الباحث القرآني
﴿تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالحَقِّ وما اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ﴾ [آل عمران: ١٠٨] الإشارَةُ بِتِلْكَ قِيلَ: إلى القُرْآنِ كُلُّهُ. وقِيلَ: إلى ما أُنْزِلَ مِنَ الآياتِ في أمْرِ الأوْسِ والخَزْرَجِ واليَهُودِ الَّذِينَ مَكَرُوا بِهِمْ، والتَّقَدُّمُ إلَيْهِمْ بِتَجَنُّبِ الِافْتِراقِ. وكَشَفَ تَعالى لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ حالِهِمْ وحالِ أعْدائِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦] وقِيلَ: تِلْكَ بِمَعْنى هَذِهِ، لَمّا انْقَضَتْ صارَتْ كَأنَّها بَعُدَتْ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ الوارِدَةُ في الوَعْدِ والوَعِيدِ، وكَذا قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. قالَ: الإشارَةُ بِتِلْكَ إلى هَذِهِ الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ المُتَضَمِّنَةِ تَعْذِيبَ الكُفّارَ وتَنْعِيمَ المُؤْمِنِينَ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ ”نَتْلُوها“ بِالنُّونِ عَلى سَبِيلِ الِالتِفاتِ؛ لِما في إسْنادِ التِّلاوَةِ لِلْمُعَظَّمِ ذاتُهُ مِنَ الفَخامَةِ والشَّرَفِ. وقَرَأ أبُو نَهِيكٍ بِالياءِ. والأحْسَنُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ المَرْفُوعُ في ”نَتْلُوها“ في هَذِهِ القِراءَةِ عائِدٌ عَلى اللَّهِ، لِيَتَّحِدَ الضَّمِيرُ. ولَيْسَ فِيهِ التِفاتٌ؛ لِأنَّهُ ضَمِيرٌ غائِبٌ عادَ عَلى اسْمٍ غائِبٍ. ومَعْنى التِّلاوَةِ: القِراءَةُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وإسْنادُ ذَلِكَ إلى اللَّهِ عَلى سَبِيلِ المَجازِ، إذِ التّالِي هو جِبْرِيلُ لَمّا أمَرَهُ بِالتِّلاوَةِ كانَ كَأنَّهُ هو التّالِي تَعالى. وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْنى يَتْلُوها: يُنَزِّلُها مُتَوالِيَةً شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وجَوَّزُوا في قِراءَةِ أبِي نَهِيكٍ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الفاعِلِ عائِدًا عَلى جِبْرِيلَ، وإنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِلْعِلْمِ بِهِ.
ومَعْنى بِالحَقِّ أيْ بِإخْبارِ الصِّدْقِ. وقِيلَ: المَعْنى مُتَضَمِّنَةُ الأفاعِيلَ الَّتِي هي أنْفُسُها حَقٌّ مِن كَرامَةِ قَوْمٍ وتَعْذِيبِ (p-٢٧)آخَرِينَ. وتِلْكَ مُبْتَدَأٌ أوْ آياتُ اللَّهِ خَبَرُهُ، ونَتْلُوها جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ. قالُوا: والعامِلُ فِيها اسْمُ الإشارَةِ. وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ آياتُ اللَّهِ بَدَلًا، والخَبَرُ نَتْلُوها. وقالَ الزَّجّاجُ: في الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ تِلْكَ آياتُ القُرْآنِ المَذْكُورَةُ حُجَجُ اللَّهِ ودَلائِلُهُ. انْتَهى. فَعَلى هَذا الَّذِي قَدَّرَهُ يَكُونُ خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَحْذُوفٌ؛ لِأنَّهُ عِنْدَهُ بِهَذا التَّقْدِيرِ يَتِمُّ مَعْنى الآيَةِ. ولا حاجَةَ إلى تَقْدِيرِ هَذا المَحْذُوفِ؛ إذِ الكَلامُ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ تامٌّ بِنَفْسِهِ. والباءُ في ”بِالحَقِّ“ باءُ المُصاحَبَةِ، فَهي في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ المَفْعُولِ، أيْ: مُلْتَبِسَةٌ بِالحَقِّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُلْتَبِسَةٌ بِالحَقِّ والعَدْلِ مِن جَزاءِ المُحْسِنِ والمُسِيءِ بِما يَسْتَوْجِبانِهِ. انْتَهى. فَدَسَّ في قَوْلِهِ بِما يَسْتَوْجِبانِهِ دَسِيسَةً اعْتِزالِيَّةً. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ لا يُرِيدُ الظُّلْمَ، وإذا لَمْ يُرِدْهُ لَمْ يَقَعْ مِنهُ لِأحَدٍ. فَما وقَعَ مِنهُ تَعالى مِن تَنْعِيمِ قَوْمٍ وتَعْذِيبٍ آخَرَيْنِ لَيْسَ مِن بابِ الظُّلْمِ، والظُّلْمُ وضْعُ الشَّيْءِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ. رَوى أبُو ذَرٍّ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ فِيما يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ أنَّهُ قالَ: «يا عِبادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلى نَفْسِي وجَعَلْتُهُ بَيْنَكم مُحَرَّمًا، فَلا تَظالَمُوا» . وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أيْضًا أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنَةً يُعْطى بِها في الدُّنْيا ويُجْزى بِها في الآخِرَةِ، وأمّا الكافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَناتِهِ في الدُّنْيا ما عَمِلَ لِلَّهِ بِها، فَإذا أفْضى إلى الآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزى بِها» . وقِيلَ: المَعْنى لا يَزِيدُ في إساءَةِ المُسِيءِ ولا يُنِقُصُ مِن إحْسانِ المُحْسِنِ، وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ تَسْوِيدَ الوُجُوهِ عَدْلٌ. انْتَهى.
ولِلْعالَمِينَ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هو ظُلْمٌ، والفاعِلُ مَحْذُوفٌ مَعَ المَصْدَرِ، التَّقْدِيرُ: ظُلْمُهُ، والعائِدُ هو ضَمِيرُ اللَّهِ تَعالى أيْ: لَيْسَ اللَّهُ مُرِيدًا أنْ يَظْلِمَ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ. ونَكَّرَ ظُلْمًا؛ لِأنَّهُ في سِياقِ النَّفْيِ، فَهو يَعُمُّ. وقِيلَ: المَعْنى أنَّهُ تَعالى لا يُرِيدُ ظُلْمَ العالَمِينَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ. واللَّفْظُ يَنْبُو عَنْ هَذا المَعْنى؛ إذْ لَوْ كانَ هَذا المَعْنى مُرادًا لَكانَ ”مِن“ أحَقَّ بِهِ مِنَ الكَلامِ، فَكانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ: وما اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا مِنَ العالَمِينَ. وقالالزَّمَخْشَرِيُّ: وما اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا فَيَأْخُذُ أحَدًا بِغَيْرِ جُرْمٍ، أوْ يَزِيدُ في عِقابِ مُجْرِمٍ، أوْ يُنْقِصُ مِن ثَوابِ مُحْسِنٍ، ثُمَّ قالَ: فَسُبْحانَ مَن يَحْلُمُ عَنْ مَن يَصِفُهُ بِإرادَةِ القَبائِحِ والرِّضا بِها. انْتَهى كَلامُهُ جارِيًا عَلى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزالِيِّ. ونَقُولُ لَهُ: فَسُبْحانُ مَن يَحْلُمُ عَمَّنْ يَصِفُهُ بِأنْ يَكُونَ في مُلْكِهِ ما لا يُرِيدُ، وأنَّ إرادَةَ العَبْدِ تَغْلِبُ إرادَةَ الرَّبِّ، تَعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ لَمّا ذَكَرَ أحْوالَ الكافِرِينَ والمُؤْمِنِينَ، وأنَّهُ يَخْتَصُّ بِعَمَلِ مَن آمَنَ فَيَرْحَمُهم بِهِ، ويَخْتَصُّ بِعَمَلِ مَن كَفَرَ فَيُعَذِّبُهم، نَبَّهَ عَلى أنَّ هَذا التَّصَرُّفَ هو فِيما يَمْلِكُهُ، فَلا اعْتِراضَ عَلَيْهِ تَعالى. ودَلَّتِ الآيَةُ عَلى اتِّساعِ مُلْكِهِ، ومَرْجِعُ الأُمُورِ كُلِّها إلَيْهِ، فَهو غَنِيٌّ عَنِ الظُّلْمِ؛ لِأنَّ الظُّلْمَ إنَّما يَكُونُ فِيما كانَ مُخْتَصًّا بِهِ عَنِ الظّالِمِ. وتَقَدَّمَ شَرْحُ هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ، فَأغْنى ذَلِكَ عَنْ إعادَتِهِ.
قالُوا: وتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ الطِّباقَ في: (تَبْيَضُّ) (وتَسْوَدُّ)، وفي اسْوَدَّتْ وابْيَضَّتْ، وفي أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكم، وفي بِالحَقِّ وُظُلْمًا. والتَّفْصِيلَ: في فَأمّا وأمّا. والتَّجْنِيسَ المُماثِلَ في: أكَفَرْتُمْ وتَكْفُرُونَ. وتَأْكِيدَ المُظْهَرِ بِالمُضْمَرِ في: فَفي رَحْمَةِ اللَّهِ هم فِيها خالِدُونَ. والتَّكْرارَ في لَفْظِ اللَّهِ، ومُحَسِّنُهُ: أنَّهُ في جُمَلٍ مُتَغايِرَةِ المَعْنى، والمَعْرُوفُ في لِسانِ العَرَبِ إذا اخْتَلَفَتِ الجُمَلُ أعادَتِ المُظْهَرَ لا المُضْمَرَ؛ لِأنَّ في ذِكْرِهِ دَلالَةٌ عَلى تَفْخِيمِ الأمْرِ وتَعْظِيمِهِ، ولَيْسَ ذَلِكَ نَظِيرَ:
؎لا أرى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَـيْءٌ
لِاتِّحادِ الجُمْلَةِ. لَكِنَّهُ قَدْ يُؤْتى في الجُمْلَةِ الواحِدَةِ بِالمُظْهَرِ قَصْدًا لِلتَّفْخِيمِ. والإشارَةَ في قَوْلِهِ: تِلْكَ، وتَلْوِينَ الخِطابِ في: ﴿فَأمّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهم أكَفَرْتُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦]، والتَّشْبِيهَ والتَّمْثِيلَ في: ﴿تَبْيَضُّ﴾ [آل عمران: ١٠٦] ﴿وتَسْوَدُّ﴾ [آل عمران: ١٠٦]، إذا كانَ ذَلِكَ عِبارَةٌ عَنِ الطَّلاقَةِ والكَآبَةِ. والحَذْفَ في مَواضِعَ.
{"ayah":"وَلِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق