الباحث القرآني

﴿فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾: أيْ مَسْرُورِينَ بِما أعْطاهُمُ اللَّهُ مِن قُرْبِهِ، ودُخُولِ جَنَّتِهِ، ورَزَقَهم فِيها، إلى سائِرِ ما أكْرَمَهم بِهِ، ولا تَعارُضَ بَيْنَ: فَرِحِينَ، وبَيْنَ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ﴾ [القصص: ٧٦] في قِصَّةِ قارُونَ؛ لِأنَّ ذاكَ بِالمَلاذِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وهَذا بِالمَلاذُ الأُخْرَوِيَّةُ؛ ولِذَلِكَ جاءَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ، فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وجاءَ: ﴿وفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنافَسِ المُتَنافِسُونَ﴾ [المطففين: ٢٦] . ومِن يَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ لِلسَّبَبِ، أيْ: ما آتاهُمُ اللَّهُ مُتَسَبَّبٌ عَنْ فَضْلِهِ، فَتَتَعَلَّقُ الباءُ بِآتاهم. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ، فَتَكُونُ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المَحْذُوفِ العائِدِ عَلى ”ما“، أيْ: بِما آتاهُمُوهُ اللَّهُ كائِنًا مِن فَضْلِهِ. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِابْتِداءِ الغايَةِ، فَتَتَعَلَّقُ بِآتاهم. وجَوَّزُوا في فَرِحِينَ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ في يُرْزَقُونَ، أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في الظَّرْفِ، أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في أحْياءٍ، وأنْ يَكُونَ صِفَةً لِأحْياءٍ إذا نُصِبَ. ﴿ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِن خَلْفِهِمْ﴾: وهم جَمِيعُ المُؤْمِنِينَ، أيْ: يَحْصُلُ لَهُمُ البُشْرى بِانْتِفاءِ الخَوْفِ والحُزْنِ عَنْ إخْوانِهِمُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ في الشَّهادَةِ، فَهم فَرِحُونَ بِما حَصَلَ لَهم، مُسْتَبْشِرُونَ بِما يَحْصُلُ لِإخْوانِهِمُ المُؤْمِنِينَ. قالَهُ الزَّجّاجُ وابْنُ فُورَكٍ وغَيْرُهُما. وقالَ قَتادَةُ وابْنُ جُرَيْجٍ والرَّبِيعُ وغَيْرُهم: هُمُ الشُّهَداءُ الَّذِينَ يَأْتُونَهم بَعْدُ مِن إخْوانِهِمُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَرَكُوهم يُجاهِدُونَ فَيَسْتَشْهِدُونَ، فَرِحُوا لِأنْفُسِهِمْ ولِمَن يَلْحَقُ بِهِمْ مِنَ الشُّهَداءِ، إذْ يَصِيرُونَ إلى ما صارُوا إلَيْهِ مِن كَرامَةِ اللَّهِ تَعالى. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولَيْسَتِ اسْتَفْعَلْ في هَذا المَوْضِعِ بِمَعْنى طَلَبِ البِشارَةِ، بَلْ هي بِمَعْنى اسْتَغْنى اللَّهُ واسْتَمْجَدَ المَرْخُ والعَفارُ. انْتَهى كَلامُهُ. أمّا قَوْلُهُ: لَيْسَتْ بِمَعْنى طَلَبِ البِشارَةِ فَصَحِيحٌ، وأمّا قَوْلُهُ: بَلْ هي بِمَعْنى اسْتَغْنى اللَّهُ واسْتَمْجَدَ المَرْخُ والعَفارُ، فَيَعْنِي أنَّها تَكُونُ بِمَعْنى الفِعْلِ المُجَرَّدِ كاسْتَغْنى بِمَعْنى غَنِيَ، واسْتَمْجَدَ بِمَعْنى مَجَّدَ، ونُقِلَ أنَّهُ يُقالُ: بُشِّرَ الرَّجُلُ بِكَسْرِ الشِّينِ، فَيَكُونُ اسْتَبْشَرْ بِمَعْناهُ. ولا يَتَعَيَّنُ هَذا المَعْنى، بَلْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ (p-١١٥)مُطاوِعًا لِأفْعَلَ، وهو الأظْهَرُ، أيْ: أبْشَرَهُ اللَّهُ فاسْتَبْشَرَ، كَقَوْلِهِمْ: أكانَهُ فاسْتَكانَ، وأشْلاهُ فاسْتَشْلى، وأراحَهُ فاسْتَراحَ، وأحْكَمَهُ فاسْتَحْكَمَ، وأكَنَّهُ فاسْتَكَنَّ، وأمَرَهُ فاسْتَمَرَّ، وهو كَثِيرٌ. وإنَّما كانَ هَذا الأظْهَرُ هُنا؛ لِأنَّهُ مِن حَيْثُ المُطاوَعَةِ يَكُونُ مُنْفَعِلًا عَنْ غَيْرِهِ، فَحَصَلَتْ لَهُ البُشْرى بِإبْشارِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ. ولا يَلْزَمُ هَذا المَعْنى إذا كانَ بِمَعْنى المُجَرَّدِ؛ لِأنَّهُ لا يَدُلُّ عَلى المُطاوَعَةِ. ومَعْنى: ”مِن خَلْفِهِمْ“، قَدْ بَقُوا بَعْدَهم، وهم قَدْ تَقَدَّمُوهم، إذا كانَ المَعْنى بِالَّذِينِ لَمْ يَلْحَقُوا الشُّهَداءَ، وإنْ كانَ المَعْنِيُّ بِهِمُ المُؤْمِنِينَ فَمَعْنى لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ أيْ: لَمْ يُدْرِكُوا فَضْلَهم ومَنزِلَتَهم. ﴿أنْ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾: وجَوَّزُوا في إعْرابِ ويَسْتَبْشِرُونَ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى فَرِحِينَ ومُسْتَبْشِرِينَ، كَقَوْلِهِ: ”﴿صافّاتٍ ويَقْبِضْنَ﴾ [الملك: ١٩]“ أيْ قابِضاتٍ، وأنْ يَكُونَ عَلى إضْمارِهِمْ. والواوُ لِلْحالِ، فَتَكُونُ حالِيَّةً مِنَ الضَّمِيرِ في فَرِحِينَ، أوْ مِن ضَمِيرِ المَفْعُولَيْ في آتاهم، أوْ لِلْعَطْفِ، ويَكُونُ مُسْتَأْنَفًا مِن بابِ عَطْفِ الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ أوِ الفِعْلِيَّةِ عَلى نَظِيرِها. وإنْ هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، واسْمُها مَحْذُوفُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، وخَبَرُها الجُمْلَةُ المَنفِيَّةُ بِلا. وإنَّ ما بَعْدَها في تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ عَلى أنَّهُ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِنَ الَّذِينَ، فَيَكُونُ هو المُسْتَبْشَرُ بِهِ في الحَقِيقَةِ. أوْ مَنصُوبٌ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، فَيَكُونُ عِلَّةً لِلِاسْتِبْشارِ، والمُسْتَبْشَرُ بِهِ غَيْرُهُ، التَّقْدِيرُ: لِأنَّهُ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ. والذَّواتُ لا يُسْتَبْشَرُ بِها، فَلا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ مُضافٍ مُناسِبٍ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ، فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ. وفِي ذِكْرِ حالِ الشُّهَداءِ واسْتِبْشارِهِمْ بِمَن خَلْفَهم بَعْثٌ لِلْباقِينَ بَعْدَهم عَلى ازْدِيادِ الطّاعَةِ، والجِدِّ في الجِهادِ، والرَّغْبَةِ في نَيْلِ مَنازِلِ الشُّهَداءِ وإصابَةِ فَضْلِهِمْ، وإحْمادٍ لِحالِ مَن يَرى نَفْسَهُ في خَيْرٍ، فَيَتَمَنّى مِثْلَهُ لِإخْوانِهِ في اللَّهِ، وبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ بِالفَوْزِ في المَآبِ. قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وهو كَلامٌ حَسَنٌ. قِيلَ: وتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ مِن ضُرُوبِ البَدِيعِ: الطِّباقَ في قَوْلِهِ: ”لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ“ الآيَةَ، إذِ التَّقْدِيرُ: مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالهِدايَةِ، فَيَكُونُ في هَذا المُقَدَّرِ. وفي قَوْلِهِ: ”في ضَلالٍ مُبِينٍ“، وفي: ”يَقُولُونَ بِأفْواهِهِمْ“، والقَوْلُ ظاهِرٌ و”يَكْتُمُونَ“ . وفي ”قالُوا لِإخْوانِهِمْ وقَعَدُوا“، إذِ التَّقْدِيرُ: حِينَ خَرَجُوا وقَعَدُوا هم. وفي: ”أمْواتًا بَلْ أحْياءٌ“ وفي: فَرِحِينَ ويَحْزَنُونَ. والتَّكْرارَ في: ”ولِيَعْلَمَ المُؤْمِنِينَ“، ”ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا“ الِاخْتِلافُ مُتَعَلِّقُ العِلْمِ. وفي فَرِحِينَ ويَسْتَبْشِرُونَ، والتَّجْنِيسَ المُغايِرَ في: أصابَتْكم مُصِيبَةٌ، والمُماثِلَ في: أصابَتْكم، قَدْ أصَبْتُمْ، والِاسْتِفْهامَ الَّذِي يُرادُ بِهِ الإنْكارُ في: ”أوَلَمّا أصابَتْكم“، والِاحْتِجاجَ النَّظَرِيَّ في: ”قُلْ فادْرَءُوا عَنْ أنْفُسِكم“، والتَّأْكِيدَ في: ”ولا هم يَحْزَنُونَ“، والحَذْفَ في عِدَّةِ مَواضِعَ لا يَتِمُّ المَعْنى إلّا بِتَقْدِيرِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب