الباحث القرآني
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
كَمُرْضِعَةٍ أوْلادَ أُخْرى وضَيَّعَتْ بَنِي بَطْنِها هَذا الضَّلالُ عَنِ القَصْدِ
ومَعْنى ذَلِكَ: لا أتْرُكُ جَزاءَ عامِلٍ مِنكم. و(مِنكم) في مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أيْ: كائِنٍ مِنكم. وقَوْلُهُ: ﴿مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى﴾، قِيلَ: (مِن) تَبْيِينٌ لِجِنْسِ العامِلِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ الَّذِي هو ذَكَرٌ أوْ أُنْثى. و(مِن) قِيلَ: زائِدَةٌ؛ لِتَقَدُّمِ النَّفْيِ في الكَلامِ. وقِيلَ: (مِن) في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي في العامِلِ في (مِنكم) أيْ: عامِلٍ كائِنٍ مِنكم كائِنًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى. وقالَ أبُو البَقاءِ: ﴿مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى﴾ بَدَلٌ مِن (مِنكم) بَدَلَ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وهُما لِعَيْنٍ واحِدَةٍ. انْتَهى. فَيَكُونُ قَدْ أعادَ العامِلَ وهو حَرْفُ الجَرِّ، ويَكُونُ بَدَلًا تَفْصِيلِيًّا مِن مُخاطَبٍ. ويُعَكِّرُ عَلى أنْ يَكُونَ بَدَلًا تَفْصِيلِيًّا عَطْفُهُ بِـ (أوْ)، والبَدَلُ التَّفْصِيلِيُّ لا يَكُونُ إلّا بِالواوِ، كَقَوْلِهِ:وكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ ∗∗∗ ورِجْلٍ رَمى فِيها الزَّمانُ فَشُلَّتِ
ويُعَكِّرُ عَلى كَوْنِهِ مِن مُخاطَبٍ أنَّ مَذْهَبَ الجُمْهُورِ: أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُبْدَلَ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ وضَمِيرِ المُخاطَبِ بَدَلَ شَيْءٍ مِن شَيْءٍ وهُما لِعَيْنٍ واحِدَةٍ، وأجازَ ذَلِكَ الأخْفَشُ. هَكَذا أطْلَقَ بَعْضُ أصْحابِنا الخِلافَ، وقَيَّدَهُ بَعْضُهم بِما كانَ البَدَلُ فِيهِ لِإحاطَةٍ، فَإنَّهُ يَجُوزُ إذْ ذاكَ. وهَذا التَّقْيِيدُ صَحِيحٌ، ومِنهُ ﴿تَكُونُ لَنا عِيدًا لِأوَّلِنا وآخِرِنا﴾ [المائدة: ١١٤] فَقَوْلُهُ ﴿لِأوَّلِنا وآخِرِنا﴾ [المائدة: ١١٤] بَدَلٌ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ في قَوْلِهِ: (لَنا)، وقَوْلُ الشّاعِرِ:فَما بَرِحَتْ أقْدامُنا في مَقامِنا ∗∗∗ ثَلاثَتِنا حَتّى أُرِينا المَنائِيا
فَـ(ثَلاثَتِنا) بَدَلٌ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ. وأجازَ ذَلِكَ لِأنَّهُ بَدَلٌ في مَعْنى التَّوْكِيدِ، ويَشْهَدُ لِمَذْهَبِ الأخْفَشِ قَوْلُ الشّاعِرِ:بِكم قُرَيْشٍ كُفِينا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ∗∗∗ وأمَّ نَهْجَ الهُدى مَن كانَ ضِلِّيلا
وقَوْلُ الآخَرِ:وشَوْهاءُ تَغْدُو بِي إلى صارِخِ الوَغى ∗∗∗ بِمُسْتَلْئِمٍ مِثْلِ الفَنِيقِ المُرَجَّلِ
فَـ(قُرَيْشٍ) بَدَلٌ مِن ضَمِيرِ المُخاطَبِ. و(بِمُسْتَلْئِمٍ) بَدَلٌ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ. وقَدْ تَجِيءُ (أوْ) في مَعْنى الواوِ إذا عَطَفَتْ ما لا بُدَّ مِنهُ كَقَوْلِهِ:قَوْمٌ إذا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأيْتَهم ∗∗∗ مِن بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أوْ سافِعِ
يُرِيدُ: وسافِعِ. فَكَذَلِكَ يَجُوزُ ذَلِكَ هُنا في (أوْ) أنْ تَكُونَ بِمَعْنى الواوِ؛ لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ ﴿عَمَلَ عامِلٍ﴾ دَلَّ عَلى العُمُومِ، ثُمَّ أبْدَلَ مِنهُ عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وعَطَفَ عَلى حَدِّ الجُزْءَيْنِ ما لا بُدَّ مِنهُ؛ لِأنَّهُ لا يُؤَكَّدُ العُمُومُ إلّا بِعُمُومٍ مِثْلِهِ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ العَطْفِ حَتّى يُفِيدَ المَجْمُوعُ مِنَ المُتَعاطِفَيْنِ تَأْكِيدَ العُمُومِ، فَصارَ نَظِيرَ:مِن بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أوْ سافِعِ
؛ لِأنَّ (بَيْنَ) لا تَدْخُلُ عَلى شَيْءٍ واحِدٍ، فَلا بُدَّ مِن عَطْفِ مُصاحِبِ مَجْرُورِها.وحَبَّبَ أوْطانَ الرِّجالِ إلَيْهِمُ ∗∗∗ مَآرِبُ قَضّاها الشَّبابُ هُنالِكا
إذا ذَكَرُوا أوْطانَهم ذَكَّرَتْهُمُ ∗∗∗ عُهُودَ الصِّبا فِيها فَحَنُّوا لِذَلِكا
وقالَ ابْنُ الصَّفِيِّ رَفاعَةُ بْنُ عاصِمٍ الفَقْعَسِيُّ:أحَبُّ بِلادِ اللَّهِ ما بَيْنَ مَنعِجٍ ∗∗∗ إلَيَّ وسَلْمى أنْ يَصُوبَ سَحابُها
بِلادٌ بِها نِيطَتْ عَلَيَّ تَمائِمِي ∗∗∗ وأوَّلُ أرْضٍ مَسَّ جِلْدِي تُرابُها
بِها طالَ تَجْرارِي رِدائِيَ حِقْبَةً ∗∗∗ وزَيْنَبُ رَيّا الحَجْلِ دَرْمٌ كِعابُها
واسْمُ الهِجْرَةِ وفَضْلُها الخاصُّ قَدِ انْقَطَعَ بَعْدَ الفَتْحِ، ولَكِنَّ المَعْنى باقٍ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنى المُفاعَلَةِ في هاجَرَ، ثُمَّ ذَكَرَ الإخْراجَ مِنَ الدِّيارِ وهو: أنَّهم أُلْجِئُوا واضْطُرُّوا إلى ذَلِكَ، وفِيهِ إلْزامُ الذَّنْبِ لِلْكُفّارِ. والمَعْنى: أنَّ المُهاجِرِينَ إنَّما أخْرَجَهم سُوءُ عِشْرَةِ الكُفّارِ وقَبِيحُ أفْعالِهِمْ مَعَهم، كَما قالَ تَعالى: ﴿وإخْراجُ أهْلِهِ مِنهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] وإذا كانَ الخُرُوجُ بِرَأْيِ الإنْسانِ وقُوَّةٍ مِنهُ عَلى الأعْداءِ جاءَ الكَلامُ بِنِسْبَةِ الخُرُوجِ إلَيْهِ، فَقِيلَ: خَرَجَ فُلانٌ، قالَ مَعْناهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قالَ: فَمِن ذَلِكَ إنْكارُ النَّبِيِّ ﷺ عَلى أبِي سُفْيانَ بْنِ الحارِثِ حِينَ أنْشَدَهُ:ورَدَّنِي إلى اللَّهِ مَن طَرَدْتُهُ كُلَّ مَطْرَدِ
فَقالَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ: (أنْتَ طَرَّدْتَنِي كُلَّ مَطْرَدٍ) إنْكارًا عَلَيْهِ. ومِن ذَلِكَ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:فِي عُصْبَةٍ مِن قُرَيْشٍ قالَ قائِلُهُمْ
بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمّا أسْلَمُوا زُولُوا ∗∗∗ زالُوا فَما زالَ أنْكاسٌ ولا كُشُفٌ عِنْدَ اللِّقاءِ ولا مِيلٌ مَعازِيلُ
انْتَهى. ثُمَّ ذَكَرَ الإذايَةَ في سَبِيلِ اللَّهِ، والمَعْنى: في دِينِ اللَّهِ. وبَدَأ أوَّلًا بِالخاصِّ وهي الهِجْرَةُ وكانَتْ تُطْلَقُ عَلى الهِجْرَةِ إلى المَدِينَةِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وثَنّى بِما يَنْشَأُ عَنْهُ ما هو أعَمُّ مِنَ الهِجْرَةِ وهو الإخْراجُ مِنَ الدِّيارِ. فَقَدْ يَخْرُجُ إلى الهِجْرَةِ إلى المَدِينَةِ أوْ إلى غَيْرِها كَخُرُوجِ مَن خَرَجَ إلى الحَبَشَةِ، وكَخُرُوجِ أبِي جَنْدَلٍ إذْ لَمْ يُتْرَكْ يُقِيمُ بِالمَدِينَةِ. وأتى ثالِثًا بِذِكْرِ الإذايَةِ وهي أعَمُّ مِن أنْ تَكُونَ بِإخْراجٍ مِنَ الدِّيارِ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِن أنْواعِ الأذى، وارْتَقى بَعْدَ هَذِهِ الأوْصافِ السَّنِيَّةِ إلى رُتْبَةِ جِهادِ مَن أخْرَجَهُ ومُقاوَمَتِهِ واسْتِشْهادِهِ في دِينِ اللَّهِ، فَجَمَعَ بَيْنَ رُتَبِ هَذِهِ الأعْمالِ مِن تَنْقِيصِ أحْوالِهِ في الحَياةِ لِأجْلِ دِينِ اللَّهِ بِالمُهاجَرَةِ، وإخْراجِهِ مِن دارِهِ وإذايَتِهِ في اللَّهِ، ومَآلِهِ أخِيرًا إلى إفْنائِهِ بِالقَتْلِ في سَبِيلِ اللَّهِ. والظّاهِرُ: الإخْبارُ عَنْ مَن جَمَعَ هَذِهِ الأوْصافَ كُلَّها بِالخَبَرِ الَّذِي بَعْدُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن عَطْفِ الصِّلاتِ. والمَعْنى: اخْتِلافُ المَوْصُولِ لا اتِّحادُهُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: فالَّذِينَ هاجَرُوا، والَّذِينَ أُخْرِجُوا والَّذِينَ أُوذُوا، والَّذِينَ قاتَلُوا، والَّذِينَ قُتِلُوا، ويَكُونُ الخَبَرُ عَنْ كُلٍّ مِن هَؤُلاءِ. وقَرَأ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ: ﴿وقاتَلُوا وقُتِلُوا﴾، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: (وقُتِلُوا وقاتَلُوا)، يَبْدَآنِ بِالمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، ثُمَّ بِالمَبْنِيِّ لِلْفاعِلِ، فَتَتَخَرَّجُ هَذِهِ القِراءَةُ عَلى أنَّ الواوَ لا تَدُلُّ عَلى التَّرْتِيبِ، فَيَكُونُ الثّانِي وقَعَ أوَّلًا ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلى التَّوْزِيعِ، فالمَعْنى: قُتِلَ بَعْضُهم وقاتَلَ باقِيهِمْ. وقَرَأ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: (وقَتَلُوا وقُتِلُوا) بِغَيْرِ ألِفٍ، وبَدَأ بِبِناءِ الأوَّلِ لِلْفاعِلِ، وبِناءِ الثّانِي لِلْمَفْعُولِ، وهي قِراءَةٌ حَسَنَةٌ في المَعْنى، مُسْتَوْفِيَةٌ لِلْحالَيْنِ عَلى التَّرْتِيبِ المُتَعارَفِ. وقَرَأ مُحارِبُ بْنُ دِثارٍ: (وقَتَلُوا) بِفَتْحِ القافِ (وقاتَلُوا) . وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: (وقُتِلُوا وقاتَلُوا) بِضَمِّ قافِ الأُولى، وتَشْدِيدِ التّاءِ، وهي في التَّخْرِيجِ كالقِراءَةِ الأُولى. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ والحَسَنُ: (وقاتَلُوا وقُتِّلُوا) بِتَشْدِيدِ التّاءِ والبِناءِ لِلْمَفْعُولِ، أيْ قُطِّعُوا في المَعْرَكَةِ.جَشَأتْ فَقُلْتُ اللَّذْ خَشِيتِ لِيَأْتِيَنْ ∗∗∗ وإذا أتاكِ فَلاتَ حِينَ مَناصِ
رَدٌّ عَلى أحْمَدَ بْنِ يَحْيى ثَعْلَبٍ إذْ زَعَمَ أنَّ الجُمْلَةَ الواقِعَةَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ لا تَكُونُ قَسَمِيَّةً.