الباحث القرآني

﴿ولا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ في الكُفْرِ إنَّهم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ [آل عمران: ١٧٦]: لَمّا نَهى المُؤْمِنِينَ عَنْ خَوْفِ أوْلِياءِ الشَّيْطانِ، وأمَرَهم بِخَوْفِهِ وحْدَهُ تَعالى، نَهى رَسُولَهُ عَنِ الحُزْنِ لِمُسارَعَةِ مَن سارَعَ في الكُفْرِ. والمَعْنى: لا يَتَوَقَّعُ حُزْنًا ولا ضَرَرًا مِنهم؛ ولِذَلِكَ عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: إنَّهم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا، أيْ: لَنْ يَضُرُّوا نَبِيَّ اللَّهِ والمُؤْمِنِينَ. والمَنفِيُّ هُنا ضَرَرٌ خاصٌّ، وهو إبْطالُ الإسْلامِ وكَيْدُهُ حَتّى يَضْمَحِلَّ، فَهَذا لَنْ يَقَعَ أبَدًا، بَلْ أمْرُهم يَضْمَحِلُّ ويَعْلُو أمْرُكَ عَلَيْهِمْ. قِيلَ: نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في قَوْمٍ ارْتَدُّوا. وقِيلَ: المُرادُ كُفّارُ قُرَيْشٍ. وقِيلَ: رُؤَساءُ اليَهُودِ. والأوْلى حَمْلُهُ عَلى العُمُومِ كَقَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ في الكُفْرِ﴾ [المائدة: ٤١] وقِيلَ: مُثِيرُ الحُزْنِ وهو شَفَقَتُهُ، وإيثارُهُ إسْلامَهم حَتّى يُنْقِذَهم مِنَ النّارِ، فَنُهِيَ عَنِ المُبالَغَةِ في ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ﴾ [فاطر: ٨] وقَوْلِهِ: (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أنْ لا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وهَذا مِن فَرْطِ رَحْمَتِهِ لِلنّاسِ، ورَأْفَتِهِ بِهِمْ. وقَرَأ نافِعٌ: ”يُحْزِنْكَ“ مِن أحْزَنَ، وكَذا حَيْثُ وقَعَ المُضارِعُ، إلّا في ”﴿لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأكْبَرُ﴾ [الأنبياء: ١٠٣]“، فَقَرَأهُ مِن حَزِنَ كَقِراءَةِ الجَماعَةِ في جَمِيعِ القُرْآنِ. يُقالُ: حَزِنَ الرَّجُلُ، أصابَهُ الحُزْنُ، وحَزَنْتُهُ جَعَلْتُ فِيهِ ذَلِكَ، وأحْزَنْتُهُ جَعَلْتُهُ حَزِينًا. وقَرَأ النَّحْوِيُّ: يُسْرِعُونَ مِن أسْرَعَ في جَمِيعِ القُرْآنِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقِراءَةُ الجَماعَةِ أبْلَغُ؛ لِأنَّ مَن يُسارِعُ غَيْرَهُ أشَدُّ اجْتِهادًا مِنَ الَّذِي يُسْرِعُ وحْدَهُ. وفي ضِمْنِ قَوْلِهِ: ”﴿إنَّهم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ [آل عمران: ١٧٦]“ دَلالَةٌ عَلى أنَّ وبالَ ذَلِكَ عائِدٌ عَلَيْهِمْ، ولا يَضُرُّونَ إلّا أنْفُسَهم. وانْتَصَبَ شَيْئًا عَلى المَصْدَرِ، أيْ شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ. وقِيلَ: انْتِصابُهُ عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ أيْ شَيْءٌ. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أنْ لا يَجْعَلَ لَهم حَظًّا في الآخِرَةِ ولَهم عَذابٌ (p-١٢٢)عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: ١٧٦]: بَيَّنَ تَعالى أنَّ ما هم عَلَيْهِ مِنَ المُسارَعَةِ في الكُفْرِ هو بِإرادَةِ اللَّهِ تَعالى، أنَّهم لا يَهْدِيهِمْ إلى الإيمانِ، فَيَكُونُ لَهم نَصِيبٌ مِن نَعِيمِ الآخِرَةِ. فَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنهُ تَعالى لِنَبِيِّهِ ﷺ في تَرْكِ الحَرْبِ؛ لِأنَّ مُرادَ اللَّهِ مِنهم هو ما هم عَلَيْهِ، ولَهم بَدَلُ النَّعِيمِ عَذابٌ عَظِيمٌ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): هَلْ قِيلَ: لا يَجْعَلُ اللَّهُ لَهم حَظًّا في الآخِرَةِ، وأيُّ فائِدَةٍ في ذِكْرِ الإرادَةِ ؟ (قُلْتُ): فائِدَتُهُ الإشْعارُ بِأنَّ الدّاعِيَ إلى حِرْمانِهِمْ وتَعْذِيبِهِمْ قَدْ خَلَصَ خُلُوصًا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ صارِفٌ قَطُّ، حِينَ يُسارِعُونَ في الكُفْرِ تَنْبِيهًا عَلى تَمادِيهِمْ في الطُّغْيانِ وبُلُوغِهِمُ الغايَةَ فِيهِ، حَتّى أنَّ أرْحَمَ الرّاحِمِينَ يُرِيدُ أنْ لا يَرْحَمُهم. انْتَهى. وفِيهِ دَسِيسَةُ اعْتِزالٍ؛ لِأنَّهُ اسْتَشْعَرَ أنَّ إرادَتَهُ تَعالى أنْ لا يَجْعَلَ لَهم حَظًّا في الآخِرَةِ مُوجِبَةٌ أنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هو مُرِيدٌ لَهُ تَعالى وهو: الكُفْرُ. ومِن مَذْهَبِهِ أنَّهُ تَعالى لا يُرِيدُ الكُفْرَ ولا يَشاؤُهُ، فَتَأوَّلَ تَعَلُّقَ إرادَتِهِ بِانْتِفاءِ حَظِّهِمْ مِنَ الآخِرَةِ بِتَعَلُّقِها بِانْتِفاءِ رَحْمَتِهِ لَهم لِفَرْطِ كُفْرِهِمْ. ونَقَلَ الماوَرْدِيُّ في ”يُرِيدُ“ ثَلاثَةَ أقْوالٍ: أحُدُها: أنَّهُ يَحْكُمُ بِذَلِكَ. والثّانِي: يُرِيدُ في الآخِرَةِ أنْ يَحْرِمَهم ثَوابَهم لِإحْباطِ أعْمالِهِمْ بِكُفْرِهِمْ. والثّالِثُ: يُرِيدُ يُحْبِطُ أعْمالَهم بِما اسْتَحَقُّوهُ مِن ذُنُوبِهِمْ. قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ. ﴿إنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الكُفْرَ بِالإيمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [آل عمران: ١٧٧]: هَذا عامٌّ في الكُفّارِ كُلِّهِمْ. وقَوْلُهُ: ﴿ولا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ في الكُفْرِ﴾ [آل عمران: ١٧٦] كانَ عامًّا، فَكَرَّرَ هَذا عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وإنْ كانَ خاصًّا بِالمُنافِقِينَ أوِ المُرْتَدِّينَ أوْ كُفّارِ قُرَيْشٍ، فَيَكُونُ لَيْسَ تَكْرِيرًا عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، بَلْ حُكِمَ عَلى العامِّ بِأنَّهم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا. ويَنْدَرِجُ فِيهِ ذَلِكَ الخاصُّ أيْضًا، فَيَكُونُ الحُكْمُ في حَقِّهِمْ عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، ويَكُونُ قَدْ جَمَعَ لِلْخاصِّ العَذابَ بِنَوْعَيْهِ مِنَ العِظَمِ والألَمِ، وهو أبْلَغُ في حَقِّهِمْ في العَذابِ. وجَعَلَ ذَلِكَ اشْتِراءً مِن حَيْثُ تَمَكُّنِهم مِن قَبُولِ الخَيْرِ والشَّرِّ، فَآثَرُوا الكُفْرَ عَلى الإيمانِ. ﴿ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّما نُمْلِي لَهم خَيْرٌ لِأنْفُسِهِمْ إنَّما نُمْلِي لَهم لِيَزْدادُوا إثْمًا﴾: مَعْنى نُمْلِي: نُمْهِلُ ونَمُدُّ في العُمْرِ. والمُلاءَةُ المُدَّةُ مِنَ الدَّهْرِ، والمَلَوانُ اللَّيْلُ والنَّهارُ. ويُقالُ: مَلّاكَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ، أيْ مَنَحَكَها عُمْرًا طَوِيلًا، وقَرَأ حَمْزَةُ ”تَحْسَبَنَّ“ بِتاءِ الخِطابِ، فَيَكُونُ الَّذِينَ كَفَرُوا مَفْعُولًا أوَّلًا. ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ: ”﴿أنَّما نُمْلِي لَهم خَيْرٌ﴾“، في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي؛ لِأنَّهُ يَنْسَبِكُ مِنهُ مَصْدَرُ المَفْعُولِ الثّانِي في هَذا البابِ هو الأوَّلُ مِن حَيْثُ المَعْنى، والمَصْدَرُ لا يَكُونُ الذّاتُ، فَخَرَجَ ذَلِكَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ مِنَ الأوَّلِ أيْ: ولا تَحْسَبَنَّ شَأْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. أوْ مِنَ الثّانِي أيْ: ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أصْحابَ أنَّ الإمْلاءَ خَيْرٌ لِأنْفُسِهِمْ حَتّى يَصِحَّ كَوْنُ الثّانِي هو الأوَّلُ. وخَرَّجَهُ الأُسْتاذُ أبُو الحَسَنِ بْنُ الباذِشِ والزَّمَخْشَرِيُّ: عَلى أنْ يَكُونَ أنَّما نُمْلِي لَهم خَيْرٌ لِأنْفُسِهِمْ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ. قالَ ابْنُ الباذِشِ: ويَكُونُ المَفْعُولُ الثّانِي حُذِفَ (p-١٢٣)لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ، ويَكُونُ التَّقْدِيرُ: ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا خَيْرِيَّةُ إمْلائِنا لَهم كائِنَةٌ أوْ واقِعَةٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ صَحَّ مَجِيءُ البَدَلِ ولَمْ يَذْكُرْ إلّا أحَدَ المَفْعُولَيْنِ، ولا يَجُوزُ الِاقْتِصارُ بِفِعْلِ الحُسْبانِ عَلى مَفْعُولٍ واحِدٍ ؟ (قُلْتُ): صَحَّ ذَلِكَ مِن حَيْثُ إنَّ التَّعْوِيلَ عَلى البَدَلِ والمُبْدَلِ مِنهُ في حُكْمِ المُنَحّى، ألا تَراكَ تَقُولُ: جَعَلْتُ مَتاعَكَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ مَعَ امْتِناعِ سُكُوتِكَ عَلى ”مَتاعَكَ“ . انْتَهى كَلامُهُ وهَذا التَّخْرِيجُ الَّذِي خَرَّجَهُ ابْنُ الباذِشِ والزَّمَخْشَرِيُّ سَبَقَهُما إلَيْهِ الكِسائِيُّ والفَرّاءُ، قالا وجْهُ هَذِهِ القِراءَةِ التَّكْرِيرُ والتَّأْكِيدُ، التَّقْدِيرُ: ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، ولا تَحْسَبَنَّ أنَّما نُمْلِي لَهم. قالَ الفَرّاءُ: ومِثْلُهُ ”﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا السّاعَةَ أنْ تَأْتِيَهُمْ﴾ [الزخرف: ٦٦]“، أيْ ما يَنْظُرُونَ إلّا أنْ تَأْتِيَهم. انْتَهى. وقَدَّرَ بَعْضُهم قَوْلَ الكِسائِيِّ والفَرّاءِ فَقالَ: حَذْفُ المَفْعُولِ الثّانِي مِن هَذِهِ الأفْعالِ لا يَجُوزُ عِنْدَ أحَدٍ، فَهو غَلَطٌ مِنهُما. انْتَهى. وقَدْ أشْبَعْنا الكَلامَ في حَذْفِ أحَدِ مَفْعُولَيْ ظَنَّ اخْتِصارًا فِيما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أمْواتًا﴾ [آل عمران: ١٦٩] إنَّ تَقْدِيرَهُ: ولا تَحْسَبَنَّهم. وذَكَرْنا هُناكَ أنَّ مَذْهَبَ ابْنِ مَلْكُونَ أنَّهُ لا يَجُوزُ ذَلِكَ، وأنَّ مَذْهَبَ الجُمْهُورِ الجَوازُ، لَكِنَّهُ عَزِيزٌ جِدًّا بِحَيْثُ لا يُوجَدُ في لِسانِ العَرَبِ إلّا نادِرًا، وأنَّ القُرْآنَ يَنْبَغِي أنْ يُنَزَّهَ عَنْهُ. وعَلى البَدَلِ خَرَّجَ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو إسْحاقَ الزَّجّاجُ، لَكِنَّ ظاهِرَ كَلامِهِ أنَّها بِنَصْبِ خَيْرٍ. قالَ: وقَدْ قَرَأ بِها خَلْقٌ كَثِيرٌ، وساقَ عَلَيْها مِثالًا قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎فَما كانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ واحِدٍ ولَكِنَّهُ بُنْيانُ قَوْمٍ تَهَدَّما بِنَصْبِ هُلْكٍ الثّانِي عَلى أنَّ الأوَّلَ بَدَلٌ، وعَلى هَذا يَكُونُ: ”أنَّما نُمْلِي“ بَدَلٌ، ”وخَيْرًا“: المَفْعُولُ الثّانِي أيْ إمْلاءَنا خَيْرًا. وأنْكَرَ أبُو بَكْرِ بْنُ مُجاهِدٍ هَذِهِ القِراءَةَ الَّتِي حَكاها الزَّجّاجُ، وزَعَمَ أنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِها أحَدٌ. وابْنُ مُجاهِدٍ في بابِ القِراءاتِ هو المَرْجُوعُ إلَيْهِ. وقالَ أبُو حاتِمٍ: سَمِعْتُ الأخْفَشَ يَذْكُرُ قُبْحَ أنْ يَحْتَجَّ بِها لِأهْلِ القَدَرِ؛ لِأنَّهُ كانَ مِنهم، ويَجْعَلُهُ عَلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ كَأنَّهُ قالَ: ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّما نُمْلِي لَهم لِيَزْدادُوا إثْمًا، أنَّما نُمْلِي لَهم خَيْرٌ لِأنْفُسِهِمْ. انْتَهى. وعَلى مَقالَةِ الأخْفَشِ يَكُونُ ”﴿إنَّما نُمْلِي لَهم لِيَزْدادُوا إثْمًا﴾“ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي، و”﴿أنَّما نُمْلِي لَهم خَيْرٌ﴾“ مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، أيْ إمْلاؤُنا لَهم خَيْرٌ لِأنْفُسِهِمْ. وجازَ الِابْتِداءُ بِأنَّ المَفْتُوحَةَ؛ لِأنَّ مَذْهَبَ الأخْفَشِ جَوازُ ذَلِكَ. ولِإشْكالِ هَذِهِ القِراءَةِ زَعَمَ أبُو حاتِمٍ وغَيْرُهُ أنَّها لَحْنٌ ورَدُّوها. وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ الألِفُ مِن إنَّما مَكْسُورَةٌ في هَذِهِ القِراءَةِ، وتَكُونَ ”إنَّ وما“ دَخَلَتْ عَلَيْهِ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي. وقالَ مَكِّيٌّ في (مُشْكِلِهِ): ما عَلِمْتُ أحَدًا قَرَأ ”تَحْسَبَنَّ“ بِالتّاءِ مِن فَوْقُ وكَسْرِ الألِفِ مِن إنَّما. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ والجُمْهُورُ يَحْسَبَنَّ بِالياءِ، وإعْرابُ هَذِهِ القِراءَةِ ظاهِرٌ؛ لِأنَّ الفاعِلَ هو الَّذِينَ كَفَرُوا، وسَدَّتْ ”﴿أنَّما نُمْلِي لَهم خَيْرٌ﴾“ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ يَحْسَبَنَّ كَما تَقُولُ: حَسِبْتُ أنَّ زَيْدًا قائِمٌ. وتَحْتَمِلُ ”ما“ في هَذِهِ القِراءَةِ وفي الَّتِي قَبْلَها أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنى الَّذِي، ومَصْدَرِيَّةً، أيْ: أنَّ الَّذِي نُمْلِي، وحُذِفَ العائِدُ أيْ عَلَيْهِ، وفِيهِ شَرْطُ جَوازِ الحَذْفِ مِن كَوْنِهِ مُتَّصِلًا مَعْمُولًا لِفِعْلٍ تامٍّ مُتَعَيَّنًا لِلرَّبْطِ، أوْ أنَّ إمْلاءَنا خَيْرٌ. وجَوَّزَ بَعْضُهم أنْ يُسْنَدَ الفِعْلُ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَيَكُونُ فاعِلُ الغَيْبِ كَفاعِلِ الخِطابِ، فَتَكُونُ القِراءَتانِ بِمَعْنًى واحِدٍ. وقَرَأ يِحَيَـى بْنُ وثّابٍ: ”ولا يَحْسَبَنَّ“ بِالياءِ، و”إنَّما نُمْلِي“ بِالكَسْرِ. فَإنْ كانَ الفِعْلُ مُسْنَدًا لِلنَّبِيِّ ﷺ فَيَكُونُ المَفْعُولُ الأوَّلُ الَّذِينَ كَفَرُوا، ويَكُونُ إنَّما نُمْلِي لَهم جُمْلَةً في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي. وإنْ كانَ مُسْنَدًا لِلَّذِينِ كَفَرُوا فَيَحْتاجُ يَحْسَبَنَّ إلى مَفْعُولَيْنِ. فَلَوْ كانَتْ ”أنَّما“ مَفْتُوحَةً سَدَّتْ مَسَدَّ المَفْعُولَيْنِ، ولَكِنَّ يَحْيَـى قَرَأ بِالكَسْرِ، فَخُرِّجَ عَلى ذَلِكَ التَّعْلِيقُ، فَكُسِرَتْ إنَّ، وإنْ لَمْ تَكُنِ اللّامُ في حَيِّزِها. والجُمْلَةُ المُعَلَّقُ عَنْها الفِعْلُ في مَوْضِعِ مَفْعُولَيْ يَحْسَبَنَّ، وهو بَعِيدٌ لِحَذْفِ اللّامِ نَظِيرَ تَعْلِيقِ الفِعْلِ عَنِ العَمَلِ، مَعَ حَذْفِ اللّامِ مِنَ المُبْتَدَأِ (p-١٢٤)كَقَوْلِهِ: ؎إنِّـي وجَـدْتُ مِلاكُ الشِّيمَـةِ الأدَبُ أيْ: لَمِلاكُ الشِّيمَةِ الأدَبُ، ولَوْلا اعْتِقادُ حَذْفِ اللّامِ لَنُصِبَ. وحَكى الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَحْيَـى بْنَ وثّابٍ قَرَأ بِكَسْرِ إنَّما الأُولى، وفَتْحِ الثّانِيَةِ. ووَجْهُ ذَلِكَ عَلى أنَّ المَعْنى: ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إنَّما نُمْلِي لَهم لِيَزْدادُوا إثْمًا كَما يَفْعَلُونَ، وإنَّما هو لِيَتُوبُوا ويَدْخُلُوا في الإيمانِ. والجُمْلَةُ مِن ”أنَّما نُمْلِي لَهم خَيْرٌ لِأنْفُسِهِمْ“ اعْتِراضٌ بَيْنَ الفِعْلِ ومَعْمُولِهِ، ومَعْناهُ: أنَّ إمْلاءَنا خَيْرٌ لِأنْفُسِهِمْ إنْ عَمِلُوا فِيهِ وعَرَفُوا إنْعامَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِتَفْسِيحِ المُدَّةِ، وتَرْكِ المُعاجَلَةِ بِالعُقُوبَةِ. وظاهِرُ ”الَّذِينَ كَفَرُوا“ العُمُومُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ في اليَهُودِ والنَّصارى والمُنافِقِينَ. وقالَ عَطاءٌ: في قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ. وقالَ مُقاتِلٌ: في مُشْرِكِي مَكَّةَ. وقالَ الزَّجّاجُ: هَؤُلاءِ قَوْمٌ أعْلَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ أبَدًا، ولَيْسَتْ في كُلِّ كافِرٍ، إذْ قَدْ يَكُونُ الإمْلاءُ مِمّا يُدْخِلُهُ في الإيمانِ، فَيَكُونُ أحْسَنَ لَهُ. وقالَ مَكِّيٌّ: هَذا هو الصَّحِيحُ مِنَ المَعانِي. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ الرَّدُّ عَلى الكُفّارِ في قَوْلِهِمْ: إنَّ كَوْنَنا ظاهِرِينَ مُمَوَّلِينَ أصِحَّةً دَلِيلٌ عَلى رِضا اللَّهِ بِحالِنا واسْتِقامَةِ طَرِيقَتِنا عِنْدَهُ. وأخْبَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّ ذَلِكَ التَّأْخِيرَ والإهْمالَ إنَّما هو إمْلاءٌ واسْتِدْراجٌ لِتَكْثِيرِ الآثامِ. قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: ما مِن نَفْسٍ بَرَّةٍ ولا فاجِرَةٍ إلّا والمَوْتُ خَيْرٌ لَها، أمّا البَرَّةُ فَلْتُسْرِعْ إلى رَحْمَةِ اللَّهِ. وقَرَأ: ﴿وما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأبْرارِ﴾ [آل عمران: ١٩٨] وأمّا الفاجِرَةُ فَلِئَلّا تَزْدادَ إثْمًا، وقَرَأ هَذِهِ الآيَةَ. انْتَهى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والإمْلاءُ لَهم تَخْلِيَتُهم، وشَأْنُهم مُسْتَعارٌ مِن: أمْلى لِفَرَسِهِ، إذا أرْخى لَهُ الطُولَ لِيَرْعى كَيْفَ شاءَ. وقِيلَ: هو إمْهالُهم وإطالَةُ عُمْرِهِمْ، والمَعْنى: أنَّ الإمْلاءَ خَيْرٌ لَهم مِن مَنعِهِمْ أوْ قَطْعِ آجالِهِمْ، أنَّما نُمْلِي لَهم جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ تَعْلِيلٌ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَها، كَأنَّهُ قِيلَ: ما بالُهم يَحْسَبُونَ الإمْلاءَ خَيْرًا لَهم، فَقِيلَ: إنَّما نُمْلِي لَهم لِيَزْدادُوا إثْمًا. (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ جازَ أنْ يَكُونَ ازْدِيادَ الإثْمِ غَرَضًا لِلَّهِ تَعالى في إمْلائِهِ لَهم ؟ (قُلْتُ): هو عِلَّةُ الإمْلاءِ، وما كُلُّ عِلَّةٍ بِغَرَضٍ. ألا تَراكَ تَقُولُ: قَعَدْتُ عَنِ الغَزْوِ لِلْعَجْزِ والفاقَةِ، وخَرَجْتُ مِنَ البَلَدِ لِمَخافَةِ الشَّرِّ، ولَيْسَ شَيْءٌ مِنها بِغَرَضٍ لَكَ، وإنَّما هي عِلَلٌ وأسْبابٌ. فَكَذَلِكَ ازْدِيادُ الإثْمِ جُعِلَ عِلَّةً لِلْإمْلاءِ، وسَبَبًا فِيهِ. (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ يَكُونُ ازْدِيادُ الإثْمِ عِلَّةً لِلْإمْلاءِ، كَما كانَ العَجْزُ عِلَّةً لِلْقُعُودِ عَنِ الحَرْبِ ؟ (قُلْتُ): لَمّا كانَ في عِلْمِ اللَّهِ المُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ أنَّهم مُزْدادُونَ إثْمًا، فَكانَ الإمْلاءُ وقَعَ لِأجْلِهِ وبِسَبَبِهِ عَلى طَرِيقِ المَجازِ. انْتَهى كَلامُهُ. وكُلُّهُ جارٍ عَلى طَرِيقَةِ المُعْتَزِلَةِ. وقالَ الماتُرِيدِيُّ: المُعْتَزِلَةُ تَناوَلُوها عَلى وجْهَيْنِ، أحَدُهُما: عَلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ. أيْ: ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إنَّما نُمْلِي لَهم لِيَزْدادُوا إثْمًا، أنَّما نُمْلِي لَهم خَيْرٌ لِأنْفُسِهِمْ. الثّانِي: أنَّ هَذا إخْبارٌ مِنهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ حُسْبانِهِمْ فِيما يَئُولُ إلَيْهِ أمْرُهم في العاقِبَةِ، بِمَعْنى أنَّهم حَسِبُوا أنَّ إمْهالَهم في الدُّنْيا وإصابَتَهُمُ الصِّحَّةَ والسَّلامَةَ والأمْوالَ خَيْرٌ لِأنْفُسِهِمْ في العاقِبَةِ، بَلْ عاقِبَةُ ذَلِكَ شَرٌّ. وفي التَّأْوِيلِ إفْسادُ النَّظْمِ، وفي الثّانِي تَنْبِيهٌ عَلى مَن لا يَجُوزُ تَنْبِيهُهُ. فَإنَّ الإخْبارَ عَنِ العاقِبَةِ يَكُونُ لِسَهْوٍ في الِابْتِداءِ أوْ غَفْلَةٍ، والعالِمُ في الِابْتِداءِ لا يُنَبِّهُ نَفْسَهُ. انْتَهى كَلامُهُ. وكَتَبُوا ”ما“ مُتَّصِلَةً بِأنْ في المَوْضِعَيْنِ. قِيلَ: وكانَ القِياسُ الأوْلى في عِلْمِ الخَطِّ أنْ تُكْتَبَ مَفْصُولَةً، ولَكِنَّها وقَعَتْ في الإمامِ مُتَّصِلَةً فَلا تُخالَفُ، ونَتَّبِعُ سُنَّةَ الإمامِ في المَصاحِفِ. وأمّا الثّانِيَةُ، فَحَقُّها أنْ تُكْتَبَ مُتَّصِلَةً؛ لِأنَّها كافَّةٌ دُونَ العَمَلِ، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنى الَّذِي، ولا مَصْدَرِيَّةً؛ لِأنَّ لازِمَ كَيْ لا يَصِحَّ وُقُوعُها خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ ولا لِنَواسِخِهِ. وقِيلَ: اللّامُ في لِيَزْدادُوا لِلصَّيْرُورَةِ. ﴿ولَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾: هَذِهِ الواوُ في: ولَهم لِلْعَطْفِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): فَما مَعْنى قَوْلِهِ: ”﴿ولَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾“ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ، يَعْنِي قِراءَةَ يَحْيَـى بْنِ وثّابٍ بِكَسْرِ إنَّما الأُولى وفَتْحِ الثّانِيَةِ ؟ (قُلْتُ): مَعْناهُ ولا تَحْسَبُوا أنَّ إمْلاءَنا لِزِيادَةِ الإثْمِ ولِلتَّعْذِيبِ، والواوُ لِلْحالِ. كَأنَّهُ قِيلَ: لِيَزْدادُوا إثْمًا مُعَدًّا لَهم عَذابٌ مُهِينٌ. انْتَهى. والَّذِينَ نَقَلُوا قِراءَةَ يَحْيَـى لَمْ يَذْكُرُوا أنَّ أحَدًا قَرَأ الثّانِيَةَ بِالفَتْحِ إلّا هو، إنَّما ذَكَرُوا أنَّهُ قَرَأ الأُولى بِالكَسْرِ. ولَكِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ (p-١٢٥)مِن وُلُوعِهِ بِنُصْرَةِ مَذْهَبِهِ يَرُومُ رَدَّ كُلِّ شَيْءٍ إلَيْهِ. ولَمّا قَرَّرَ في هَذِهِ القِراءَةِ أنَّ المَعْنى عَلى نَهْيِ الكافِرِ أنْ يَحْسَبَ أنَّما يُمْلِي اللَّهُ لِزِيادَةِ الإثْمِ، وأنَّهُ إنَّما يُمْلِي لِأجْلِ الخَيْرِ كانَ قَوْلُهُ: ”﴿ولَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾“ يَدْفَعُ هَذا التَّفْسِيرَ، فَخُرِّجَ ذَلِكَ عَلى أنَّ الواوَ لِلْحالِ حَتّى يَزُولَ هَذا التَّدافُعَ الَّذِي بَيْنَ هَذِهِ القِراءَةِ وبَيْنَ ظاهِرِ آخِرِ الآيَةِ. ووَصَفَ تَعالى عَذابَهُ في مَقاطِعِ هَذِهِ الآياتِ الثَّلاثِ: بِعَظِيمٍ، وألِيمٍ، ومَهِينٍ. ولِكُلٍّ مِن هَذِهِ الصِّفاتِ مُناسَبَةٌ تَقْتَضِي خَتْمَ الآيَةِ بِها. أمّا الأُولى فَإنَّ المُسارَعَةَ في الشَّيْءِ والمُبادَرَةَ في تَحْصِيلِهِ والتَّحَلِّي بِهِ يَقْتَضِي جَلالَةَ ما سُورِعَ فِيهِ، وأنَّهُ مِنَ النَّفاسَةِ والعِظَمِ بِحَيْثُ يَتَسابَقُ فِيهِ، فَخُتِمَتِ الآيَةُ بِعِظَمِ الثَّوابِ وهو جَزاؤُهم عَلى المُسارَعَةِ في الكُفْرِ إشْعارًا بِخَساسَةِ ما سابَقُوا فِيهِ. وأمّا الثّانِيَةُ فَإنَّهُ ذَكَرَ فِيها اشْتِراءَ الكُفْرِ بِالإيمانِ، ومِن عادَةِ المُشْتَرِي الِاغْتِباطُ بِما اشْتَراهُ والسُّرُورُ بِهِ والفَرَحُ، فَخُتِمَتِ الآيَةُ؛ لِأنَّ صَفْقَتَهُ خَسِرَتْ بِألَمِ العَذابِ، كَما يَجِدُهُ المُشْتَرِي المَغْبُونُ في تِجارَتِهِ. وأمّا الثّالِثَةُ فَإنَّهُ ذَكَرَ الإمْلاءَ وهو الإمْتاعُ بِالمالِ والبَنِينِ والصِّحَّةِ، وكانَ هَذا الإمْتاعُ سَبَبًا لِلتَّعَزُّزِ والتَّمَتُّعِ والِاسْتِطاعَةِ، فَخُتِمَتِ الآيَةُ بِإهانَةِ العَذابِ لَهم. وأنَّ ذَلِكَ الإمْلاءَ المُنْتَجَ عَنْهُ في الدُّنْيا التَّعَزُّزُ والِاسْتِطالَةُ مَآلُهُ في الآخِرَةِ إلى إهانَتِهِمْ بِالعَذابِ الَّذِي يُهِينُ الجَبابِرَةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب