الباحث القرآني

﴿قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألّا تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلّا رَمْزًا﴾ قالَ الرَّبِيعُ، والسُّدِّيُّ، وغَيْرُهُما: إنَّ زَكَرِيّا قالَ: يا رَبِّ إنْ كانَ ذَلِكَ الكَلامُ مِن قِبَلِكَ، والبِشارَةُ حَقٌّ، فاجْعَلْ لِي آيَةً عَلامَةً أعْرِفُ بِها صِحَّةَ ذَلِكَ فَعُوقِبَ عَلى هَذا الشَّكِّ في أمْرِ اللَّهِ بِأنْ مُنِعَ الكَلامَ ثَلاثَةَ أيّامٍ مَعَ النّاسِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: لَمْ يَشُكَّ قَطُّ زَكَرِيّا، وإنَّما سَألَ عَنِ الجِهَةِ الَّتِي بِها يَكُونُ الوَلَدُ، وتَتِمُّ بِهِ البِشارَةُ، فَلَمّا قِيلَ لَهُ: ﴿كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ﴾ [آل عمران: ٤٠] سَألَ عَلامَةً عَلى وقْتِ الحَمْلِ؛ لِيَعْرِفَ مَتى يَكُونُ العُلُوقُ بِيَحْيى. واخْتَلَفُوا في مَنعِهِ الكَلامَ: هَلْ كانَ لِآفَةٍ نَزَلَتْ بِهِ أمْ لِغَيْرِ آفَةٍ ؟ فَقالَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ: رَبا لِسانُهُ في فِيهِ حَتّى مَلَأهُ، ثُمَّ أطْلَقَهُ اللَّهُ بَعْدَ ثَلاثٍ. وقالَ الرَّبِيعُ، وغَيْرُهُ: أخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِ لِسانَهُ فَجُعِلَ لا يَقْدِرُ عَلى الكَلامِ؛ مُعاقَبَةً عَلى سُؤالِ آيَةٍ بَعْدَ مُشافَهَةِ المَلائِكَةِ لَهُ بِالبِشارَةِ. وقالَتْ طائِفَةٌ: لَمْ تَكُنْ آفَةً، ولَكِنَّهُ مُنِعَ مُجاوَرَةَ النّاسِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْها، وكانَ يَقْدِرُ عَلى ذِكْرِ اللَّهِ. قالَهُ الطَّبَرِيُّ، وذَكَرَ نَحْوَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وكانَتِ الآيَةُ حَبْسَ اللِّسانِ لِتَخْلُصَ المُدَّةُ لِذِكْرِ اللَّهِ لا يَشْغَلُ لِسانَهُ بِغَيْرِهِ تَوَفُّرًا مِنهُ عَلى قَضاءِ حَقِّ تِلْكَ النِّعْمَةِ الجَسِيمَةِ وشُكْرِها، كَأنَّهُ لَمّا طَلَبَ الآيَةَ مِن أجْلِ الشُّكْرِ قِيلَ لَهُ: آيَتُكَ أنْ يُحْبَسَ لِسانُكَ إلّا عَنِ الشُّكْرِ. وأحْسَنُ الجَوابِ وأوْقَعُهُ ما كانَ مُشْتَقًّا مِنَ السُّؤالِ، ومُنْتَزَعًا مِنهُ، وكانَ الإعْجازُ في هَذِهِ الآيَةِ مِن جِهَةِ قُدْرَتِهِ عَلى ذِكْرِ اللَّهِ، وعَجْزِهِ عَنْ تَكْلِيمِ النّاسِ، مَعَ سَلامَةِ البِنْيَةِ، واعْتِدالِ المِزاجِ، ومِنهُ جِهَةُ وُقُوعِ العُلُوقِ، وحُصُولِهِ عَلى وفْقِ الأخْبارِ. وقِيلَ: أُمِرَ أنْ يَصُومَ ثَلاثَةَ أيّامٍ، وكانُوا لا يَتَكَلَّمُونَ في صَوْمِهِمْ. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: آيَتُكَ أنْ تَصِيرَ مَأْمُورًا بِأنْ لا تُكَلِّمَ الخَلْقَ، وأنْ تَشْتَغِلَ بِالذِّكْرِ شُكْرًا عَلى إعْطاءِ هَذِهِ المَوْهِبَةِ، وإذا أُمِرْتَ بِذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ المَطْلُوبُ. قِيلَ: فَسَألَ اللَّهَ أنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِ فَرْضًا يَجْعَلُهُ شُكْرًا لِذَلِكَ. والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظاهِرُ الآيَةِ أنَّهُ سَألَ آيَةً تَدُلُّ عَلى أنَّهُ يُولَدُ لَهُ، فَأجابَهُ بِأنَّ آيَتَهُ انْتِفاءُ الكَلامِ مِنهُ مَعَ النّاسِ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلّا رَمْزًا، وأُمِرَ بِالذِّكْرِ، والتَّسْبِيحِ، وانْتِفاءِ الكَلامِ قَدْ يَكُونُ لِمُتَكَلَّفٍ بِهِ، أوْ بِمَلْزُومِهِ في شَرِيعَتِهِمْ، وهو (p-٤٥٢)الصَّوْمُ، وقَدْ يَكُونُ لِمَنعٍ قَهْرِيٍّ مُدَّةً مُعَيَّنَةً لِآفَةٍ تَعْرِضُ في الجارِحَةِ، أوْ لِغَيْرِ آفَةٍ، قالُوا: مَعَ قُدْرَتِهِ عَلى الكَلامِ بِذِكْرِ اللَّهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولِذَلِكَ قالَ: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ﴾ إلى آخِرِهِ، يَعْنِي في أيّامِ عَجْزِكَ عَنْ تَكْلِيمِ النّاسِ، وهي مِنَ الآياتِ الباهِرَةِ انْتَهى. ولا يَتَعَيَّنُ ما قالَهُ لِما ذَكَرْناهُ مِنِ احْتِمالاتِ وُجُوهِ الِانْتِفاءِ، ولِأنَّ الأمْرَ بِالذِّكْرِ، والتَّسْبِيحِ لَيْسَ مُقَيَّدًا بِالزَّمانِ الَّذِي لا يُكَلِّمُ النّاسَ، وعَلى تَقْدِيرِ تَقْيِيدِ ذَلِكَ لا يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ الذِّكْرُ والتَّسْبِيحُ بِالنُّطْقِ بِالكَلامِ، وظاهِرُ: اجْعَلْ، هُنا أنَّها بِمَعْنى صَيِّرْ، فَتَتَعَدّى لِمَفْعُولَيْنِ: الأوَّلُ آيَةٌ، والثّانِي المَجْرُورُ، قَبْلَهُ، وهو: لِي، وهو يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ، لِأنَّهُ قَبْلَ دُخُولِ: اجْعَلْ، هو مُصَحِّحٌ لِجَوازِ الِابْتِداءِ بِالنَّكِرَةِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: أنْ لا تُكَلِّمُ، بِرَفْعِ المِيمِ عَلى أنَّ: أنْ، هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، أيْ أنَّهُ لا تُكَلِّمُ، واسْمُها مَحْذُوفٌ؛ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، أوْ عَلى إجْراءِ: أنْ، مَجْرى ما المَصْدَرِيَّةِ، وانْتِصابُ: ثَلاثَةَ أيّامٍ، عَلى الظَّرْفِ خِلافًا لِلْكُوفِيِّينَ، إذْ زَعَمُوا أنَّهُ كانَ اسْمُ الزَّمانِ يَسْتَغْرِقُهُ الفِعْلُ، فَلَيْسَ بِظَرْفٍ، وإنَّما يَنْتَصِبُ انْتِصابَ المَفْعُولِ بِهِ نَحْوَ: صَمَتَ يَوْمًا، فانْتِصابُ ”ثَلاثَةَ أيّامٍ“ عِنْدَهم عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ؛ لِأنَّ انْتِفاءَ الكَلامِ مِنهُ لِلنّاسِ كانَ واقِعًا في جَمِيعِ الثَّلاثَةِ، لَمْ يَخْلُ جُزْءٌ مِنها مِنِ انْتِفاءٍ فِيهِ. والمُرادُ: ثَلاثَةُ أيّامٍ بِلَيالِيها، يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ في سُورَةِ مَرْيَمَ: ﴿قالَ آيَتُكَ أنْ لا تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا﴾ [مريم: ١٠] وهَذا يَضَعِّفُ تَأْوِيلَ مَن قالَ: أُمِرَ بِالصَّوْمِ ثَلاثَةَ أيّامٍ، وكانُوا لا يَتَكَلَّمُونَ في صَوْمِهِمْ، واللَّيالِي تَبْعُدُ مَشْرُوعِيَّةُ صَوْمِها، ولَمْ يُعَيِّنِ ابْتِداءَ ثَلاثَةِ أيّامٍ، بَلْ أطْلَقَ فَقالَ: ثَلاثَةَ أيّامٍ، فَإنْ كانَ ذَلِكَ بِتَكْلِيفٍ فَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلى اخْتِيارِهِ، يَمْتَنِعُ مِن تَكْلِيمِ النّاسِ ثَلاثَةَ أيّامٍ مَتى شاءَ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن حِينِ الخِطابِ، وإنْ كانَ بِمَنعٍ قَهْرِيٍّ فَيَظْهَرُ أنَّهُ مِن حِينِ الخِطابِ. قِيلَ: وفي ذَلِكَ دَلالَةٌ عَلى نَسْخِ القُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وهَذا عَلى تَقْدِيرِ قُدْرَةِ زَكَرِيّا عَلى الكَلامِ في تِلْكَ الأيّامِ الثَّلاثَةِ، وأنَّ شَرْعَهُ شَرْعٌ لَنا، وإنْ نَسَخَهُ قَوْلُهُ ﷺ: لا صَمْتَ يَوْمٍ إلى اللَّيْلِ. وقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ إلى أنَّ مَعْناهُ: لا صَمْتَ يَوْمٍ، أيْ: عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وأمّا الصَّمْتُ عَمّا لا مَنفَعَةَ فِيهِ، فَحَسُنٌ. واسْتِثْناءُ الرَّمْزِ، قِيلَ: هو اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، إذا الرَّمْزُ لا يُدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيمِ، مِن أطْلَقَ الكَلامَ في اللُّغَةِ عَلى الإشارَةِ الدّالَّةِ عَلى ما في نَفْسِ المُشِيرِ، فَلا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ هَذا اسْتِثْناءً مُتَّصِلًا عَلى مَذْهَبِهِ. ولِذَلِكَ أنْشَدَ النَّحْوِيُّونَ: ؎أرادَتْ كَلامًا فاتَّقَتْ مِن رَقِيبِها فَلَمْ يَكُ إلّا ومْؤُها بِالحَواجِبِ وقالَ: ؎إذا كَلَّمَتْنِي بِالعُيُونِ الفُواتِرِ ∗∗∗ رَدَدْتُ عَلَيْها بِالدُّمُوعِ البَوادِرِ واسْتَعْمَلَ المُوَلِّدُونَ هَذا المَعْنى. قالَ حَبِيبٌ: ؎كَلِمَتُهُ بِجُفُونٍ غَيْرِ ناطِقَةٍ ∗∗∗ فَكانَ مِن رَدِّهِ ما قالَ حاجِبُهُ وكَوْنُهُ اسْتِثْناءً مُتَّصِلًا بَدَأ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ. قالَ: لَمّا أدّى مُؤَدِّي الكَلامِ، وفَهِمَ مِنهُ ما يُفْهَمُ مِنهُ، سُمِّيَ كَلامًا. وأمّا ابْنُ عَطِيَّةَ فاخْتارَ أنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا، قالَ: والكَلامُ المُرادُ بِهِ في الآيَةِ إنَّما هو النُّطْقُ بِاللِّسانِ لا الإعْلامُ بِما في النَّفْسِ، فَحَقِيقَةُ هَذا الِاسْتِثْناءِ أنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وبَدَأ بِهِ أوَّلًا، فَقالَ اسْتِثْناءُ الرَّمْزِ، وهو اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، ثُمَّ قالَ: وذَهَبَ الفُقَهاءُ في الإشارَةِ ونَحْوِها إلى أنَّها في حُكْمِ الكَلامِ في الإيمانِ ونَحْوِها، فَعَلى هَذا يَجِيءُ الِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلًا، والرَّمْزُ هُنا: تَحْرِيكٌ بِالشَّفَتَيْنِ، قالَهُ مُجاهِدٌ. أوْ: إشارَةٌ بِاليَدِ والرَّأْسِ، قالَهُ الضَّحّاكُ، والسُّدِّيُّ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ. أوْ: إشارَةٌ بِاليَدِ، قالَهُ الحَسَنُ. أوْ: إيماءٌ، قالَهُ قَتادَةُ. فالإيماءُ هو الإشارَةُ لَكِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ بِماذا أشارَ ؟ . ورُوِيَ عَنْ قَتادَةَ: إشارَةٌ بِاليَدِ أوْ إشارَةٌ بِالعَيْنِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الحَسَنِ. وقِيلَ: رَمْزُهُ: الكِتابَةُ عَلى الأرْضِ. وقِيلَ: الإشارَةُ بِالإصْبَعِ المُسَبِّحَةِ. وقِيلَ: بِاللِّسانِ. ومِنهُ (p-٤٥٣)قَوْلُ الشّاعِرِ: ظَلَّ أيّامًا لَهُ مِن دَهْرِهِ يَرْمُزُ الأقْوالَ مِن غَيْرِ خُرْسٍ وقِيلَ: الرَّمْزُ الصَّوْتُ الخَفِيُّ. وقَرَأ عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ، ويَحْيى بْنُ وثّابٍ: رُمُزًا، بِضَمِّ الرّاءِ والمِيمِ، وخُرِّجَ عَلى أنَّهُ جَمْعُ رُمُوزٍ، كَرُسُلٍ، ورَسُولٍ، وعَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ كَرَمْزٍ جاءَ عَلى فِعْلٍ، وأتْبَعَتِ العَيْنُ الفاءَ كاليُسْرِ واليُسُرِ. وقَرَأ الأعْمَشُ: رَمَزًا، بِفَتْحِ الرّاءِ والمِيمِ، وخُرِّجَ عَلى أنَّهُ جَمْعُ رامِزٍ، كَخادِمٍ، وخَدَمٍ، وانْتِصابُهُ إذا كانَ جَمْعًا عَلى الحالِ مِنَ الفاعِلِ، وهو الضَّمِيرُ في ”تُكَلِّمَ“، ومِنَ المَفْعُولِ، وهو: النّاسُ. كَما قالَ الشّاعِرُ: فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنَّ أيِّي وأيُّكَ فارِسُ الأحْزابِ أيْ: إلّا مُتَرامِزِينَ، كَما يُكَلِّمُ الأخْرَسُ النّاسَ ويُكَلِّمُونَهُ. وفي قَوْلِهِ: ﴿إلّا رَمْزًا﴾ دَلالَةٌ عَلى أنَّ الإشارَةَ تَتَنَزَّلُ مَنزِلَةَ الكَلامِ، وذَلِكَ مَوْجُودٌ في كَثِيرٍ مِنَ السُّنَّةِ. وفي الحَدِيثِ: ”أيْنَ اللَّهُ“ . فَأشارَتْ بِرَأْسِها إلى السَّماءِ، فَقالَ: ”أعْتِقْها فَإنَّها مُؤْمِنَةٌ“ . فَأجازَ الإسْلامُ بِالإشارَةِ، وهو أصْلُ الدِّيانَةِ الَّتِي تَحْقِنُ الدَّمَ، وتَحْفَظُ المالَ وتُدْخِلُ الجَنَّةَ، فَتَكُونُ الإشارَةُ عامَّةً في جَمِيعِ الدِّياناتِ، وهو قَوْلُ عامَّةِ الفُقَهاءِ. ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾ قِيلَ: الذِّكْرُ هُنا هو بِالقَلْبِ؛ لِأنَّهُ مُنِعَ مِنَ الكَلامِ. وقِيلَ: بِاللِّسانِ؛ لِأنَّهُ مُنِعَ مِنَ الكَلامِ مَعَ النّاسِ، ولَمْ يُمْنَعْ مِنَ الذِّكْرِ. وقِيلَ: هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: واذْكُرْ عَطاءَ رَبِّكَ، وإجابَتَهُ دُعائِكَ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: لَوْ رُخِّصَ لِأحَدٍ في تَرْكِ الذِّكْرِ لَرُخِّصَ لِزَكَرِيّا، ولِلرَّجُلِ في الحَرْبِ. وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأنفال: ٤٥] وأمَرَ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ؛ لِيَكْثُرَ ذِكْرُ اللَّهِ لَهُ بِنِعَمِهِ وألْطافِهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٢] . وانْتِصابُ: كَثِيرًا، عَلى أنَّهُ نَعَتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أوْ مَنصُوبٍ عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ المَصْدَرِ المَحْذُوفِ الدّالِّ عَلَيْهِ: اذْكُرُوا، عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. ﴿وسَبِّحْ بِالعَشِيِّ والإبْكارِ﴾ أيْ: نَزِّهِ اللَّهَ عَنْ سِماتِ النَّقْصِ بِالنُّطْقِ بِاللِّسانِ بِقَوْلِكَ: سُبْحانَ اللَّهِ. وقِيلَ: مَعْنى ”وسَبِّحْ“: وصَلِّ، ومِنهُ: كانَ يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحى أرْبَعًا، فَلَوْلا أنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ عَلى أحَدِ الوَجْهَيْنِ. والظّاهِرُ أنَّهُ أمَرَ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ في هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ: أوَّلَ الفَجْرِ، ووَقْتَ مَيْلِ الشَّمْسِ لِلْغُرُوبِ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وقالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ أرادَ بِالعَشِيِّ اللَّيْلَ، وبِالإبْكارِ النَّهارَ، فَعَبَّرَ بِجُزْءِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما عَنْ جُمْلَتِهِ، وهو مَجازٌ حَسَنٌ. ومَفْعُولُ: ”وسَبِّحْ“، مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، لِأنَّ قَبْلَهُ: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾ أيْ: وسَبِّحْ رَبَّكَ. والباءُ: في بِالعَشِيِّ، ظَرْفِيَّةٌ أيْ: في العَشِيِّ. وقُرِئَ شاذًّا؛ والأبْكارِ، بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وهو جَمْعُ بَكَرٍ بِفَتْحِ الباءِ والكافِ، تَقُولُ: أتَيْتُكَ بَكَرًا، وهو مِمّا يَلْتَزِمُ فِيهِ الظَّرْفِيَّةُ إذا كانَ مِن يَوْمٍ مُعَيَّنٍ ونَظِيرُهُ: سَحَرٌ وأسْحارٌ، وجَبَلٌ وأجْبالٌ. وهَذِهِ القِراءَةُ مُناسِبَةٌ لِلْعَشِيِّ عَلى قَوْلِ مَن جَعَلَهُ جَمْعَ عَشِيَّةً إذْ يَكُونُ فِيها تَقابُلٌ مِن حَيْثُ الجَمْعِيَّةُ، وكَذَلِكَ هي مُناسِبَةٌ إذا كانَ العَشِيُّ مُفْرَدًا، وكانَتِ الألِفُ واللّامُ فِيهِ لِلْعُمُومِ، كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ﴾ [العصر: ٢] وأهْلَكَ النّاسَ الدِّينارُ الصُّفْرُ. وأمّا عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ: والإبْكارِ، بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، فَهو مَصْدَرٌ، فَيَكُونُ قَدْ قابَلَ العَشِيَّ الَّذِي هو وقْتٌ، بِالمَصْدَرِ، فَيَحْتاجُ إلى حَذْفٍ أيْ: بِالعَشِيِّ، ووَقْتَ الإبْكارِ. والظّاهِرُ في: بِالعَشِيِّ، والإبْكارِ، أنَّ الألِفَ واللّامَ فِيهِما لِلْعُمُومِ، ولا يُرادُ بِهِ عَشِيُّ تِلْكَ الثَّلاثَةِ الأيّامِ، ولا وقْتَ الإبْكارِ فِيها. وقالَ الرّاغِبُ: لَمْ يَعْنِ التَّسْبِيحَ طَرَفَيِ النَّهارِ فَقَطْ، بَلْ إدامَةَ العِبادَةِ في هَذِهِ الأيّامِ. وقالَ غَيْرُهُ: يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلاةُ، ذِكْرُهُ: العَشِيُّ والإبْكارُ؛ فَكَأنَّهُ قالَ: اذْكُرْ رَبَّكَ في جَمِيعِ هَذِهِ الأيّامِ واللَّيالِي، وصَلِّ طَرَفَيِ النَّهارِ انْتَهى. ويَتَعَلَّقُ: بِالعَشِيِّ، بِقَوْلِهِ: ”وسَبِّحْ“، ويَكُونُ عَلى إعْمالِ الثّانِي وهو الأوْلى، إذْ لَوْ كانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: واذْكُرْ رَبَّكَ، لَأُضْمِرَ في الثّانِي، إذْ لا يَجُوزُ حَذْفُهُ إلّا في ضَرُورَةٍ. قِيلَ: أوْ في قَلِيلٍ مِنَ الكَلامِ، ويُحْتَمَلُ أنْ لا يَكُونَ مِن بابِ (p-٤٥٤)الإعْمالِ، فَيَكُونَ الأمْرُ بِالذِّكْرِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِهَذَيْنِ الزَّمانَيْنِ. قِيلَ: وتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِن فُنُونِ الفَصاحَةِ أنْواعًا: الزِّيادَةُ في البِناءِ في قَوْلِهِ: هُنالِكَ، وقَدْ ذَكَرْتُ فائِدَتَهُ. والتَّكْرارُ: في رَبِّهِ: قالَ رَبِّ، وفي: إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ، وبِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ. وفي آيَةٍ: قالَ آيَتُكَ، وفي: يَكُونُ لِي غُلامٌ، وكانَتْ، وتَأْنِيثُ المُذَكَّرِ حَمْلًا عَلى اللَّفْظِ. وُفي: ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، والإسْنادُ المَجازِيُّ في: وقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ، والسُّؤالُ والجَوابُ: قالَ رَبِّ أنّى ؟ قالَ كَذَلِكَ، قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً. قالَ آيَتُكَ. قالَ أرْبابُ الصِّناعَةِ: أُحْسَنُ هَذا النَّوْعِ ما كَثُرَتْ فِيهِ القَلْقَلَةُ، والحَذْفُ في مَواضِعَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب