الباحث القرآني
﴿فاسْتَجابَ لَهم رَبُّهم أنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنكم مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى بَعْضُكم مِن بَعْضٍ﴾ رُوِيَ أنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الرِّجالَ في الهِجْرَةِ ولَمْ يَذْكُرِ النِّساءَ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ، ونَزَلَ آياتٌ في مَعْناها فِيها ذِكْرُ النِّساءِ. ومَعْنى اسْتَجابَ: أجابَ، ويُعَدّى بِنَفْسِهِ وبِاللّامِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ [البقرة: ١٨٦] ونَقَلَ تاجُ القُرّاءِ أنَّ (أجابَ) عامٌّ، و(اسْتَجابَ) خاصٌّ في حُصُولِ المَطْلُوبِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (أنِّي) عَلى إسْقاطِ الباءِ، أيْ: بِأنِّي. وقَرَأ أُبَيٌّ (بِأنِّي) بِالباءِ. وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ: (إنِّي) بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، فَيَكُونُ عَلى إضْمارِ القَوْلِ عَلى قَوْلِ البَصْرِيِّينَ، أوْ عَلى الحِكايَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿فاسْتَجابَ﴾؛ لِأنَّ فِيهِ مَعْنى القَوْلِ عَلى طَرِيقَةِ الكُوفِيِّينَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿أُضِيعُ﴾ مِن أضاعَ. وقَرَأ بَعْضُهم: (أُضَيِّعُ) بِالتَّشْدِيدِ مِن ضَيَّعَ، والهَمْزَةُ والتَّشْدِيدُ فِيهِ لِلنَّقْلِ كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎كَمُرْضِعَةٍ أوْلادَ أُخْرى وضَيَّعَتْ بَنِي بَطْنِها هَذا الضَّلالُ عَنِ القَصْدِ
ومَعْنى ذَلِكَ: لا أتْرُكُ جَزاءَ عامِلٍ مِنكم. و(مِنكم) في مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أيْ: كائِنٍ مِنكم. وقَوْلُهُ: ﴿مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى﴾، قِيلَ: (مِن) تَبْيِينٌ لِجِنْسِ العامِلِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ الَّذِي هو ذَكَرٌ أوْ أُنْثى. و(مِن) قِيلَ: زائِدَةٌ؛ لِتَقَدُّمِ النَّفْيِ في الكَلامِ. وقِيلَ: (مِن) في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي في العامِلِ في (مِنكم) أيْ: عامِلٍ كائِنٍ مِنكم (p-١٤٤)كائِنًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى. وقالَ أبُو البَقاءِ: ﴿مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى﴾ بَدَلٌ مِن (مِنكم) بَدَلَ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وهُما لِعَيْنٍ واحِدَةٍ. انْتَهى. فَيَكُونُ قَدْ أعادَ العامِلَ وهو حَرْفُ الجَرِّ، ويَكُونُ بَدَلًا تَفْصِيلِيًّا مِن مُخاطَبٍ. ويُعَكِّرُ عَلى أنْ يَكُونَ بَدَلًا تَفْصِيلِيًّا عَطْفُهُ بِـ (أوْ)، والبَدَلُ التَّفْصِيلِيُّ لا يَكُونُ إلّا بِالواوِ، كَقَوْلِهِ:
؎وكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ ∗∗∗ ورِجْلٍ رَمى فِيها الزَّمانُ فَشُلَّتِ
ويُعَكِّرُ عَلى كَوْنِهِ مِن مُخاطَبٍ أنَّ مَذْهَبَ الجُمْهُورِ: أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُبْدَلَ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ وضَمِيرِ المُخاطَبِ بَدَلَ شَيْءٍ مِن شَيْءٍ وهُما لِعَيْنٍ واحِدَةٍ، وأجازَ ذَلِكَ الأخْفَشُ. هَكَذا أطْلَقَ بَعْضُ أصْحابِنا الخِلافَ، وقَيَّدَهُ بَعْضُهم بِما كانَ البَدَلُ فِيهِ لِإحاطَةٍ، فَإنَّهُ يَجُوزُ إذْ ذاكَ. وهَذا التَّقْيِيدُ صَحِيحٌ، ومِنهُ ﴿تَكُونُ لَنا عِيدًا لِأوَّلِنا وآخِرِنا﴾ [المائدة: ١١٤] فَقَوْلُهُ ﴿لِأوَّلِنا وآخِرِنا﴾ [المائدة: ١١٤] بَدَلٌ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ في قَوْلِهِ: (لَنا)، وقَوْلُ الشّاعِرِ:
؎فَما بَرِحَتْ أقْدامُنا في مَقامِنا ∗∗∗ ثَلاثَتِنا حَتّى أُرِينا المَنائِيا
فَـ(ثَلاثَتِنا) بَدَلٌ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ. وأجازَ ذَلِكَ لِأنَّهُ بَدَلٌ في مَعْنى التَّوْكِيدِ، ويَشْهَدُ لِمَذْهَبِ الأخْفَشِ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎بِكم قُرَيْشٍ كُفِينا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ∗∗∗ وأمَّ نَهْجَ الهُدى مَن كانَ ضِلِّيلا
وقَوْلُ الآخَرِ:
؎وشَوْهاءُ تَغْدُو بِي إلى صارِخِ الوَغى ∗∗∗ بِمُسْتَلْئِمٍ مِثْلِ الفَنِيقِ المُرَجَّلِ
فَـ(قُرَيْشٍ) بَدَلٌ مِن ضَمِيرِ المُخاطَبِ. و(بِمُسْتَلْئِمٍ) بَدَلٌ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ. وقَدْ تَجِيءُ (أوْ) في مَعْنى الواوِ إذا عَطَفَتْ ما لا بُدَّ مِنهُ كَقَوْلِهِ:
؎قَوْمٌ إذا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأيْتَهم ∗∗∗ مِن بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أوْ سافِعِ
يُرِيدُ: وسافِعِ. فَكَذَلِكَ يَجُوزُ ذَلِكَ هُنا في (أوْ) أنْ تَكُونَ بِمَعْنى الواوِ؛ لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ ﴿عَمَلَ عامِلٍ﴾ دَلَّ عَلى العُمُومِ، ثُمَّ أبْدَلَ مِنهُ عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وعَطَفَ عَلى حَدِّ الجُزْءَيْنِ ما لا بُدَّ مِنهُ؛ لِأنَّهُ لا يُؤَكَّدُ العُمُومُ إلّا بِعُمُومٍ مِثْلِهِ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ العَطْفِ حَتّى يُفِيدَ المَجْمُوعُ مِنَ المُتَعاطِفَيْنِ تَأْكِيدَ العُمُومِ، فَصارَ نَظِيرَ:
؎مِن بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أوْ سافِعِ
؛ لِأنَّ (بَيْنَ) لا تَدْخُلُ عَلى شَيْءٍ واحِدٍ، فَلا بُدَّ مِن عَطْفِ مُصاحِبِ مَجْرُورِها.
ومَعْنى ﴿بَعْضُكم مِن بَعْضٍ﴾: أيْ مَجْمَعُ ذُكُورِكم وإناثِكم أصْلٌ واحِدٌ، فَكُلُّ واحِدٍ مِنكم مِنَ الآخَرِ أيْ مِن أصْلِهِ. فَإذا كُنْتُمْ مُشْتَرِكِينَ في الأصْلِ، فَكَذَلِكَ أنْتُمْ مُشْتَرِكُونَ في الأجْرِ وتَقَبُّلِ العَمَلِ. فَيَكُونُ (مِن) هُنا تُفِيدُ التَّبْعِيضَ الحَقِيقِيَّ، ويُشِيرُ بِذَلِكَ الِاشْتِراكِ الأصْلِيِّ إلى الِاشْتِراكِ في الأجْرِ عَلى حَدٍّ واحِدٍ. وقِيلَ: مَعْناهُ بَعْضُكم مِن بَعْضٍ في الدِّينِ والنُّصْرَةِ، والمَعْنى: أنَّ وصْفَ الإيمانِ يَجْمَعُهم، كَما جاءَ (المُسْلِمُونَ تَتَكافَأُ دِماؤُهم)، وقِيلَ: مَعْناهُ الذُّكُورُ مِنَ الإناثِ، والإناثُ مِنَ الذُّكُورِ، فَكَذَلِكَ الثَّوابُ. فَكَما اشْتَرَكُوا في هَذِهِ البَعْضِيَّةِ كَذَلِكَ اشْتَرَكُوا في الأجْرِ والثَّوابِ. ومَحْصُولُ مَعْنى هَذِهِ الجُمْلَةِ: أنَّهُ جِيءَ بِها لِتَبْيِينِ شَرِكَةِ النِّساءِ مَعَ الرِّجالِ فِيما وعَدَ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ العامِلِينَ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِها، وهو سُؤالُ أُمِّ سَلَمَةَ، وخَرَّجَهُ الحاكِمُ في صَحِيحِهِ.
﴿فالَّذِينَ هاجَرُوا وأُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وأُوذُوا في سَبِيلِي﴾ لَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ لا يُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ، ذَكَرَ مَن عَمِلَ الأعْمالَ السَّنِيَّةَ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِها أنْ لا يَضِيعَ عَمَلُهُ، وأنْ لا يُتْرَكَ جَزاؤُهُ. فَذَكَرَ أوَّلًا الهِجْرَةَ، وهي الخُرُوجُ مِنَ الوَطَنِ الَّذِي لا يُمْكِنُ إقامَةُ دِينِهِ فِيهِ إلى المَكانِ الَّذِي يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ، وهَذا مِن أصْعَبِ شَيْءٍ عَلى الإنْسانِ، إذْ هو مُفارَقَةُ المَكانِ الَّذِي رَبا فِيهِ ونَشَأ مَعَ أهْلِهِ وعَلى طَرِيقَتِهِمْ، ولَوْلا نَوازِعُ الغَوى المُرَبّى عَلى وازِعِ النَّشْأةِ ما أمْكَنَهُ ذَلِكَ، ألا تَرى لِقَوْلِ الشّاعِرِ هُما لِابْنِ الرُّومِيِّ:(p-١٤٥)
؎وحَبَّبَ أوْطانَ الرِّجالِ إلَيْهِمُ ∗∗∗ مَآرِبُ قَضّاها الشَّبابُ هُنالِكا
؎إذا ذَكَرُوا أوْطانَهم ذَكَّرَتْهُمُ ∗∗∗ عُهُودَ الصِّبا فِيها فَحَنُّوا لِذَلِكا
وقالَ ابْنُ الصَّفِيِّ رَفاعَةُ بْنُ عاصِمٍ الفَقْعَسِيُّ:
؎أحَبُّ بِلادِ اللَّهِ ما بَيْنَ مَنعِجٍ ∗∗∗ إلَيَّ وسَلْمى أنْ يَصُوبَ سَحابُها
؎بِلادٌ بِها نِيطَتْ عَلَيَّ تَمائِمِي ∗∗∗ وأوَّلُ أرْضٍ مَسَّ جِلْدِي تُرابُها
؎بِها طالَ تَجْرارِي رِدائِيَ حِقْبَةً ∗∗∗ وزَيْنَبُ رَيّا الحَجْلِ دَرْمٌ كِعابُها
واسْمُ الهِجْرَةِ وفَضْلُها الخاصُّ قَدِ انْقَطَعَ بَعْدَ الفَتْحِ، ولَكِنَّ المَعْنى باقٍ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنى المُفاعَلَةِ في هاجَرَ، ثُمَّ ذَكَرَ الإخْراجَ مِنَ الدِّيارِ وهو: أنَّهم أُلْجِئُوا واضْطُرُّوا إلى ذَلِكَ، وفِيهِ إلْزامُ الذَّنْبِ لِلْكُفّارِ. والمَعْنى: أنَّ المُهاجِرِينَ إنَّما أخْرَجَهم سُوءُ عِشْرَةِ الكُفّارِ وقَبِيحُ أفْعالِهِمْ مَعَهم، كَما قالَ تَعالى: ﴿وإخْراجُ أهْلِهِ مِنهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٧] وإذا كانَ الخُرُوجُ بِرَأْيِ الإنْسانِ وقُوَّةٍ مِنهُ عَلى الأعْداءِ جاءَ الكَلامُ بِنِسْبَةِ الخُرُوجِ إلَيْهِ، فَقِيلَ: خَرَجَ فُلانٌ، قالَ مَعْناهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قالَ: فَمِن ذَلِكَ إنْكارُ النَّبِيِّ ﷺ عَلى أبِي سُفْيانَ بْنِ الحارِثِ حِينَ أنْشَدَهُ:
؎ورَدَّنِي إلى اللَّهِ مَن طَرَدْتُهُ كُلَّ مَطْرَدِ
فَقالَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ: (أنْتَ طَرَّدْتَنِي كُلَّ مَطْرَدٍ) إنْكارًا عَلَيْهِ. ومِن ذَلِكَ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
؎فِي عُصْبَةٍ مِن قُرَيْشٍ قالَ قائِلُهُمْ
؎بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمّا أسْلَمُوا زُولُوا ∗∗∗ زالُوا فَما زالَ أنْكاسٌ ولا كُشُفٌ عِنْدَ اللِّقاءِ ولا مِيلٌ مَعازِيلُ
انْتَهى. ثُمَّ ذَكَرَ الإذايَةَ في سَبِيلِ اللَّهِ، والمَعْنى: في دِينِ اللَّهِ. وبَدَأ أوَّلًا بِالخاصِّ وهي الهِجْرَةُ وكانَتْ تُطْلَقُ عَلى الهِجْرَةِ إلى المَدِينَةِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وثَنّى بِما يَنْشَأُ عَنْهُ ما هو أعَمُّ مِنَ الهِجْرَةِ وهو الإخْراجُ مِنَ الدِّيارِ. فَقَدْ يَخْرُجُ إلى الهِجْرَةِ إلى المَدِينَةِ أوْ إلى غَيْرِها كَخُرُوجِ مَن خَرَجَ إلى الحَبَشَةِ، وكَخُرُوجِ أبِي جَنْدَلٍ إذْ لَمْ يُتْرَكْ يُقِيمُ بِالمَدِينَةِ. وأتى ثالِثًا بِذِكْرِ الإذايَةِ وهي أعَمُّ مِن أنْ تَكُونَ بِإخْراجٍ مِنَ الدِّيارِ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِن أنْواعِ الأذى، وارْتَقى بَعْدَ هَذِهِ الأوْصافِ السَّنِيَّةِ إلى رُتْبَةِ جِهادِ مَن أخْرَجَهُ ومُقاوَمَتِهِ واسْتِشْهادِهِ في دِينِ اللَّهِ، فَجَمَعَ بَيْنَ رُتَبِ هَذِهِ الأعْمالِ مِن تَنْقِيصِ أحْوالِهِ في الحَياةِ لِأجْلِ دِينِ اللَّهِ بِالمُهاجَرَةِ، وإخْراجِهِ مِن دارِهِ وإذايَتِهِ في اللَّهِ، ومَآلِهِ أخِيرًا إلى إفْنائِهِ بِالقَتْلِ في سَبِيلِ اللَّهِ. والظّاهِرُ: الإخْبارُ عَنْ مَن جَمَعَ هَذِهِ الأوْصافَ كُلَّها بِالخَبَرِ الَّذِي بَعْدُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن عَطْفِ الصِّلاتِ. والمَعْنى: اخْتِلافُ المَوْصُولِ لا اتِّحادُهُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: فالَّذِينَ هاجَرُوا، والَّذِينَ أُخْرِجُوا والَّذِينَ أُوذُوا، والَّذِينَ قاتَلُوا، والَّذِينَ قُتِلُوا، ويَكُونُ الخَبَرُ عَنْ كُلٍّ مِن هَؤُلاءِ. وقَرَأ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ: ﴿وقاتَلُوا وقُتِلُوا﴾، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: (وقُتِلُوا وقاتَلُوا)، يَبْدَآنِ بِالمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، ثُمَّ بِالمَبْنِيِّ لِلْفاعِلِ، فَتَتَخَرَّجُ هَذِهِ القِراءَةُ عَلى أنَّ الواوَ لا تَدُلُّ عَلى التَّرْتِيبِ، فَيَكُونُ الثّانِي وقَعَ أوَّلًا ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلى التَّوْزِيعِ، فالمَعْنى: قُتِلَ بَعْضُهم وقاتَلَ باقِيهِمْ. وقَرَأ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: (وقَتَلُوا وقُتِلُوا) بِغَيْرِ ألِفٍ، وبَدَأ بِبِناءِ الأوَّلِ لِلْفاعِلِ، وبِناءِ الثّانِي لِلْمَفْعُولِ، وهي قِراءَةٌ حَسَنَةٌ في المَعْنى، مُسْتَوْفِيَةٌ لِلْحالَيْنِ عَلى التَّرْتِيبِ المُتَعارَفِ. وقَرَأ مُحارِبُ بْنُ دِثارٍ: (وقَتَلُوا) بِفَتْحِ القافِ (وقاتَلُوا) . وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: (وقُتِلُوا وقاتَلُوا) بِضَمِّ قافِ الأُولى، وتَشْدِيدِ التّاءِ، وهي في التَّخْرِيجِ كالقِراءَةِ الأُولى. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ والحَسَنُ: (وقاتَلُوا وقُتِّلُوا) بِتَشْدِيدِ التّاءِ والبِناءِ لِلْمَفْعُولِ، أيْ قُطِّعُوا في المَعْرَكَةِ.
﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهم سَيِّئاتِهِمْ ولَأُدْخِلَنَّهم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ لَأُكَفِّرَنَّ: جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، والقَسَمُ وما تَلَقّى بِهِ خَبَرٌ (p-١٤٦)عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فالَّذِينَ هاجَرُوا﴾ وفي هَذِهِ الآيَةِ ونَظِيرِها مِن قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ هاجَرُوا في اللَّهِ مِن بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾ [النحل: ٤١] ﴿والَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهم سُبُلَنا﴾ [العنكبوت: ٦٩] وقَوْلِ الشّاعِرِ:
؎جَشَأتْ فَقُلْتُ اللَّذْ خَشِيتِ لِيَأْتِيَنْ ∗∗∗ وإذا أتاكِ فَلاتَ حِينَ مَناصِ
رَدٌّ عَلى أحْمَدَ بْنِ يَحْيى ثَعْلَبٍ إذْ زَعَمَ أنَّ الجُمْلَةَ الواقِعَةَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ لا تَكُونُ قَسَمِيَّةً.
﴿ثَوابًا مِن عِنْدِ اللَّهِ واللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ﴾ انْتَصَبَ ثَوابًا عَلى المَصْدَرِ المُؤَكَّدِ، وإنْ كانَ الثَّوابُ هو المُثابُ بِهِ، كَما كانَ العَطاءُ هو المُعْطى. واسْتُعْمِلَ في بَعْضِ المَواضِعِ بِمَعْنى المَصْدَرِ الَّذِي هو الإعْطاءُ، فَوَضَعَ ثَوابًا مَوْضِعَ إثابَةً، أوْ مَوْضِعَ تَثْوِيبًا؛ لِأنَّ ما قَبْلَهُ في مَعْنى لَأُثِيبَنَّهم. ونَظِيرُهُ: صُنْعَ اللَّهِ ووَعْدَ اللَّهِ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ حالًا مِن جَنّاتٍ، أيْ: مُثابًا بِها، أوْ مِن ضَمِيرِ المَفْعُولِ في: ﴿ولَأُدْخِلَنَّهُمْ﴾ أيْ مُثابِينَ. وأنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن جَنّاتٍ عَلى تَضْمِينِ ﴿ولَأُدْخِلَنَّهُمْ﴾ مَعْنى: ولَأُعْطِيَنَّهم. وأنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ المَعْنى، أيْ: يُعْطِيهِمْ ثَوابًا. وقِيلَ: انْتَصَبَ عَلى التَّمْيِيزِ. وقالَ الكِسائِيُّ: هو مَنصُوبٌ عَلى القَطْعِ، ولا يَتَوَجَّهُ لِي مَعْنى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ هُنا.
ومَعْنى: مِن عِنْدِ اللَّهِ، أيْ مِن جِهَةِ فَضْلِ اللَّهِ، وهو مُخْتَصٌّ بِهِ، لا يُثِيبُهُ غَيْرُهُ، ولا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. كَما تَقُولُ عِنْدِي ما تُرِيدُ، تُرِيدُ اخْتِصاصَكَ بِهِ وتَمَلُّكَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِكَ. وأعْرَبُوا ﴿عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ﴾ مُبْتَدَأً، وخَبَرًا في مَوْضِعِ خَبَرِ المُبْتَدَأِ الأوَّلِ. والأحْسَنُ أنْ يَرْتَفِعَ (حُسْنُ) عَلى الفاعِلِيَّةِ، إذْ قَدِ اعْتَمَدَ الظَّرْفُ بِوُقُوعِهِ خَبَرًا، فالتَّقْدِيرُ: واللَّهُ مُسْتَقِرٌّ، أوِ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهَذا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ كَيْفَ يُدْعى ؟ وكَيْفَ يُبْتَهَلُ إلَيْهِ ويُتَضَرَّعُ ؟ وتَكْرِيرُ (رَبَّنا) مِن بابِ الِابْتِهالِ، وإعْلامٌ بِما يُوجِبُ حُسْنَ الإجابَةِ وحُسْنَ الإثابَةِ مِنِ احْتِمالِ المَشاقِّ في دِينِ اللَّهِ والصَّبْرِ عَلى صُعُوبَةِ تَكالِيفِهِ، وقَطْعٍ لِأطْماعِ الكُسالى المُتَمَنِّينَ عَلَيْهِ، وتَسْجِيلٍ عَلى مَن لا يَرى الثَّوابَ مَوْصُولًا إلَيْهِ بِالعَمَلِ بِالجَهْلِ والغَباوَةِ. انْتَهى. وآخِرُ كَلامِهِ إشارَةٌ إلى مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ وطَعْنٍ عَلى أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ.
{"ayah":"فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّی لَاۤ أُضِیعُ عَمَلَ عَـٰمِلࣲ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضࣲۖ فَٱلَّذِینَ هَاجَرُوا۟ وَأُخۡرِجُوا۟ مِن دِیَـٰرِهِمۡ وَأُوذُوا۟ فِی سَبِیلِی وَقَـٰتَلُوا۟ وَقُتِلُوا۟ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَیِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ ثَوَابࣰا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











