الباحث القرآني
﴿إنْ يَمْسَسْكم قُرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قُرْحٌ مِثْلُهُ﴾ المَعْنى: إنْ نالُوا مِنكم يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ نِلْتُمْ مِنهم يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ لَمْ يَضْعُفُوا إنْ قاتَلُوكم بَعْدَ ذَلِكَ، فَلا تَضْعُفُوا أنْتُمْ. أوْ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ في غَزْوَةِ أُحُدٍ قَبْلَ مُخالَفَةِ أمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ونَحْوِهِ، فَإنَّهم يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ، وتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ. وهَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنهُ تَعالى لِلْمُؤْمِنِينَ والتَّأسِّي فِيهِ أعْظَمُ مَسْلاةٍ. وقالَتِ الخَنْساءُ:
؎ولَوْلا كَثْرَةُ الباكِينَ حَوْلِي عَلى إخْوانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
؎وما يَبْكُونَ مِثْلَ أخِي ولَكِنْ ∗∗∗ أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأسِّي
والمِثْلِيَّةُ تَصْدُقُ بِأدْنى مُشابَهَةٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ: أصابَ المُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ ما أصابَ المُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، اسْتُشْهِدَ مِنَ المُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قُتِلَ يَوْمَئِذَ أيْ يَوْمَ أُحُدٍ خَلْقٌ مِنَ الكُفّارِ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذْ تَحُسُّونَهم بِإذْنِهِ﴾ [آل عمران: ١٥٢] فَعَلى قَوْلِهِ يَكُونُ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ يَوْمَ بَدْرٍ. وأبْعَدَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ القَوْمَ هُنا الأُمَمُ الَّتِي قَدْ خَلَتْ، أيْ نالَ مُؤْمِنُهم مِن أذى كافِرِهِمْ مِثْلَ الَّذِي نالَكم مِن أعْدائِكم. ثُمَّ كانَتِ العاقِبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَكم بِهِمْ أُسْوَةٌ. فَإنَّ تَأسِّيَكُمُ بِهِمْ مِمّا يُخَفِّفُ ألَمَكم، ويُثَبِّتُ عِنْدَ اللِّقاءِ أقْدامَكم.
وقَرَأ الأخَوانِ وأبُو بَكْرٍ والأعْمَشُ مِن طَرِيقَه ”قُرْحٌ“ بِضَمِّ القافِ فِيهِما، وباقِي السَّبْعَةِ بِالفَتْحِ، والسَّبْعَةُ عَلى تَسْكِينِ الرّاءِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: والفَتْحُ أوْلى. انْتَهى. ولا أوْلَوِيَّةَ؛ إذْ كِلاهُما مُتَواتِرٌ. وقَرَأ أبُو السَّمّالِ وابْنُ السَّمَيْقَعِ ”﴿قَرْحٌ﴾“ بِفَتْحِ القافِ والرّاءِ، وهي لُغَةٌ، كالطَّرْدِ والطَّرَدِ، والشَّلِّ والشَّلَلِ. وقَرَأ الأعْمَشُ: إنْ تَمْسَسْكم - بِالتّاءِ مِن فَوْقُ - قُرُوحٌ - بِالجَمْعِ - وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَتَأسَّوْا فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قُرْحٌ؛ لِأنَّ الماضِيَ مَعْنًى يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ جَوابًا لِلشَّرْطِ. ومَن زَعَمَ أنَّ جَوابَ الشَّرْطِ هو فَقَدْ مَسَّ، فَهو ذاهِلٌ.
﴿وتِلْكَ الأيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ﴾ أخْبَرَ تَعالى عَلى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ أنَّ الأيّامَ عَلى قَدِيمِ الدَّهْرِ لا تَبْقى لِناسٍ عَلى حالَةٍ واحِدَةٍ. والمُرادُ بِالأيّامِ أوْقاتُ الغَلَبَةِ والظَّفَرِ، يَصْرِفُها اللَّهُ عَلى ما أرادَ تارَةً لِهَؤُلاءِ وتارَةً لِهَؤُلاءِ، كَما جاءَ الحَرْبُ سِجالٌ. وقالَ:(p-٦٣)
؎فَيَوْمٌ عَلَيْنا ويَوْمٌ لَنا ∗∗∗ ويَوْمٌ نُساءُ ويَوْمٌ نُسَرُّ
وسَمِعَ بَعْضُ العَرَبِ الأقْحاحِ قارِئًا يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ، فَقالَ: إنَّما هو نُداوِلُها بَيْنَ العَرَبِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّما هو بَيْنَ النّاسِ، فَقالَ: إنّا لِلَّهِ، ذَهَبَ مُلْكُ العَرَبِ ورَبِّ الكَعْبَةِ. وقُرِئَ شاذًّا ”يُداوِلُها“ بِالياءِ. وهو جارٍ عَلى الغَيْبَةِ قَبْلَهُ وبَعْدَهُ. وقِراءَةُ النُّونِ فِيها التِفاتٌ وإخْبارٌ بِنُونِ العَظَمَةِ المُناسِبَةِ لِمُداوَلَةِ الأيّامِ، والأيّامُ: صِفَةٌ لِتِلْكَ، أوْ بَدَلٌ، أوْ عَطْفُ بَيانٍ. والخَبَرُ نُداوِلُها، أوْ خَبَرٌ لِتِلْكَ، و”﴿نُداوِلُها﴾“ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ.
﴿ولِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هَذِهِ لامُ كَيْ، قَبْلَها حَرْفُ العَطْفِ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ مُتَأخِّرٍ أيْ: فَعَلْنا ذَلِكَ وهو المُداوَلَةُ، أوْ نَيْلُ الكُفّارِ مِنكم. أوْ هو مَعْطُوفٌ عَلى سَبَبٍ مَحْذُوفٍ هو وعامِلُهُ أيْ: فَعَلْنا ذَلِكَ لِيَكُونَ كَيْتَ وكَيْتَ ولِيَعْلَمَ. هَكَذا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ، ولَمْ يُعَيِّنْ فاعِلَ العِلَّةِ المَحْذُوفَةِ إنَّما كَنّى عَنْهُ بِكَيْتَ وكَيْتَ، ولا يُكَنّى عَنِ الشَّيْءِ حَتّى يُعْرَفَ. فَفي هَذا الوَجْهِ حَذْفُ العِلَّةِ، وحَذْفُ عامِلِها، وإبْهامُ فاعِلِها. فالوَجْهُ الأوَّلُ أظْهَرُ؛ إذْ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُ حَذْفِ العامِلِ. و”يَعْلَمُ“ هُنا ظاهِرُهُ التَّعَدِّي إلى واحِدٍ، فَيَكُونُ كَعَرَفَ. وقِيلَ: يَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ، الثّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مُمَيَّزِينَ بِالإيمانِ مِن غَيْرِهِمْ. أيِ الحِكْمَةُ في هَذِهِ المُداوَلَةِ أنْ يَصِيرَ الَّذِينَ آمَنُوا مُتَمَيِّزِينَ عَنْ مَن يَدَّعِي الإيمانَ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ وثَباتِهِمْ عَلى الإسْلامِ.
وعِلْمُ اللَّهِ تَعالى لا يَتَجَدَّدُ، بَلْ لَمْ يَزَلْ عالِمًا بِالأشْياءِ قَبْلَ كَوْنِها، وهو مِن بابِ التَّمْثِيلِ بِمَعْنى فَعَلْنا ذَلِكَ فِعْلَ مَن يُرِيدُ أنْ يَعْلَمَ مِنَ الثّابِتِ عَلى الإيمانِ مِنكم مِن غَيْرِ الثّابِتِ. وقِيلَ: مَعْناهُ لِيَظْهَرَ في الوُجُودِ إيمانُ الَّذِينَ قَدْ عُلِمَ أزَلًا أنَّهم يُؤْمِنُونَ، ويُساوِقَ عِلْمُهُ إيمانَهم ووُجُودَهم، وإلّا فُقِدَ عِلْمُهم في الأزَلِ. إذْ عِلْمُهُ لا يَطْرَأُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ. ومِثْلُهُ أنْ يَضْرِبَ حاكِمٌ رَجُلًا ثُمَّ يُبَيِّنَ سَبَبَ الضَّرْبِ ويَقُولَ: فَعَلْتُ هَذا التَّبْيِينَ لِأضْرِبَ مُسْتَحِقًّا. مَعْناهُ: لِيَظْهَرَ أنَّ فِعْلِي وافَقَ اسْتِحْقاقَهُ. وقِيلَ: مَعْناهُ ولِيَعْلَمَهم عِلْمًا يَتَعَلَّقُ بِهِ الجَزاءُ، وهو أنْ يَعْلَمَهم مَوْجُودًا مِنهُمُ الثَّباتُ. وقِيلَ: العِلْمُ باقٍ عَلى مَدْلُولِهِ، وهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ التَّقْدِيرُ: ولِيَعْلَمَ أوْلِياءَ اللَّهِ، فَأسْنَدَ ذَلِكَ إلى نَفْسِهِ تَفْخِيمًا.
”﴿ويَتَّخِذَ مِنكم شُهَداءَ﴾“ أيْ بِالقَتْلِ في سَبِيلِهِ، فَيُكْرِمُهم بِالشَّهادَةِ. يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ. وقَدْ ورَدَ في فَضْلِ الشَّهِيدِ غَيْرُ ما آيَةٍ وحَدِيثٍ. أوْ شُهَداءَ عَلى النّاسِ يَوْمَ القِيامَةِ أيْ ولِيَتَّخِذَ مِنكم مَن يَصْلُحُ لِلشَّهادَةِ عَلى الأُمَمِ يَوْمَ القِيامَةِ بِما يَبْتَلِي بِهِ صَبْرَكم عَلى الشَّدائِدِ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ﴾ [البقرة: ١٤٣] . والقَوْلُ الأوَّلُ أظْهَرُ وألْيَقُ بِقِصَّةِ أُحُدٍ.
﴿واللَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ﴾ [آل عمران: ٥٧] أيْ لا يُحِبُّ مَن لا يَكُونُ ثابِتًا عَلى الإيمانِ صابِرًا عَلى الجِهادِ. وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ مَنِ انْخَذَلَ يَوْمَ أُحُدٍ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وأتْباعِهِ مِنَ المُنافِقِينَ، فَإنَّهم بِانْخِذالِهِمْ لَمْ يَطْهُرْ إيمانُهم، بَلْ نَجَمَ نِفاقُهم، ولَمْ يَصْلُحُوا لِاتِّخاذِهِمْ شُهَداءَ بِأنْ يُقْتَلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ. وذَلِكَ إشارَةٌ أيْضًا إلى أنَّ ما فُعِلَ مِن إدالَةِ الكُفّارِ لَيْسَ سَبَبُهُ المَحَبَّةَ مِنهُ تَعالى، بَلْ ما ذُكِرَ مِنَ الفَوائِدِ مِن ظُهُورِ إيمانِ المُؤْمِنِ وثُبُوتِهِ، واصْطِفائِهِ مَن شاءَ مِنَ المُؤْمِنِينَ لِلشَّهادَةِ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ اعْتُرِضَتْ بَيْنَ بَعْضِ العِلَلِ وبَعْضٍ، لِما فِيها مِنَ التَّشْدِيدِ والتَّأْكِيدِ. وأنَّ مَناطَ انْتِفاءِ المَحَبَّةِ هو الظُّلْمُ، وهو دَلِيلٌ عَلى فَحاشَتِهِ وقُبْحِهِ مِن سائِرِ الأوْصافِ القَبِيحَةِ.
{"ayah":"إِن یَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحࣱ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحࣱ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَاۤءَۗ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق