الباحث القرآني

﴿إنْ تَمْسَسْكم حَسَنَةٌ تَسُؤْهم وإنْ تُصِبْكم سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها﴾ الحَسَنَةُ هُنا ما يَسُرُّ مِن رَخاءٍ وخَصْبٍ ونُصْرَةٍ وغَنِيمَةٍ، ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ المَنافِعِ. والسَّيِّئَةُ ضِدُّ ذَلِكَ. بَيَّنَ تَعالى بِذَلِكَ فَرْطَ عَداوَتِهِمْ حَيْثُ يَسُوؤُهم ما نالَ المُؤْمِنِينَ مِنَ الخَيْرِ، ويَفْرَحُونَ بِما يُصِيبُهم مِنَ الشِّدَّةِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: المَسُّ مُسْتَعارٌ لِمَعْنى الإصابَةِ، فَكانَ المَعْنى واحِدًا. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿إنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهم وإنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ﴾ [التوبة: ٥٠] الآيَةَ ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ﴾ [النساء: ٧٩] ﴿إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وإذا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: ٢٠] وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى المَسَّ في الحَسَنَةِ لِيُبَيِّنَ أنَّ بِأدْنى طُرُوءِ الحَسَنَةِ تَقَعُ المَساءَةُ بِنُفُوسِ هَؤُلاءِ المُبْغِضِينَ، ثُمَّ عادَلَ ذَلِكَ في السَّيِّئَةِ بِلَفْظِ الإصابَةِ، وهي عِبارَةٌ عَنِ التَّمَكُّنِ؛ لِأنَّ الشَّيْءَ المُصِيبَ لِشَيْءٍ هو مُتَمَكِّنٌ مِنهُ، أوْ فِيهِ. فَدَلَّ هَذا النَّوْعُ البَلِيغُ عَلى شِدَّةِ العَداوَةِ، إذْ هو حِقْدٌ لا يَذْهَبُ عِنْدَ نُزُولِ الشَّدائِدِ، بَلْ يَفْرَحُونَ بِنُزُولِ الشَّدائِدِ بِالمُؤْمِنِينَ. انْتَهى كَلامُهُ. والنَّكِرَةُ هُنا في سِياقِ الشَّرْطِ بِأنْ تَعُمَّ عُمُومَ البَدَلِ، ولَمْ يَأْتِ مُعَرَّفًا لِإيهامِ التَّعْيِينِ بِالعَهْدِ، ولِإيهامِ العُمُومِ الشُّمُولِيِّ. وقابَلَ الحَسَنَةَ بِالسَّيِّئَةِ، والمُساءَةَ بِالفَرَحِ (p-٤٣)وهِيَ مُقابَلَةٌ بَدِيعَةٌ. قالَ قَتادَةُ والرَّبِيعُ وابْنُ جُرَيْجٍ: الحَسَنَةُ بِظُهُورِكم عَلى العَدُوِّ، والغَنِيمَةِ مِنهم، والتَّتابُعِ بِالدُّخُولِ في دِينِكم، وخَصْبِ مَعاشِكم. والسَّيِّئَةُ بِإخْفاقِ سَرِيَّةٍ مِنكم، أوْ إصابَةِ عَدُوٍّ مِنكم، أوِ اخْتِلافٍ بَيْنَكم. وقالَ الحَسَنُ: الحَسَنَةُ: الأُلْفَةُ واجْتِماعُ الكَلِمَةِ. والسَّيِّئَةُ إصابَةُ العَدُوِّ، واخْتِلافُ الكَلِمَةِ. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الحَسَنَةُ النِّعْمَةُ. والسَّيِّئَةُ المُصِيبَةُ. وهَذِهِ الأقْوالُ هي عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، ولَيْسَتْ عَلى سَبِيلِ التَّعْيِينِ. ﴿وإنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يَضُرُّكم كَيْدُهم شَيْئًا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: وإنْ تَصْبِرُوا عَلى أذاهم، وتَتَّقُوا اللَّهَ، ولا تَقْنَطُوا، ولا تَسْأمُوا أذاهم وتَكَرَّرَ. وقالَ مُقاتِلٌ: وإنْ تَصْبِرُوا عَلى أمْرِ اللَّهِ، وتَتَّقُوا مُباطَنَتَهم. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: وإنْ تَصْبِرُوا عَلى الإيمانِ وتَتَّقُوا الشِّرْكَ. وقِيلَ: وإنْ تَصْبِرُوا عَلى الطّاعَةِ وتَتَّقُوا المَعاصِيَ. وقِيلَ: وإنْ تَصْبِرُوا عَلى حَرْبِهِمْ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنا مُتَعَلِّقَ الصَّبْرِ، ولا مُتَعَلِّقَ التَّقْوى. لَكِنَّ الصَّبْرَ هو حَبْسُ النَّفْسِ عَلى المَكْرُوهِ، والتَّقْوى اتِّخاذُ الوِقايَةِ مِن عَذابِ اللَّهِ. فَيَحْسُنُ أنْ يُقَدَّرَ المَحْذُوفُ مِن جِنْسِ ما دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الصَّبْرِ ولَفْظُ التَّقْوى. وفي هَذا تَبْشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وتَثْبِيتٌ لِنُفُوسِهِمْ، وإرْشادٌ إلى الِاسْتِعانَةِ عَلى كَيْدِ العَدُوِّ بِالصَّبْرِ والتَّقْوى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: إنْ تَمْسَسْكم بِالتّاءِ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ بِالياءِ مُعْجَمَةٌ مِن أسْفَلَ؛ لِأنَّ تَأْنِيثَ الحَسَنَةِ مَجازِيٌّ. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ، وأبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ في رِوايَةٍ عَنْهُ: لا يَضُرُّكم مِن ضارَ يَضِيرُ. ويُقالُ: ضارَ يَضُورُ، وكِلاهُما بِمَعْنى ضَرَّ. وقَرَأ الكُوفِيُّونَ وابْنُ عامِرٍ: لا يَضُرُّكم - بِضَمِّ الضّادِ والرّاءِ المُشَدَّدَةِ، مِن ضَرَّ يَضُرُّ. واخْتُلِفَ، أحَرَكَةُ الرّاءِ إعْرابٌ فَهو مَرْفُوعٌ، أمْ حَرَكَةُ إتْباعٍ لِضَمَّةِ الضّادِ وهو مَجْزُومٌ كَقَوْلِكَ: مَدَّ ؟ ونُسِبَ هَذا إلى سِيبَوَيْهِ، فَخَرَجَ الإعْرابُ عَلى التَّقْدِيمِ. والتَّقْدِيرُ: لا يَضُرُّكم أنْ تَصْبِرُوا، ونُسِبَ هَذا القَوْلُ إلى سِيبَوَيْهِ. وخَرَجَ أيْضًا عَلى أنَّ ”لا“ بِمَعْنى لَيْسَ، مَعَ إضْمارِ الفاءِ. والتَّقْدِيرُ: فَلَيْسَ يَضُرُّكم، وقالَهُ الفَرّاءُ والكِسائِيُّ. وقَرَأ عاصِمٌ فِيما رَوى أبُو زَيْدٍ عَنِ المُفَضَّلِ عَنْهُ بِضَمِّ الضّادِ وفَتْحِ الرّاءِ المُشَدَّدَةِ. وهي أحْسَنُ مِن قِراءَةِ ضَمِّ الرّاءِ نَحْوَ لَمْ يَرُدَّ زَيْدٌ، والفَتْحُ هو الكَثِيرُ المُسْتَعْمَلُ. وقَرَأ الضَّحّاكُ بِضَمِّ الضّادِ وكَسْرِ الرّاءِ المُشَدَّدَةِ عَلى أصْلِ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَأمّا الكَسْرُ فَلا أعْرِفُهُ قِراءَةً، وعِبارَةُ الزَّجّاجِ في ذَلِكَ مُتَجَوَّزٌ فِيها؛ إذْ يَظْهَرُ مِن دَرَجِ كَلامِهِ أنَّها قِراءَةٌ. انْتَهى. وهي قِراءَةٌ كَما ذَكَرْنا عَنِ الضَّحّاكِ. وقَرَأ أُبَيٌّ: ”لا يَضْرُرْكم“ - بِفَكِّ الإدْغامِ، وهي لُغَةُ أهْلِ الحِجازِ، وعَلَيْها في الآيَةِ: إنْ تَمْسَسْكم. ولُغَةُ سائِرِ العَرَبِ الإدْغامُ في هَذا كُلِّهِ. ﴿إنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ مَن قَرَأ بِالياءِ فَهو وعِيدٌ، والمَعْنى: مُحِيطٌ جَزاؤُهُ. وعَبَّرَ بِالإحاطَةِ عَنْ الِاطِّلاعِ التّامِّ والقُدْرَةِ والسُّلْطانِ. ومَن قَرَأ بِالتّاءِ - وهو الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ - فَعَلى الِالتِفاتِ لِلْكُفّارِ، أوْ عَلى إضْمارِ قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ. أوْ عَلى أنَّهُ خِطابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ تَضَمَّنَ تَوَعُّدَهم في اتِّخاذِ بِطانَةٍ مِنَ الكُفّارِ. قالُوا: وتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ ضُرُوبًا مِنَ البَلاغَةِ والفَصاحَةِ. مِنها: الوَصْلُ والقَطْعُ في ”﴿لَيْسُوا سَواءً مِن أهْلِ الكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣]“ . والتَّكْرارُ في ”﴿أصْحابُ النّارِ هُمْ﴾ [آل عمران: ١١٦]“ . والعُدُولُ عَنِ اسْمِ الفاعِلِ إلى غَيْرِهِ في: ”يَتْلُونَ“ وما بَعْدَهُ، وفي ”يَظْلِمُونَ“ . والِاكْتِفاءُ بِذِكْرِ بَعْضِ الشَّيْءِ عَنْ كُلِّهِ إذا كانَ فِيهِ دَلالَةٌ عَلى الباقِي في: ”﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ [آل عمران: ١١٤]“ . والمُقابَلَةُ في: ”تَأْمُرُونَ“ و”تُنْهَوْنَ“، وفي المَعْرُوفِ والمُنْكَرِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ طِباقًا مَعْنَوِيًّا، وفي ”حَسَنَةٌ“ و”سَيِّئَةٌ“، وفي ”تَسُؤْهم“ و”يَفْرَحُوا“ . والِاخْتِصاصُ في ”﴿عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: ١١٩]“ . والتَّشْبِيهُ في: ”﴿مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ﴾ [آل عمران: ١١٧]“، وفي ”﴿بِطانَةً﴾ [آل عمران: ١١٨]“، وفي ”﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ﴾ [آل عمران: ١١٩]“ عَلى أحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ، وفي ”﴿تَمْسَسْكم حَسَنَةٌ﴾“ و”﴿تُصِبْكم سَيِّئَةٌ﴾“ . شَبَّهَ حُصُولَهُما بِالمَسِّ والإصابَةِ، وهو مِن بابِ تَشْبِيهِ المَعْقُولِ بِالمَحْسُوسِ، والصَّحِيحُ أنَّ هَذِهِ اسْتِعارَةٌ. وفي مُحِيطٍ شَبَّهَ القُدْرَةَ عَلى الأشْياءِ والعِلْمَ بِها بِالشَّيْءِ المُحْدِقِ بِالشَّيْءِ مِن جَمِيعِ جِهاتِهِ، وهو مِن (p-٤٤)تَشْبِيهِ المَعْقُولِ بِالمَحْسُوسِ. والتَّجْنِيسُ المُماثِلُ في ”ظَلَمَهم“ و”يَظْلِمُونَ“، وفي ”﴿تُحِبُّونَهم ولا﴾ [آل عمران: ١١٩]“ ﴿يُحِبُّونَكُمْ﴾ [آل عمران: ١١٩] ”، وفي“ تُؤْمِنُونَ ”و“ آمَنّا ”، وفي“ ﴿مِنَ الغَيْظِ﴾ [آل عمران: ١١٩] ”و“ ﴿بِغَيْظِكُمْ﴾ [آل عمران: ١١٩] ”. والِالتِفاتُ: في و“ ما تَفْعَلُوا مِن خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَرُوهُ ”عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ بِالتّاءِ، وفي“ ﴿بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [هود: ٩٢] ”عَلى أحَدِ الوَجْهَيْنِ. وتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَحَلِّهِ في“ ﴿مِن أفْواهِهِمْ﴾ [آل عمران: ١١٨] " عَبَّرَ بِها عَنِ الألْسِنَةِ؛ لِأنَّها مَحَلُّها. والحَذْفُ في مَواضِعَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب