الباحث القرآني

﴿قُلْ أؤُنَبِّئُكم بِخَيْرٍ مِن ذَلِكم لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها وأزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِالعِبادِ﴾ ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إنَّنا آمَنّا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وقِنا عَذابَ النّارِ﴾ ﴿الصّابِرِينَ والصّادِقِينَ والقانِتِينَ والمُنْفِقِينَ والمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحارِ﴾ ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو والمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ قائِمًا بِالقِسْطِ لا إلَهَ إلّا هو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [آل عمران: ١٨] . الرِّضْوانُ: مَصْدَرُ رَضِيَ، وكَسْرُ رائِهِ لُغَةُ الحِجازِ، وضَمُّها لُغَةُ تَمِيمٍ وبَكْرٍ، وقَيْسٍ، وغَيْلانَ. وقِيلَ: الكَسْرُ لِلِاسْمِ، ومِنهُ: رِضْوانٌ خازِنُ الجَنَّةِ، والضَّمُّ لِلْمَصْدَرِ. السَّحَرُ: بِفَتْحِ الحاءِ، وسُكُونِها، قالَ قَوْمٌ مِنهُمُ الزَّجّاجُ: الوَقْتُ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ، ومِنهُ يُقالُ: تَسَحَّرَ أكْلَ في ذَلِكَ الوَقْتِ، واسْتَحَرَ: سارَ فِيهِ قالَ. ؎بَكَّرْنَ بُكُورًا واسْتَحَرَتْ بِسَحْرَةٍ فَهُنَّ لِوادِي الرَّسِّ كاليَدِ لِلْفَمِ واسْتَحَرَ الطّائِرُ: صاحَ وتَحَرَّكَ فِيهِ قالَ: ؎يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أنْيابِها ∗∗∗ إذا غَرَّدَ الطّائِرُ المُسْتَحِرْ وأسْحَرَ الرَّجُلُ واسْتَحَرَ: دَخَلَ في السَّحَرِ قالَ: ؎وأدْلَجَ مِن طِيبَةَ مُسْرِعًا ∗∗∗ فَجاءَ إلَيْنا وقَدْ أسْحَرا وقالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ السِّحْرُ: مِن ثُلُثِ اللَّيْلِ الآخَرِ إلى الفَجْرِ، وجاءَ في بَعْضِ الأشْعارِ عَنِ العَرَبِ أنَّ السَّحَرَ يَسْتَمِرُّ حُكْمُهُ فِيما بَعْدُ الفَجْرِ. وقِيلَ: السَّحَرُ عِنْدَ العَرَبِ يَكُونُ مِن آخِرِ اللَّيْلِ ثُمَّ يَسْتَمِرُّ إلى الإسْفارِ. وأصْلُ السَّحَرِ الخَفاءُ لِلِطْفَةٍ، ومِنهُ السِّحْرُ والسَّحْرُ. ﴿قُلْ أؤُنَبِّئُكم بِخَيْرٍ مِن ذَلِكُمْ﴾ نَزَلَتْ (p-٣٩٩)حِينَ قالَ عُمَرُ عِنْدَما نَزَلَ: ﴿زُيِّنَ لِلنّاسِ﴾ [آل عمران: ١٤] يا رَبِّ الآنَ حِينَ زَيَّنْتَها. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّ ﴿عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ﴾ [آل عمران: ١٤] ذَكَرَ المَآبَ وأنَّهُ خَيْرٌ مِن مَتاعِ الدُّنْيا، لِأنَّهُ خَيْرٌ خالٍ مِن شَوْبِ المَضارِّ؛ وباقٍ لا يَنْقَطِعُ. والهَمْزَةُ في: أؤُنَبِّئُكم، الأُولى هَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِ دَخَلَتْ عَلى هَمْزَةِ المُضارَعَةِ، وقُرِئَ في السَّبْعَةِ بِتَحْقِيقِ الهَمْزَتَيْنِ مِن غَيْرِ إدْخالِ ألِفٍ بَيْنَهُما، وبِتَحْقِيقِهِما، وإدْخالِ ألِفٍ بَيْنَهُما، وبِتَسْهِيلِ الثّانِيَةِ مِن غَيْرِ ألِفٍ بَيْنَهُما. ونَقَلَ ورْشٌ الحَرَكَةَ إلى اللّامِ، وحَذَفَ الهَمْزَةَ. وبِتَسْهِيلِها وإدْخالِ ألِفٍ بَيْنَهُما. وفي هَذِهِ الآيَةِ تَسْلِيَةٌ عَنْ زَخارِفِ الدُّنْيا، وتَقْوِيَةٌ لِنُفُوسِ تارِكِها، وتَشْرِيفٌ الِالتِفاتِ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ، ولَمّا قالَ: ذَلِكَ مَتاعُ، فَأفْرَدَ، جاءَ بِخَيْرٍ مِن ذَلِكم، فَأفْرَدَ اسْمَ الإشارَةِ، وإنْ كانَ هُناكَ مُشارًا بِهِ إلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وهو كَثِيرٌ. فَهَذا مُشارٌ بِهِ إلى ما أُشِيرَ بِذَلِكَ، وخَيْرٌ، هُنا أفْعَلُ التَّفْضِيلِ، ولا يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ خَيْرٌ مِنَ الخُيُورِ، ويَكُونُ: مِن ذَلِكم، صِفَةً لِما يَلْزَمُ في ذَلِكَ مِن أنْ يَكُونَ ما رَغِبُوا فِيهِ بَعْضًا مِمّا زَهِدُوا فِيهِ. ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِلَّذِينَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: بِخَيْرٍ مِن ذَلِكم، وجَنّاتٌ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْ: هو جَنّاتٌ، فَتَكُونُ ذَلِكَ تَبْيِينًا لِما أُبْهِمَ في قَوْلِهِ: بِخَيْرٍ مِن ذَلِكم، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِراءَةُ يَعْقُوبَ: جَنّاتٍ، بِالجَرِّ بَدَلًا مِن: بِخَيْرٍ، كَما تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلِ زَيْدٍ، بِالرَّفْعِ، وزَيْدٍ بِالجَرِّ، وجَوَّزَ في قِراءَةِ يَعْقُوبَ أنْ يَكُونَ: جَنّاتٌ، مَنصُوبًا عَلى إضْمارِ: أعْنِي، ومَنصُوبًا عَلى البَدَلِ عَلى مَوْضِعِ بِخَيْرٍ، لِأنَّهُ نُصِبَ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ: لِلَّذِينَ، خَبَرًا لِجَنّاتٍ، عَلى أنْ تَكُونَ مُرْتَفِعَةً عَلى الِابْتِداءِ، ويَكُونَ الكَلامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: بِخَيْرٍ مِن ذَلِكم، ثُمَّ بَيْنَ ذَلِكَ الخَيْرَ لِمَن هو؛ فَعَلى هَذا العامِلِ في: عِنْدَ رَبِّهِمْ، العامِلُ في: لِلَّذِينَ، وعَلى القَوْلِ الأوَّلِ العامِلِ فِيهِ قَوْلُهُ: بِخَيْرٍ. ﴿خالِدِينَ فِيها وأزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذا وما قَبْلُهُ. ﴿ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ﴾ بَدَأ أوَّلًا بِذِكْرِ المَقِرِّ، وهو الجَنّاتُ الَّتِي قالَ فِيها ﴿وفِيها ما تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وتَلَذُّ الأعْيُنُ﴾ [الزخرف: ٧١] «فِيها ما لا عَيْنٌ رَأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعْتُ ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٌ» ثُمَّ انْتَقَلَ مِن ذِكْرِها إلى ذِكْرِ ما يَحْصُلُ بِهِ الأُنْسُ التّامُّ مِنَ الأزْواجِ المُطَهَّرَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِن ذَلِكَ إلى ما هو أعْظَمُ الأشْياءِ وهو رِضا اللَّهِ عَنْهم، فَحَصَلَ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ اللَّذَّةِ الجُسْمانِيَّةِ والفَرَحِ الرَّوْحانِيِّ، حَيْثُ عَلِمَ بِرِضا اللَّهِ عَنْهُ، كَما جاءَ في الحَدِيثِ أنَّهُ تَعالى: ”«يَسْألُ أهْلَ الجَنَّةِ هَلْ رَضِيمْ ؟ فَيَقُولُونَ: ما لَنا لا نَرْضى يا رَبِّ وقَدْ أعْطَيْتِنا ما لَمْ تُعْطِ أحَدًا مِن خَلْقِكَ ؟ فَيَقُولُ: ألا أُعْطِيَكم أفْضَلَ مِن ذَلِكَ ؟ فَيَقُولُونَ: يا رَبِّ وأيُّ شَيْءٍ أفْضَلَ مِن ذَلِكَ ؟ قالَ: أحِلُّ عَلَيْكم رِضْوانِي فَلا أسْخَطُ عَلَيْكم أبَدًا» . فَفي هَذِهِ الآيَةِ الِانْتِقالُ مِن عالٍ إلى أعْلى مِنهُ، ولِذَلِكَ جاءَ في سُورَةِ بَراءَةَ، قَدْ ذَكَرَ تَعالى الجَنّاتَ والمَساكِنَ الطَّيِّبَةَ فَقالَ: ﴿ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢] يُعْنى: أكْبَرُ مِمّا ذَكَرَ مِنَ الجَنّاتِ والمَساكِنِ. وقالَ الماتُرِيدِيُّ: أهْلُ الجَنَّةِ مُطَهَّرُونَ؛ لِأنَّ العُيُوبَ في الأشْياءِ عِلْمُ الفَناءِ، وهم خُلِقُوا لِلْبَقاءِ، وخَصَّ النِّساءَ بِالطُّهْرِ لِما فِيهِنَّ في الدُّنْيا مِن فَضْلِ المَعايِبِ والأذى. وقالَ أبُو بَكْرٍ: ورِضْوانٌ، بِالضَّمِّ حَيْثُ وقَعَ إلّا في ثانِي العُقُودِ، فَعَنْهُ خِلافٌ. وباقِي السَّبْعَةِ بِالكَسْرِ، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّهُما لُغَتانِ. * * * ﴿واللَّهُ بَصِيرٌ بِالعِبادِ﴾ أيْ: بَصِيرٌ بِأعْمالِهِمْ، مُطَّلِعٌ عَلَيْها، فَيُجازِي كُلًا بِعَمَلِهِ؛ فَتَضَمَّنَتِ الوَعْدَ والوَعِيدَ. ولَمّا ذَكَرَ المُتَّقِينَ أفْهَمُ مُقابِلَهم فَخَتَمَ الآيَةَ بِهَذا. ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إنَّنا آمَنّا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وقِنا عَذابَ النّارِ﴾ لَمّا ذَكَرَ أنَّ الجَنَّةَ لِلْمُتَّقِينَ ذَكَرَ شَيْئًا مِن صِفاتِهِمْ، فَبَدَأ بِالإيمانِ الَّذِي هو رَأْسُ التَّقْوى، وذَكَرَ دُعاءَهم رَبَّهم عِنْدَ الإخْبارِ عَنْ أنْفُسِهِمْ بِالإيمانِ، وأكَّدَ الجُمْلَةَ بِأنَّ مُبالَغَةً في الإخْبارِ، ثُمَّ سَألُوا الغُفْرانَ ووِقايَتَهم مِنَ العَذابِ؛ مُرَتِّبًا ذَلِكَ عَلى مُجَرَّدِ الإيمانِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ الإيمانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ المَغْفِرَةُ، ولا يَكُونُ الإيمانُ عِبارَةً عَنْ سائِرِ الطّاعاتِ، كَما يَذْهَبُ إلَيْهِ بَعْضُهم، لِأنَّ مَن تابَ وأطاعَ اللَّهَ؛ لا يُدْخِلُهُ النّارَ بِوَعْدِهِ (p-٤٠٠)الصّادِقِ، فَكانَ يَكُونُ السُّؤالُ في أنْ لا يَفْعَلَهُ مِمّا لا يَنْبَغِي، ونَظِيرُها، ﴿رَبَّنا إنَّنا سَمِعْنا مُنادِيًا﴾ [آل عمران: ١٩٣] الآيَةَ، فالصِّفاتُ الآتِيَةُ بَعْدَ هَذا لَيْسَتْ شَرائِطَ، بَلْ هي صِفاتٌ تَقْتَضِي كَمالَ الدَّرَجاتِ. وقالَ الماتُرِيدِيُّ: مَدَحَهم تَعالى بِهَذا القَوْلِ، وفِيهِ تَزْكِيَةُ أنْفُسِهِمْ بِالإيمانِ، واللَّهُ تَعالى نَهى عَنْ تَزْكِيَةِ الأنْفُسِ بِالطّاعاتِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿فَلا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النجم: ٣٢] فَلَوْ كانَ الإيمانُ اسْمًا لِجَمِيعِ الطّاعاتِ؛ لَمْ يَرْضَ مِنهُمُ التَّزْكِيَةَ بِالإيمانِ، كَما لَمْ يَرْضَها بِسائِرِ الطّاعاتِ، فالآيَةُ حُجَّةُ مَن جَعَلَ الطّاعاتِ مِنَ الإيمانِ، وفِيها دَلالَةٌ عَلى أنَّ إدْخالَ الِاسْتِثْناءِ في الإيمانِ باطِلٌ؛ لِأنَّهُ رَضِيَهُ مِنهم دُونَ اسْتِثْناءٍ انْتَهى. قِيلَ: ولا تَدُلُّ عَلى شَيْءٍ مِنَ التَّزْكِيَةِ، ولا مِنَ الِاسْتِثْناءِ، لِأنَّ قَوْلَهم: آمَنّا، هو اعْتِرافٌ بِما أُمِرُوا بِهِ، فَلا يَكُونُ ذَلِكَ تَزْكِيَةً مِنهم لِأنْفُسِهِمْ، ولِأنَّ الِاسْتِثْناءَ إنَّما هو فِيما يَمُوتُ عَلَيْهِ المَرْءُ، لا فِيما هو مُتَّصِفٌ بِهِ، ولا قائِلٌ بِأنَّ الإيمانَ الَّذِي يَتَّصِفُ بِهِ العَبْدُ يَجُوزُ الِاسْتِثْناءُ فِيهِ؛ فَإنَّ ذَلِكَ مُحالٌ عَقْلًا. وأُعْرِبَ: الَّذِينَ يَقُولُونَ، صِفَةً وبَدَلًا، ومَقْطُوعًا لِرَفْعٍ، أوْ لِنَصْبٍ، ويَكُونُ ذَلِكَ مِن تَوابِعِ: (الَّذِينَ اتَّقَوْا) أوْ مِن تَوابِعِ: العِبادِ، والأوَّلُ أظْهَرُ. ﴿الصّابِرِينَ والصّادِقِينَ والقانِتِينَ والمُنْفِقِينَ والمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحارِ﴾ لَمّا ذَكَرَ الإيمانَ بِالقَوْلِ، أخْبَرَ بِالوَصْفِ الدّالِّ عَلى حَبْسِ النَّفْسِ عَلى ما هو شاقٌّ عَلَيْها مِنَ التَّكالِيفِ؛ فَصَبَرُوا عَلى أداءِ الطّاعَةِ، وعَنِ اجْتِنابِ المَحارِمِ، ثُمَّ بِالوَصْفِ الدّالِّ عَلى مُطابَقَةِ الِاعْتِقادِ في القَلْبِ لِلَّفْظِ النّاطِقِ بِهِ اللِّسانُ، فَهم صادِقُونَ فِيما أخْبَرُوا بِهِ مِن قَوْلِهِمْ: ﴿رَبَّنا إنَّنا آمَنّا﴾ وفي جَمِيعِ ما يُخْبِرُونَ. وقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ صَدَقَتْ نِيّاتُهم، واسْتَقامَتْ قُلُوبُهم وألْسِنَتُهم في السِّرِّ والعَلانِيَةِ، وهَذا راجِعٌ لِلْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ؛ ثُمَّ بِوَصْفِ القُنُوتِ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ في قَوْلِهِ: ﴿كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ﴾ [البقرة: ١١٦] فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ، ثُمَّ بِوَصْفِ الإنْفاقِ؛ لِأنَّ ما تَقَدَّمَ هو مِنَ الأوْصافِ الَّتِي نَفْعُها مُقْتَصِرٌ عَلى المُتَّصِفِ بِها، لا يَتَعَدّى، فَأتى في هَذا بِالوَصْفِ المُتَعَدِّي إلى غَيْرِهِ، وهو الإنْفاقُ، وحُذِفَتْ مُتَعَلِّقاتُ هَذِهِ الأوْصافِ لِلْعِلْمِ بِها، فالمَعْنى: الصّابِرِينَ عَلى تَكالِيفِ رَبِّهِمْ، والصّادِقِينَ في أقْوالِهِمْ، والقانِتِينَ لِرَبِّهِمْ، والمُنْفِقِينَ أمْوالَهم في طاعَتِهِ، والمُسْتَغْفِرِينَ اللَّهَ لِذُنُوبِهِمْ في الأسْحارِ، ولَمّا ذَكَرَ أنَّهم رَتَّبُوا طَلَبَ المَغْفِرَةِ عَلى الإيمانِ الَّذِي هو أصْلُ التَّقْوى، أخْبَرَ أيْضًا عَنْهم، أنَّهم عِنْدَ اتِّصافِهِمْ بِهَذِهِ الأوْصافِ الشَّرِيفَةِ، هم مُسْتَغْفِرُونَ بِالأسْحارِ، فَلَيْسُوا يَرَوْنَ اتِّصافَهم بِهَذِهِ الأوْصافِ الشَّرِيفَةِ مِمّا يُسْقِطُ عَنْهم طَلَبَ المَغْفِرَةِ، وخَصَّ السَّحَرَ بِالذِّكْرِ، وإنْ كانُوا مُسْتَغْفِرِينَ دائِمًا، لِأنَّهُ مَظِنَّةٌ الإجابَةِ، كَما صَحَّ في الحَدِيثِ: «أنَّهُ تَعالى، تَنَزَّهَ عَنْ سِماتِ الحُدُوثِ، يَنْزِلُ حِينَ يَبْقى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخَرِ يَقُولُ: مَن يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَن يَسْألُنِي فَأُعْطِيَهُ ؟ مَن يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ ؟ فَلا يَزالُ كَذَلِكَ حَتّى يَطْلَعَ الفَجْرُ» . وكانَتِ الصَّحابَةُ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عُمَرَ، وغَيْرُهم يَتَحَرَّوْنَ الأسْحارَ لِيَسْتَغْفِرُوا فِيها؛ وكانَ السَّحَرُ مُسْتَحَبًّا فِيهِ الِاسْتِغْفارُ؛ لِأنَّ العِبادَةَ فِيهِ أشَقُّ، ألا تَراهم يَقُولُونَ: إنَّ إغْفاءَةَ الفَجْرِ مِن ألَذِّ النَّوْمِ ؟ ولِأنَّ النَّفْسَ تَكُونُ إذْ ذاكَ أصْفى، والبَدَنَ أقَلُّ تَعَبًا، والذِّهْنَ أرَقُّ وأحَدُّ، إذْ قَدْ أجَمَّ عَنِ الأشْياءِ الشّاقَّةِ الجُسْمانِيَّةِ والقَلْبِيَّةِ بِسُكُونِ بَدَنِهِ، وتَرَكَ فِكْرَهُ بِانْغِمارِهِ في وارِدِ النَّوْمِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنَّهم كانُوا يُقَدِّمُونَ قِيامَ اللَّيْلِ، فَيَحْسُنُ طَلَبُ الحاجَةِ فِيهِ. ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠] انْتَهى. ومَعْناهُ، عَنِ الحَسَنِ: وهَذِهِ الأوْصافُ الخَمْسَةُ هي لِمَوْصُوفٍ واحِدٍ وهُمُ: المُؤْمِنُونَ، وعُطِفَتْ بِالواوِ ولَمْ تُتْبَعْ دُونَ عَطْفٍ لِتَبايُنِ كُلِّ صِفَةٍ مِن صِفَةٍ، إذْ لَيْسَتْ في مَعْنًى واحِدٍ، فَيَنْزِلُ تَغايُرُ الصِّفاتِ وتَبايُنُها مَنزِلَةَ تَغايُرِ الذَّواتِ فَعُطِفَتْ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والواوُ المُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ الصِّفاتِ لِلدَّلالَةِ عَلى كَمالِهِمْ في كُلِّ واحِدَةٍ مِنها، انْتَهى. ولا نَعْلَمُ العَطْفَ في الصِّفَةِ بِالواوِ يَدُلُّ عَلى الكَمالِ. وقالَ المُفَسِّرُونَ في الصّابِرِينَ: صَبَرُوا عَنِ المَعاصِي. وقِيلَ: ثَبَتُوا عَلى العَهْدِ الأوَّلِ. وقِيلَ: هُمُ الصّائِمُونَ. وقالُوا: في الصّادِقِينَ: في الأقْوالِ. وقِيلَ: في القَوْلِ، والفِعْلِ، والنِّيَّةِ. وقِيلَ: في السِّرِّ والعَلانِيَةِ. (p-٤٠١)وقالُوا في القانِتِينَ: الحافِظِينَ لِلْغَيْبِ. وقالَ الزَّجّاجُ: القائِمِينَ عَلى العِبادَةِ. وقِيلَ: القائِمِينَ بِالحَقِّ. وقِيلَ: الدّاعِينَ المُتَضَرِّعِينَ. وقِيلَ: الخاشِعِينَ. وقِيلَ: المُصَلِّينَ. وقالُوا في المُنْفِقِينَ: المُخْرِجِينَ المالَ عَلى وجْهٍ مَشْرُوعٍ. وقِيلَ: في الجِهادِ. وقِيلَ: في جَمِيعِ أنْواعِ البِرِّ. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: في الصَّدَقاتِ. قالُوا في المُسْتَغْفِرِينَ: السّائِلِينَ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عُمَرَ وأنَسٌ وقَتادَةُ: السّائِلِينَ المَغْفِرَةَ وقْتَ فَراغِ البالِ، وخِفَّةِ الأشْغالِ، وقالَ قَتادَةُ أيْضًا: المُصَلِّينَ بِالأسْحارِ. وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: المُصَلِّينَ الصُّبْحَ في جَماعَةٍ. وهَذا الَّذِي فَسَّرُوهُ كُلُّهُ مُتَقارِبٌ. ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو والمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨] . سَبَبُ نُزُولِها «أنَّ حَبْرَيْنِ مِنَ الشّامِ قَدِما المَدِينَةَ، فَقالَ أحَدُهُما لِلْآخَرِ: ما أشْبَهَ هَذِهِ بِمَدِينَةِ النَّبِيِّ الخارِجِ في آخِرِ الزَّمانِ ! ثُمَّ عَرَفا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِالنَّعْتِ، فَقالا: أنْتَ مُحَمَّدٌ ؟ قالَ:“ نَعَمْ ”. فَقالا: أنْتَ أحْمَدُ ؟ فَقالَ:“ نَعَمْ ”. فَقالا: نَسْألُكَ عَنْ شَهادَةٍ إنْ أخْبَرْتَنا بِها آمَنّا. فَقالَ:“ سَلانِي فَقالَ أحَدُهُما: أخْبِرْنا عَنْ (p-٤٠٢)أعْظَمِ الشَّهادَةِ في كِتابِ اللَّهِ، فَنَزَلَتْ وأسْلَما» . وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: كانَ حَوْلَ البَيْتِ ثَلاثُمِائَةٍ وسِتُّونَ صَنَمًا، فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ خَرَّتْ سُجَّدًا. وقِيلَ: نَزَلَتْ في نَصارى نَجْرانَ؛ لَمّا حاجُّوا في أمْرِ عِيسى. وقِيلَ: في اليَهُودِ والنَّصارى، لَمّا تَرَكُوا اسْمَ الإسْلامِ، وتُسَمَّوْا بِاليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ. وقِيلَ: إنَّهم قالُوا: دِينُنا أفْضَلُ مِن دِينِكَ، فَنَزَلَتْ. وأصْلُ: شَهِدَ، حَضَرَ، ثُمَّ صُرِفَتِ الكَلِمَةُ في أداءِ ما تَقَرَّرَ عِلْمُهُ في النَّفْسِ، فَأيُّ وجْهٍ تَقَرَّرَ مِن حُضُورٍ أوْ غَيْرِهِ. فَقِيلَ: مَعْنى: شَهِدَ، هُنا: أعْلَمَ. قالَهُ المُفَضَّلُ وغَيْرُهُ، وقالَ الفَرّاءُ، وأبُو عُبَيْدَةَ: قَضى، وقالَ مُجاهِدٌ: حَكَمَ، وقِيلَ: بَيَّنَ. وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: شَهِدَ بِإظْهارِ صُنْعِهِ. ؎وفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ الواحِدُ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شُبِّهَتْ دَلالَتُهُ عَلى وحْدانِيَّتِهِ بِأفْعالِهِ الخاصَّةِ الَّتِي لا يَقْدِرُ عَلَيْها غَيْرُهُ، وبِما أوْحى مِن آياتِهِ النّاطِقَةِ بِالتَّوْحِيدِ، كَسُورَةِ الإخْلاصِ، وآيَةِ الكُرْسِيِّ، وغَيْرِهِما. بِشَهادَةِ الشّاهِدِ في البَيانِ والكَشْفِ، وكَذَلِكَ إقْرارُ المَلائِكَةِ وأُولِي العِلْمِ بِذَلِكَ، واحْتِجاجُهم عَلَيْهِ انْتَهى. وهو حَسَنٌ. وقالَ المَرْوَزِيُّ: ذِكْرُ شَهادَتِهِ - سُبْحانَهُ - عَلى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِشَهادَةِ مَن ذُكِرَ بَعْدَهُ، كَقَوْلِهِ: ﴿قُلِ الأنْفالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ﴾ [الأنفال: ١] انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب