الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ﴾ الآيَةَ: هي في اليَهُودِ والنَّصارى، قالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وغَيْرُهُ، وصَفَ مَن تَوَلّى عَنِ الإسْلامِ، وكَفَرَ بِثَلاثِ صِفاتٍ: إحْداها: كُفْرُهُ بِآياتِ اللَّهِ وهم مُقِرُّونَ بِالصّانِعِ، جَعَلَ كُفْرَهم بِبَعْضٍ مِثْلَ كُفْرِهِمْ بِالجَمِيعِ، أوْ يَجْعَلُ بِآياتِ اللَّهِ مَخْصُوصًا بِما يَسْبِقُ إلَيْهِ الفَهْمُ مِنَ القُرْآنِ والرَّسُولِ ﷺ . الثّانِيَةُ: قَتْلُهُمُ الأنْبِياءَ، وقَدْ تَقَدَّمَتْ كَيْفِيَّةُ قَتْلِهِمْ في البَقَرَةِ في قَوْلِهِ ﴿ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ [البقرة: ٦١] والألِفُ واللّامُ في: النَّبِيِّينَ، لِلْعَهْدِ. والثّالِثَةُ: قَتْلُ مَن أمَرَ بِالعَدْلِ. فَهَذِهِ ثَلاثَةُ أوْصافٍ؛ بُدِئَ فِيها بِالأعْظَمِ فالأعْظَمِ، وبِما هو سَبَبٌ لِلْآخَرِ فَأوَّلُها: الكُفْرُ بِآياتِ اللَّهِ، وهو أقْوى الأسْبابِ في عَدَمِ المُبالاةِ بِما يَقَعُ مِنَ الأفْعالِ القَبِيحَةِ. وثانِيها: قَتْلُ مَن أظْهَرَ آياتِ اللَّهِ واسْتَدَلَّ بِها. والثّالِثُ: قَتْلُ أتْباعِهِمْ مِمَّنْ يَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهى عَنِ المُنْكَرِ. وهَذِهِ الآيَةُ جاءَتْ وعِيدًا لِمَن كانَ في زَمانِهِ ﷺ ولِذَلِكَ جاءَتِ الصِّلَةُ بِالمُسْتَقْبَلِ، ودَخَلَتِ الفاءُ في خَبَرِ ”إنَّ“ لِأنَّ المَوْصُولَ ضُمِّنَ مَعْنى اسْمِ الشَّرْطِ، ولَمّا كانُوا عَلى طَرِيقَةِ أسْلافِهِمْ في ذَلِكَ، نُسِبَ إلَيْهِمْ ذَلِكَ؛ ولِأنَّهم أرادُوا قَتْلَهُ ﷺ فَقَتْلَ أتْباعِهِ، فَأطْلَقَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مَجازًا أيْ: مِن شَأْنِهِمْ وإرادَتِهِمْ ذَلِكَ. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الفاءُ زائِدَةً عَلى مَذْهَبِ مَن يَرى ذَلِكَ، وتَكُونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ حِكايَةً عَنْ حالِ آبائِهِمْ وما فَعَلُوهُ في غابِرِ الدَّهْرِ مِن هَذِهِ الأوْصافِ القَبِيحَةِ، ويَكُونَ في ذَلِكَ إرْذالٌ لِمَنِ انْتَصَبَ لِعَداوَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذْ هم سالِكُونَ في ذَلِكَ طَرِيقَةَ آبائِهِمْ. والمَعْنى: إنَّ آباءَكُمُ الَّذِينَ أنْتُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِدِينِهِمْ كانُوا عَلى الحالَةِ الَّتِي أنْتُمْ عالِمُونَ بِها مِنَ الِاتِّصافِ بِهَذِهِ الأوْصافِ، فَيَنْبَغِي لَكم أنْ تَسْلُكُوا غَيْرَ طَرِيقِهِمْ، فَإنَّهم لَمْ يَكُونُوا عَلى حَقٍّ. فَذَكَرَ تَقْبِيحَ الأوْصافِ، والتَّوَعُّدَ عَلَيْها بِالعِقابِ، مِمّا يُنَفِّرُ عَنْها، ويَحْمِلُ عَلى التَّحَلِّي بِنَقائِضِها مِنَ الإيمانِ بِآياتِ اللَّهِ، وإجْلالِ رُسُلِهِ وأتْباعِهِمْ. وقَرَأ الحَسَنُ: ويُقَتِّلُونَ النَّبِيِّينَ، بِالتَّشْدِيدِ، والتَّشْدِيدُ هُنا لِلتَّكْثِيرِ بِحَسْبِ المَحَلِّ. وقَرَأ حَمْزَةُ، وجَماعَةٌ (p-٤١٤)مِن غَيْرِ السَّبْعَةِ: ويُقاتِلُونَ الثّانِيَ. وقَرَأها الأعْمَشُ: وقاتَلُوا الَّذِينَ، وكَذا هي في مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ، وقَرَأ أُبَيٌّ: يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ والَّذِينَ يَأْمُرُونَ، ومَن غايَرَ بَيْنَ الفِعْلَيْنِ فَمَعْناهُ واضِحٌ إذا لَمْ يَذْكُرْ أحَدَهُما عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، ومَن حَذَفَ اكْتَفى بِذِكْرِ فِعْلٍ واحِدٍ لِاشْتِراكِهِمْ في القَتْلِ، ومَن كَرَّرَ الفِعْلَ فَذَلِكَ عَلى سَبِيلِ عَطْفِ الجُمَلِ وإبْرازِ كُلِّ جُمْلَةٍ في صُورَةِ التَّشْنِيعِ والتَّفْظِيعِ؛ لِأنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِها، أوْ لِاخْتِلافِ تَرَتُّبِ العَذابِ بِالنِّسْبَةِ عَلى مَن وقَعَ بِهِ الفِعْلُ، فَقَتْلُ الأنْبِياءِ أعْظَمُ مِن قَتْلِ مَن يَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ مِن غَيْرِ الأنْبِياءِ؛ فَجُعِلَ القَتْلُ بِسَبَبِ اخْتِلافِ مَرْتَبَتِهِ كَأنَّهُما فِعْلانِ مُخْتَلِفانِ. وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِأحَدِ القَتْلَيْنِ تَفْوِيتُ الرُّوحِ، وبِالآخَرِ الإهانَةُ وإماتَةُ الذِّكْرِ، فَيَكُونانِ إذْ ذاكَ مُخْتَلِفَيْنِ. وجاءَ في هَذِهِ السُّورَةِ ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ بِصِيغَةِ التَّنْكِيرِ، وفي البَقَرَةِ ﴿بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ [البقرة: ٦١] بِصِيغَةِ التَّعْرِيفِ؛ لِأنَّ الجُمْلَةَ هُنا أُخْرِجَتْ مَخْرَجَ الشَّرْطِ، وهو عامٌّ لا يَتَخَصَّصُ، فَناسَبَ أنْ يَكُونَ المَنفِيُّ بِصِيغَةِ التَّنْكِيرِ حَتّى يَكُونَ عامًّا، وفي البَقَرَةِ جاءَ ذَلِكَ في صُورَةِ الخَبَرِ عَنْ ناسٍ مَعْهُودِينَ، وذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ [البقرة: ٦١] فَناسَبَ أنْ يَأْتِيَ بِصِيغَةِ التَّعْرِيفِ، لِأنَّ الحَقَّ الَّذِي كانَ يُسْتَباحُ بِهِ قَتْلُ الأنْفُسِ عِنْدَهم كانَ مَعْرُوفًا، كَقَوْلِهِ ﴿وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥] فالحَقُّ هُنا الَّذِي تُقْتَلُ بِهِ الأنْفُسُ مَعْهُودٌ مَعْرُوفٌ، بِخِلافِ ما في هَذِهِ السُّورَةِ. وقَدْ تَقَدَّمَ في البَقَرَةِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ [البقرة: ٦١] هي حالٌ مُؤَكِّدَةٌ، إذْ لا يَقَعُ قَتْلُ نَبِيٍّ إلّا بِغَيْرِ الحَقِّ، وأوْضَحْنا لَكَ ذَلِكَ. فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ وإيضاحِهِ هُنا. ومَعْنى: مِنَ النّاسِ، أيْ: غَيْرِ الأنْبِياءِ، إذْ لَوْ قالَ: ويَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ، لَكانَ مُنْدَرِجًا في ذَلِكَ الأنْبِياءُ لِصِدْقِ اللَّفْظِ عَلَيْهِمْ، فَجاءَ مِنَ النّاسِ بِمَعْنى: مِن غَيْرِ الأنْبِياءِ. قالَ الحَسَنُ: تَدُلُّ الآيَةُ عَلى أنَّ القائِمَ بِالأمْرِ بِالمَعْرُوفِ تَلِي مَنزِلَتُهُ في العِظَمِ مَنزِلَةَ الأنْبِياءِ. وعَنْ أبِيهِ عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرّاحِ، «قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ: أيُّ النّاسِ أشَدُّ عَذابًا يَوْمَ القِيامَةِ ؟ قالَ: ”رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أوْ رَجُلًا أمْرٌ بِمَعْرُوفٍ ونَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ“» . ثُمَّ قَرَأها. ثُمَّ قالَ: «يا عُبَيْدَةُ قَتَلَتْ بَنُو إسْرائِيلَ ثَلاثَةً وأرْبَعِينَ نَبِيًّا مِن أوَّلِ النَّهارِ في ساعَةٍ واحِدَةٍ، فَقامَ مِائَةٌ واثْنا عَشَرَ رَجُلًا مِن عُبّادِ بَنِي إسْرائِيلَ، فَأمَرُوا قَتَلَتَهم بِالمَعْرُوفِ ونَهَوْهم عَنِ المُنْكَرِ، فَقُتِلُوا جَمِيعًا مِن آخِرِ النَّهارِ» . ﴿فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ الخِطابُ لِلنَّبِيِّ ﷺ وهو يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مُعاصِرُوهُ لا آباؤُهم، فَيَكُونُ إطْلاقُ قَتْلِ الأنْبِياءِ مَجازًا؛ لِأنَّهم لَمْ يَقْتُلُوا أنْبِياءَ لَكِنَّهم رَضُوا ذَلِكَ ورامُوهُ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ هي خَبَرُ إنَّ، ودَخَلَتِ الفاءُ لِما يَتَضَمَّنُ المَوْصُولُ مِن مَعْنى اسْمِ الشَّرْطِ كَما قَدَّمْناهُ، ولَمْ يُعَبْ بِهَذا النّاسِخِ لِأنَّهُ لَمْ يُغَيِّرْ مَعْنى الِابْتِداءِ، أعْنِي إنَّ. ومَعَ ذَلِكَ في المَسْألَةِ خِلافٌ: الصَّحِيحُ جَوازُ دُخُولِ الفاءِ في خَبَرِ إنَّ، إذا كانَ اسْمُها مُضَمَّنًا مَعْنى الشَّرْطِ، وقَدْ تَقَدَّمَتْ شُرُوطُ جَوازِ دُخُولِ الفاءِ في خَبَرِ المُبْتَدَأِ، وتِلْكَ الشُّرُوطُ مُعْتَبَرَةٌ هُنا، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ في دُخُولِ الفاءِ ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وهم كُفّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [محمد: ٣٤] ﴿إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ [الأحقاف: ١٣] ﴿إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهم عَذابُ جَهَنَّمَ﴾ [البروج: ١٠] . ومَن مَنَعَ ذَلِكَ جَعَلَ الفاءَ زائِدَةً، ولَمْ يَقِسْ زِيادَتَها. وتَقَدَّمَ أنَّ البِشارَةَ هي أوَّلُ خَبَرٍ سارٍّ، فَإذا اسْتُعْمِلَتْ مَعَ ما لَيْسَ بِسارٍّ، فَقِيلَ: ذَلِكَ هو عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ والِاسْتِهْزاءِ كَقَوْلِهِ: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وجِيعٌ أيِ: القائِمُ لَهم مَقامَ الخَبَرِ السّارِّ هو العَذابُ الألِيمُ، وقِيلَ: هو عَلى مَعْنى تَأثُّرِ البُشْرَةِ مِن ذَلِكَ، فَلَمْ يُؤْخَذْ فِيهِ قَيْدُ السُّرُورِ، بَلْ لُوحِظَ مَعْنى الِاشْتِقاقِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب