الباحث القرآني

﴿فَأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خاصًّا، أيْ: كَفَرُوا بِكَ، وجَحَدُوا نُبُوَّتَكَ، والظّاهِرُ العُمُومُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الَّذِينَ، مُبْتَدَأً، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ، فَيَكُونُ مِن بابِ الِاشْتِغالِ. ﴿فَأُعَذِّبُهم عَذابًا شَدِيدًا﴾ وُصِفَ العَذابُ بِالشِّدَّةِ؛ لِتَضاعُفِهِ وازْدِيادِهِ. وقِيلَ: لِاخْتِلافِ أجْناسِهِ. ﴿فِي الدُّنْيا﴾ بِالأسْرِ والقَتْلِ والجِزْيَةِ والذُّلِّ، ومَن لَمْ يَنَلْهُ شَيْءٌ مِن هَذا فَهو عَلى وجَلٍ، إذْ يَعْلَمُ أنَّ الإسْلامَ يَطْلُبُهُ. (والآخِرَةِ) بِعَذابِ النّارِ. وهَذا إخْبارٌ مِنهُ تَعالى بِما يَفْعَلُ بِالكافِرِ مِن أوَّلِ أمْرِهِ في دُنْياهُ إلى آخِرِ أمْرِهِ في عُقْباهُ. ﴿وما لَهم مِن ناصِرِينَ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الجُمْلَةِ في هَذِهِ السُّورَةِ، فَأغْنى ذَلِكَ عَنْ إعادَتِهِ هُنا. ﴿وأمّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ بَدَأ أوَّلًا بِقِسْمِ الكُفّارِ، لِأنَّ ما قَبْلَهُ مِن ذِكْرِ حُكْمِهِ تَعالى بَيْنَهم هو عَلى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ، والوَعِيدِ لِلْكَفّارِ، والإخْبارِ بِجَزائِهِمْ، فَناسَبَتِ البَداءَةَ بِهِمْ، ولِأنَّهم أقْرَبُ في الذِّكْرِ، بِقَوْلِهِ: ﴿فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [آل عمران: ٥٥] وبِكَوْنِ الكَلامِ مَعَ اليَهُودِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِ عِيسى ورامُوا قَتْلَهُ، ثُمَّ أتى ثانِيًا بِذِكْرِ المُؤْمِنِينَ، وعَلَّقَ هُناكَ العَذابَ عَلى مُجَرَّدِ الكُفْرِ، وهُنا عَلَّقَ تَوْفِيَةَ الأجْرِ عَلى الإيمانِ، وعَمِلَ الصّالِحاتِ تَنْبِيهًا عَلى دَرَجَةِ الكَمالِ في الإيمانِ، ودُعاءً إلَيْها. والتَّوْفِيَةُ: دَفْعُ الشَّيْءِ وافِيًا مِن غَيْرِ نَقْصٍ، والأُجُورُ: ثَوابُ الأعْمالِ، شَبَّهَهُ بِالعامِلِ الَّذِي يُوَفّى أجْرَهُ عِنْدَ تَمامِ عَمَلِهِ. وتَوْفِيَةُ الأُجُورِ هي: قَسْمُ المَنازِلِ في الجَنَّةِ بِحَسَبِ الأعْمالِ عَلى ما رَتَّبَها تَعالى، وفي الآيَةِ قَبْلَها قالَ: (فَأُعَذِّبُهم) أسْنَدَ الفِعْلَ إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ وحْدَهُ، وذَلِكَ لِيُطابِقَ قَوْلَهُ: ﴿فَأحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ [آل عمران: ٥٥] وفي هَذِهِ الآيَةِ قالَ: فَيُوَفِّيهِمْ، بِالياءِ عَلى قِراءَةِ حَفْصٍ، ورُوَيْسٍ وذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الِالتِفاتِ، والخُرُوجِ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ إلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ لِلتَّنَوُّعِ في الفَصاحَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: فَنُوَفِّيهِمْ، بِالنُّونِ الدّالَّةِ عَلى المُتَكَلِّمِ المُعَظَّمِ شَأْنُهُ، ولَمْ يَأْتِ بِالهَمْزَةِ كَما في تِلْكَ الآيَةِ لِيُخالِفَ في الإخْبارِ بَيْنَ النِّسْبَةِ الإسْنادِيَّةِ فِيما يَفْعَلُهُ بِالكافِرِ وبِالمُؤْمِنِ، كَما خالَفَ في الفِعْلِ، ولِأنَّ المُؤْمِنَ العامِلَ لِلصّالِحاتِ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَناسَبَهُ الإخْبارُ عَنِ المَجازِيِّ بِنُونِ العَظَمَةِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ: الَّذِينَ آمَنُوا، مُبْتَدَأً، ويَجُوزُ انْتِصابُهُ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُ ما بَعْدَهُ، ويَكُونُ ذَلِكَ مِن بابِ الِاشْتِغالِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ﴾ [فصلت: ١٧] فِيمَن نَصَبَ الدّالَ. ﴿واللَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ما يُشْبِهُ هَذا، وهو قَوْلُهُ: ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الكافِرِينَ﴾ [آل عمران: ٣٢] واحْتَجَّ المُعْتَزِلَةُ بِهَذا عَلى أنَّهُ تَعالى لا يُرِيدُ الكُفْرَ والمَعاصِيَ، لِأنَّ مُرِيدَ الشَّيْءِ مُحِبٌّ لَهُ إذا كانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِنَ الأفْعالِ، وإنَّما تُخالِفُ المُحِبَّةُ الإرادَةَ إذا عُلِّقَتا بِالأشْخاصِ، فَيُقالُ: أُحِبُّ زَيْدًا، ولا يُقالُ: أُرِيدُهُ، وأمّا الأفْعالُ فَهُما فِيها واحِدٌ، فَقَوْلُهُ: لا يُحِبُّ: لا يُرِيدُ ظُلْمَ الظّالِمِينَ، هَكَذا قَرَّرَهُ عَبْدُ الجَبّارِ، وعِنْدَ أصْحابِنا المَحَبَّةُ عِبارَةٌ عَنْ إرادَةِ إيصالِ الخَيْرِ لَهُ، فَهو تَعالى، وإنْ أرادَ كُفْرَ الكافِرِ، لا يُرِيدُ إيصالَ الثَّوابِ إلَيْهِ. (p-٤٧٦)﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحَكِيمِ﴾ ذَلِكَ: إشارَةٌ إلى ما تَقَدَّمَ مِن خَبَرِ عِيسى وزَكَرِيّا، وغَيْرِهِما، ونَتْلُوهُ: نَسْرِدُهُ ونَذْكُرُهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وأضافَ التِّلاوَةَ إلى نَفْسِهِ، وإنْ كانَ المَلِكُ هو التّالِيَ تَشْرِيفًا لَهُ، جَعَلَ تِلاوَةَ المَأْمُورِ تِلاوَةَ الآمِرِ، وفي: نَتْلُوهُ، التِفاتٌ؛ لِأنَّ قَبْلَهُ ضَمِيرَ غائِبٍ في قَوْلِهِ: لا يُحِبُّ، ونَتْلُوهُ: مَعْناهُ تَلَوْناهُ، كَقَوْلِهِ: ﴿واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ﴾ [البقرة: ١٠٢] ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ ظاهِرُهُ مِنَ الحالِ؛ لِأنَّ قِصَّةَ عِيسى لَمْ يَفْرَغْ مِنها، ويَكُونُ ذَلِكَ بِمَعْنى هَذا. والآياتُ هُنا، الظّاهِرُ أنَّهُ يُرادُ بِها آياتُ القُرْآنِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِها المُعْجِزاتُ والمُسْتَغْرَباتُ، أيْ: نَأْتِيهِمْ بِهَذِهِ الغُيُوبِ مِن قِبَلِنا، وبِسَبَبِ تِلاوَتِنا، وأنْتَ أُمِّيٌّ لا تَقْرَأُ، ولا تَصْحَبُ أهْلَ الكِتابِ، فَهي آياتٌ لِنُبُوَّتِكَ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والجُمْهُورُ: والذِّكْرُ القُرْآنُ، والحَكِيمُ أيِ الحاكِمُ، أتى بِصِيغَةِ المُبالَغَةِ فِيهِ، ووَصَفَ بِصِفَةِ مَن هو مِن سَبَبِهِ وهو اللَّهُ تَعالى، أوْ: كَأنَّهُ يَنْطِقُ بِالحِكْمَةِ لِكَثْرَةِ حُكْمِهِ. قالَ الزَّجّاجُ: لِأنَّهُ ذُو حِكْمَةٍ في تَأْلِيفِهِ ونَظْمِهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى المُحْكِمِ، قالَهُ الجُمْهُورُ، أحْكَمَ عَنْ طُرُقِ الخَلَلِ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿أُحْكِمَتْ آياتُهُ﴾ [هود: ١] ويَكُونُ: فَعِيلٌ بِمَعْنى مُفْعَلٍ، وهو قَلِيلٌ، ومِنهُ أعْقَدْتُ العَسَلَ فَهو مُعْقَدٌ وعَقِيدٌ، وأحْبَسْتُ فَرَسًا في سَبِيلِ اللَّهِ فَهو مُحْبَسٌ وحَبِيسٌ. وقِيلَ: المُرادُ بِالذِّكْرِ هُنا اللَّوْحُ المَحْفُوظُ الَّذِي مِنهُ نُقِلَتْ جَمِيعُ كُتُبِ اللَّهِ المُنَزَّلَةِ عَلى الأنْبِياءِ، أخْبَرَ أنَّهُ أنْزَلَ هَذِهِ القَصَصَ مِمّا كُتِبَ هُناكَ. وذَلِكَ: مُبْتَدَأٌ، ونَتْلُوهُ: خَبَرٌ. ومِنَ الآياتِ: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ؛ لِأنَّهُ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: كائِنًا مِنَ الآياتِ. و”مِن“: لِلتَّبْعِيضِ لِأنَّ هَذا المَتْلُوَّ بَعْضُ الآياتِ والذِّكْرِ، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ: مِنَ الآياتِ، خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وذَلِكَ عَلى رَأْيِ مَن يُجِيزُ تَعْدادَ الأخْبارِ بِغَيْرِ حَرْفِ عَطْفٍ، إذا كانَ لِمُبْتَدَأٍ واحِدٍ، ولَمْ يَكُنْ في مَعْنى خَبَرٍ واحِدٍ، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ: مِن، لِبَيانِ الجِنْسِ، وذَلِكَ عَلى رَأْيِ مَن يُجِيزُ أنْ تَكُونَ: مِن، لِبَيانِ الجِنْسِ. ولا يَتَأتّى ذَلِكَ هُنا مِن جِهَةِ المَعْنى إلّا بِمَجازٍ، لِأنَّ تَقْدِيرَ مِنَ البَيانِيَّةِ بِالمَوْصُولِ. ولَوْ قُلْتَ: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ الَّذِي هو الآياتُ والذِّكْرُ الحَكِيمُ، لاحْتِيجَ إلى تَأْوِيلٍ؛ لِأنَّ هَذا المُشارَ إلَيْهِ مِن نَبَأِ مَن تَقَدَّمَ ذِكْرَهُ لَيْسَ هو جَمِيعَ الآياتِ، والذِّكْرُ الحَكِيمُ إنَّما هو بَعْضُ الآياتِ، فَيَحْتاجُ إلى تَأْوِيلِ أنَّهُ جَعَلَ بَعْضَ الآياتِ، والذِّكْرُ هو الآياتُ، والذِّكْرُ عَلى سَبِيلِ المَجازِ. ومِمَّنْ ذَهَبَ إلى أنَّها لِبَيانِ الجِنْسِ: أبُو مُحَمَّدِ بْنِ عَطِيَّةَ، وبَدَأ بِهِ، ثُمَّ قالَ: ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَنصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ، فَيَكُونُ مِن بابِ الِاشْتِغالِ، أيْ: نَتْلُو ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ، والرَّفْعُ عَلى الِابْتِداءِ أفْصَحُ؛ لِأنَّهُ عَرِيَ مِن مُرَجِّحِ النَّصْبِ عَلى الِاشْتِغالِ؛ فَزَيْدٌ ضَرَبْتَهُ، أفْصَحُ مِن: زَيْدًا ضَرَبْتَهُ، وإنْ كانَ عَرَبِيًّا، وعَلى هَذا الإعْرابِ يَكُونُ: نَتْلُوهُ، لا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الإعْرابِ، لِأنَّهُ مُفَسِّرٌ لِذَلِكَ الفِعْلِ المَحْذُوفِ، ويَكُونُ: مِنَ الآياتِ، حالًا مِن ضَمِيرِ النَّصْبِ في: نَتْلُوهُ. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَعْنى الَّذِي، ونَتْلُوهُ: صِلَتَهُ. ومِنَ الآياتِ الخَبَرُ. وقالَهُ الزَّجّاجُ قَبْلَهُ، وهَذِهِ نَزْعَةٌ كُوفِيَّةٌ، يُجِيزُونَ في أسْماءِ الإشارَةِ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، ولا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، إلّا في ذا، وحْدَها إذا سَبَقَها ما الِاسْتِفْهامِيَّةُ بِاتِّفاقٍ، أوْ مَنِ الِاسْتِفْهامِيَّةُ بِاخْتِلافٍ. وتَقْرِيرُ هَذا في عِلْمِ النَّحْوِ. وجَوَّزُوا (p-٤٧٧)أيْضًا أنْ يَكُونَ: ذَلِكَ، مُبْتَدَأً و”مِنَ الآياتِ“: خَبَرٌ. ونَتْلُوهُ: حالٌ. وأنْ يَكُونَ: ذَلِكَ، خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيِ: الأمْرُ ذَلِكَ. ونَتْلُوهُ: حالٌ. والظّاهِرُ في قَوْلِهِ: ﴿والذِّكْرِ الحَكِيمِ﴾ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى الآياتِ، ومَن جَعَلَها لِلْقَسَمِ وجَوابَ القَسَمِ: ﴿إنَّ مَثَلَ عِيسى﴾ [آل عمران: ٥٩] فَقَدْ أبْعَدَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب