الباحث القرآني

﴿ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هو خَيْرًا لَهم بَلْ هو شَرٌّ لَهُمْ﴾ قالَ السُّدِّيُّ وجَماعَةٌ: نَزَلَتْ في البُخْلِ بِالمالِ والإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةِ عَطِيَّةَ، ومُجاهِدٌ وابْنُ جُرَيْجٍ وجَماعَةٌ، واخْتارَهُ الزَّجّاجُ: في أهْلِ الكِتابِ وبُخْلِهِمْ، وتِبْيانِ ما عَلَّمَهُمُ اللَّهُ مِن أمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ . وقِيلَ: نَزَلَتْ في مانِعِي الزَّكاةِ المَفْرُوضَةِ. قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وأبُو هُرَيْرَةَ، وابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةِ أبِي صالِحٍ والشَّعْبِيِّ ومُجاهِدٍ. وقِيلَ: في النَّفَقَةِ عَلى العِيالِ وذَوِي الأرْحامِ. ومُناسَبَتُها لِما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى لَمّا بالَغَ في التَّحْرِيضِ عَلى بَذْلِ الأرْواحِ في الجِهادِ في الآياتِ السّابِقَةِ، شَرَعَ في التَّحْرِيضِ هُنا عَلى بَذْلِ الأمْوالِ في الجِهادِ وغَيْرِهِ، وبَيَّنَ الوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِمَن يَبْخَلُ، والبُخْلُ الشَّرْعِيُّ عِبارَةٌ عَنْ مَنعِ بَذْلِ الواجِبِ. وقَرَأ حَمْزَةُ ”تَحْسَبَنَّ“ بِالتّاءِ، فَتَكُونُ الَّذِينَ (p-١٢٨)أوَّلَ مَفْعُولَيْنِ لِتَحْسَبَنَّ، وهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ: بُخْلَ الَّذِينَ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِالياءِ. فَإنْ كانَ الفِعْلُ مُسْنَدًا إلى الضَّمِيرِ، فَيَكُونُ المَفْعُولُ الأوَّلُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: بُخْلُهم، وحُذِفَ لِدَلالَةِ يَبْخَلُونَ عَلَيْهِ. وحَذْفُهُ - كَما قُلْنا - عَزِيزٌ جِدًّا عِنْدَ الجُمْهُورِ؛ فَلِذَلِكَ الأوْلى تَخْرِيجُ هَذِهِ القِراءَةِ عَلى قِراءَةِ التّاءِ مِن كَوْنِ الَّذِينَ هو المَفْعُولُ الأوَّلُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، وهو فَصْلٌ. وقَرَأ الأعْمَشُ بِإسْقاطِ ”هو“، وخَيْرًا هو المَفْعُولُ بِتَحْسَبَنَّ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ودَلَّ قَوْلُهُ: ”يَبْخَلُونَ“ عَلى هَذا البُخْلِ المُقَدَّرِ، كَما دَلَّ السَّفِيهُ عَلى السَّفَهِ في قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎إذا نَهى السَّفِيهُ جَرى إلَيْه وخالَفَ والسَّفِيهُ إلى خِلافٍ والمَعْنى: جَرى إلى السَّفَهِ. انْتَهى. ولَيْسَتِ الدَّلالَةُ فِيهِما سَواءً؛ لِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما أنَّ الدّالَّ في الآيَةِ هو الفِعْلُ، وفي البَيْتِ هو اسْمُ الفاعِلِ، ودَلالَةُ الفِعْلِ عَلى المَصْدَرِ أقْوى مِن دَلالَةِ اسْمِ الفاعِلِ؛ ولِذَلِكَ كَثُرَ إضْمارُ المَصْدَرِ لِدَلالَةِ الفِعْلِ عَلَيْهِ في القُرْآنِ وكَلامِ العَرَبِ، ولَمْ تَكْثُرْ دَلالَةُ اسْمِ الفاعِلِ عَلى المَصْدَرِ إنَّما جاءَ في هَذا البَيْتِ أوْ في غَيْرِهِ إنْ وُجِدَ. والثّانِي أنَّ في الآيَةِ حَذْفًا لِظاهِرٍ؛ إذْ قَدَّرُوا المَحْذُوفَ ”بُخْلُهم“، وأمّا في البَيْتِ فَهو إضْمارٌ، لا حَذْفٌ. ويَظْهَرُ لِي تَخْرِيجٌ غَرِيبٌ في الآيَةِ تَقْتَضِيهِ قَواعِدُ العَرَبِيَّةِ، وهو أنْ تَكُونَ المَسْألَةُ مِن بابِ الإعْمالِ إذا جَعَلْنا الفِعْلَ مُسْنَدًا لِلَّذِينِ، وذَلِكَ أنَّ تَحْسَبَنَّ تَطْلُبُ مَفْعُولَيْنِ، ويَبْخَلُونَ يَطْلَبُ مَفْعُولًا بِحَرْفِ جَرٍّ، فَقَوْلُهُ: ما آتاهم يَطْلُبُهُ يَحْسَبَنَّ، عَلى أنْ يَكُونَ المَفْعُولُ الأوَّلُ، ويَكُونُ هو فَصْلًا، وخَيْرًا المَفْعُولُ الثّانِي ويَطْلُبُهُ يَبْخَلُونَ بِتَوَسُّطِ حَرْفِ الجَرِّ، فَأعْمَلَ الثّانِي عَلى الأفْصَحِ في لِسانِ العَرَبِ، وعَلى ما جاءَ في القُرْآنِ وهو يَبْخَلُونَ. فَعُدِّيَ بِحَرْفِ الجَرِّ واحِدٌ مَعْمُولُهُ، وحُذِفَ مَعْمُولُ تَحْسَبَنَّ الأوَّلُ، وبَقِيَ مَعْمُولُهُ الثّانِي؛ لِأنَّهُ لَمْ يَتَنازَعْ فِيهِ، إنَّما التَّنازُعُ بِالنِّسْبَةِ إلى المَفْعُولِ الأوَّلِ. وساغَ حَذْفُهُ وحْدَهُ، كَما ساغَ حَذْفُ المَفْعُولَيْنِ في مَسْألَةِ سِيبَوَيْهِ: مَتى رَأيْتُ أوْ قُلْتُ: زَيْدٌ مُنْطَلَقٌ؛ لِأنَّ رَأيْتُ وقُلْتُ في هَذِهِ المَسْألَةِ تَنازَعا زَيْدٌ مُنْطَلَقٌ، وفي الآيَةِ: لَمْ يَتَنازَعا إلّا في المَفْعُولِ الواحِدِ، وتَقْدِيرُ المَعْنى: ولا تَحْسَبَنَّ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هو خَيْرًا لَهُمُ النّاسُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِهِ، فَعَلى هَذا التَّقْدِيرِ والتَّخْرِيجِ يَكُونُ هو فَصْلًا لِما آتاهُمُ المَحْذُوفُ، لا لِتَقْدِيرِهِمْ بُخْلَهم. ونَظِيرُ هَذا التَّرْكِيبِ: ظَنَّ الَّذِي مَرَّ بِهِنْدٍ هي المُنْطَلِقَةُ. المَعْنى: ظَنَّ هَنْدًا الشَّخْصَ الَّذِي مَرَّ بِها هي المُنْطَلِقَةُ، فالَّذِي تَنازَعَهُ الفِعْلانِ هو الِاسْمُ الأوَّلُ، فَأعْمَلَ الفِعْلُ الثّانِيَ وبَقِيَ الأوَّلُ يَطْلُبُ مَحْذُوفًا، ويَطْلُبُ المَفْعُولَ الثّانِيَ مُثْبَتًا، إذْ لَمْ يَقَعُ فِيهِ التَّنازُعُ. ولَمّا تَضَمَّنَ النَّهْيُ انْتِفاءَ كَوْنِ البُخْلِ أوِ المَبْخُولِ بِهِ خَيْرًا لَهم، وكانَ تَحْتَ الِانْتِفاءِ قَسَمانِ: أحَدُهُما أنْ لا خَيْرَ ولا شَرَّ، والآخَرُ إثْباتُ الشَّرِّ - أتى بِالجُمْلَةِ الَّتِي تُعَيِّنُ أحَدَ القِسْمَيْنِ وهو إثْباتُ كَوْنِهِ شَرًّا لَهم. ﴿سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ﴾: هَذا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: ﴿بَلْ هو شَرٌّ لَهُمْ﴾ والظّاهِرُ حَمْلُهُ عَلى المَجازِ، أيْ (p-١٢٩)سَيُلْزَمُونَ عِقابَهُ إلْزامَ الطَّوْقِ، وفي المَثَلِ لِمَن جاءَ بِهَنَةٍ: تَقَلَّدُها طَوْقَ الحَمامَةِ. وقالَ إبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ: سَيُجْعَلُ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ طَوْقٌ مِن نارٍ. قالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: هو مِنَ الطّاقَةِ لا مِنَ التَّطْوِيقِ، والمَعْنى: سَيَحْمِلُونَ عِقابَ ما بَخِلُوا بِهِ. كَقَوْلِهِ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطَوِّقُونَهُ﴾ [البقرة: ١٨٤] وقالَ مُجاهِدٌ: سَيُكَلَّفُونَ أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ ما بَخِلُوا بِهِ. وهَذا التَّفْسِيرُ لا يُناسِبُ قَوْلَهُ: إنَّ البُخْلَ هو العِلْمُ الَّذِي تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِن أمْرِ الرَّسُولِ. وقالَ أبُو وائِلٍ: هو الرَّجُلُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ مالًا فَيَمْنَعُ مِنهُ قَرابَتَهُ الحَقَّ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ لَهم في مالِهِ، فَيُجْعَلُ حَيَّةً يُطَوَّقُها فَيَقُولُ: ما لِي ولَكَ، فَيَقُولُ: أنا مالُكَ. وجاءَ في الحَدِيثِ: «ما مِن ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذا رَحِمَهُ فَيَسْألُهُ مِن فَضْلٍ عِنْدَهُ فَيَبْخَلُ بِهِ عَلَيْهِ إلّا أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ شُجاعٌ مِنَ النّارِ يَتَلَمَّظُ حَتّى يُطَوِّقَهُ» . والأحادِيثُ في مِثْلِ هَذا مِن مَنعِ الزَّكاةِ واكْتِنازِ المالِ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ. ﴿ولِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾: فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما أنَّهُ تَعالى لَهُ مُلْكُ جَمِيعِ ما يَقَعُ مِن إرْثٍ في السَّماواتِ والأرْضِ، وأنَّهُ هو المالِكُ لَهُ حَقِيقَةً، فَكُلُّ ما يَحْصُلُ لِمَخْلُوقاتِهِ مِمّا يُنْسَبُ إلَيْهِمْ مِلْكُهُ هو مالِكُهُ حَقِيقَةً. وهَذا كانَ هو مالِكُهُ، فَما لَكم تَبْخَلُونَ بِشَيْءٍ أنْتُمْ مُمَتَّعُونَ بِهِ، لا مالِكُوهُ حَقِيقَةً، كَما قالَ تَعالى: ﴿وأنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: ٧] . والقَوْلُ الثّانِي: أنَّهُ خَبَّرَ بِفَناءِ العالَمِ، وأنَّ جَمِيعَ ما يَخْلُقُونَهُ فَهو وارِثُهُ. وهو خِطابٌ عَلى ما يَفْهَمُ البَشَرُ، دَلَّ عَلى فَناءِ الجَمِيعِ، وأنَّهُ لا يَبْقى مالِكٌ إلّا اللَّهُ، وإنْ كانَ مِلْكُهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَزَلْ. ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾: خَتَمَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ومَعْناها التَّهْدِيدُ والوَعِيدُ عَلى قَبِيحِ مُرْتَكَبِهِمْ مِنَ البُخْلِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو: ”يَعْمَلُونَ“ عَلى الغَيْبَةِ جَرْيًا عَلى يَبْخَلُونَ وسَيُطَوَّقُونَ. وقَرَأ الباقُونَ بِالتّاءِ عَلى الِالتِفاتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ خِطابًا لِلْباخِلِينَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وذَلِكَ عَلى الرُّجُوعِ مِنَ الغَيْبَةِ إلى المُخاطَبَةِ؛ لِأنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ: ﴿وإنْ تُؤْمِنُوا وتَتَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٧٩] . انْتَهى. فَلا يَكُونُ عَلى قَوْلِهِ التِفاتًا، والأحْسَنُ الِالتِفاتُ. وتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ فُنُونًا مِنَ البَلاغَةِ والبَدِيعِ: الِاخْتِصاصُ في: أجْرَ المُؤْمِنِينَ. والتَّكْرارُ في: يَسْتَبْشِرُونَ، وفي: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا، وفي اسْمِهِ في عِدَّةِ مَواضِعَ، وفي: لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وفي ذِكْرِ الإمْلاءِ. والطِّباقِ في: اشْتَرَوُا الكُفْرَ بِالإيمانِ، وفي: لِيُطْلِعَكم عَلى الغَيْبِ. والِاسْتِعارَةُ في: يُسارِعُونَ، وفي: اشْتَرَوْا، وفي: نُمْلِي، وفي: لِيَزْدادُوا إثْمًا، وفي: الخَبِيثُ والطَّيِّبُ. والتَّجْنِيسُ المُماثِلُ في: فَآمِنُوا وإنْ تُؤْمِنُوا. والِالتِفاتُ في: أنْتُمْ، إنْ كانَ خِطابًا لِلْمُؤْمِنِينَ، إذْ لَوْ جَرى عَلى لَفْظِ المُؤْمِنِينَ لَكانَ عَلى ما هم عَلَيْهِ، وإنْ كانَ خِطابًا لِغَيْرِهِمْ كانَ مِن تَلْوِينِ الخِطابِ، وفي: تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فِيمَن قَرَأ بِتاءِ الخِطابِ. والحَذْفُ في مَواضِعَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب