الباحث القرآني

﴿فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إلّا أنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أوْ حَرِّقُوهُ فَأنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النّارِ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وقالَ إنَّما اتَّخَذْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ أوْثانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكم في الحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكم بِبَعْضٍ ويَلْعَنُ بَعْضُكم بَعْضًا ومَأْواكُمُ النّارُ ومالَكم مِن ناصِرِينَ﴾ ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وقالَ إنِّي مُهاجِرٌ إلى رَبِّي إنَّهُ هو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿ووَهَبْنا لَهُ إسْحاقَ ويَعْقُوبَ وجَعَلْنا في ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ والكِتابَ وآتَيْناهُ أجْرَهُ في الدُّنْيا وإنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ﴾ ﴿ولُوطًا إذْ قالَ لِقَوْمِهِ إنَّكم لَتَأْتُونَ الفاحِشَةَ ما سَبَقَكم بِها مِن أحَدٍ مِنَ العالَمِينَ﴾ ﴿أئِنَّكم لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وتَأْتُونَ في نادِيكُمُ المُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إلّا أنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ ﴿قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلى القَوْمِ المُفْسِدِينَ﴾ ﴿ولَمّا جاءَتْ رُسُلُنا إبْراهِيمَ بِالبُشْرى قالُوا إنّا مُهْلِكُو أهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ إنَّ أهْلَها كانُوا ظالِمِينَ﴾ ﴿قالَ إنَّ فِيها لُوطًا قالُوا نَحْنُ أعْلَمُ بِمَن فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وأهْلَهُ إلّا امْرَأتَهُ كانَتْ مِنَ الغابِرِينَ﴾ ﴿ولَمّا أنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وضاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وقالُوا لا تَخَفْ ولا تَحْزَنْ إنّا مُنَجُّوكَ وأهْلَكَ إلّا امْرَأتَكَ كانَتْ مِنَ الغابِرِينَ﴾ ﴿إنّا مُنْزِلُونَ عَلى أهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ﴾ ﴿ولَقَدْ تَرَكْنا مِنها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ . (p-١٤٨)لَمّا أمَرَهم بِعِبادَةِ اللَّهِ، وبَيَّنَ سَفَهَهم في عِبادَةِ الأوْثانِ، وظَهَرَتْ حُجَّتُهُ عَلَيْهِمْ، رَجَعُوا إلى الغَلَبَةِ، فَجَعَلُوا القائِمَ مَقامَ جَوابِهِ فِيما أمَرَهم بِهِ قَوْلَهم: ﴿اقْتُلُوهُ أوْ حَرِّقُوهُ﴾ . والآمِرُونَ بِذَلِكَ، إمّا بَعْضُهم لِبَعْضٍ، أوْ كُبَراؤُهم قالُوا لِأتْباعِهِمُ: اقْتُلُوهُ، فَتَسْتَرِيحُوا مِنهُ عاجِلًا، أوْ حَرِّقُوهُ بِالنّارِ؛ فَإمّا أنْ يَرْجِعَ إلى دِينِكم، إذا أمْضَتْهُ النّارُ؛ وإمّا أنْ يَمُوتَ بِها، إنْ أصَرَّ عَلى قَوْلِهِ ودِينِهِ. وفي الكَلامِ حَذْفٌ، أيْ: حَرِّقُوهُ في النّارِ ﴿فَأنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النّارِ﴾ . وتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ في تَحْرِيقِهِ في سُورَةِ ﴿اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ﴾ [الأنبياء: ١] . وجَمَعَ هُنا فَقالَ الآياتِ؛ لِأنَّ الإنْجاءَ مِنَ النّارِ، وجَعْلَها بَرْدًا وسَلامًا، وأنَّها في الحَبْلِ الَّذِي كانُوا أوْثَقُوهُ بِهِ دُونَ الجِسْمِ، وإنْ صَحَّ ما نُقِلَ مِن أنَّ مَكانَها، حالَةَ الرَّمْيِ، صارَ بُسْتانًا يانِعًا، هو مَجْمُوعُ آياتٍ، فَناسَبَ الجَمْعَ، بِخِلافِ الإنْجاءِ مِنَ السَّفِينَةِ، فَإنَّهُ آيَةٌ واحِدَةٌ، وتَقَدَّمُ الكَلامُ عَلى ذَلِكَ، وفي ذَلِكَ إشارَةٌ مِنَ النّارِ بَعْدَ إلْقائِهِ؛ فِيما قالَ كَعْبٌ: لَمْ يَحْتَرِقْ بِالنّارِ إلّا الحَبْلُ الَّذِي أوْثَقُوهُ بِهِ. وجاءَ هُنا التَّرْدِيدُ بَيْنَ قَتْلِهِ وإحْراقِهِ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِن قائِلِينَ: ناسٌ أشارُوا بِالقَتْلِ، وناسٌ أشارُوا بِالإحْراقِ. وفي (اقْتَرَبَ) قالُوا: (حَرِّقُوهُ) اقْتَصَرُوا عَلى أحَدِ الشَّيْئَيْنِ، وهو الَّذِي فَعَلُوهُ، رَمَوْهُ في النّارِ ولَمْ يَقْتُلُوهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (جَوابَ) بِالنَّصْبِ؛ والحَسَنُ، وسالِمٌ الأفْطَسُ: بِالرَّفْعِ، اسْمًا لِـ: كانَ. وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وأبُو عَمْرٍو في رِوايَةِ الأصْمَعِيِّ، والأعْمَشُ عَنْ أبِي بَكْرٍ: ”مَوَدَّةٌ“ بِالرَّفْعِ، و”بَيْنَكم“ بِالنَّصْبِ. فالرَّفْعُ عَلى خَبَرِ إنَّ، و”ما“ مَوْصُولَةٌ بِمَعْنى الَّذِي، أيْ: إنَّ الأوْثانَ الَّتِي اتَّخَذْتُمُوها مَوْدُودًا، أوْ سَبَبَ مَوَدَّةٍ، أوْ مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ: إنَّ اتِّخاذَكم أوْثانًا مَوَدَّةً، أوْ عَلى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: هي مَوَدَّةُ بَيْنِكم، وما إذْ ذاكَ مُهَيِّئَةٌ. ورُوِيَ عَنْ عاصِمٍ: ”مَوَدَّةُ“، بِالرَّفْعِ مِن غَيْرِ تَنْوِينٍ؛ و”بَيْنَكم“ بِالفَتْحِ، أيْ: بِفَتْحِ النُّونِ، جَعَلَهُ مَبْنِيًّا لِإضافَتِهِ إلى مَبْنِيٍّ، وهو مَوْضِعُ خَفْضٍ بِالإضافَةِ، ولِذَلِكَ سَقَطَ التَّنْوِينُ مِن ”مَوَدَّةُ“ . وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، والكِسائِيُّ، وابْنُ كَثِيرٍ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ خَفَضَ نُونَ (بَيْنِكم) . وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ بِنَصْبِ ”مَوَدَّةً“ مُنَوَّنًا ونَصْبِ ”بَيْنَكم“؛ وحَمْزَةُ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ أضافَ ”مَوَدَّةً“ إلى ”بَيْنَكم“ وخَفَضَ، كَما في قِراءَةِ مَن نَصَبَ ”مَوَدَّةً“ مُهَيِّئَةً. و”اتَّخَذَ“ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِمّا تَعَدَّتْ إلى اثْنَيْنِ، والثّانِي هو (مَوَدَّةَ)، أيِ: اتَّخَذْتُمُ الأوْثانَ بِسَبَبِ المَوَدَّةِ بَيْنَكم، عَلى حَذْفِ المُضافِ، أوِ اتَّخَذْتُمُوها مَوَدَّةَ بَيْنِكم، كَقَوْلِهِ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أنْدادًا يُحِبُّونَهم كَحُبِّ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٦٥] أوْ مِمّا تَعَدَّتْ إلى واحِدٍ، وانْتَصَبَ ”مَوَدَّةَ“ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أيْ: لِيَتَوادُّوا ويَتَواصَلُوا ويَجْتَمِعُوا عَلى عِبادَتِها، كَما يَجْتَمِعُ ناسٌ عَلى مَذْهَبٍ، فَيَقَعُ التَّحابُّ بَيْنَهم. وذَكَرُوا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قِراءَةً شاذَّةً تُخالِفُ سَوادَ المُصْحَفِ، مَعَ أنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ ما في سَوادِ المُصْحَفِ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ المُسْتَفِيضِ، فَلِذَلِكَ لَمْ أذْكُرْ تِلْكَ القِراءَةَ. ﴿ثُمَّ يَوْمَ القِيامَةِ﴾ يَقَعُ بَيْنَكُمُ التَّلاعُنُ، أيْ: فَيُلاعِنُ العَبَدَةُ والمَعْبُوداتُ الأصْنامَ، كَقَوْلِهِ: و﴿يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ [مريم: ٨٢] . و(بَيْنَكم) و(في الحَياةِ) يَجُوزُ تَعْلِيقُهُما بِلَفْظِ ”مَوَدَّةَ“ وعَمِلَ في ظَرْفَيْنِ لِاخْتِلافِهِما، إذْ هُما ظَرْفا مَكانٍ وزَمانٍ، ويَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقا بِمَحْذُوفَيْنِ، فَيَكُونانِ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أيْ: كائِنَةً بَيْنَكم في الحَياةِ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ (p-١٤٩)المُسْتَكِنِّ في (بَيْنِكم) . وأجازَ أبُو البَقاءِ أنْ يَتَعَلَّقَ (في الحَياةِ) . بِـ: ”اتَّخَذْتُمْ“ عَلى جَعْلِ ما كافَّةً، ونَصْبِ (مَوَدَّةَ)، لا عَلى جَعْلِ ما مَوْصُولَةً بِمَعْنى الَّذِي، أوْ مَصْدَرِيَّةً ورَفْعِ ”مَوَدَّةَ“، لِئَلّا يُؤَدِّيَ إلى الفَصْلِ بَيْنَ المَوْصُولِ وما في الصِّلَةِ بِالخَبَرِ. وأجازَ قَوْمٌ مِنهُمُ ابْنُ عَطِيَّةَ أنْ يَتَعَلَّقَ (في الحَياةِ) بِـ: (مَوَدَّةَ)، وأنْ يَكُونَ (بَيْنِكم) صِفَةً لِـ: (مَوَدَّةَ)، وهو لا يَجُوزُ؛ لِأنَّ المَصْدَرَ إذا وُصِفَ قَبْلَ أخْذِ مُتَعَلِّقاتِهِ لا يَعْمَلُ، وشُبْهَتُهم في هَذا أنَّهُ يَتَّسِعُ في الظَّرْفِ، بِخِلافِ المَفْعُولِ بِهِ. وأجازَ أبُو البَقاءِ أنْ يَتَعَلَّقَ بِنَفْسِ (بَيْنِكم)، قالَ: لِأنَّ مَعْناهُ: اجْتِماعُكم أوْ وصْلُكم. وأجازَ أيْضًا أنْ يَجْعَلَهُ حالًا مِن (بَيْنِكم)، قالَ: لِتَعَرُّفِهِ بِالإضافَةِ. انْتَهى، وهُما إعْرابانِ لا يَتَعَقَّلانِ. ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ لَمْ يُؤْمِن بِإبْراهِيمَ أحَدٌ مِن قَوْمِهِ إلّا لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، حِينَ رَأى النّارَ لَمْ تُحْرِقْهُ، وكانَ ابْنُ أخِي سارَّةَ، أوْ كانَتْ بِنْتَ عَمِّهِ. والضَّمِيرُ في (وقالَ) عائِدٌ عَلى إبْراهِيمَ، وهو الظّاهِرُ، لِيَتَناسَقَ مَعَ قَوْلِهِ: ﴿ووَهَبْنا لَهُ إسْحاقَ﴾ وهو قَوْلُ قَتادَةَ والنَّخَعِيِّ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: يَعُودُ عَلى لُوطٍ، وهاجَرَ، وإبْراهِيمَ، عَلَيْهِمُ السَّلامُ، مِن قَرْيَتِهِما كُوثى، وهي في سَوادِ العِراقِ، مِن أرْضِ بابِلَ، إلى فِلَسْطِينَ مِن أرْضِ الشّامِ. وكانَ إبْراهِيمُ ابْنَ خَمْسٍ وسَبْعِينَ سَنَةً، وهو أوَّلُ مَن هاجَرَ في اللَّهِ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هاجَرَ إلى حَرّانَ، ثُمَّ إلى الشّامِ، وفي هِجْرَتِهِ هَذِهِ كانَتْ مَعَهُ سارَّةُ. والمُهاجِرُ: الفارِغُ عَنِ الشَّيْءِ، وهو في عُرْفِ الشَّرِيعَةِ: مَن تَرَكَ وطَنَهُ رَغْبَةً في رِضا اللَّهِ. وعُرِفَ بِهَذا الِاسْمِ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، المُهاجِرُونَ، قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ. (إلى رَبِّي) أيْ: إلى الجِهَةِ الَّتِي أمَرَنِي رَبِّي بِالهِجْرَةِ إلَيْها. وقِيلَ: إلى حَيْثُ لا أُمْنَعُ عِبادَةَ رَبِّي. وقِيلَ: مُهاجِرًا مَن خالَفَنِي مِن قَوْمِي، مُتَقَرِّبًا إلى رَبِّي. ونَزَلَ إبْراهِيمُ قَرْيَةً مِن أرْضِ فِلَسْطِينَ، وتَرَكَ لُوطًا في سَدُومَ، وهي المُؤْتَفِكَةُ، عَلى مَسِيرَةِ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ مِن قَرْيَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِما السَّلامُ. ﴿إنَّهُ هو العَزِيزُ﴾ الَّذِي لا يُذَلُّ مَن عَبَدَهُ (الحَكِيمُ) الَّذِي يَضَعُ الأشْياءَ مَواضِعَها. والضَّمِيرُ في (ذُرِّيَّتِهِ) عائِدٌ عَلى إبْراهِيمَ. (النُّبُوَّةَ) إسْحاقُ، ويَعْقُوبُ، وأنْبِياءُ بَنِي إسْرائِيلَ، وإسْماعِيلُ، ومُحَمَّدٌ خاتَمُهم، صَلّى اللَّهُ وسَلَّمَ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ. (والكِتابَ) اسْمُ جِنْسٍ يَدْخُلُ فِيهِ التَّوْراةُ، والزَّبُورُ، والإنْجِيلُ، والفُرْقانُ. ﴿وآتَيْناهُ أجْرَهُ في الدُّنْيا﴾ أيْ: في حَياتِهِ، قالَ مُجاهِدٌ: نَجاتُهُ مِنَ النّارِ، ومِنَ المَلِكِ الجَبّارِ، والعَمَلُ الصّالِحُ: والثَّناءُ الحَسَنُ، بِحَيْثُ يَتَوَلّاهُ كُلُّ أُمَّةٍ، وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: والوَلَدُ الَّذِي قَرَّتْ بِهِ عَيْنُهُ، قالَهُ الحَسَنُ. وقالَ السُّدِّيُّ: إنَّهُ رَأى مَكانَهُ مِنَ الجَنَّةِ. وقالَ ابْنُ أبِي بُرْدَةَ: ما وُفِّقَ لَهُ مِن عَمَلِ الآخِرَةِ. وقالَ الماوَرْدِيُّ: بَقاءُ ضِيافَتِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ، ولَيْسَ ذَلِكَ لِنَبِيٍّ غَيْرِهِ. وقِيلَ: النُّبُوَّةُ والحِكْمَةُ. وقِيلَ: الصَّلاةُ عَلَيْهِ إلى آخِرِ الدَّهْرِ. وانْتَصَبَ لُوطًا بِإضْمارِ اذْكُرْ، أوْ بِالعَطْفِ عَلى إبْراهِيمَ، أوْ بِالعَطْفِ عَلى ما عُطِفَ عَلَيْهِ إبْراهِيمُ. والجُمْهُورُ: عَلى الِاسْتِفْهامِ في أئِنَّكم مَعًا. وقُرِئَ: أنَّكم عَلى الخَبَرِ، والثّانِي عَلى الِاسْتِفْهامِ. وقالَ أبُو عُبَيْدٍ: وجَدْتُهُ في الإمامِ بِحَرْفٍ واحِدٍ بِغَيْرِ ياءٍ، ورَأيْتُ الثّانِيَ بِحَرْفَيْنِ، الياءِ والنُّونِ. ولَمْ يَأْتِ في قِصَّةِ لُوطٍ أنَّهُ دَعا قَوْمَهُ إلى عِبادَةِ اللَّهِ، كَما جاءَ في قِصَّةِ إبْراهِيمَ وقِصَّةِ شُعَيْبٍ؛ لِأنَّ لُوطًا كانَ مِن قَوْمِ إبْراهِيمَ وفي زَمانِهِ، وسَبَقَهُ إبْراهِيمُ إلى الدُّعاءِ لِعِبادَةِ اللَّهِ وتَوْحِيدِهِ، واشْتُهِرَ أمْرُهُ بِذَلِكَ عِنْدَ الخَلْقِ، فَذَكَرَ لُوطٌ ما اخْتُصَّ بِهِ مِنَ المَنعِ مِنَ الفَحْشاءِ وغَيْرِها. وأمّا إبْراهِيمُ وشُعَيْبٌ فَجاءا بَعْدَ انْقِراضِ مَن كانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَلِذَلِكَ دَعَوا إلى عِبادَةِ اللَّهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿ما سَبَقَكم بِها﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِفاحِشَةِ تِلْكَ الفَعْلَةِ، كَأنَّ قائِلًا قالَ: لِمَ كانَتْ فاحِشَةً ؟ فَقِيلَ: لِأنَّ أحَدًا قَبْلَهم لَمْ يُقْدِمْ عَلَيْها اشْمِئْزازًا مِنها في طِباعِهِمْ لِإفْراطِ قُبْحِها، حَتّى قَدَمَ عَلَيْها قَوْمُ لُوطٍ لِخُبْثِ طِينَتِهِمْ، قالُوا: لَمْ يَنْزُ ذَكَرٌ عَلى ذَكَرٍ قَبْلَ قَوْمِ لُوطٍ. انْتَهى. ويَظْهَرُ أنَّ ﴿ما سَبَقَكم بِها﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، كَأنَّهُ قالَ: أتَأْتُونَ الفاحِشَةَ مُبْتَدِعِينَ لَها غَيْرَ مَسْبُوقِينَ بِها ؟ واسْتَفْهَمَ أوَّلًا وثانِيًا اسْتِفْهامَ إنْكارٍ وتَوْبِيخٍ وتَقْرِيعٍ، وبَيَّنَ ما تِلْكَ الفاحِشَةُ المُبْهَمَةُ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّكم لَتَأْتُونَ الفاحِشَةَ﴾ وإنْ كانَتْ مُعَيَّنَةً أنَّها إتْيانُ الذُّكُورِ (p-١٥٠)فِي الأدْبارِ بِقَوْلِهِ: ﴿ما سَبَقَكم بِها﴾ فَقالَ: ﴿أئِنَّكم لَتَأْتُونَ الرِّجالَ﴾ يَعْنِي في الأدْبارِ ﴿وتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾ الوَلَدَ، بِتَعْطِيلِ الفَرْجِ ووَطْءِ أدْبارِ الرِّجالِ، أوْ بِإمْساكِ الغُرَباءِ لِذَلِكَ الفِعْلِ حَتّى انْقَطَعَتِ الطُّرُقُ، أوْ بِالقَتْلِ وأخْذِ المالِ، أوْ بِقُبْحِ الأُحْدُوثَةِ حَتّى تَنْقَطِعَ سُبُلُ النّاسِ في التِّجاراتِ. ﴿وتَأْتُونَ في نادِيكُمُ﴾ أيْ: في مَجْلِسِكُمُ الَّذِي تَجْتَمِعُونَ فِيهِ، وهو اسْمُ جِنْسٍ، إذْ أنْدِيَتُهم في مَدائِنِهِمْ كَثِيرَةٌ، ولا يُسَمّى نادِيًا إلّا ما دامَ فِيهِ أهْلُهُ، فَإذا قامُوا عَنْهُ، لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ نادٍ إلّا مَجازًا. والمُنْكَرُ ما تُنْكِرُهُ العُقُولُ والشَّرائِعُ والمُرُوءاتُ: حَذْفُ النّاسِ بِالحَصْباءِ، والِاسْتِخْفافُ بِالغَرِيبِ الخاطِرِ، «ورَوَتْ أُمُّ هانِئٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، أوْ إتْيانُ الرِّجالِ في مَجالِسِهِمْ يَرى بَعْضُهم بَعْضًا»، قالَهُ مَنصُورٌ ومُجاهِدٌ والقاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وقَتادَةُ بْنُ زَيْدٍ؛ أوْ تَضارُطُهم؛ أوْ تَصافُعُهم فِيها، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ؛ أوْ لَعِبُ الحَمامِ؛ أوْ تَطْرِيفُ الأصابِعِ بِالحِنّاءِ، والصَّفِيرُ، والحَذْفُ، ونَبْذُ الحَياءِ في جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، قالَهُ مُجاهِدٌ أيْضًا، أوِ الحَذْفُ بِالحَصى، والرَّمْيُ بِالبَنادِقِ، والفَرْقَعَةُ، ومَضْغُ العَلَكِ، والسِّواكُ بَيْنَ النّاسِ، وحَلُّ الأزْرارِ، والسِّبابَةُ، والفُحْشُ في المِزاحِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا مَعَ شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ. كانَتْ فِيهِمْ ذُنُوبٌ غَيْرُ الفاحِشَةِ: تَظالُمٌ فِيما بَيْنَهم، وبَشاعَةٌ، ومَضارِيطُ في مَجالِسِهِمْ، وحَذْفٌ، ولَعِبٌ بِالنَّرْدِ والشِّطْرَنْجِ، ولُبْسُ المُصَبَّغاتِ، ولِباسُ النِّساءِ لِلرِّجالِ، والمُكُوسُ عَلى كُلِّ عابِرٍ؛ وهم أوَّلُ مَن لاطَ ومَن ساحَقَ. ولَمّا وقَّفَهم لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى هَذِهِ القَبائِحِ، أصَرُّوا عَلى اللِّجاجِ في التَّكْذِيبِ، فَكانَ جَوابُهم لَهُ: ﴿أنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ فِيما تَعِدُنا بِهِ مِن نُزُولِ العَذابِ، قالُوا ذَلِكَ وهم مُصَمِّمُونَ عَلى اعْتِقادِ كَذِبِهِ فِيما وعَدَهم بِهِ. وفي آيَةٍ أُخْرى: ﴿إلّا أنْ قالُوا أخْرِجُوا آلَ لُوطٍ﴾ [النمل: ٥٦] الجَمْعُ بَيْنَهُما أنَّهم أوَّلًا قالُوا: ﴿ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ﴾ ثُمَّ أنَّهُ كَثُرَ مِنهُ الإنْكارُ، وتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنهُ نَهْيًا ووَعْظًا ووَعِيدًا ﴿قالُوا أخْرِجُوا آلَ لُوطٍ﴾ [النمل: ٥٦] . ولَمّا كانَ إنَّما يَأْمُرُهم بِتَرْكِ الفَواحِشِ وما كانُوا يَصْنَعُونَهُ مِن قَبِيحِ المَعاصِي، ويَعِدُ عَلى ذَلِكَ بِالعَذابِ، وكانُوا يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ هَذا ولا يُعَذِّبُ عَلَيْهِ، وهو يَقُولُ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ ويُعَذِّبُ عَلَيْهِ ﴿قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ﴾ فَكانُوا ألْطَفَ في الجَوابِ مِن قَوْمِ إبْراهِيمَ بِقَوْلِهِمْ: ﴿اقْتُلُوهُ أوْ حَرِّقُوهُ﴾ لِأنَّهُ كانَ لا يَذُمُّ آلِهَتَهم، وعَهِدَ إلى أصْنامِهِمْ فَكَسَرَها، فَكانَ فِعْلُهُ هَذا مَعَهم أعْظَمَ مِن قَوْلِ لُوطٍ لِقَوْمِهِ، فَكانَ جَوابُهم لَهُ: ﴿أنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أوْ حَرِّقُوهُ﴾ . ثُمَّ اسْتَنْصَرَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَبُعِثَ مَلائِكَةٌ لِعَذابِهِمْ، ورَجْمِهِمْ بِالحاصِبِ، وإفْسادِهِمْ بِحَمْلِ النّاسِ عَلى ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ المَعاصِي طَوْعًا وكَرْهًا، وخُصُوصًا تِلْكَ المَعْصِيَةَ المُبْتَدَعَةَ. (بِالبُشْرى) هي بِشارَتُهُ بِوَلَدِهِ إسْحاقَ، وبِنافِلَتِهِ يَعْقُوبَ، وبِنَصْرِ لُوطٍ عَلى قَوْمِهِ وإهْلاكِهِمْ، و(القَرْيَةَ) سَدُومُ، وفِيها قِيلَ: أجْوَرُ مِن قاضِي سَدُومَ. (كانُوا ظالِمِينَ) أيْ: قَدْ سَبَقَ مِنهُمُ الظُّلْمُ. واسْتَمَرَّ عَلى الأيّامِ السّالِفَةِ وهم مُصِرُّونَ، وظُلْمُهم: كُفْرُهم وأنْواعُ مَعاصِيهِمْ. ولَمّا ذَكَرُوا لِإبْراهِيمَ: ﴿إنّا مُهْلِكُو أهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ﴾ أشْفَقَ عَلى لُوطٍ فَقالَ: ﴿إنَّ فِيها لُوطًا﴾ . ولَمّا عَلَّلُوا الإهْلاكَ بِالظُّلْمِ، قالَ لَهم: فِيها مَن هو بَرِيءٌ مِنَ الظُّلْمِ ﴿قالُوا نَحْنُ أعْلَمُ بِمَن فِيها﴾ أيْ: مِنكَ، وأُخْبِرَ بِحالِهِ. ثُمَّ أخْبَرُوهُ بِإنْجائِهِمْ إيّاهُ ﴿وأهْلَهُ إلّا امْرَأتَهُ﴾ . وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: ﴿لَنُنَجِّيَنَّهُ﴾ مُضارِعَ أنْجى؛ وباقِي السَّبْعَةِ: مُضارِعَ نَجّى؛ والجُمْهُورُ: بِشَدِّ النُّونِ؛ وفِرْقَةٌ: بِتَخْفِيفِها. ﴿ولَمّا أنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وضاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مِثْلِ هَذِهِ الجُمْلَةِ، إلّا أنَّ هُنا زِيدَتْ ”أنْ“ بَعْدَ ”لَمّا“، وهو قِياسٌ مُطَّرِدٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أنْ صِلَةٌ أكَّدَتْ وُجُودَ الفِعْلَيْنِ مُتَرَتِّبًا أحَدُهُما عَلى الآخَرِ في وقْتَيْنِ مُتَجاوِرَيْنِ لا فاصِلَ بَيْنَهُما، كَأنَّهُما وُجِدا في جُزْءٍ واحِدٍ مِنَ الزَّمانِ، كَأنَّهُ قِيلَ: لَمّا أحَسَّ بِمَجِيئِهِمْ، فاجَأتِ المَساءَةُ مِن غَيْرِ وقْتٍ خِيفَةً عَلَيْهِمْ مِن قَوْمِهِ. انْتَهى. وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ في التَّرْتِيبِ هو مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، إذْ مَذْهَبُهُ. أنَّ لَمّا: حَرْفٌ لا ظَرْفٌ، خِلافًا لِلْفارِسِيِّ، وهَذا مَذْكُورٌ في عِلْمِ النَّحْوِ. وقَرَأ العَرَبِيّانِ، ونافِعٌ، وحَفْصٌ: ﴿مُنَجُّوكَ﴾ مُشَدَّدًا؛ وباقِي (p-١٥١)السَّبْعَةِ: مُخَفَّفًا، والكافُ في مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ في مَوْضِعِ جَرٍّ. (وأهْلَكَ) مَنصُوبٌ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ، أيْ: ونُنَجِّي أهْلَكَ. ومَن راعى هَذا المَوْضِعَ، عَطَفَهُ عَلى مَوْضِعِ الكافِ، والكافُ عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ وهِشامٍ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، و”أهْلَكَ“ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ هَذِهِ النُّونَ كالتَّنْوِينِ، وهُما عَلى مَذْهَبِهِما يُحْذَفانِ لِلَطافَةِ الضَّمِيرِ وشِدَّةِ طَلَبِهِ الِاتِّصالَ بِما قَبْلَهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (سِيءَ)، بِكَسْرِ السِّينِ، وضَمَّها نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ والكِسائِيُّ. وقَرَأ عِيسى، وطَلْحَةُ: ”سُوءَ“، بِضَمِّها، وهي لُغَةُ بَنِي هُذَيْلٍ. وبَنِي وُبَيْرٍ يَقُولُونَ في قِيلَ وبِيعَ ونَحْوِهِما: قُولَ وبُوعَ. وقُرِئَ: ”مُنْزِلُونَ“، مُخَفَّفًا ومُشَدَّدًا؛ وابْنُ مُحَيْصِنٍ: ”رُجْزًا“، بِضَمِّ الرّاءِ؛ وأبُو حَيْوَةَ والأعْمَشُ: بِكَسْرِ سِينِ (يَفْسُقُونَ) . والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في مِنها عائِدٌ عَلى القَرْيَةِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَنازِلُهُمُ الخَرِبَةُ. وحَكى أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ أنَّ الآيَةَ في قَرْيَتِهِمْ، إلّا أنَّ أساسَها أعْلاها، وسُقُوفَها أسْفَلُها إلى الآنَ. وقالَ الفَرّاءُ: المَعْنى تَرَكْناها آيَةً، يَقُولُ: إنَّ في السَّماءِ لَآيَةً، يُرِيدُ أنَّها آيَةٌ. انْتَهى، وهَذا لا يَتَّجِهُ إلّا عَلى زِيادَةِ مِن في الواجِبِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: أمْهَرْتُ مِنها جُبَّةً وتَيْسًا، يُرِيدُ: أمْهَرْتُها؛ وكَذَلِكَ: ولَقَدْ تَرَكْناها آيَةً، وقِيلَ: الهاءُ في ”مِنها“ عائِدَةٌ عَلى الفِعْلَةِ الَّتِي فُعِلَتْ بِهِمْ، فَقِيلَ: الآيَةُ: الحِجارَةُ الَّتِي أدْرَكَتْها أوائِلُ هَذِهِ الأُمَّةِ، قالَهُ قَتادَةُ؛ وقِيلَ: الماءُ الأسْوَدُ عَلى وجْهِ الأرْضِ، قالَهُ مُجاهِدٌ؛ وقِيلَ: أنْجَزَ ما صَنَعَ بِهِمْ. و(لِقَوْمٍ) مُتَعَلِّقٌ بِـ: (تَرَكْنا)، أوْ (بَيِّنَةً) .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب