُنا دَلائِلَ الأنْفُسِ عَلى دَلائِلِ الآفاقِ، وفي: ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِمْ﴾ [فصلت: ٥٣] دَلائِلَ الآفاقِ عَلى دَلائِلِ الأنْفُسِ، وحِكْمَةُ ذَلِكَ أنَّ المُفِيدَ يَذْكُرُ الفائِدَةَ عَلى (p-١٦٤)وجْهٍ يَخْتارُها، فَإنْ فُهِمَتْ، وإلّا انْتَقَلَ إلى الأبْيَنِ. والمُسْتَفِيدُ يَفْهَمُ أوَّلًا الأبْيَنَ، ثُمَّ يَرْتَقِي إلى الأخْفى. وفي (أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) بِفِعْلٍ مُسْنَدٍ إلى السّامِعِ، فَبَدَأ بِما يَفْهَمُ أوَّلًا، ثُمَّ ارْتَقى إلَيْهِ ثانِيًا. وفي ﴿سَنُرِيهِمْ﴾ [فصلت: ٥٣] أسْنَدَ إلى المُفِيدِ، فَذَكَرَ أوَّلًا الآفاقَ، فَإنْ لَمْ يَفْهَمُوا، فالأنْفُسُ، إذْ لا ذُهُولَ لِلْإنْسانِ عَنْ دَلائِلِها، بِخِلافِ دَلائِلِ الآفاقِ؛ لِأنَّهُ قَدْ يُذْهَلُ عَنْها، وهَذا مُراعًى في ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا﴾ [آل عمران: ١٩١] الآيَةَ. بَدَأ بِأحْوالِ الأنْفُسِ، ثُمَّ بِدَلائِلِ الآفاقِ. وقالَ أيْضًا هُنا: (وإنَّ كَثِيرًا) وقَبْلُ: (ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ) وذَلِكَ أنَّ هُنا ذَكَرَ (كَثِيرًا) بَعْدَ ذِكْرِ الدَّلائِلِ الواضِحَةِ، وهُما: ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أنْفُسِهِمْ﴾ و(ما خَلَقَ اللَّهُ) . والإيمانُ بَعْدَ الدَّلائِلِ أكْثَرُ مِنَ الإيمانِ قَبْلَها، فَبَعْدَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ، لا بُدَّ أنْ يُؤْمِنَ مِن ذَلِكَ الأكْثَرِ جَمْعٌ، فَلا يَبْقى الأكْثَرُ. انْتَهى، وفِيهِ تَلْخِيصٌ. ولا يَتِمُّ كَلامُهُ الأوَّلُ إلّا إذا جَعَلَ (في أنْفُسِهِمْ) مَحَلًّا لِلتَّفَكُّرِ، وجَعَلَ (ما خَلَقَ) أيْضًا مَحَلًّا ثانِيًا. (أوَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ) هَذا تَقْرِيرُ تَوْبِيخٍ، أيْ: قَدْ سارُوا ونَظَرُوا إلى ما حُمِلَ مِمَّنْ كانَ قَبْلَهم مِن مُكَذِّبِي الرُّسُلِ، ووَصَفَ حالَهم مِنَ الشِّدَّةِ وإثارَةِ الأرْضِ وعِمارَتِها، وأنَّهم أقْوى مِنهم في ذَلِكَ. قالَ مُجاهِدٌ: ﴿وأثارُوا الأرْضَ﴾ حَرَثُوها. وقالَ الفَرّاءُ: قَلَبُوها لِلزِّراعَةِ. وقالَ غَيْرُهُما: قَلَّبُوا وجْهَ الأرْضِ لِاسْتِنْباطِ المِياهِ، واسْتِخْراجِ المَعادِنِ، وإلْقاءِ البَذْرِ فِيها لِلزِّراعَةِ؛ والإثارَةُ: تَحْرِيكُ الشَّيْءِ حَتّى يَرْتَفِعَ تُرابُهُ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ: وآثارُوا الأرْضَ، بِمَدَّةٍ بَعْدِ الهَمْزَةِ. وقالَ ابْنُ مُجاهِدٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وخَرَّجَهُ أبُو الفَتْحِ عَلى الإشْباعِ كَقَوْلِهِ: ؎ومَن ذَمَّ الزَّمانَ بِمُنْتَزاحٍ وقالَ: مِن ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، ولا يَجِيءُ في القُرْآنِ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: وآثَرُوا مِنَ الأثَرَةِ، وهو الِاسْتِبْدادُ بِالشَّيْءِ. وقُرِئَ: ”وأثْرُوا الأرْضَ“: أيْ: أبْقَوْا عَنْها آثارًا. ﴿وعَمَرُوها﴾ مِنَ العِمارَةِ، أيْ: بَقاؤُهم فِيها أكْثَرَ مِن بَقاءِ هَؤُلاءِ، أوْ مِنَ العُمْرانِ: أيْ: سَكَنُوا فِيها، أوْ مِنَ العِمارَةِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿أكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها﴾ مِن عِمارَةِ أهْلِ مَكَّةَ، وأهْلُ مَكَّةَ أهْلُ وادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، ما لَهم إثارَةُ الأرْضِ أصْلًا، ولا عِمارَةَ لَهم رَأْسًا، فَما هو إلّا تَهَكُّمٌ بِهِمْ وتَضْعِيفُ حالِهِمْ في دُنْياهم؛ لِأنَّ مُعْظَمَ ما يَسْتَظْهِرُ بِهِ أهْلُ الدُّنْيا ويَتَباهَوْنَ بِهِ أمْرُ الدَّهْقَنَةِ، وهم أيْضًا ضِعافُ القُوى. (فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهم) قَبْلَهُ مَحْذُوفٌ، أيْ: فَكَذَّبُوهم فَأُهْلِكُوا. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ، وأبُو عَمْرٍو: ”ثُمَّ كانَ عاقِبَةُ“ بِالرَّفْعِ اسْمًا لِـ: (كانَ)، وخَبَرُها (السُّوءى) أوْ هو تَأْنِيثُ الأسْوَأِ، افْعَلْ مِنَ السُّوءِ. ﴿أنْ كَذَّبُوا﴾ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ، لا بِـ: ”أساءَ“، وإلّا كانَ فِيهِ الفَصْلُ بَيْنَ الصِّلَةِ ومُتَعَلِّقِها بِالخَبَرِ، وهو لا يَجُوزُ؛ والمَعْنى: ثُمَّ كانَ عاقِبَتَهم، فَوُضِعَ المُظْهَرُ مَوْضِعَ المُضْمَرِ. (السُّوءى) أيِ: العُقُوبَةُ الَّتِي هي أسْوَأُ العُقُوباتِ في الآخِرَةِ، وهي جَهَنَّمُ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ (السُّوءى) مَصْدَرًا عَلى وزْنِ فُعْلى، كالرُّجْعى، وتَكُونُ خَبَرًا أيْضًا. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَفْعُولًا بِـ: ”أساءَ“ بِمَعْنى اقْتَرَفُوا، وصِفَةَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيِ: الإساءَةَ السُّوءى، ويَكُونُ خَبَرُ كانَ (أنْ كَذَّبُوا) . وقَرَأ الأعْمَشُ والحَسَنُ: ”السُّوّى“، بِإبْدالِ الهَمْزَةِ واوًا وإدْغامِ الواوِ فِيها، كَقِراءَةِ مَن قَرَأ: ”بِالسُّوَّءِ“ بِالإدْغامِ في يُوسُفَ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: ”السُّوءَ“، بِالتَّذْكِيرِ. وقَرَأ الكُوفِيُّونَ وابْنُ عامِرٍ: (عاقِبَةَ) بِالنَّصْبِ، خَبَرَ كانَ، والِاسْمُ: السُّوءى، أوِ السُّوءَ مَفْعُولٌ، و”كَذَّبُوا“ الِاسْمُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أنْ بِمَعْنى: أيْ: تَفْسِيرُ الإساءَةِ التَّكْذِيبُ والِاسْتِهْزاءُ، كانَتْ في بِمَعْنى القَوْلِ، نَحْوُ: نادى وكَتَبَ. ووَجْهٌ آخَرُ، وهو أنْ يَكُونَ ﴿أساءُوا السُّوءى﴾ بِمَعْنى: اقْتَرَفُوا الخَطِيئَةَ الَّتِي هي أسْوَأُ الخَطاياتِ و﴿أنْ كَذَّبُوا﴾ عَطْفَ بَيانٍ لَها، وخَبَرُ كانَ مَحْذُوفٌ، كَما يُحْذَفُ جَوابُ لَمّا ولَوْ إرادَةَ الإبْهامِ. انْتَهى. وكَوْنُ أنْ هُنا حَرْفَ تَفْسِيرٍ مُتَكَلِّفٌ جِدًّا. وأمّا قَوْلُ ”الخَطاياتِ“ فَكَذا هو في النُّسْخَةِ الَّتِي طالَعْناها، جُمِعَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ بِالألِفِ والتّاءِ، وذَلِكَ لا يَنْقاسُ، إنَّما يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلى مَوْرِدِ السَّماعِ، ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ زِيادَةُ التّاءِ في الخَطاياتِ مِنَ النّاسِخِ. وأمّا قَوْلُهُ: و﴿أنْ كَذَّبُوا﴾ عَطْفُ بَيانٍ لَها، أيْ: لِلسُّوءى، وخَبَرُ كانَ مَحْذُوفٌ إلَخْ. فَهَذا فَهْمٌ أعْجَمِيٌّ؛ لِأنَّ الكَلامَ (p-١٦٥)مُسْتَقِلٌّ في غايَةِ الحُسْنِ بِلا حَذْفٍ، فَيَتَكَلَّفُ لَهُ مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. وأصْحابُنا لا يُجِيزُونَ حَذْفَ خَبَرِ كانَ وأخَواتِها، لا اقْتِصارًا ولا اخْتِصارًا، إلّا إنْ ورَدَ مِنهُ شَيْءٌ، فَلا يَنْقاسُ عَلَيْهِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ وطَلْحَةُ: يُبْدِئُ، بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الدّالِ؛ والجُمْهُورُ: بِفَتْحِها؛ والأبَوانِ: ”يُرْجَعُونَ“، بِياءِ الغَيْبَةِ؛ والجُمْهُورُ: بِتاءِ الخِطابِ، أيْ: إلى ثَوابِهِ وعِقابِهِ؛ والجُمْهُورُ: ﴿يُبْلِسُ﴾، بِكَسْرِ اللّامِ؛ وعَلِيٌّ والسُّلَمِيُّ: بِفَتْحِها، مِن أبْلَسَهُ إذا أسْكَتَهُ؛ والجُمْهُورُ: ولَمْ يَكُنْ، بِالياءِ؛ وخارِجَةُ والأرِيسُ، كِلاهُما عَنْ نافِعٍ، وابْنُ سِنانٍ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ، والأنْطاكِيُّ عَنْ شَيْبَةَ: بِتاءِ التَّأْنِيثِ. ﴿مِن شُرَكائِهِمْ﴾ مِنَ الَّذِينَ عَبَدُوهم مِن دُونِ اللَّهِ، وهي الأوْثانُ، وأُضِيفُوا إلَيْهِمْ؛ لِأنَّهم أشْرَكُوهم في أمْوالِهِمْ، وقِيلَ: لِأنَّهُمُ اتَّخَذُوها بِزَعْمِهِمْ شُرَكاءَ لِلَّهِ. وقالَ مُقاتِلٌ: المُرادُ بِهِمُ المَلائِكَةُ شُفَعاءُ لِلَّهِ، كَما زَعَمُوا: ﴿ما نَعْبُدُهم إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾ [الزمر: ٣] . (وكانُوا) مَعْناهُ: ويَكُونُ عِنْدَ مُعايَنَتِهِمْ أمْرَ اللَّهِ وفَسادَ حالِ الأصْنامِ، عَبَّرَ بِالماضِي لِتَيَقُّنِ الأمْرِ وصِحَّةِ وُقُوعِهِ. وكُتِبَ ”السُّوءى“ بِالألِفِ قَبْلَ الياءِ، كَما كَتَبُوا عُلَماءَ بَنِي إسْرائِيلَ بِواوٍ قَبْلَ الألِفِ، والتَّنْوِينُ في (يَوْمَئِذٍ) تَنْوِينُ عِوَضٍ مِنَ الجُمْلَةِ المَحْذُوفَةِ، أيْ: ﴿ويَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ﴾ يَوْمَ إذْ ﴿يُبْلِسُ المُجْرِمُونَ﴾ . والضَّمِيرُ في ﴿يَتَفَرَّقُونَ﴾ لِلْمُسْلِمِينَ والكافِرِينَ، لِدَلالَةِ ما بَعْدَهُ عَلَيْهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَظْهَرُ أنَّهُ عائِدٌ عَلى ما قَبْلَهُ، إذْ قَبْلَهُ: ﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ . قالَ قَتادَةُ: هي فُرْقَةٌ، لا اجْتِماعَ بَعْدَها. ﴿فِي رَوْضَةٍ﴾ الرَّوْضَةُ، الأرْضُ ذاتُ النَّباتِ والماءِ، وفي المَثَلِ: أحْسَنُ مِن بَيْضَةٍ، يُرِيدُونَ: بَيْضَ النَّعامَةِ، والرَّوْضَةُ مِمّا تُعْجِبُ العَرَبَ، وقَدْ أكْثَرُوا مِن مَدْحِها في أشْعارِهِمْ. ﴿يُحْبَرُونَ﴾ يُسَرُّونَ. حَبَرَهُ: سَرَّهُ سُرُورًا، وتَهَلَّلَ لَهُ وجْهُهُ وظَهَرَ لَهُ أثَرُهُ، يَحْبُرُ بِالضَّمِّ، حَبْرًا وحَبْرَةً وحُبُورًا، وفي المَثَلِ: امْتَلَأتْ بُيُوتُهم حَبْرَةً فَهم يَنْتَظِرُونَ العَبْرَةَ. وحَكى الكِسائِيُّ: حَبَرْتُهُ: أكْرَمْتُهُ ونَعَّمْتُهُ. وقالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمانَ: هو مِن قَوْلِهِمْ: عَلى أسْنانِهِ حَبْرَةٌ، أيْ: أثَرٌ، أيْ: يَسِيرُ عَلَيْهِمْ أثَرُ النِّعْمَةِ. وقِيلَ: مِنَ التَّحْبِيرِ، وهو التَّحْسِينُ، أيْ: يُحْسِنُونَ. ويُقالُ: فُلانٌ حَسَنُ الحَبْرِ والسَّبْرِ، بِالفَتْحِ، إذا كانَ جَمِيلًا حَسَنَ الهَيْئَةِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والضَّحّاكُ، ومُجاهِدٌ: يُكْرَمُونَ. وقالَ يَحْيى بْنُ أبِي كَثِيرٍ، والأوْزاعِيُّ، ووَكِيعٌ: يَسْمَعُونَ الأغانِيَ. وقالَ أبُو بَكْرٍ، وابْنُ عَبّاسٍ: يُتَوَّجُونَ عَلى رُءُوسِهِمْ. وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: يُحَلَّوْنَ. ومَعْنى (مُحْضَرُونَ) مَجْمُوعُونَ لَهُ، لا يَغِيبُ أحَدٌ مِنهم عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وما هم بِخارِجِينَ مِنها﴾ [المائدة: ٣٧] وجاءَ في رَوْضَةٍ مُنَكَّرًا وفي العَذابِ مُعَرَّفًا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والتَّنْكِيرُ لِإيهامِ أمْرِها وتَفْخِيمِهِ، وجاءَ (يُحْبَرُونَ) بِالفِعْلِ المُضارِعِ لِاسْتِعْمالِهِ لِلتَّجَدُّدِ؛ لِأنَّهم كُلَّ ساعَةٍ يَأْتِيهِمْ ما يُسَرُّونَ بِهِ مِن مُتَجَدِّداتِ المَلاذِ وأنْواعِها المُخْتَلِفَةِ. وجاءَ (مُحْضَرُونَ) باسِمِ الفاعِلِ لِاسْتِعْمالِهِ لِلثُّبُوتِ، فَهم إذا دَخَلُوا العَذابَ يَبْقُونَ فِيهِ مُحْضَرِينَ، فَهو وصْفٌ لازِمٌ لَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب