الباحث القرآني
﴿بِيَدِكَ الخَيْرُ﴾ أيْ: بِقُدْرَتِكَ وتَصْدِيقِكَ وقَعَ الخَيْرُ، ويَسْتَحِيلُ وُجُودُ اليَدِ بِمَعْنى الجارِحَةِ لِلَّهِ تَعالى. قِيلَ: المَعْنى والشَّرُّ، نَحْوَ: تَقِيكُمُ الحُرَّ، أيْ والبَرْدَ. وحَذْفُ المَعْطُوفِ جائِزٌ لِفَهْمِ المَعْنى، إذْ أحَدُ الضِّدَّيْنِ يُفْهَمُ مِنهُ الآخَرُ، وهو تَعالى قَدْ ذَكَرَ إيتاءَ المُلْكِ ونَزْعَهُ، والإعْزازَ والإذْلالَ، وذَلِكَ خَيْرٌ لِناسٍ وشَرٌّ لِآخَرِينَ، فَلِذَلِكَ كانَ التَّقْدِيرُ: بِيَدِكَ الخَيْرُ والشَّرُّ، ثُمَّ خَتَمَها بِقَوْلِهِ ﴿إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فَجاءَ بِهَذا العامِ المُنْدَرِجِ تَحْتَهُ الأوْصافُ السّابِقَةُ، وجَمَعَ الخُيُورَ والشُّرُورَ، وفي الِاقْتِصارِ عَلى ذِكْرِ الخَيْرِ تَعْلِيمٌ لَنا كَيْفَ نَمْدَحُ ؟ بِأنْ نَذْكُرَ أفْضَلَ الخِصالِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ قالَ ﴿بِيَدِكَ الخَيْرُ﴾ فَذَكَرَ الخَيْرَ دُونَ الشَّرِّ ؟ قُلْتُ: لِأنَّ الكَلامَ إنَّما وقَعَ في الخَيْرِ الَّذِي يَسُوقُهُ إلى المُؤْمِنِينَ، وهو الَّذِي أنْكَرَتْهُ الكَفَرَةُ، فَقالَ: ﴿بِيَدِكَ الخَيْرُ﴾ تُؤْتِيهِ أوْلِياءَكَ عَلى رَغْمِ أعْدائِكَ؛ ولِأنَّ كُلَّ أفْعالِ اللَّهِ مِن نافِعٍ وضارٍّ صادِرٌ عَنِ الحِكْمَةِ والمَصْلَحَةِ فَهو خَيْرٌ كُلُّهُ انْتَهى كَلامُهُ، وهو يُدافِعُ آخِرُهُ أوَّلَهُ، لِأنَّهُ ذَكَرَ في السُّؤالِ؛ لِمَ اقْتَصَرَ عَلى ذِكْرِ الخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ ؟
وأجابَ بِالجَوابِ الأوَّلِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ بِيَدِهِ تَعالى الخَيْرَ والشَّرَّ، وإنَّما كانَ اقْتِصارُهُ عَلى الخَيْرِ؛ لِأنَّ الكَلامَ إنَّما وقَعَ فِيما يَسُوقُهُ تَعالى مِنَ الخَيْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَناسَبَ الِاقْتِصارَ عَلى ذِكْرِ الخَيْرِ فَقَطْ. وأجابَ بِالجَوابِ الثّانِي: وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى جَمِيعُ أفْعالِهِ خَيْرٌ لَيْسَ فِيها شَرٌّ، وهَذا الجَوابُ يُناقِضُ الأوَّلَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: خَصَّ الخَيْرَ بِالذِّكْرِ، وهو تَعالى بِيَدِهِ كُلُّ شَيْءٌ؛ إذِ الآيَةُ في مَعْنى دُعاءٍ ورَغْبَةٍ، فَكانَ المَعْنى: ﴿بِيَدِكَ الخَيْرُ﴾ فَأجْزِلْ حَظِي مِنهُ.
وقالَ الرّاغِبُ: لَمّا كانَتْ في الحَمْدِ والشُّكْرِ لا لِلْحُكْمِ، ذَكَرَ الخَيْرَ إذْ هو المَشْكُورُ عَلَيْهِ. وقالَ الرّازِيُّ: الخَيْرُ فِيهِ الألِفُ واللّامُ الدّالَّةُ عَلى العُمُومِ، وتَقْدِيمُ: بِيَدِكَ، يَدُلُّ عَلى الحَصْرِ، فَدَلَّ عَلى أنْ لا خَيْرَ إلّا بِيَدِهِ، وأفْضَلُ الخَيْراتِ الإيمانُ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ. ولِأنَّ فاعِلَ الأشْرَفِ أشْرَفُ، والإيمانُ أشْرَفُ.
﴿تُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ وتُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ﴾ قالَ ابْنُ (p-٤٢١)عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ، والسُّدِّيُّ، وابْنُ زَيْدٍ: المَعْنى ما يَنْتَقِصُ مِنَ النَّهارِ يَزِيدُ في اللَّيْلِ، وما يَنْتَقِصُ مِنَ اللَّيْلِ يَزِيدُ في النَّهارِ، دَأْبًا كُلُّ فَصْلٍ مِنَ السَّنَةِ، قِيلَ: حَتّى يَصِيرَ النّاقِصُ تِسْعَ ساعاتٍ، والزّائِدُ خَمْسَ عَشْرَةَ ساعَةً. وذَكَرَ بَعْضُ مُعاصِرِينا: أجْمَعَ أرْبابُ عِلْمِ الهَيْئَةِ، عَلى أنَّ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الزِّيادَةُ مِنَ اللَّيْلِ والنَّهارِ بِأخْذِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما مِن صاحِبِهِ ثَلاثِينَ دَرَجَةً، فَتَنْتَهِي زِيادَةُ اللَّيْلِ عَلى النَّهارِ إلى أرْبَعَ عَشْرَةَ ساعَةً، وكَذَلِكَ العَكْسُ. وذَكَرَ الماوَرْدِيُّ: أنَّ المَعْنى في الوُلُوجِ هُنا تَغْطِيَةُ اللَّيْلِ بِالنَّهارِ إذا أقْبَلَ، وتَغْطِيَةُ النَّهارِ بِاللَّيْلِ إذا أقْبَلَ، فَصَيْرُورَةُ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما في زَمانِ الآخَرِ كالوُلُوجِ فِيهِ، وأوْرَدَ هَذا القَوْلَ احْتِمالًا ابْنُ عَطِيَّةَ، فَقالَ: ويَحْتَمِلُ لَفْظُ الآيَةِ أنْ يَدْخُلَ فِيها تَعاقُبُ اللَّيْلِ والنَّهارِ، وكانَ زَوالُ أحَدِهِما وُلُوجَ الآخَرِ.
﴿وتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ﴾ مَعْنى الإخْراجِ: التَّكْوِينُ هُنا، والإخْراجُ حَقِيقَةً: هو إخْراجُ الشَّيْءِ مِنَ الظَّرْفِ. قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وإبْراهِيمُ، والسُّدِّيُّ، وإسْماعِيلُ بْنُ أبِي خالَةَ إبْراهِيمَ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ. تُخْرِجُ الحَيَوانَ مِنَ النُّطْفَةِ وهي مَيِّتَةٌ إذا انْفَصَلَتِ النُّطْفَةُ مِنَ الحَيَوانِ، وتُخْرِجُ النُّطْفَةَ وهي مَيِّتَةٌ مِنَ الرَّجُلِ وهو حَيٌّ، فَعَلى هَذا يَكُونُ المَوْتُ مَجازًا إذِ النُّطْفَةُ لَمْ يَسْبِقْ لَها حَياةٌ، ويَكُونُ المَعْنى: وتُخْرِجُ الحَيَّ مِن ما لا تَحِلُّهُ الحَياةُ، وتُخْرِجُ ما لا تَحِلُّهُ الحَياةُ مِنَ الحَيِّ، والإخْراجُ عِبارَةٌ عَنْ تَغَيُّرِ الحالِ.
وقالَ عِكْرِمَةُ، والكَلْبِيُّ؛ أيِ: الفَرْخَ مِنَ البَيْضَةِ، والبَيْضَةَ مِنَ الطَّيْرِ، والمَوْتُ أيْضًا هُنا مَجازٌ، والإخْراجُ حَقِيقَةٌ. وقالَ أبُو مالِكٍ: النَّخْلَةَ مِنَ النَّواةِ، والسُّنْبُلَةَ مِنَ الحَبَّةِ، والنَّواةَ مِنَ النَّخْلَةِ، والحَبَّةَ مِنَ السُّنْبُلَةِ، والمَوْتُ والحَياةُ في هَذا مَجازٌ. وقالَ الحَسَنُ: ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ سَلْمانَ الفارِسِيِّ: تُخْرِجُ المُؤْمِنَ مِنَ الكافِرِ، والكافِرَ مِنَ المُؤْمِنِ، وهُما أيْضًا مَجازٌ. وفي الحَدِيثِ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ”«سُبْحانَ اللَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ“ . وقَدْ رَأى امْرَأةً صالِحَةً ماتَ أبُوها كافِرًا»، وهي خالِدَةُ بِنْتُ الأسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ. وقالَ الزَّجّاجُ: يُخْرِجُ النَّباتَ الغَضَّ الطَّرِيَّ مِنَ الحَبِّ، ويُخْرِجُ الحَبَّ اليابِسَ مِنَ النَّباتِ الحَيِّ. وقِيلَ: الطَّيِّبَ مِنَ الخَبِيثِ، والخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. وقالَ الماوَرْدِيُّ: ويُحْتَمَلُ: يُخْرِجُ الجَلْدَ الفَطِنَ مِنَ البَلِيدِ العاجِزِ، والعَكْسُ؛ لِأنَّ الفِطْنَةَ حَياةُ الحِسِّ، والبَلادَةَ مَوْتُهُ. وقِيلَ: يُخْرِجُ الحِكْمَةَ مِن قَلْبِ الفاجِرِ؛ لِأنَّها لا تَسْتَقِرُّ فِيهِ، والسَّقْطَةُ مِن لِسانِ العارِفِ، وهَذِهِ كُلُّها مَجازاتٌ بَعِيدَةٌ. والأظْهَرُ في قَوْلِهِ ﴿الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ﴾ تَصَوُّرُ اثْنَيْنِ. وقِيلَ: عَنى بِذَلِكَ شَيْئًا واحِدًا يَتَغَيَّرُ بِهِ الحالُ، فَيَكُونُ مَيِّتًا ثُمَّ يَحْيا، وحَيًّا ثُمَّ يَمُوتُ. نَحْوَ قَوْلِكَ: جاءَ مِن فُلانٍ أسَدٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَهَبَ جُمْهُورٌ مِنَ العُلَماءِ إلى أنَّ الحَياةَ والمَوْتَ هُنا حَقِيقَتانِ لا اسْتِعارَةَ فِيهِما، ثُمَّ اخْتَلَفُوا في المَثَلِ الَّذِي فَسَّرُوا بِهِ، وذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ وقَوْلَ عِكْرِمَةَ المُتَقَدِّمَيْنِ، ولا يُمْكِنُ الحَمْلُ إذْ ذاكَ عَلى الحَقِيقَةِ أصْلًا، وكَذَلِكَ في المَوْتِ، وشَدَّدَ حَفْصٌ، ونافِعٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: المَيِّتُ، في هَذِهِ الآيَةِ. وفي الأنْعامِ، والأعْرافِ، ويُونُسَ، والرُّومِ، وفاطِرٍ، زادَ نافِعٌ تَشْدِيدَ الياءِ في: ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ﴾ [الأنعام: ١٢٢] في الأنْعامِ و﴿الأرْضُ المَيْتَةُ﴾ [يس: ٣٣] في يس ﴿لَحْمَ أخِيهِ مَيْتًا﴾ [الحجرات: ١٢] في الحُجُراتِ. وقَرَأ الباقُونَ بِتَخْفِيفَ ذَلِكَ، ولا فَرْقَ بَيْنَ التَّشْدِيدِ والتَّخْفِيفِ في الِاسْتِعْمالِ، كَما تَقُولُ: لَيِّنٌ ولَيْنٌ، وهَيِّنٌ وهَيْنٌ. ومَن زَعَمَ أنَّ المُخَفَّفَ لِما قَدْ ماتَ، والمُشَدَّدَ لِما قَدْ ماتَ ولِما لَمْ يَمُتْ فَيَحْتاجُ إلى دَلِيلٍ.
﴿وتَرْزُقُ مَن تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ في قَوْلِهِ ﴿واللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ [آل عمران: ٣٧] ﴿كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً﴾ [البقرة: ٢١٣] فَأغْنى ذَلِكَ عَنْ إعادَتِهِ هُنا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ قُدْرَتَهُ الباهِرَةَ، فَذَكَرَ حالَ اللَّيْلِ والنَّهارِ في المُعاقَبَةِ بَيْنَهُما، وحالَ الحَيِّ والمَيِّتِ في إخْراجِ أحَدِهِما مِنَ الآخَرِ، وعَطَفَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ بِغَيْرِ حِسابٍ؛ دَلالَةً عَلى أنَّ مَن قَدَرَ عَلى تِلْكَ الأفْعالِ العَظِيمَةِ المُحَيِّرَةِ لِلْأفْهامِ، ثُمَّ قَدَرَ أنْ يَرْزُقَ بِغَيْرِ حِسابٍ (p-٤٢٢)مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ، فَهو قادِرٌ عَلى أنْ يَنْزِعَ المُلْكَ مِنَ العَجَمِ ويُذِلَّهم، ويُؤْتِيَهُ العَرَبُ ويُعِزَّهُمُ انْتَهى. وهو حَسَنٌ. قِيلَ: وتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ أنْواعًا مِنَ الفَصاحَةِ، والبَلاغَةِ، والبَدِيعِ. الِاسْتِفْهامُ الَّذِي مَعْناهُ التَّعَجُّبُ في ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ﴾ [آل عمران: ٢٣] . والإشارَةُ في ﴿نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ﴾ [آل عمران: ٢٣] فَإدْخالُ: مِن، يَدُلُّ عَلى أنَّهم لَمْ يُحِيطُوا بِالتَّوْراةِ عِلْمًا، ولا حِفْظًا، وذَلِكَ إشارَةٌ إلى الإزْراءِ بِهِمْ، وتَنْقِيصِ قَدْرِهِمْ وذَمِّهِمْ؛ إذْ يَزْعُمُونَ أنَّهم أخْيارٌ وهم بِخِلافِ ذَلِكَ، وفي قَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ بِأنَّهُمْ﴾ [آل عمران: ٢٤] إشارَةٌ إلى تَوَلِّيهِمْ وإعْراضِهِمُ اللَّذَيْنِ سَبَبُهُما افْتِراؤُهم، وفي ﴿ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ﴾ [آل عمران: ٢٥] إشارَةٌ إلى أنَّ جَزاءَ أعْمالِهِمْ لا يَنْقُصُ مِنهُ شَيْءٌ.
والتَّكْرارُ في ﴿نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ﴾ [آل عمران: ٢٣] ﴿يُدْعَوْنَ إلى كِتابِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٢٣] إمّا في اللَّفْظِ والمَعْنى إنْ كانَ المَدْلُولُ واحِدًا، وإمّا في اللَّفْظِ إنْ كانَ مُخْتَلِفًا. وفي التَّوَلِّي والإعْراضِ إنْ كانا بِمَعْنًى واحِدٍ. وفي: ﴿مالِكَ المُلْكِ﴾ ﴿تُؤْتِي المُلْكَ﴾ ﴿وتَنْزِعُ المُلْكَ﴾ وتَكْرارُهُ في جُمَلٍ لِلتَّفْخِيمِ والتَّعْظِيمِ، إنْ كانَ المُرادُ واحِدًا، وإنِ اخْتَلَفَ كانَ مِن تَكْرارِ اللَّفْظِ فَقَطْ، وتَكْرارُ ﴿مَن تَشاءُ﴾ وفي (تُولِجُ) وفي (تُخْرِجُ) وفي مُتَعَلِّقَيْهِما. والِاتِّساعُ في جَعْلِ في بِمَعْنى عَلى، عَلى قَوْلِ مَن زَعَمَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ﴾ أيْ: عَلى النَّهارِ، ﴿وتُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ﴾ أيْ: عَلى اللَّيْلِ.
وعَبَّرَ بِالإيلاجِ عَنِ العُلُوِّ والتَّغْشِيَةِ. والنَّفْيُ المُتَضَمِّنُ الأمْرَ في ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [آل عمران: ٢٥] عَلى قَوْلِ الزَّجّاجِ، أيْ: لا تَرْتابُوا فِيهِ، والتَّجْنِيسُ المُماثِلُ في ﴿مالِكَ المُلْكِ﴾ والطِّباقُ: في: تُؤْتِي وتَنْزِعُ، وتُعِزُّ وتُذِلُّ، وفي اللَّيْلِ والنَّهارِ، وفي الحَيِّ والمَيِّتِ. ورَدُّ العَجْزِ عَلى الصَّدْرِ في: تُولِجُ، وما بَعْدَهُ، والحَذْفُ وهو في مَواضِعَ مِمّا يَتَوَقَّفُ فَهْمُ الكَلامِ عَلى تَقْدِيرِها. كَقَوْلِهِ ﴿تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشاءُ﴾ أيْ: مَن تَشاءُ أنْ تُؤْتِيَهُ. والإسْنادُ المَجازِيُّ في ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران: ٢٣] أسْنَدَ الحُكْمَ إلى الكِتابِ؛ لِأنَّهُ يُبَيِّنُ الأحْكامَ فَهو سَبَبُ الحُكْمِ. ورُوِيَ في الحَدِيثِ: «إنَّ مَن أرادَ قَضاءَ دَيْنِهِ قَرَأ كُلَّ يَوْمٍ: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ المُلْكِ﴾ إلى ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ . وبُقُولِ: رَحْمَنَ الدُّنْيا والآخِرَةِ ورَحِيمَهُما، تُعْطِي مِنهُما مَن تَشاءُ اقْضِ عَنِّي دَيْنِي. فَلَوْ كانَ مِلْءَ الأرْضِ ذَهَبًا لَأدّاهُ اللَّهُ» .
﴿لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ٢٨] قِيلَ: نَزَلَتْ في عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ؛ كانَ لَهُ حُلَفاءُ مِنَ اليَهُودِ فَأرادَ أنْ يَسْتَظْهِرَ بِهِمْ عَلى العَدُوِّ. وقِيلَ: في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وأصْحابِهِ كانُوا يَتَوالَوْنَ اليَهُودَ. وقِيلَ: في قَوْمٍ مِنَ اليَهُودِ، وهُمُ: الحَجّاجُ بْنُ عُمَرَ، وكَهْمَسُ بْنُ أبِي الحُقَيْقِ، وقَيْسُ بْنُ يَزِيدَ، كانُوا يُباطِنُونَ نَفَرًا مِنَ الأنْصارِ يَفْتِنُونَهم عَنْ دِينِهِمْ فَنَهاهم قَوْمٌ مِنَ المُسْلِمِينَ وقالُوا: اجْتَنِبُوا هَؤُلاءِ اليَهُودَ، فَأبَوْا، فَنَزَلَتْ، هَذِهِ الأقْوالُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقِيلَ: في حاطِبِ بْنِ بَلْتَعَةَ وغَيْرِهِ كانُوا يُظْهِرُونَ المَوَدَّةَ لِكُفّارِ قُرَيْشٍ، فَنَزَلَتْ.
ومَعْنى اتِّخاذِهِمْ أوْلِياءَ اللُّطْفُ بِهِمْ في المُعاشَرَةِ؛ وذَلِكَ لِقَرابَةٍ أوْ صَداقَةٍ، قَبْلَ الإسْلامِ، أوْ يَدٍ سابِقَةٍ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وهَذا فِيما يَظْهَرُ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وأمّا أنْ يَتَّخِذَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ ونِيَّتِهِ فَلا يَفْعَلُ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ، والمَنهِيُّونَ هُنا قَدْ قَرَّرَ لَهُمُ الإيمانَ، فالنَّهْيُ هُنا إنَّما مَعْناهُ النَّهْيُ عَنِ اللُّطْفِ بِهِمْ والمَيْلِ إلَيْهِمْ، واللُّطْفُ عامٌّ في جَمِيعِ الأعْصارِ، وقَدْ تَكَرَّرَ هَذا في القُرْآنِ.
ويَكْفِيكَ مِن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ [المجادلة: ٢٢] الآيَةَ، والمَحَبَّةُ في اللَّهِ والبُغْضُ في اللَّهِ أصْلٌ عَظِيمٌ مِن أُصُولِ الدِّينِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿لا يَتَّخِذِ﴾ [آل عمران: ٢٨]، عَلى النَّهْيِ، وقَرَأ الضَّبِّيُّ بِرَفْعِ الذّالِ عَلى النَّفْيِ، والمُرادُ بِهِ النَّهْيُ، وقَدْ أجازَ الكِسائِيُّ فِيهِ الرَّفْعَ كَقِراءَةِ الضَّبِّيِّ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى - لَمّا ذَكَرَ ما يَجِبُ أنْ يَكُونَ المُؤَمِنُ عَلَيْهِ مِن تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعالى والثَّناءِ عَلَيْهِ بِالأفْعالِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِها، ذَكَرَ ما يَجِبُ عَلى المُؤْمِنِ مِن مُعامَلَةِ الخَلْقِ، وكانَتِ الآياتُ السّابِقَةُ في الكُفّارِ فَنُهُوا عَنْ مُوالاتِهِمْ، وأُمِرُوا بِالرَّغْبَةِ فِيما عِنْدَهُ وعِنْدَ أوْلِيائِهِ دُونَ أعْدائِهِ؛ إذْ هو تَعالى مالِكُ المُلْكِ.
وظاهِرُ الآيَةِ تَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ مُوالاتِهِمْ إلّا ما فَسَحَ لَنا فِيهِ مِنَ اتِّخاذِهِمْ عَبِيدًا، والِاسْتِعانَةِ بِهِمُ اسْتِعانَةَ العَزِيزِ بِالذَّلِيلِ، والأرْفَعِ بِالأوْضَعِ، والنِّكاحِ فِيهِمْ. فَهَذا كُلُّهُ ضَرْبٌ (p-٤٢٣)مِنَ المُوالاةِ أُذِنَ لَنا فِيهِ، ولَسْنا مَمْنُوعِينَ مِنهُ، فالنَّهْيُ لَيْسَ عَلى عُمُومِهِ.
﴿مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ٢٨] تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: مِن دُونِ، في قَوْلِهِ ﴿وادْعُوا شُهَداءَكم مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٣] فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ.
و”يَتَّخِذِ“، هُنا مُتَعَدِّيَةٌ إلى اثْنَيْنِ، ومِن دُونِ: مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: ”لا يَتَّخِذِ“؛ ومِن: لِابْتِداءِ الغايَةِ. قالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسى: أيْ لا تَجْعَلُوا ابْتِداءَ الوِلايَةِ مِن مَكانٍ دُونَ مَكانِ المُؤْمِنِينَ.
{"ayahs_start":26,"ayahs":["قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِی ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَاۤءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَاۤءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاۤءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاۤءُۖ بِیَدِكَ ٱلۡخَیۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ","تُولِجُ ٱلَّیۡلَ فِی ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِی ٱلَّیۡلِۖ وَتُخۡرِجُ ٱلۡحَیَّ مِنَ ٱلۡمَیِّتِ وَتُخۡرِجُ ٱلۡمَیِّتَ مِنَ ٱلۡحَیِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَاۤءُ بِغَیۡرِ حِسَابࣲ"],"ayah":"قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِی ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَاۤءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَاۤءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاۤءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاۤءُۖ بِیَدِكَ ٱلۡخَیۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق