الباحث القرآني

﴿رَبَّنا إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ﴾ هَذِهِ اسْتِجارَةٌ واسْتِعاذَةٌ. أيْ: فَلا تَفْعَلْ بِنا ذَلِكَ، ولا تَجْعَلْنا مِمَّنْ يَعْمَلُ بِعَمَلِها. ومَعْنى أخْزَيْتَهُ: فَضَحْتَهُ. مِن خَزِيَ الرَّجُلُ يَخْزى خِزْيًا: إذا افْتَضَحَ، وخِزايَةً: إذا اسْتَحْيا، الفِعْلُ واحِدٌ واخْتَلَفَ في المَصْدَرِ، فَمِنَ الِافْتِضاحِ خِزْيٌ، ومِنَ الِاسْتِحْياءِ خَزايَةٌ. ومِن ذَلِكَ ﴿ولا تُخْزُونِ في ضَيْفِي﴾ [هود: ٧٨] أيْ: لا تَفْضَحُونِ. وقِيلَ: المَعْنى أهَنْتَهُ. وقالَ المُفَضَّلُ: أهْلَكْتَهُ. ويُقالُ: خَزَيْتُهُ وأخْزَيْتُهُ ثُلاثِيًّا ورُباعِيًّا، والرُّباعِيُّ أكْثَرُ وأفْصَحُ. وقالَ الزَّجّاجُ: المَخْزِيُّ في اللُّغَةِ هو المُذَلُّ المَحْقُورُ بِأمْرٍ قَدْ لَزِمَهُ، يُقالُ: أخْزَيْتُهُ ألْزَمْتُهُ حُجَّةً أذْلَلْتُهُ مَعَها. وقالَ أنَسٌ وسَعِيدٌ، والسُّدِّيُّ، ومُقاتِلٌ، وابْنُ جُرَيْجٍ، وغَيْرُهم: هي إشارَةٌ إلى مَن يَخْلُدُ في النّارِ، أمّا مَن يَخْرُجُ مِنها بِالشَّفاعَةِ والإيمانِ فَلَيْسَ بِمَخْزِيٍّ. وقالَ جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وغَيْرُهُ: كُلُّ مَن دَخَلَ النّارَ فَهو مَخْزِيٌّ وإنْ خَرَجَ مِنها، وإنَّ في دُونِ ذَلِكَ لَخِزْيًا، واخْتارَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وأبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ. ﴿وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ هو مِن قَوْلِ الدّاعِينَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الظّالِمُونَ هُنا هُمُ الكافِرُونَ، وهو قَوْلُ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ. وقَدْ صَرَّحَ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿والكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ [البقرة: ٢٥٤] وقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] ويُناسِبُ هَذا التَّفْسِيرَ أنْ يَكُونَ ما قَبْلَهُ فِيمَن يَخْلُدُ في النّارِ؛ لِأنَّ نَفْيَ النّاصِرِ إمّا بِمَنعٍ أوْ شَفاعَةِ مُخْتَصٌّ بِالكُفّارِ، وأمّا المُؤْمِنُ فاللَّهُ ناصِرُهُ والرَّسُولُ ﷺ شافِعُهُ، وبَعْضُ المُؤْمِنِينَ يَشْفَعُ لِبَعْضٍ كَما ورَدَ في الحَدِيثِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿وما لِلظّالِمِينَ﴾ اللّامُ إشارَةٌ إلى مَن يَدْخُلُ النّارَ، وإعْلامٌ بِأنَّ مَن يَدْخُلُ النّارَ، فَلا ناصِرَ لَهُ بِشَفاعَةٍ ولا غَيْرِها. انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ أنَّ مَن يَدْخُلُ النّارَ لا يَخْرُجُ مِنها أبَدًا، سَواءٌ كانَ (p-١٤١)كافِرًا أمْ فاسِقًا، و(مَن) مَفْعُولَةٌ لِفِعْلِ الشَّرْطِ. وحَكى بَعْضُ المُعْرِبِينَ ما نَصُّهُ: وأجازَ قَوْمٌ أنْ يَكُونَ (مَن) مَنصُوبًا بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ جَوابُ الشَّرْطِ وهو: ﴿فَقَدْ أخْزَيْتَهُ﴾ . وأجازَ آخَرُونَ أنْ يَكُونَ (مَن) مُبْتَدَأً، والشَّرْطُ وجَوابُهُ الخَبَرَ. انْتَهى. أمّا القَوْلُ الأوَّلُ فَصادِرٌ عَنْ جاهِلٍ بِعِلْمِ النَّحْوِ، وأمّا الثّانِي فَإعْرابُ (مَن) مُبْتَدَأً في غايَةِ الضَّعْفِ. وأمّا إدْخالُهُ جَوابَ الشَّرْطِ في الخَبَرِ مَعَ فِعْلِ الشَّرْطِ فَجَهالَةٌ. ومَن أعْظَمُ وِزْرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ في كِتابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. ﴿رَبَّنا إنَّنا سَمِعْنا مُنادِيًا يُنادِي لِلْإيمانِ أنْ آمِنُوا بِرَبِّكم فَآمَنّا﴾ (سَمِعَ) إنْ دَخَلَ عَلى مَسْمُوعٍ تَعَدّى لِواحِدٍ، نَحْوُ: سَمِعْتُ كَلامَ زِيدٍ، كَغَيْرِهِ مِن أفْعالِ الحَواسِّ. وإنْ دَخَلَ عَلى ذاتٍ وجاءَ بَعْدَهُ فِعْلٌ أوِ اسْمٌ في مَعْناهُ، نَحْوُ: سَمِعْتُ زَيْدًا يَتَكَلَّمُ، وسَمِعْتُ زَيْدًا يَقُولُ كَذا، فَفي هَذِهِ المَسْألَةِ خِلافٌ. مِنهم مَن ذَهَبَ إلى أنَّ ذَلِكَ الفِعْلَ أوِ الِاسْمَ إنْ كانَ قَبْلَهُ نَكِرَةٌ كانَ صِفَةً لَها، أوْ مَعْرِفَةٌ كانَ حالًا مِنها. ومِنهم مَن ذَهَبَ إلى أنَّ ذَلِكَ الفِعْلَ أوِ الِاسْمَ هو في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي لِسَمِعَ، وجَعَلَ (سَمِعَ) مِمّا يُعَدّى إلى واحِدٍ إنْ دَخَلَ عَلى مَسْمُوعٍ، وإلى اثْنَيْنِ إنْ دَخَلَ عَلى ذاتٍ، وهَذا مَذْهَبُ أبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ. والصَّحِيحُ القَوْلُ الأوَّلُ، وهَذا مُقَرَّرٌ في عِلْمِ النَّحْوِ. فَعَلى هَذا يَكُونُ (يُنادِي) في مَوْضِعِ الصِّفَةِ؛ لِأنَّ قَبْلَهُ نَكِرَةً، وعَلى مَذْهَبِ أبِي عَلِيٍّ يَكُونُ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي. وذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إلى القَوْلِ الأوَّلِ قالَ: تَقُولُ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ كَذا، وسَمِعْتُ زَيْدًا يَتَكَلَّمُ؛ لِتُوقِعَ الفِعْلَ عَلى الرَّجُلِ، وتَحْذِفَ المَسْمُوعَ لِأنَّكَ وصَفْتَهُ بِما يَسْمَعُ، أوْ جَعَلْتَهُ حالًا عَنْهُ، فَأغْناكَ عَنْ ذِكْرِهِ. ولَوْلا الوَصْفُ أوِ الحالُ لَمْ يَكُنْ مِنهُ بُدٌّ. وأنْ يُقالَ: سَمِعْتُ كَلامَ فُلانٍ، أوْ قَوْلَهُ. انْتَهى كَلامُهُ. وقَوْلُهُ: ولَوْلا الوَصْفُ أوِ الحالُ إلى آخِرِهِ - لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لا يَكُونُ وصْفٌ ولا حالٌ، ويَدْخُلُ (سَمِعَ) عَلى ذاتٍ، لا عَلى مَسْمُوعٍ. وذَلِكَ إذا كانَ في الكَلامِ ما يُشْعِرُ بِالمَسْمُوعِ وإنْ لَمْ يَكُنْ وصْفًا ولا حالًا، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكم إذْ تَدْعُونَ﴾ [الشعراء: ٧٢] أغْنى ذِكْرُ ظَرْفِ الدُّعاءِ عَنْ ذِكْرِ المَسْمُوعِ. والمُنادى هُنا هو الرَّسُولُ ﷺ . قالَ تَعالى: ﴿وداعِيًا إلى اللَّهِ بِإذْنِهِ﴾ [الأحزاب: ٤٦] ﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ﴾ [النحل: ١٢٥] قالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وابْنُ زَيْدٍ وغَيْرُهُما - أوِ القُرْآنُ، قالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ، قالَ: لِأنَّ كُلَّ المُؤْمِنِينَ لَمْ يَلْقَوُا الرَّسُولَ، فَعَلى الأوَّلِ يَكُونُ وصْفُهُ بِالنِّداءِ حَقِيقَةً، وعَلى الثّانِي مَجازًا، وجُمِعَ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿مُنادِيًا يُنادِي﴾؛ لِأنَّهُ ذَكَرَ الأوَّلَ مُطْلَقًا وقَيَّدَ الثّانِيَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ المُنادِي؛ لِأنَّهُ لا مُنادِيَ أعْظَمُ مِن مُنادٍ يُنادِي لِلْإيمانِ. وذَلِكَ أنَّ المُنادِيَ إذا أُطْلِقَ ذَهَبَ الوَهْمُ إلى مُنادٍ لِلْحَرْبِ، أوْ لِإطْفاءِ الثّائِرَةِ، أوْ لِإغاثَةِ المَكْرُوبِ، أوْ لِكِفايَةِ بَعْضِ النَّوازِلِ، أوْ لِبَعْضِ المَنافِعِ. فَإذا قُلْتَ: ﴿يُنادِي لِلْإيمانِ﴾ فَقَدْ رَفَعْتَ مِن شَأْنِ المُنادِي وفَخَّمْتَهُ. واللّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ (يُنادِي)، ويُعَدّى نادى، ودَعا، ونَدَبَ بِاللّامِ وبِإلى، كَما يُعَدّى بِهِما هَدى لِوُقُوعِ مَعْنى الِاخْتِصاصِ، وانْتِهاءِ الغايَةِ جَمِيعًا. ولِهَذا قالَ بَعْضُهم: إنَّ اللّامَ بِمَعْنى إلى. لَمّا كانَ يُنادِي في مَعْنى يَدْعُو؛ حَسُنَ وُصُولُها بِاللّامِ بِمَعْنى (إلى) . وقِيلَ: اللّامُ لامُ العِلَّةِ، أيْ لِأجْلِ الإيمانِ. وقِيلَ: اللّامُ بِمَعْنى الباءِ، أيْ بِالإيمانِ. والسَّماعُ مَحْمُولٌ عَلى حَقِيقَتِهِ، أيْ سَمِعْنا صَوْتَ مُنادٍ. قِيلَ: ومَن جَعَلَ المُنادِيَ هو القُرْآنَ، فالسَّماعُ عِنْدَهُ مَجازٌ عَنِ القَبُولِ، و(أنْ) مُفَسِّرَةٌ، التَّقْدِيرُ: أنْ آمِنُوا. وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً وُصِلَتْ بِفِعْلِ الأمْرِ، أيْ: بِأنْ آمِنُوا. فَعَلى الأوَّلِ لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ، وعَلى الثّانِي لَها مَوْضِعٌ وهو الجَرُّ، أوِ النَّصْبُ عَلى الخِلافِ. وعَطْفُ (فَآمَنّا) بِالفاءِ مُؤْذِنٌ بِتَعْجِيلِ القَبُولِ، وتَسْبِيبِ الإيمانِ عَنِ السَّماعِ مِن غَيْرِ تَراخٍ، والمَعْنى: فَآمَنّا بِكَ أوْ بِرَبِّنا. ﴿رَبَّنا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وكَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا﴾ (p-١٤٢)قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الذُّنُوبُ هي الكَبائِرُ، والسَّيِّئاتُ هي الصَّغائِرُ. ويُؤَيِّدُهُ: ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكم سَيِّئاتِكُمْ﴾ [النساء: ٣١] وقِيلَ: الذُّنُوبُ تَرْكُ الطّاعاتِ، والسَّيِّئاتُ فِعْلُ المَعاصِي. وقِيلَ: غُفْرانُ الذُّنُوبِ وتَكْفِيرُ السَّيِّئاتِ أمْرٌ قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِن بَعْضٍ، لَكِنَّهُ كُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ، ولِأنَّها مَناحٍ مِنَ السَّتْرِ وإزالَةِ حُكْمِ الذُّنُوبِ بَعْدَ حُصُولِهِ، والغُفْرانُ والتَّكْفِيرُ بِمَعْنًى، والذُّنُوبُ والسَّيِّئاتُ بِمَعْنًى، وجَمَعَ بَيْنَهُما تَأْكِيدًا ومُبالَغَةً؛ ولِيَكُونَ في ذَلِكَ إلْحاحٌ في الدُّعاءِ. فَقَدْ رُوِيَ: (إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُلِحِّينَ في الدُّعاءِ) . وقِيلَ: في التَّكْفِيرِ مَعْنًى، وهو التَّغْطِيَةُ، لِيَأْمَنُوا الفُضُوحَ. والكَفّارَةُ هي الطّاعَةُ المُغَطِّيَةُ لِلسَّيِّئَةِ، كالعِتْقِ والصِّيامِ والإطْعامِ. ورَجُلٌ مُكَفَّرٌ بِالسِّلاحِ، أيْ مُغَطًّى. ﴿وتَوَفَّنا مَعَ الأبْرارِ﴾ جَمْعُ بَرٍّ، عَلى وزْنِ فَعَلٍ، كَصَلَفٍ. أوْ جَمْعُ بارٍّ عَلى وزْنٍ فاعِلٍ كَضارِبٍ، وأُدْغِمَتِ الرّاءُ في الرّاءِ. وهُمُ الطّائِعُونَ لِلَّهِ، وتَقَدَّمَ مَعْنى البِرِّ. وقِيلَ: هم هُنا الَّذِينَ بَرُّوا الآباءَ والأبْناءَ. و(مَعَ) هُنا مَجازٌ عَنِ الصُّحْبَةِ الزَّمانِيَّةِ إلى الصُّحْبَةِ في الوَصْفِ، أيْ: تَوَفَّنا أبْرارًا مَعْدُودِينَ في جُمْلَةِ الأبْرارِ. والمَعْنى: اجْعَلْنا مِمَّنْ تَوَفَّيْتَهم طائِعِينَ لَكَ. وقِيلَ: المَعْنى احْشُرْنا مَعَهم في الجَنَّةِ. ﴿رَبَّنا وآتِنا ما وعَدْتِنا عَلى رُسُلِكَ﴾ الظّاهِرُ أنَّهم سَألُوا رَبَّهم أنْ يُعْطِيَهم ما وعَدَهم عَلى رُسُلِهِ، فَفَسَّرَ هَذا المَوْعُودَ بِهِ بِالجَنَّةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقِيلَ: المَوْعُودُ بِهِ النَّصْرُ عَلى الأعْداءِ. وقِيلَ: اسْتِغْفارُ الأنْبِياءِ، كاسْتِغْفارِ نُوحٍ وإبْراهِيمَ ورَسُولِ اللَّهِ ﷺ وعَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ، واسْتِغْفارِ المَلائِكَةِ لَهم. وقَوْلُهُ: ﴿عَلى رُسُلِكَ﴾ هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، فَقَدَّرَهُ الطَّبَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ: عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِكَ. وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلى تَصْدِيقِ رُسُلِكَ. قالَ: فَـ(عَلى) هَذِهِ صِلَةٌ لِلْوَعْدِ في قَوْلِكَ: وعَدَ اللَّهُ الجَنَّةَ عَلى الطّاعَةِ. والمَعْنى: ما وعَدْتَنا عَلى تَصْدِيقِ رُسُلِكَ. ألا تَراهُ كَيْفَ أتْبَعَ ذِكْرَ المُنادِي لِلْإيمانِ وهو الرَّسُولُ، وقَوْلُهُ: (آمَنّا) وهو التَّصْدِيقُ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ، أيْ: ما وعَدْتَنا مُنْزِلًا عَلى رُسُلِكَ، أوْ مَحْمُولًا عَلى رُسُلِكَ؛ لِأنَّ الرُّسُلَ يَحْمِلُونَ ذَلِكَ، فَإنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ. انْتَهى. وهَذا الوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَ آخِرًا أنَّهُ يَجُوزُ لَيْسَ بِجائِزٍ؛ لِأنَّ مِن قَواعِدِ النَّحْوِيِّينَ أنَّ الجارَّ والمَجْرُورَ والظَّرْفَ مَتى كانَ العامِلُ فِيهِما مُقَيَّدًا، فَلا بُدَّ مِن ذِكْرِ ذَلِكَ العامِلِ، ولا يَجُوزُ حَذْفُهُ، ولا يُحْذَفُ العامِلُ إلّا إذا كانَ كَوْنًا مُطْلَقًا. مِثالُ ذَلِكَ: زَيْدٌ ضاحِكٌ في الدّارِ، لا يَجُوزُ حَذْفُ ضاحِكٌ ألْبَتَّةَ. وإذا قُلْتَ: زِيدٌ في الدّارِ فالعامِلُ كَوْنٌ مُطْلَقٌ يُحْذَفُ. وكَذَلِكَ: زِيدٌ ناجٍ مِن بَنِي تَمِيمٍ، لا يَجُوزُ حَذْفُ ناجٍ. ولَوْ قُلْتَ: زِيدٌ مِن بَنِي تَمِيمٍ؛ جازَ عَلى تَقْدِيرِ: كائِنٌ مِن بَنِي تَمِيمٍ، والمَحْذُوفُ فِيما جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وهو قَوْلُهُ: مُنْزَلًا أوْ مَحْمُولًا، لا يَجُوزُ حَذْفُهُ عَلى ما تَقَرَّرَ في عِلْمِ النَّحْوِ. وإذا كانَ العامِلُ في الظَّرْفِ أوِ المَجْرُورِ مُقَيَّدًا صارَ ذَلِكَ الظَّرْفُ أوِ المَجْرُورُ ناقِصًا، فَلا يَجُوزُ أنْ يَقَعَ صِلَةً، ولا خَبَرًا لا في الحالِ، ولا في الأصْلِ، ولا صِفَةً، ولا حالًا. ومَعْنى سُؤالِهِمْ: أنْ يُعْطِيَهم ما وعَدَهم: أنْ يُثِيبَهم عَلى الإيمانِ والطّاعَةِ حَتّى يَكُونُوا مِمَّنْ يُؤْتِيهُمُ اللَّهُ ما وعَدَ المُؤْمِنِينَ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ تَعالى مُنْجِزٌ ما وعَدَ، فَسَألُوا إنْجازَ ما تَرَتَّبَ عَلى الإيمانِ. والمَعْنى: التَّثْبِيتُ عَلى الإيمانِ حَتّى يَكُونُوا مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعالى إنْجازَ الوَعْدِ. وقِيلَ: هَذا السُّؤالُ جاءَ عَلى سَبِيلِ الِالتِجاءِ إلى اللَّهِ تَعالى والتَّضَرُّعِ لَهُ، كَما كانَ الأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَسْتَغْفِرُونَ، مَعَ عِلْمِهِمْ أنَّهم مَغْفُورٌ لَهم، يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ التَّذَلُّلَ والتَّضَرُّعَ إلَيْهِ والِالتِجاءَ. وقِيلَ: اسْتَبْطَئُوا النَّصْرَ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ فَسَألُوا أنْ يُعَجِّلَ لَهم وعْدَهُ، فَعَلى هَذا وهو أنْ يَكُونَ المَوْعُودُ بِهِ النَّصْرَ يَكُونُ الإيتاءُ في الدُّنْيا، وعَلى أنْ يَكُونَ الجَنَّةَ يَكُونُ (p-١٤٣)الإيتاءُ في الآخِرَةِ. وقَرَأ الأعْمَشُ: (عَلى رُسْلِكَ) بِإسْكانِ السِّينِ. ﴿ولا تُخْزِنا يَوْمَ القِيامَةِ﴾ فُسِّرَ الإخْزاءُ هُنا بِما فُسِّرَ في ﴿فَقَدْ أخْزَيْتَهُ﴾ . و(يَوْمَ القِيامَةِ) مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: ﴿ولا تُخْزِنا﴾، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن بابِ الإعْمالِ، إذْ يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِـ ﴿تُخْزِنا﴾ وبِ ﴿آتِنا ما وعَدْتَنا﴾، إذا كانَ المَوْعُودُ بِهِ الجَنَّةَ. ﴿إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعادَ﴾ ظاهِرُهُ أنَّهُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: ﴿وآتِنا ما وعَدْتَنا﴾ . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إشارَةٌ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [التحريم: ٨] فَهَذا وعْدُهُ تَعالى، وهو دالٌّ عَلى أنَّ الخِزْيَ إنَّما هو مَعَ الخُلُودِ. انْتَهى. وانْظُرْ إلى حُسْنِ مُحاوَرَةِ هَؤُلاءِ الذّاكِرِينَ المُتَفَكِّرِينَ، فَإنَّهم خاطَبُوا اللَّهَ تَعالى بِلَفْظَةِ (رَبَّنا)، وهي إشارَةٌ إلى أنَّهُ رَبُّهم أصْلَحَهم وهَيَّأهم لِلْعِبادَةِ، فَأخْبَرُوا أوَّلًا بِنَتِيجَةِ الفِكْرِ وهو قَوْلُهم: ﴿رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلًا﴾ [آل عمران: ١٩١] ثُمَّ سَألُوهُ أنْ يَقِيَهُمُ النّارَ بَعْدَ تَنْزِيهِهِ عَنِ النَّقائِصِ. وأخْبَرُوا عَنْ حالِ مَن يَدْخُلِ النّارَ وهُمُ الظّالِمُونَ الَّذِينَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، ولا يَتَفَكَّرُونَ في مَصْنُوعاتِهِ. ثُمَّ ذَكَرُوا أيْضًا ما أنْتَجَ لَهُمُ الفِكْرُ مِن إجابَةِ الدّاعِي إلى الإيمانِ، إذْ ذاكَ مُتَرَتِّبٌ عَلى أنَّهُ تَعالى ما خَلَقَ هَذا الخَلْقَ العَجِيبَ باطِلًا. ثُمَّ سَألُوا غُفْرانَ ذُنُوبِهِمْ ووَفاتَهم عَلى الإيمانِ الَّذِي أخْبَرُوا بِهِ في قَوْلِهِمْ: فَآمَنّا ثُمَّ سَألُوا اللَّهَ الجَنَّةَ وأنْ لا يَفْضَحَهم يَوْمَ القِيامَةِ، وذَلِكَ هو غايَةُ ما سَألُوهُ. وتَكَرَّرَ لَفْظُ (رَبَّنا) خَمْسَ مَرّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِعْطافِ وتَطَلُّبِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعالى بِنِدائِهِ بِهَذا الِاسْمِ الشَّرِيفِ الدّالِّ عَلى التَّرْبِيَةِ والمِلْكِ والإصْلاحِ. وكَذَلِكَ تَكَرَّرَ هَذا الِاسْمُ في قِصَّةِ آدَمَ ونُوحٍ وغَيْرِهِما. وفي تَكْرارِ (رَبَّنا. . . . . . رَبَّنا) دَلالَةٌ عَلى جَوازِ الإلْحاحِ في المَسْألَةِ، واعْتِمادِ كَثْرَةِ الطَّلَبِ مِنَ اللَّهِ تَعالى. وفي الحَدِيثِ: (ألِظُّوا بِـ يا ذا الجَلالِ والإكْرامِ)، وقالَ الحَسَنُ: ما زالُوا يَقُولُونَ رَبَّنا رَبَّنا حَتّى اسْتَجابَ لَهم. وهَذِهِ مَسْألَةٌ أجْمَعَ عَلَيْها عُلَماءُ الأمْصارِ خِلافًا لِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ، إذْ أجازَ ذَلِكَ فِيما يَتَعَلَّقُ بِالآخِرَةِ لا بِالدُّنْيا، ولِبَعْضِ المُتَصَوِّفَةِ أيْضًا إذْ قالَ: اللَّهُ تَعالى تَوَلّى مَنِ اتَّبَعَ الأمْرَ واجْتَنَبَ النَّهْيَ وارْتَفَعَ عَنْهُ كُلَفَ طَلَباتِهِ ودُعائِهِ. خَرَّجَ أبُو نَصْرٍ الوايِلِيُّ السِّجِسْتانِيُّ الحافِظُ في كِتابِ الإبانَةِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: (أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَقْرَأُ عَشْرَ آياتٍ مِن آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرانَ كُلَّ لَيْلَةٍ) يَعْنِي: ﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [آل عمران: ١٩٠] . قالَ العُلَماءُ: ويُسْتَحَبُّ لِمَنِ انْتَبَهَ مِن نَوْمِهِ أنْ يَمْسَحَ عَلى وجْهِهِ، ويَسْتَفْتِحَ قِيامَهُ بِقِراءَةِ هَذا العَشْرِ آياتٍ اقْتِداءً بِالنَّبِيِّ ﷺ، ثَبَتَ ذَلِكَ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما، ثُمَّ يُصَلِّي ما كُتِبَ لَهُ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ التَّفَكُّرِ والعَمَلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب