الباحث القرآني
﴿أفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ولَهُ أسْلَمَ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا وإلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ ﴿قُلْ آمَنّا بِاللَّهِ وما أُنْزِلَ عَلَيْنا وما أُنْزِلَ عَلى إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ والأسْباطِ وما أُوتِيَ مُوسى وعِيسى والنَّبِيُّونَ مِن رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنهم ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ ﴿ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ وهو في الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ وشَهِدُوا أنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وجاءَهُمُ البَيِّناتُ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ ﴿أُولَئِكَ جَزاؤُهم أنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ والمَلائِكَةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ﴾ [آل عمران: ٨٧] ﴿خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذابُ ولا هم يُنْظَرُونَ﴾ [آل عمران: ٨٨] ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأصْلَحُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: ٨٩] ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهم وأُولَئِكَ هُمُ الضّالُّونَ﴾ [آل عمران: ٩٠] ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وماتُوا وهم كُفّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِن أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا ولَوِ افْتَدى بِهِ أُولَئِكَ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ وما لَهم مِن ناصِرِينَ﴾ [آل عمران: ٩١] .
المِلْءُ: مِقْدارُ ما يُمْلَأُ، وهو اسْمٌ يُثَنّى ويُجْمَعُ يُقالُ: مِلْءَ القَدَحِ، ومِلْأهُ، وثَلاثَةَ أمْلائِهِ، وبِفَتْحِ المِيمِ المَصْدَرُ، يُقالُ: مَلَأْتُ الشَّيْءَ امْلَأهُ مَلْأً، والمُلاءَةُ الَّتِي تُلْبَسُ، وهي المُلْحَفَةُ بِضَمِّ المِيمِ والهَمْزِ. وتَقَدَّمَتْ هَذِهِ المادَّةُ في شَرْحِ المَلَأِ.
﴿أفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ﴾ رُوِيَ «عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: اخْتَصَمَ أهْلُ الكِتابِ، فَزَعَمَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ أنَّها أوْلى بِدِينِ إبْراهِيمَ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ كِلا الفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِن دِينِ إبْراهِيمَ، فَغَضِبُوا. وقالُوا: واللَّهِ ما نَرْضى بِقَضائِكَ، ولا نَأْخُذُ بِدِينِكَ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» . ومُناسَبَةُ هَذِهِ (p-٥١٥)الآيَةِ لِما قَبْلَها ظاهِرٌ جِدًّا.
والهَمْزَةُ في: أفَغَيْرَ ؟ لِلْإنْكارِ والتَّنْبِيهِ عَلى الخَطَأِ في التَّوَلِّي والإعْراضِ، وأُضِيفَ الدِّينُ إلى اللَّهِ لِأنَّهُ تَعالى هو الَّذِي شَرَعَهُ وتَعَبَّدَ بِهِ الخَلْقَ، ومَعْنى: تَبْغُونَ، تَطْلُبُونَ، وهو هُنا بِمَعْنى: تَدِينُونَ؛ لِأنَّهم مُتَلَبِّسُونَ بِدِينٍ غَيْرِ دِينِ اللَّهِ لا طالِبُوهُ، وعَبَّرَ بِالطَّلَبِ إشْعارًا بِأنَّهم في كُلِّ الوَقْتِ باحِثُونَ عَنْهُ، ومُسْتَخْرِجُوهُ ومُبْتَغُوهُ. وقالَ الماتُرِيدِيُّ: (فَإنْ قِيلَ) كُلُّ عاقِلٍ يَبْتَغِي دِينَ اللَّهِ، ويَدَّعِي أنَّ الَّذِي هو عَلَيْهِ دِينُ اللَّهِ. قِيلَ: الجَوابُ مِن وجْهَيْنِ. أحَدُهُما: أنَّهُ لَمّا قَصَّرَ في الطَّلَبِ جُعِلَ في المَعْنى كَأنَّهُ باغٍ غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، إذْ لَوْ كانَ باغِيًا لَبالَغَ في الطَّلَبِ مِنَ الوَجْهِ الَّذِي يُوصَلُ إلَيْهِ مِنهُ، فَكَأنَّهُ لَيْسَ باغِيًا مِن حَيْثُ المَعْنى، ولَكِنَّهُ مِن حَيْثُ الصُّورَةُ.
والثّانِي: أنَّهُ قَدْ بانَ لِلْبَعْضِ في الِابْتِغاءِ ما هو الحَقُّ لِظُهُورِ الحُجَجِ والآياتِ، ولَكِنْ أبى إلّا العِنادَ، فَهو باغٍ غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، فَتَكُونُ الآيَةُ في المُعانِدِينَ انْتَهى كَلامُهُ.
وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وحَفَصٌ، وعَيّاشٌ، ويَعْقُوبُ، وسَهْلٌ: يَبْغُونَ، بِالياءِ عَلى الغَيْبَةِ، ويَنْسُبُها ابْنُ عَطِيَّةَ لِأبِي عَمْرٍو، وعاصِمٍ بِكَمالِهِ. وقَرَأ الباقُونَ: بِالتّاءِ، عَلى الخِطابِ، فالياءُ عَلى نَسَقِ: هُمُ الفاسِقُونَ، والتّاءُ عَلى الِالتِفاتِ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ، والفاءُ لِعَطْفِ هَذِهِ الجُمْلَةِ عَلى ما قَبْلَها، وقُدِّمَتِ الهَمْزَةُ اعْتِناءً بِالِاسْتِفْهامِ. والتَّقْدِيرُ: فَأغَيْرَ ؟ وجَوَّزَ هَذا الوَجْهَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وهو قَوْلُ جَمِيعِ النُّحاةِ قَبْلَهُ. قالَ: ويَجُوزُ أنْ يُعْطَفَ عَلى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أيَتَوَلُّونَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ انْتَهى. وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذا والكَلامُ عَلى مَذْهَبِهِ في ذَلِكَ، وأمْعَنّا الكَلامَ عَلَيْهِ في كِتابِ (التَّكْمِيلِ) مِن تَأْلِيفِنا.
وانْتَصَبَ: غَيْرَ عَلى أنَّهُ مَفْعُولُ ”يَبْغُونَ“، وقُدِّمَ عَلى فِعْلِهِ؛ لِأنَّهُ أهَمُّ مِن حَيْثُ إنَّ الإنْكارَ الَّذِي هو مَعْنى الهَمْزَةِ مُتَوَجِّهٌ إلى المَعْبُودِ بِالباطِلِ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. ولا تَحْقِيقَ فِيهِ؛ لِأنَّ الإنْكارَ الَّذِي هو مَعْنى الهَمْزَةِ لا يَتَوَجَّهُ إلى الذَّواتِ، إنَّما يَتَوَجَّهُ إلى الأفْعالِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالذَّواتِ، فالَّذِي أُنْكِرَ إنَّما هو الِابْتِغاءُ الَّذِي مُتَعَلِّقُهُ غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، وإنَّما جاءَ تَقْدِيمُ المَفْعُولِ هُنا مِن بابِ الِاتِّساعِ، وشَبَّهَ: يَبْغُونَ، بِالفاصِلَةِ بِآخِرِ الفِعْلِ.
﴿ولَهُ أسْلَمَ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا﴾ أسْلَمَ عِنْدَ الجُمْهُورِ: اسْتَسْلَمَ وانْقادَ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أسْلَمَ طَوْعًا بِحالَتِهِ النّاطِقَةِ عِنْدَ أخْذِ المِيثاقِ عَلَيْهِ، وكَرْهًا عِنْدَ دُعاءِ الأنْبِياءِ لَهم إلى الإسْلامِ. وقالَ مُجاهِدٌ: سُجُودُ ظِلِّ المُؤْمِنِ طائِعًا، وسُجُودُ ظَلِّ الكافِرِ كارِهًا. كَما قالَ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا وظِلالُهم بِالغُدُوِّ والآصالِ﴾ [الرعد: ١٥] وقالَ مُجاهِدٌ أيْضًا، وأبُو العالِيَةِ، والشَّعْبِيُّ ما يُقارِبُ مَعْناهُ: أسْلَمَ أقَرَّ بِالخالِقِيَّةِ والعُبُودِيَّةِ، وإنْ كانَ فِيهِمْ مَن أشْرَكَ في العِبادَةِ، فَمَن أشْرَكُ أسْلَمَ كَرْهًا. ومَن أخْلَصَ أسْلَمَ طَوْعًا. وقالَ الحَسَنُ: أسْلَمَ قَوْمٌ طَوْعًا، وقَوْمٌ خَوْفَ السَّيْفِ. وقالَ مَطَرٌ الوَرّاقُ: أسْلَمَ مَن في السَّماواتِ طَوْعًا وكَذَلِكَ الأنْصارُ، و بَنُو سُلَيْمٍ، وعَبْدِ القَيْسِ، وأسْلَمَ سائِرُ النّاسِ كَرْهًا حَذِرَ القِتالِ والسَّيْفِ. وأسْلَمَ عَلى هَذا القَوْلِ في ضِمْنِهِ الإيمانُ. وقالَ قَتادَةُ: الإسْلامُ كَرْهًا هو إسْلامُ الكافِرِ عِنْدَ المَوْتِ والمُعايَنَةِ حَيْثُ لا يَنْفَعُهُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَلْزَمُ عَلى هَذا أنَّ كُلَّ كافِرٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وهَذا غَيْرُ مَوْجُودٍ إلّا في أفْرادٍ انْتَهى. وقالَ عِكْرِمَةُ: طَوْعًا بِاضْطِرارِ الحُجَّةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: طَوْعًا بِالنَّظَرِ في الأدِلَّةِ، والإنْصافِ مِن نَفْسِهِ، وكَرْهًا بِالسَّيْفِ، أوْ بِمُعايَنَةِ ما يُلْجِئُ إلى الإسْلامِ، كَنَتْقِ الجَبَلِ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، وإدْراكِ الغَرَقِ فِرْعَوْنَ، والإشْفاءِ عَلى المَوْتِ ﴿فَلَمّا رَأوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللَّهِ وحْدَهُ﴾ [غافر: ٨٤] انْتَهى. فَلَفَّقَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَفْسِيرَ: طَوْعًا، مِن قَوْلِ عِكْرِمَةَ، وتَفْسِيرَ قَوْلِهِ: وكَرْهًا، مِن قَوْلِ مَطَرٍ الوَرّاقِ، وقَوْلِ قَتادَةَ. وقالَ الكَلْبِيُّ: طَوْعًا بِالوِلادَةِ عَلى الإسْلامِ، وكَرْهًا بِالسَّيْفِ.
وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: المَعْنى: ولَهُ خَضَعَ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ، فِيما صَوَّرَهم فِيهِ ودَبَرَهم عَلَيْهِ، وما يُحْدِثُ فِيهِمْ فَهم لا يَمْتَنِعُونَ عَلَيْهِ كَرِهُوا ذَلِكَ، أوْ أحَبُّوهُ، رَضُوا بِذَلِكَ أوْ سَخَطُوهُ؛ وهَذا مَعْنى قَوْلِ الزَّجّاجِ: إنَّ الإسْلامَ هُنا الخُضُوعُ (p-٥١٦)لِنُفُوذِ أمْرِهِ في جِبِلَّتِهِمْ، لا يَقْدِرُ أحَدٌ أنْ يَمْتَنِعَ مِمّا جُبِلَ عَلَيْهِ، ولا أنْ يُغَيِّرَهُ، والَّذِي يَظْهَرُ عُمُومُ مَن في السَّماواتِ، وخُصُوصُ مَن في الأرْضِ. والطَّوْعُ هو الَّذِي لا تُكَلُّفَ فِيهِ، والكَرْهُ ما فِيهِ مَشَقَّةٌ، فَإسْلامُ مَن في السَّماواتِ طَوْعٌ صِرْفٌ؛ إذْ هم خالُونَ مِنَ الشَّهَواتِ الدّاعِيَةِ إلى المُخالَفَةِ، وإسْلامُ مَن في الأرْضِ، مَن كانَ مِنهم مَعْصُومًا كانَ طَوْعًا، ومَن كانَ غَيْرَ مَعْصُومٍ كانَ كَرْهًا، بِمَعْنى أنَّهُ في مَشَقَّةٍ؛ لِأنَّ التَّكالِيفَ جاءَتْ عَلى مُخالَفَةِ الشَّهَواتِ النَّفْسانِيَّةِ، فَلَوْ لَمْ يَأْتِ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ مُبَشِّرٌ بِالثَّوابِ، ومُنْذِرٌ بِالعِقابِ، لَمْ يَلْتَزِمِ الإنْسانُ شَيْئًا مِنَ التَّكالِيفِ.
وهَذِهِ الأقْوالُ لا تُخْرِجُ أسْلَمَ فِيها عَنْ أنْ يُحْمَلَ عَلى الِاسْتِسْلامِ، وعَلى الِاعْتِقادِ، وعَلى الإقْرارِ بِاللِّسانِ، وعَلى التِزامِ الأحْكامِ. وقَدْ قِيلَ بِهَذا كُلِّهِ.
والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولَهُ أسْلَمَ﴾ حالِيَّةٌ. وطَوْعًا وكَرْهًا، مَصْدَرانِ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: طائِعِينَ وكارِهِينَ. وقِيلَ: هُما مَصْدَرانِ عَلى خِلافِ الصَّدْرِ. وقَرَأ الأعْمَشُ: كُرْهًا بِضَمِّ الكافِ، والجُمْهُورُ بِفَتْحِها.
﴿وإلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لِمَنِ اتَّبَعَ وابْتَغى غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، وتَقَدَّمَ مَعْنى الرُّجُوعِ إلَيْهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَدْ عُطِفَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ولَهُ أسْلَمَ﴾ فَيَكُونُ مُشارِكًا لَهُ في الحالِيَّةِ، وكَأنَّهُ نَعى عَلَيْهِمُ ابْتِغاءَ غَيْرِ دِينِ مَنِ انْقادَ إلَيْهِ المُكَلَّفُونَ كُلُّهم ومَن إلَيْهِ مَرْجِعُهم، فَيُجازِيهِمْ عَلى أعْمالِهِمْ. والمَعْنى: أنَّ مَن كانَ بِهاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لا يَبْتَغِي دِينًا غَيْرَ دِينِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اسْتِئْنافًا، وإخْبارًا بِأنَّهُ تَعالى إلَيْهِ مَصِيرُهم، ومُنْقَلَبُهم فَيُجازِيهِمْ بِأعْمالِهِمْ.
وقَرَأ حَفْصٌ، وعَبّاسٌ، ويَعْقُوبُ، وسَهْلٌ: يَرْجِعُونَ، بِالياءِ عَلى الغَيْبَةِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عائِدًا عَلى مَن أسْلَمَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عائِدًا عَلى غَيْرِ ضَمِيرِ ”يَبْغُونَ“، فَيَكُونُ عَلى سَبِيلِ الِالتِفاتِ عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ: تَبْغُونَ بِالتّاءِ؛ إذْ يَكُونُ قَدِ انْتَقَلَ مِن خِطابٍ إلى غَيْبَةٍ. وقَرَأ الباقُونَ: بِالتّاءِ، فَإنْ عادَ الضَّمِيرُ عَلى مَن كانَ التِفاتًا، أوْ عَلى ضَمِيرِ تَبْغُونَ، كانَ التِفاتًا عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ: يَبْغُونَ بِالياءِ، أوْ يَكُونُ قَدِ انْتَقَلَ مِن غَيْبَةٍ إلى خِطابٍ.
﴿قُلْ آمَنّا بِاللَّهِ وما أُنْزِلَ عَلَيْنا وما أُنْزِلَ عَلى إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ والأسْباطِ وما أُوتِيَ مُوسى وعِيسى والنَّبِيُّونَ مِن رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنهم ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ هَذِهِ الآيَةُ مُوافِقَةٌ لِما في البَقَرَةِ إلّا في: قُلْ، وفي: عَلَيْنا، وفي: عِيسى والنَّبِيُّونَ، وقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ما في البَقَرَةِ، فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ هُنا، إلّا ما وقَعَ فِيهِ الخِلافُ، فَنَقُولُ: الظّاهِرُ في قُلْ أنَّهُ خِطابٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ أُمِرَ أنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ، وعَنْ أُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ: آمَنّا بِهِ، ويُقَوِّي أنَّهُ إخْبارٌ عَنْهُ وعَنْ أُمَّتِهِ قَوْلُهُ أخِيرًا: ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. وأفْرَدَهُ بِالخِطابِ بِقَوْلِهِ: قُلْ؛ لِأنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في أخْذِ المِيثاقِ في قَوْلِهِ: ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ، فَعَيَّنَهُ في هَذا التَّكْلِيفِ لِيُظْهِرَ فِيهِ كَوْنَهُ مُصَدِّقًا لِما مَعَ الأنْبِياءِ الَّذِينَ أخَذَ عَلَيْهِمُ المِيثاقَ. وقالَ: آمَنّا، تَنْبِيهًا عَلى أنَّ هَذا التَّكْلِيفَ لَيْسَ مِن خَواصِّهِ، بَلْ هو لازِمٌ لِكُلِّ المُؤْمِنِينَ. قالَ تَعالى: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٨٥] ) بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ والمُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٢٨٥] .
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ ويَجُوزُ أنْ يُؤْمَرَ بِأنْ يَتَكَلَّمَ عَنْ نَفْسِهِ كَما يَتَكَلَّمُ المُلُوكُ؛ إجْلالًا مِنَ اللَّهِ لِقَدْرِ نَبِيِّهِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: المَعْنى قُلْ يا مُحَمَّدُ، أنْتَ وأُمَّتُكَ آمَنّا بِاللَّهِ، فَيَظْهَرُ مِن كَلامِ ابْنِ عَطِيَّةَ أنَّ ثَمَّ مَعْطُوفًا حُذِفَ، وأنَّ ثَمَّ الأمْرَ مُتَوَجَّهٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ وأُمَّتِهِ. وأمّا تَعْدِيَةُ ”أُنْزِلَ“ هُنا بِـ ”عَلى“، وفي البَقَرَةِ بِـ ”إلى“، فَقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الإنْزالُ عَلى نَبِيِّ الأُمَّةِ إنْزالٌ عَلَيْها.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنَّ قُلْتَ) لِمَ عَدّى ”أُنْزِلَ“ في هَذِهِ الآيَةِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلاءِ، وفِيما تَقَدَّمَ مِن مِثْلِها بِحَرْفِ الِانْتِهاءِ ؟ .
(قُلْتُ) لِوُجُودِ المَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأنَّ الوَحْيَ يَنْزِلُ مِن فَوْقُ، ويَنْتَهِي إلى الرُّسُلِ، فَجاءَ تارَةً بِأحَدِ المَعْنَيَيْنِ، وأُخْرى بِالآخَرِ. وقالَ الرّاغِبُ: إنَّما قالَ هُنا: عَلى؛ لِأنَّ ذَلِكَ لَمّا كانَ خِطابًا لِلنَّبِيِّ ﷺ وكانَ واصِلًا إلَيْهِ مِنَ المَلَأِ الأعْلى بِلا واسِطَةِ بِشْرٍ، كانَ لَفْظُ ”عَلى“ المُخْتَصِّ بِالعُلُوِّ أوْلى بِهِ، وهُناكَ لَمّا كانَ خِطابًا لِلْأُمَّةِ، وقَدْ (p-٥١٧)وصَلَ إلَيْهِمْ بِواسِطَةِ النَّبِيِّ ﷺ كانَ لَفْظُ ”إلى“، المُخْتَصِّ بِالإيصالِ أوْلى، ويَجُوزُ أنْ يُقالَ: أُنْزِلَ عَلَيْهِ، إنَّما عَلى ما أُمِرَ المُنَزَّلُ عَلَيْهِ أنْ يُبَلِّغَ غَيْرَهُ، وأُنْزِلَ إلَيْهِ عَلى ما خُصَّ بِهِ في نَفْسِهِ. وإلَيْهِ نِهايَةُ الإنْزالِ، وعَلى ذَلِكَ قالَ: ﴿أوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنّا أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ﴾ [العنكبوت: ٥١] . وقالَ: ﴿وأنْزَلْنا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤] خُصَّ هُنا بِـ ”إلى“ لَمّا كانَ مَخْصُوصًا بِالذِّكْرِ، الَّذِي هو بَيانُ المُنَزَّلِ، وهَذا كَلامٌ في الأوْلى، لا في الوُجُوبِ انْتَهى كَلامُهُ.
وذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّ مَن قالَ هَذا الفَرْقَ فَقَدْ تَعَسَّفَ، قالَ: ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ﴾ [البقرة: ٤] ﴿وأنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ﴾ [المائدة: ٤٨] وإلى قَوْلِهِ: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [آل عمران: ٧٢] ؟ انْتَهى. وأمّا إعادَةُ لَفْظِ: وما أُوتِيَ؛ فَلِأنَّهُ لَمّا كانَ لَفْظُ الخِطابِ عامًّا، ومِن حِكَمِ خِطابِ العامِّ البَسْطُ دُونَ الإيجازِ، ولَمّا كانَ الخِطابُ هُنا خاصًّا اكْتَفى فِيهِ بِالإيجازِ.
﴿ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ﴾ الإسْلامُ هُنا قِيلَ: هو الِاسْتِسْلامُ إلى اللَّهِ، والتَّفْوِيضُ إلَيْهِ، وهو مَطْلُوبٌ في كُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ وشَرِيعَةٍ، ولِذَلِكَ فَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالتَّوْحِيدِ وإسْلامِ الوَجْهِ لِلَّهِ. وقِيلَ: المُرادُ بِالإسْلامِ شَرِيعَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ بَيَّنَ تَعالى أنَّ مَن تَحَرّى بَعْدَ مَبْعَثِهِ شَرِيعَةً غَيْرَ شَرِيعَتِهِ فَغَيْرُ مَقْبُولٍ مِنهُ، وهو الدِّينُ الَّذِي وافَقَ في مُعْتَقَداتِهِ دِينَ مَن ذَكَرَ مِنَ الأنْبِياءِ.
قِيلَ: وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ لَمّا نَزَلَتْ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والنَّصارى﴾ [البقرة: ٦٢] الآيَةَ، أنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَها: ﴿ومَن يَبْتَغِ﴾ الآيَةَ. وهَذا إشارَةٌ إلى نَسْخِ (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) . وعَنْ عِكْرِمَةَ: لَمّا نَزَلَتْ قالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: قَدْ أسْلَمْنا قَبْلَكَ ونَحْنُ المُسْلِمُونَ، فَقالَ اللَّهُ لَهُ: حُجَّهم يامُحَمَّدُ، وأنْزَلَ ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ﴾ [آل عمران: ٩٧] فَحَجَّ المُسْلِمُونَ، وقَعَدَ الكُفّارُ.
وقِيلَ: نَزَلَتْ في الحَرْثِ بْنِ سُوَيْدٍ، وسَتَأْتِي قِصَّتُهُ بَعْدَ هَذا. وقَبُولُ العَمَلِ هو رِضاهُ وإثابَةُ فاعِلِهِ عَلَيْهِ. وانْتَصَبَ دِينًا عَلى التَّمْيِيزِ: لِـ ”غَيْرَ“؛ لِأنَّ ”غَيْرَ“ مُبْهَمَةٌ، فَفُسِّرَتْ بِدِينٍ، كَما أنَّ مِثْلًا مُبْهَمَةٌ فَتُفَسَّرُ أيْضًا. وهَذا كَقَوْلِهِمْ: لَنا غَيْرُها إبِلًا وشاءَ، ومَفْعُولُ ”يَبْتَغِ“ هو: غَيْرَ، وقِيلَ: ”دِينًا“ مَفْعُولٌ، وغَيْرَ: مَنصُوبٌ عَلى الحالِ؛ لِأنَّهُ لَوْ تَأخَّرَ كانَ نَعْتًا وقِيلَ: ”دِينًا“ بَدَلٌ مِن ”غَيْرَ“، والجُمْهُورُ عَلى إظْهارِ الغَيْنَيْنِ، ورُوِيَ عَنْ أبِي عَمْرٍو الإدْغامُ.
﴿وهو في الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ الخُسْرانُ في الآخِرَةِ هو حِرْمانُ الثَّوابِ وحُصُولُ العِقابِ، شُبِّهَ في تَضْيِيعِ زَمانِهِ في الدُّنْيا بِاتِّباعِ غَيْرِ الإسْلامِ بِالَّذِي خَسِرَ في بِضاعَتِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ قَدْ عُطِفَتْ عَلى جَوابِ الشَّرْطِ، فَيَكُونُ قَدْ تَرَتَّبَ عَلى ابْتِغاءِ غَيْرِ الإسْلامِ دِينًا، عَدَمُ القَبُولِ والخُسْرانِ، ويُحْتَمَلُ أنْ لا تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَيْهِ بَلْ هي اسْتِئْنافُ إخْبارٍ عَنْ حالِهِ في الآخِرَةِ.
و”في الآخِرَةِ“ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ما بَعْدَهُ، أيْ: وهو خاسِرٌ في الآخِرَةِ، أوْ: بِإضْمارِ ”أعْنِي“، أوْ: بِـ ”الخاسِرِينَ“ عَلى أنَّ الألِفَ واللّامَ لَيْسَتْ مَوْصُولَةً، بَلْ لِلتَّعْرِيفِ، كَهي في الرَّجُلِ، أوْ بِهِ عَلى أنَّها مَوْصُولَةٌ، وتُسُومِحَ في الظَّرْفِ والمَجْرُورِ؛ لِأنَّهُ يَتَّسِعُ فِيهِما ما لا يَتَّسِعُ في غَيْرِهِما، وكُلٌّ مَنقُولٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا نَظِيرُهُ.
﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ وشَهِدُوا أنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وجاءَهُمُ البَيِّناتُ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ نَزَلَتْ في أهْلِ الكِتابِ، آمَنُوا بِالتَّوْراةِ والإنْجِيلِ، وفِيهِما ذِكْرُ مُحَمَّدٍ ﷺ فَغَيَّرُوهُ وكَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ، قالَهُ الحَسَنُ ورَوى عَطِيَّةُ قَرِيبًا مِنهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقالَ مُقاتِلٌ: في عَشَرَةِ رَهْطٍ ارْتَدُّوا فِيهِمُ الحَرْثُ بْنُ سُوَيْدٍ الأنْصارِيُّ، فَنَدِمَ ورَجَعَ، ورَواهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وذَكَرَ مُجاهِدٌ، والسُّدِّيُّ: أنَّ الحَرْثَ كانَ يُظْهِرُ الإسْلامَ، فَلَمّا كانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَتَلَ المُجَدَّرَ بْنَ زِيادٍ بِدَمٍ كانَ لَهُ عَلَيْهِ، وقَتَلَ زَيْدَ بْنَ قَيْسٍ، وارْتَدَّ ولَحِقَ بِالمُشْرِكِينَ، فَأمْرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عُمَرَ أنْ يَقْتُلَهُ إنْ ظَفَرَ بِهِ، فَفاتَهُ، ثُمَّ بَعَثَ إلى أخِيهِ مِن مَكَّةَ يَطْلُبُ التَّوْبَةَ، فَنَزَلَتْ إلى قَوْلِهِ: ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا﴾ [آل عمران: ٨٩] فَكَتَبَ بِها قَوْمُهُ، إلَيْهِ فَرَجَعَ تائِبًا.
ورَواهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ولَمْ يُسَمِّهِ، ولَمْ يَذْكُرْ سِوى أنَّهُ رَجُلٌ مِنَ (p-٥١٨)الأنْصارِ ارْتَدَّ، فَلَحِقَ بِالمُشْرِكِينَ، وخَرَّجَهُ النَّسائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مُطَوَّلًا. وقِيلَ: لَحِقَ بِالرُّومِ. وقِيلَ: ارْتَدَّ الحَرْثُ في أحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، وسَمّى مِنهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ: طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ، والحَرْثَ بْنَ سُوَيْدٍ بْنِ الصّامِتِ، ووَحْوَحَ بْنَ الأسْلَتِ، وذَكَرَ عِكْرِمَةُ أنَّهم كانُوا اثْنَيْ عَشَرَ، وسَمّى مِنهم: أبا عامِرٍ الرّاهِبَ، والحَرْثَ ووُجُوهًا. وقالَ النَّقّاشُ: نَزَلَتْ في طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ. ألْفاظُ الآيَةِ تَعُمُّ كُلَّ مَن ذُكِرَ وغَيْرَهم. وقِيلَ: هي في عامَّةِ المُشْرِكِينَ. وقالَ مُجاهِدٌ: حَمَلَ الآياتِ إلى الحَرْثِ رَجُلٌ مِن قَوْمِهِ فَقَرَأها عَلَيْهِ، فَقالَ لَهُ الحَرْثُ: إنَّكَ واللَّهِ ما عَلِمْتُ لَصَدُوقٌ، وإنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَأصْدَقُ مِنكَ، وإنَّ اللَّهَ تَعالى - لَأصْدَقُ الثَّلاثَةِ. قالَ فَرَجَعَ الحَرْثُ فَأسْلَمَ وحَسُنَ إسْلامُهُ.
كَيْفَ: سُؤالٌ عَنِ الأحْوالِ، وهي هُنا لِلتَّعْجِيبِ والتَّعْظِيمِ؛ لِكُفْرِهِمْ بَعْدَ الإيمانِ، أيْ: كَيْفَ يَسْتَحِقُّ الهِدايَةَ مَن أتى بِما يُنافِيها بَعْدَ التِباسِهِ بِها، ووُضُوحِها لَهُ ؟ فاسْتُبْعِدَ حُصُولُها لَهم مَعَ شِدَّةِ الجَرائِمِ، كَما قالَ: «كَيْفَ تَفْلَحُ أُمَّةٌ أدْمَتْ وجْهَ نَبِيِّها» ؟ .
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَيْفَ يَلْطُفُ بِهِمْ، ولَيْسُوا مَن أهْلِ اللُّطْفِ لِما عَلِمَ اللَّهُ مِن تَصْمِيمِهِمْ عَلى كُفْرِهِمْ ؟ انْتَهى. وهَذِهِ نَزْعَةٌ اعْتِزالِيَّةٌ، إذْ لَيْسَ المَعْنى عِنْدَهُ أنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الهِدايَةَ فِيهِمْ، كَما لا يَخْلُقُ الضَّلالَ فِيهِمْ، بَلْ هُما مَخْلُوقانِ لِلْعَبْدِ.
وقِيلَ: الِاسْتِفْهامُ هُنا يُرادُ بِهِ الجَحْدُ، والمَعْنى: لَيْسَ بِهَدْيٍ، ونَظِيرُهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎فَهَذِي سُيُوفٌ يا صَدِيُّ بْنَ مالِكٍ كَثِيرٌ ولَكِنْ أيْنَ بِالسَّيْفِ ضارِبُ ؟
وقَوْلُ الآخَرِ:
؎كَيْفَ نَوْمِي عَلى الفِراشِ ولَمّا ∗∗∗ يَشْمَلُ الشّامَ غارَةٌ شَعْواءُ ؟
والهِدايَةُ هُنا هي إلى الإيمانِ، واتِّباعِ الحَقِّ، وأبْعَدَ مَن زَعَمَ أنَّ المَعْنى: لا يَهْدِيهِمْ إلى الجَنَّةِ إلّا إنْ تَجَوَّزَ، فَأطْلَقَ المُسَبِّبَ عَلى السَّبَبِ، لِأنَّ دُخُولَ الجَنَّةِ مُسَبَّبٌ عَنِ الإيمانِ، فَيَعُودُ إلى القَوْلِ الأوَّلِ. وشَهِدُوا: ظاهِرُهُ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ كَفَرُوا، وبِهِ قالَ الحُوفِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ، ورَدَّهُ مَكِّيٌّ. وقالَ: لا يَجُوزُ عَطْفُ: شَهِدُوا، عَلى: كَفَرُوا؛ لِفَسادِ المَعْنى، ولَمْ يُبَيِّنْ مِن أيِّ جِهَةٍ فَسادُ المَعْنى، وكَأنَّهُ تَوَهَّمَ التَّرْتِيبَ، فَلِذَلِكَ فَسَدَ المَعْنى عِنْدَهُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: المَعْنى مَفْهُومٌ أنَّ الشَّهادَةَ قَبْلَ الكُفْرِ، والواوُ لا تُرَتِّبُ، وأجازَ قَوْمٌ مِنهم مَكِّيٌّ والزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى ما في إيمانِهِمْ مِن مَعْنى الفِعْلِ، إذِ المَعْنى: بَعْدَ أنْ آمَنُوا وشَهِدُوا. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ أنْ تَكُونَ الواوُ لِلْحالِ لا لِلْعَطْفِ، التَّقْدِيرُ: كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ، وقَدْ شَهِدُوا، والعامِلُ فِيهِ: كَفَرُوا. والرَّسُولُ هُنا مُحَمَّدٌ ﷺ قالَهُ الجُمْهُورُ، وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ الرَّسُولُ هُنا بِمَعْنى الرِّسالَةِ، وفِيهِ بُعْدٌ.
والبَيِّناتُ: هي شَواهِدُ القُرْآنِ والمُعْجِزاتِ الَّتِي تَأْتِي بِمِثْلِها الأنْبِياءُ.
﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ أيْ: لا يَخْلُقُ في قُلُوبِهِمُ الهِدايَةَ. والظّالِمِينَ: عامٌّ مَعْناهُ الخُصُوصُ أيْ: لا يَهْدِي مَن قَضى عَلَيْهِ بِأنَّهُ يَمُوتُ عَلى الكُفْرِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ الإخْبارَ عَنْ أنَّ الظّالِمَ في ظُلْمِهِ لَيْسَ عَلى هُدًى مِنَ اللَّهِ، فَتَجِيءُ الآيَةُ عامَّةً تامَّةَ العُمُومِ انْتَهى. وهَذا المَعْنى الَّذِي ذَكَرَهُ يَنْبُو عَنْهُ لَفْظُ الآيَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الظّالِمِينَ: المُعانِدِينَ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أنَّ اللُّطْفَ لا يَنْفَعُهُمُ انْتَهى. وتَفْسِيرُهُ عَلى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزالِيَّةِ.
{"ayahs_start":83,"ayahs":["أَفَغَیۡرَ دِینِ ٱللَّهِ یَبۡغُونَ وَلَهُۥۤ أَسۡلَمَ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعࣰا وَكَرۡهࣰا وَإِلَیۡهِ یُرۡجَعُونَ","قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡنَا وَمَاۤ أُنزِلَ عَلَىٰۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَإِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَاۤ أُوتِیَ مُوسَىٰ وَعِیسَىٰ وَٱلنَّبِیُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ","وَمَن یَبۡتَغِ غَیۡرَ ٱلۡإِسۡلَـٰمِ دِینࣰا فَلَن یُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ","كَیۡفَ یَهۡدِی ٱللَّهُ قَوۡمࣰا كَفَرُوا۟ بَعۡدَ إِیمَـٰنِهِمۡ وَشَهِدُوۤا۟ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقࣱّ وَجَاۤءَهُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ"],"ayah":"كَیۡفَ یَهۡدِی ٱللَّهُ قَوۡمࣰا كَفَرُوا۟ بَعۡدَ إِیمَـٰنِهِمۡ وَشَهِدُوۤا۟ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقࣱّ وَجَاۤءَهُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق