الباحث القرآني

﴿وإنَّ مِنهم لَفَرِيقًا﴾ أيْ: مِنَ اليَهُودِ، قالَهُ الحَسَنُ: أوْ: مِن أهْلِ الكِتابَيْنِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا: هُمُ اليَهُودُ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلى كَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ غَيَّرُوا التَّوْراةَ وكَتَبُوا كِتابًا بَدَّلُوا فِيهِ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ أخَذَتْ قُرَيْظَةُ ما كَتَبُوهُ فَخَلَطُوهُ بِالكِتابِ الَّذِي عِنْدَهم. ﴿يَلْوُونَ ألْسِنَتَهم بِالكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتابِ﴾ أيْ: يَفْتِلُونَها بِقِراءَتِهِ عَنِ الصَّحِيحِ إلى المُحَرَّفِ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحَرِّفُونَ (p-٥٠٣)ويَتَحَيَّلُونَ لِتَبْدِيلِ المَعانِي مِن جِهَةِ اشْتِباهِ الألْفاظِ واشْتِراكِها، وتَشَعُّبِ التَّأْوِيلاتِ فِيها، ومِثالُ ذَلِكَ قَوْلُهم: راعِنا، واسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، ونَحْوَ ذَلِكَ، ولَيْسَ التَّبْدِيلَ المَحْضَ انْتَهى. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ اللَّيَّ وقَعَ بِالكِتابِ، أيْ: بِألْفاظِهِ لا بِمَعانِيهِ وحْدَها، كَما يَزْعُمُ بَعْضُ النّاسِ، بَلِ التَّحْرِيفُ والتَّبْدِيلُ وقَعَ في الألْفاظِ، والمَعانِي تَبَعٌ لِلْألْفاظِ، ومَن طالَعَ التَّوْراةَ عَلِمَ يَقِينًا أنَّ التَّبْدِيلَ في الألْفاظِ والمَعانِي؛ لِأنَّها تَضَمَّنَتْ أشْياءَ يَجْزِمُ العاقِلُ أنَّها لَيْسَتْ مِن عِنْدِ اللَّهِ، ولا أنَّ ذَلِكَ يَقَعُ في كِتابٍ إلَهِيٍّ مِن كَثْرَةِ التَّناقُضِ في الأخْبارِ والأعْدادِ، ونِسْبَةِ أشْياءَ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ الأكْلِ والمُصارَعَةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ، ونِسْبَةِ أشْياءَ إلى الأنْبِياءِ مِنَ الكَذِبِ والسُّكْرِ مِنَ الخَمْرِ، والزِّنا بِبَناتِهِمْ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ القَبائِحِ الَّتِي يُنَزِّهُ العاقِلُ نَفْسَهُ عَنْ أنْ يَتَّصِفَ بِشَيْءٍ مِنها، فَضْلًا عَنْ مَنصِبِ النُّبُوَّةِ. وقَدْ صَنَّفَ الشَّيْخُ عَلاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَطّابٍ الباجِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى، كِتابًا في (السُّؤالاتِ عَلى ألْفاظِ التَّوْراةِ ومَعانِيهِ) ومَن طالَعَ ذَلِكَ الكِتابَ رَأى فِيهِ عَجائِبَ وغَرائِبَ، وجَزَمَ بِالتَّبْدِيلِ لِألْفاظِ التَّوْراةِ ومَعانِيها، هَذا مَعَ خُلُوِّها مِن ذِكْرِ الآخِرَةِ، والبَعْثِ، والحَشْرِ، والنَّشْرِ، والعَذابِ والنَّعِيمِ الأُخْرَوِيَّيْنِ، والتَّبْشِيرِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأيْنَ هَذا مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهم في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ يَأْمُرُهم بِالمَعْرُوفِ ويَنْهاهم عَنِ المُنْكَرِ ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ ويَضَعُ عَنْهم إصْرَهم والأغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: ١٥٧] وقَوْلِهِ تَعالى، وقَدْ ذَكَرَ رَسُولَهُ وصَحابَتَهُ. ﴿ذَلِكَ مَثَلُهم في التَّوْراةِ﴾ [الفتح: ٢٩] . وقَدْ نَصَّ تَعالى في القُرْآنِ عَلى ما يَقْتَضِي إخْفاءَهم لِكَثِيرٍ مِنَ التَّوْراةِ، قالَ تَعالى: ﴿قُلْ مَن أنْزَلَ الكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُورًا وهُدًى لِلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ [الأنعام: ٩١] وقالَ تَعالى ﴿ياأهْلَ الكِتابِ قَدْ جاءَكم رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكم كَثِيرًا مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتابِ﴾ [المائدة: ١٥] فَدَلَّتْ هاتانِ الآيَتانِ عَلى أنَّ الَّذِي أخْفَوْهُ مِنَ الكِتابِ كَثِيرٌ، ودَلَّ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ أنَّ الَّذِي أبْدَوْهُ مِنَ الكِتابِ قَلِيلٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: يَلْوُونَ، مُضارِعُ: لَوى، وقَرَأ أبُو جَعْفَرِ بْنُ القَعْقاعِ، وشَيْبَةُ بْنُ نَصّاحٍ، وأبُو حاتِمٍ عَنْ نافِعٍ: يُلَوُّونَ، بِالتَّشْدِيدِ، مُضارِعُ: لَوّى، مُشَدَّدًا. ونَسَبَها الزَّمَخْشَرِيُّ لِأهْلِ المَدِينَةِ، والتَّضْعِيفُ لِلْمُبالَغَةِ والتَّكْثِيرُ في الفِعْلِ، لا لِلتَّعْدِيَةِ، وقَرَأ حُمَيْدٌ: يَلُونَ، بِضَمِّ اللّامِ، ونَسَبَها الزَّمَخْشَرِيُّ إلى أنَّها رِوايَةٌ عَنْ مُجاهِدٍ، وابْنِ كَثِيرٍ، ووُجِّهَتْ عَلى أنَّ الأصْلَ: يَلْوُونَ، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الواوُ هَمْزَةً، ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَتُها إلى السّاكِنِ قَبْلَها، وحُذِفَتْ هي. والكِتابُ هُنا التَّوْراةُ، والمُخاطَبُ في: لِتَحْسَبُوهُ، المُسْلِمُونَ، وقُرِئَ: لِيَحْسَبُوهُ، بِالياءِ، وهو يَعُودُ عَلى الَّذِينَ يَلْوُونَ ألْسِنَتَهم لَهم، أيْ: لِيَحْسَبَهُ المُسْلِمُونَ، والضَّمِيرُ المَفْعُولُ في: لِيَحْسَبُوهُ، عائِدٌ عَلى ما دَلَّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ مِنَ المُحَرَّفِ، أيْ لِيَحْسَبُوا المُحَرَّفَ مِنَ الكِتابِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: بِالكِتابِ، عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ: يَلْوُونَ ألْسِنَتَهم بِشِبْهِ الكِتابِ، فَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلى ذَلِكَ المُضافِ المَحْذُوفِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوْ كَظُلُماتٍ في بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ﴾ [النور: ٤٠] أيْ: أوْ كَذِي ظُلُماتٍ، فَأعادَ المَفْعُولَ في: يَغْشاهُ، عَلى: ذِي، المَحْذُوفِ. ﴿وما هو مِنَ الكِتابِ﴾ أيْ: وما المُحَرَّفُ والمُبَدَّلُ الَّذِي لَوُوهُ بِألْسِنَتِهِمْ مِنَ التَّوْراةِ، فَلا تَظُنُّوا ذَلِكَ أنَّهُ مِنَ التَّوْراةِ. ﴿ويَقُولُونَ هو مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ تَأْكِيدٌ لِما قَصَدُوهُ مِن حُسْبانِ المُسْلِمِينَ أنَّهُ مِنَ الكِتابِ، وافْتِراءٍ عَظِيمٍ عَلى اللَّهِ، إذْ لَمْ يَكْتَفُوا بِهَذا الفِعْلِ القَبِيحِ مِنَ التَّبْدِيلِ، والتَّحْرِيفِ حَتّى عَضَّدُوا ذَلِكَ بِالقَوْلِ لِيُطابِقَ الفِعْلُ القَوْلَ، ودَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهم لا يَعْرِضُونَ، ولا يَوَدُّونَ في ذَلِكَ، بَلْ يُصَرِّحُونَ بِأنَّهُ في التَّوْراةِ هَكَذا، وقَدْ أنْزَلَهُ اللَّهُ عَلى مُوسى كَذَلِكَ، وذَلِكَ لِفَرْطِ جَرْءَتِهِمْ عَلى اللَّهِ، ويَأْسِهِمْ مِنَ الآخِرَةِ. ﴿وما هو مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ رَدٌّ عَلَيْهِمْ في إخْبارِهِمْ بِالكَذِبِ، وهَذا تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ ﴿وما هو مِنَ الكِتابِ﴾ نَفْيٌ أوَّلًا أخَصُّ، إذِ التَّعْلِيلُ كانَ لِأخَصَّ، ونَفْيٌ هُنا أعَمُّ، لِأنَّ الدَّعْوى مِنهم كانَتْ لِأعَمَّ؛ لِأنَّ كَوْنَهُ مِن عِنْدِ (p-٥٠٤)اللَّهِ أعَمَّ مِن أنْ يَكُونَ في التَّوْراةِ أوْ غَيْرِها. قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: هَذِهِ الآيَةُ فِيها دَلالَةٌ عَلى أنَّ المَعاصِيَ لَيْسَتْ مِن عِنْدِ اللَّهِ، ولا مِن فِعْلِهِ، لِأنَّها لَوْ كانَتْ مِن فِعْلِهِ كانَتْ مِن عِنْدِهِ، وقَدْ نَفى اللَّهُ تَعالى نَفْيًا عامًّا لِكَوْنِ المَعاصِي مِن عِنْدِهِ انْتَهى. وهَذا مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ، وكانَ الرّازِيُّ يَجْنَحُ إلى مَذْهَبِهِمْ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ﴿وما هو مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ نَفى أنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا كَما ادَّعَوْا، وهو مِن عِنْدِ اللَّهِ بِالخَلْقِ والِاخْتِراعِ والإيجادِ، ومِنهم بِالتَّكَسُّبِ. ولَمْ تَعْنِ الآيَةُ إلّا مَعْنى التَّنْزِيلِ، فَبَطُلَ تَعَلُّقُ القَدَرِيَّةِ بِظاهِرِ قَوْلِهِ: ﴿وما هو مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ . ﴿ويَقُولُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ وهم يَعْلَمُونَ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذا آنِفًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب