الباحث القرآني

﴿ولَئِنْ قُتِلْتُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾: تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذا تَكْذِيبُ الكُفّارِ في دَعْواهم أنَّ مَن ماتَ أوْ قُتِلَ في سَفَرٍ وغَزْوٍ لَوْ كانَ أقامَ ما ماتَ وما قُتِلَ، ونَهى المُؤْمِنِينَ عَنْ أنْ يَقُولُوا مِثْلَ هَذِهِ المَقالَةِ؛ لِأنَّها سَبَبٌ لِلتَّخاذُلِ عَنِ الغَزْوِ، وأخْبَرَ في هَذِهِ الجُمْلَةِ أنَّهُ إنْ تَمَّ ما يَحْذَرُونَهُ مِنَ القَتْلِ في سَبِيلِ اللَّهِ أوِ المَوْتِ فِيهِ، فَما يَحْصُلُ لَهم مِن مَغْفِرَةِ اللَّهِ ورَحْمَتِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ مِن حُطامِ الدُّنْيا ومَنافِعِها لَوْ لَمْ يَهْلَكُوا بِالقَتْلِ أوِ المَوْتِ، وأكَّدَ ذَلِكَ بِالقَسَمِ؛ لِأنَّ اللّامَ في ”لَئِنْ“ هي المُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وجَوابُ القَسَمِ هو: ”لَمَغْفِرَةٌ“، وكانَ نَكِرَةً إشارَةً إلى أنَّ أيْسَرَ جُزْءٍ مِنَ المَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا، وأنَّهُ كافٍ في فَوْزِ المُؤْمِنِ. وجازَ الِابْتِداءُ بِهِ؛ (p-٩٦)لِأنَّهُ وصْفٌ بِقَوْلِهِ: ”مِنَ اللَّهِ“، وعَطَفَ عَلَيْهِ نَكِرَةً، ومُسَوِّغُ الِابْتِداءِ بِها كَوْنُها عُطِفَتْ عَلى ما يَسُوغُ بِهِ الِابْتِداءُ. أوْ كَوْنُها مَوْصُوفَةً في المَعْنى، إذِ التَّقْدِيرُ: ورَحْمَةٌ مِنهُ. وثَمَّ صِفَةٌ أُخْرى مَحْذُوفَةٌ لا بُدَّ مِنها وتَقْدِيرُها: ورَحْمَةٌ لَكم. وخَيْرٌ هُنا عَلى بابِها مِن كَوْنِها أفْعَلُ تَفْضِيلٍ، كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: خَيْرٌ مِن طِلاعِ الأرْضِ ذَهَبَةٌ حَمْراءُ. وارْتِفاعُ خَيْرٍ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ: لَمَغْفِرَةٌ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وتَحْتَمِلُ الآيَةُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَمَغْفِرَةٌ إشارَةً إلى القَتْلِ أوِ المَوْتِ في سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَمّى ذَلِكَ مَغْفِرَةً ورَحْمَةً؛ إذْ هُما مُقْتَرِنانِ بِهِ. ويَجِيءُ التَّقْدِيرُ لِذَلِكَ: مَغْفِرَةٌ ورَحْمَةٌ. وتَرْتَفِعُ المَغْفِرَةُ عَلى خَبَرِ الِابْتِداءِ المُقَدَّرِ. وقَوْلُهُ: خَيْرٌ صِفَةٌ لا خَبَرُ ابْتِداءٍ. انْتَهى قَوْلُهُ. وهو خِلافُ الظّاهِرِ، وجَوابُ الشَّرْطِ الَّذِي هو ”إنْ قُتِلْتُمْ“ مَحْذُوفٌ؛ لِدَلالَةِ جَوابِ القَسَمِ عَلَيْهِ. وقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: سَدَّ مَسَدَّ جَوابَ الشَّرْطِ، إنْ عَنى أنَّهُ حُذِفَ لِدَلالَتِهِ عَلَيْهِ، فَصَحِيحٌ، وإنْ عَنى أنَّهُ لا يَحْتاجُ إلى تَقْدِيرٍ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ جُعِلَتِ المَغْفِرَةُ والرَّحْمَةُ لِمَنِ اتَّفَقَ لَهُ أحَدُ هَذَيْنِ: القَتْلُ في سَبِيلِ اللَّهِ، أوِ المَوْتُ فِيهِ. وقالَ الرّازِيُّ: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ إشارَةٌ إلى تَعَبُّدِهِ خَوْفًا مِن عِقابِهِ، ورَحْمَةٌ إشارَةٌ إلى تَعَبُّدِهِ لِطَلَبِ ثَوابِهِ. انْتَهى. ولَيْسَ بِالظّاهِرِ، وقَدَّمَ القَتْلَ هُنا لِأنَّهُ ابْتِداءُ إخْبارٍ، فَقَدَّمَ الأشْرَفَ الأهَمَّ في تَحْصِيلِ المَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ؛ إذِ القَتْلُ في سَبِيلِ اللَّهِ أعْظَمُ ثَوابًا مِنَ المَوْتِ في سَبِيلِهِ. قالَ الرّاغِبُ: تَضَمَّنَتْ هاتانِ الآيَتانِ إلْزامًا هو جارٍ مَجْرى قِياسَيْنِ شَرْطِيَّيْنِ اقْتَضَيا الحِرْصَ عَلى القَتْلِ في سَبِيلِ اللَّهِ تَمْثِيلُهُ: إنْ قُتِلْتُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أوْ مُتُّمْ، حَصَلَتْ لَكُمُ المَغْفِرَةُ والرَّحْمَةُ، وهُما خَيْرٌ مِمّا تَجْمَعُونَ. فَإذا المَوْتُ والقَتْلُ في سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِمّا تَجْمَعُونَ. ولَئِنْ مُتُّمْ أوْ قُتِلْتُمْ فالحَشْرُ لَكم حاصِلٌ. وإذا كانَ المَوْتُ والقَتْلُ لا بُدَّ مِنهُ والحَشْرُ، فَنَتِيجَةُ ذَلِكَ أنَّ القَتْلَ والمَوْتَ اللَّذَيْنِ يُوجِبانِ المَغْفِرَةَ والرَّحْمَةَ خَيْرٌ مِنَ القَتْلِ والمَوْتِ اللَّذَيْنِ لا يُوجِبانِهِما. انْتَهى. وقَرَأ الِابْنانِ والأبَوانِ بِضَمِّ المِيمِ في جَمِيعِ القُرْآنِ، وحَفْصٍ في هَذَيْنِ: ”﴿أوْ مُتُّمْ﴾“، ”﴿ولَئِنْ مُتُّمْ﴾“، وكَسَرَ الباقُونَ، والضَّمُّ أقْيَسُ وأشْهَرُ. والكَسْرُ مُسْتَعْمَلٌ كَثِيرًا وهو شاذٌّ في القِياسِ، جَعَلَهُ المازِنِيُّ مِن فَعَلَ يَفْعَلُ، نَظِيرُ دُمْتَ تَدُومُ، وفَضَّلْتَ تُفَضِّلُ، وكَذا أبُو عَلِيٍّ، فَحَكَما عَلَيْهِ بِالشُّذُوذِ. وقَدْ نَقَلَ غَيْرُهُما فِيهِ لُغَتَيْنِ إحْداهُما: فَعَلَ يَفْعُلُ، فَتَقُولُ ماتَ يَمُوتُ. والأُخْرى: فَعَلَ يَفْعَلُ نَحْوَ ماتَ يَماتُ، أصْلُهُ مَوَتَ، فَعَلى هَذا لَيْسَ بِشاذٍّ؛ إذْ هو مِثْلُ خافَ يَخافُ، فَأصْلُهُ مَوَتَ يَمُوتُ. فَمَن قَرَأ بِالكَسْرِ فَعَلى هَذِهِ اللُّغَةِ، ولا شُذُوذَ فِيهِ، وهي لُغَةُ الحِجازِ يَقُولُونَ: مُتُّمْ مِن ماتَ يَماتُ، قالَ الشّاعِرُ: ؎عِيشِي ولا تُومِي بِأنْ تَماتِي وسُفْلى مُضَرَ يَقُولُونَ: مُتُّمْ بِضَمِّ المِيمِ مِن ماتَ يَمُوتُ، نَقَلَهُ الكُوفِيُّونَ: وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”تَجْمَعُونَ“ بِالتّاءِ عَلى سِياقِ الخِطابِ في قَوْلِهِ: ولَئِنْ قُتِلْتُمْ. وقَرَأ قَوْمٌ مِنهم حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ بِالياءِ، أيْ مِمّا يَجْمَعُهُ الكُفّارُ المُنافِقُونَ وغَيْرُهم. ﴿ولَئِنْ مُتُّمْ أوْ قُتِلْتُمْ لَإلى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾ هَذا خِطابٌ عامٌّ لِلْمُؤْمِنِ والكافِرِ. أعْلَمَ فِيهِ أنَّ مَصِيرَ الجَمِيعِ إلَيْهِ، فَيُجازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، هَكَذا قالَ بَعْضُهم. وكَأنَّهُ لَمّا رَأى المَوْتَ والقَتْلَ أُطْلِقا ولَمْ يُقَيَّدا بِذِكْرِ سَبِيلِ اللَّهِ كَما قُيِّدا في الآيَةِ، فَهِمَ أنَّ ذَلِكَ عامٌّ، والظّاهِرُ أنَّهُ خِطابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كالخِطابِ السّابِقِ؛ ولِذَلِكَ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَإلى الرَّحِيمِ الواسِعِ الرَّحْمَةِ المُمِيتِ العَظِيمِ الثَّوابِ تُحْشَرُونَ. قالَ: ولِوُقُوعِ اسْمِ اللَّهِ هَذا المَوْقِعَ مَعَ تَقْدِيمِهِ وإدْخالِ اللّامِ عَلى الحَرْفِ المُتَّصِلِ بِهِ سِيّانِ لَيْسَ بِالخَفِيِّ. انْتَهى. يُشِيرُ بِذَلِكَ إلى مَذْهَبِهِ: مِن أنَّ التَّقْدِيمَ يُؤْذِنُ بِالِاخْتِصاصِ، فَكانَ المَعْنى عِنْدَهُ: فَإلى اللَّهِ لا غَيْرِهِ تُحْشَرُونَ. وهو عِنْدَنا لا يَدُلُّ بِالوَضْعِ عَلى ذَلِكَ، وإنَّما يَدُلُّ التَّقْدِيمُ عَلى الِاعْتِناءِ بِالشَّيْءِ والِاهْتِمامِ بِذِكْرِهِ، كَما قالَ سِيبَوَيْهِ: وزادَهُ حُسْنًا هُنا أنَّ تَأخُّرَ الفِعْلِ هُنا فاصِلَةٌ، فَلَوْ تَأخَّرَ المَجْرُورُ لَفاتَ هَذا الغَرَضُ وتَضَمَّنَتِ الآيَةُ تَحْقِيرَ أمْرِ الدُّنْيا والحِرْصَ عَلى الشَّهادَةِ، وأنَّ مَصِيرَ العالَمِ كُلِّهِمْ إلى اللَّهِ، فالمُوافاةُ عَلى الشَّهادَةِ أمْثَلُ بِالمَرْءِ لِيُحْرِزَ ثَوابَها ويَجِدْهُ وقْتَ الحَشْرِ. وقَدَّمَ المَوْتَ (p-٩٧)هُنا عَلى القَتْلِ؛ لِأنَّها آيَةُ وعْظٍ بِالآخِرَةِ والحَشْرِ، وتَزْهِيدٌ في الدُّنْيا والحَياةِ، والمَوْتُ فِيها مُطْلَقٌ لَمْ يُقَيَّدْ بِشَيْءٍ. فَإمّا أنْ يَكُونَ الخِطابُ مُخْتَصًّا بِمَن خُوطِبَ قَبْلُ، أوْ عامًّا وانْدَرَجَ أُولَئِكَ فِيهِ، فَقُدِّمَ لِعُمُومِهِ؛ ولِأنَّهُ أغْلَبُ في النّاسِ مِنَ القَتْلِ، فَهَذِهِ ثَلاثَةُ مَواضِعَ. ”﴿ما ماتُوا وما قُتِلُوا﴾ [آل عمران: ١٥٦]“، فَقَدَّمَ المَوْتَ عَلى القَتْلِ لِمُناسَبَةِ ما قَبْلَهُ مِن قَوْلِهِ: ﴿إذا ضَرَبُوا في الأرْضِ أوْ كانُوا غُزًّى﴾ [آل عمران: ١٥٦] وتَقَدَّمَ القَتْلُ عَلى المَوْتِ بَعْدُ؛ لِأنَّهُ مَحَلُّ تَحْرِيضٍ عَلى الجِهادِ، فَقَدَّمَ الأهَمَّ والأشْرَفَ. وقَدَّمَ المَوْتَ هُنا لِأنَّهُ الأغْلَبُ، ولَمْ يُؤَكَّدِ الفِعْلُ الواقِعُ جَوابًا لِلْقَسَمِ المَحْذُوفِ لِأنَّهُ فَصْلٌ بَيْنَ اللّامِ المُتَلَقّى بِها القَسَمُ وبَيْنَهُ بِالجارِّ والمَجْرُورِ. ولَوْ تَأخَّرَ لَكانَ: لَتُحْشَرُنَّ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ: لِيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ. وسَواءٌ كانَ الفَصْلُ بِمَعْمُولِ الفِعْلِ كَهَذا، أوْ بِسَوْفَ. كَقَوْلِهِ: ﴿فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [الشعراء: ٤٩] أوْ بِقَدْ كَقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎كَذَبْتِ لَقَدْ أصْبى عَلى المَرْءِ عِرْسِهِ ∗∗∗ وأمْنَعُ عِرْسِي أنْ يَزِنَّ بِها الخالِي قالَ أبُو عَلِيٍّ: الأصْلُ دُخُولُ النُّونِ فَرْقًا بَيْنَ لامِ اليَمِينِ ولامِ الِابْتِداءِ، ولامُ الِابْتِداءِ لا تَدْخُلُ عَلى الفَضَلاتِ، فَبِدُخُولِ لامِ اليَمِينِ عَلى الفَضْلَةِ وقَعَ الفَصْلُ، فَلَمْ يُحْتَجْ إلى النُّونِ. وبِدُخُولِها عَلى سَوْفَ وقَعَ الفَرْقُ، فَلَمْ يُحْتَجْ إلى النُّونِ؛ لِأنَّ لامَ الِابْتِداءِ لا تَدْخُلُ عَلى الفِعْلِ إلّا إذا كانَ حالًا، أمّا إذا كانَ مُسْتَقْبَلًا فَلا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب