الباحث القرآني

﴿تِلْكَ الدّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأرْضِ ولا فَسادًا والعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ﴿مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنها ومَن جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إلّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرادُّكَ إلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أعْلَمُ مَن جاءَ بِالهُدى ومَن هو في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿وما كُنْتَ تَرْجُو أنْ يُلْقى إلَيْكَ الكِتابُ إلّا رَحْمَةً مِن رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكافِرِينَ﴾ ﴿ولا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إذْ أُنْزِلَتْ إلَيْكَ وادْعُ إلى رَبِّكَ ولا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ ﴿ولا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لا إلَهَ إلّا هو كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ . لَمّا كانَ مِن قَوْلِ أهْلِ العِلْمِ والإيمانِ: ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ، ذَكَرَ مَحَلَّ الثَّوابِ، وهو الدّارُ الآخِرَةُ. والمَعْنى: تِلْكَ الَّتِي سَمِعْتَ بِذِكْرِها، وبَلَغَكَ وصْفُها. (الدّارُ الآخِرَةُ) أيْ: نَعِيمُ الدّارِ الآخِرَةِ، وهي الجَنَّةُ، والبَقاءُ فِيها سَرْمَدًا، وعَلَّقَ حُصُولَها عَلى مُجَرَّدِ الإرادَةِ، فَكَيْفَ بِمَن باشَرَ العُلُوَّ والفَسادَ ؟ ثُمَّ جاءَ التَّرْكِيبُ بِلا في قَوْلِهِ: ﴿ولا فَسادًا﴾ فَدَلَّ عَلى أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ العُلُوِّ والفَسادِ مَقْصُودٌ، لا مَجْمُوعَهُما. قالَ الحَسَنُ: العُلُوُّ: العِزُّ والشَّرَفُ إنْ جَرَّ البَغْيَ. الضَّحّاكُ: الظُّلْمُ والفَسادُ يَعُمُّ أنْواعَ الشَّرِّ. وعَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ: أنَّ الرَّجُلَ لَيُعْجِبُهُ أنْ يَكُونَ شِراكُ نَعْلِهِ أجْوَدَ مِن شِراكِ نَعْلِ صاحِبِهِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَها. وعَنِ الفُضَيْلِ، أنَّهُ قَرَأها ثُمَّ قالَ: ذَهَبَتِ الأمانِيُّ. وعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ: أنَّهُ كانَ يُرَدِّدُها حَتّى قُبِضَ. ﴿فَلَهُ خَيْرٌ مِنها﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ (خَيْرٌ) أفْعَلَ التَّفْضِيلِ، وأنْ يَكُونَ واحِدَ الخُيُورِ، أيْ: فَلَهُ خَيْرٌ بِسَبَبِ فِعْلِها، ووُضِعَ الظّاهِرُ مَوْضِعَ المُضْمَرِ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا يُجْزى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ﴾ تَهْجِينًا لِحالِهِمْ وتَبْغِيضًا لِلسَّيِّئَةِ إلى قُلُوبِ السّامِعِينَ، فَفِيهِ بِتَكْرارِهِ ما لَيْسَ فِيهِ لَوْ كانَ: فَلا يُجْزَوْنَ بِالصَّهْرِ وما كانُوا، عَلى حَذْفِ: مِثْلَ، أيْ: إلّا مِثْلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ؛ لِأنَّ جَزاءَ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةٌ مِثْلُها، والحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثالِها. ﴿إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ﴾ قالَ عَطاءٌ: العَمَلَ بِهِ؛ ومُجاهِدٌ: أعْطاكَهُ؛ ومُقاتِلٌ: أنْزَلَهُ عَلَيْكَ، وكَذا قالَ الفَرّاءُ وأبُو عُبَيْدَةَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْجَبَ عَلَيْكَ تِلاوَتَهُ وتَبْلِيغَهُ والعَمَلَ بِما فِيهِ؛ يَعْنِي أنَّ الَّذِي حَمَّلَكَ صُعُوبَةَ هَذا التَّكْلِيفِ لَيُثِيبُكَ عَلَيْها ثَوابًا لا يُحِيطُ بِهِ الوَصْفُ. والمَعادُ قالَ الجُمْهُورُ: في الآخِرَةِ أيْ: باعِثُكَ بَعْدَ المَوْتِ، فَفِيهِ إثْباتُ الجَزاءِ والإعْلامِ بِوُقُوعِهِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وأبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: المَعادُ: المَوْتُ. وقِيلَ: بَيْتُ المَقْدِسِ. وقِيلَ: الجَنَّةُ، وكانَ قَدْ دَخَلَها لَيْلَةَ المِعْراجِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا ومُجاهِدٌ: المَعادُ: مَكَّةُ، أرادَ رَدَّهُ إلَيْها يَوْمَ الفَتْحِ. ونَكَّرَهُ والمَقْصُودُ: التَّعْظِيمُ، أيْ مَعادٍ أيِّ مَعادٍ، أيْ: لَهُ شَأْنٌ لِغَلَبَةِ الرَّسُولِ ﷺ عَلَيْها وقَهْرِهِ لِأهْلِها، ولِظُهُورِ عِزِّ الإسْلامِ وأهْلِهِ، فَكَأنَّ اللَّهَ وعَدَهُ وهو بِمَكَّةَ أنَّهُ يُهاجِرُ مِنها ويَعُودُ إلَيْها ظافِرًا ظاهِرًا. وقِيلَ: نَزَلَتْ عَلَيْهِ حِينَ بَلَغَ الجُحْفَةَ في مُهاجَرِهِ، وقَدِ اشْتاقَ إلَيْها، فَقالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أتَشْتاقُ إلَيْها ؟ قالَ: نَعَمْ، فَأوْحاها إلَيْهِ. و”مَن“ مَنصُوبٌ بِإضْمارِ فِعْلٍ، أيْ: يَعْلَمُ مَن جاءَ بِالهُدى، ومَن أجازَ أنْ يَأْتِيَ ”أفْعَلُ“ بِمَعْنى ”فاعِلٌ“، وأجازَ مَعَ ذَلِكَ أنْ يَنْصِبَ بِهِ جازَ أنْ يَنْتَصِبَ بِهِ، إذْ يُؤَوِّلُهُ بِمَعْنى عالِمٍ، ويُعْطِيهِ حُكْمَهُ مِنَ العَمَلِ. ولَمّا وعَدَهُ تَعالى أنَّهُ يَرُدُّهُ إلى مَعادٍ، وأنَّهُ تَعالى فَرَضَ عَلَيْهِ القُرْآنَ أمَرَهُ أنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ أيْ: هو تَعالى عالِمٌ بِمَن جاءَ بِالهُدى، وهو مُحَمَّدٌ، وبِما يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الثَّوابِ في مَعادِهِ، وهَذا إذا عَنى بِالمَعادِ ما بَعْدَ المَوْتِ. ويَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن هو في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ أمَرَهُ اللَّهُ بِأنْ يُبَلِّغَهم ذَلِكَ، هو عالِمٌ بِهِمْ، وبِما يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ العِقابِ في مَعادِهِمْ، وفي ذَلِكَ مُتارَكَةٌ لِلْكُفّارِ وتَوْبِيخٌ. ﴿وما كُنْتَ تَرْجُو أنْ يُلْقى إلَيْكَ الكِتابُ﴾ هَذا تَذْكِيرٌ لِنِعَمِهِ تَعالى عَلى رَسُولِهِ، وأنَّهُ تَعالى رَحِمَهُ رَحْمَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِها رَجاؤُهُ. وقِيلَ: بَلْ هو مُعَلَّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ﴾ وأنْتَ بِحالِ مَن لا يَرْجُو ذَلِكَ، وانْتَصَبَ (رَحْمَةً) عَلى (p-١٣٧)الِاسْتِثْناءِ المُنْقَطِعِ، أيْ: لَكِنَّ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ سَبَقَتْ، فَألْقى إلَيْكَ الكِتابَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذا كَلامٌ مَحْمُولٌ عَلى المَعْنى كَأنَّهُ قِيلَ: وما أُلْقِيَ عَلَيْكَ الكِتابُ إلّا رَحْمَةً مِن رَبِّكَ. انْتَهى. فَيَكُونُ اسْتِثْناءً مُتَّصِلًا، إمّا مِنَ الأحْوالِ، وإمّا مِنَ المَفْعُولِ لَهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (يَصُدُّنَّكَ) مُضارِعُ صَدَّ وشَدُّوا النُّونَ، ويَعْقُوبُ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ خَفَّفَها. وقُرِئَ: ”يُصِدُّنَّكَ“ مُضارِعَ أصَدَّ بِمَعْنى صَدَّ، حَكاهُ أبُو زَيْدٍ عَنْ رَجُلٍ مِن كَلْبٍ قالَ: وهي لُغَةُ قَوْمِهِ، وقالَ الشّاعِرُ: ؎أُناسٌ أصَدُّوا النّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُ صُدُودَ السَّواقِي عَنْ أُنُوفِ الحَوائِمِ ﴿بَعْدَ إذْ أُنْزِلَتْ إلَيْكَ﴾ أيْ: بَعْدَ وقْتِ إنْزالِها، و”إذْ“ تُضافُ إلَيْها أسْماءُ الزَّمانِ كَقَوْلِهِ: ﴿بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا﴾ [آل عمران: ٨] ويَوْمَئِذٍ، وحِينَئِذٍ. قالَ الضَّحّاكُ: وذَلِكَ حِينَ دَعَوْهُ إلى دِينِ آبائِهِ، أيْ: لا تَلْتَفِتْ إلى هَؤُلاءِ ولا تَرْكَنْ إلى قَوْلِهِمْ، فَيَصُدُّونَكَ عَنِ اتِّباعِ آياتِ اللَّهِ. ﴿وادْعُ إلى رَبِّكَ﴾ أيْ: دِينِ رَبِّكَ، وهَذِهِ المَناهِي كُلُّها ظاهِرُها أنَّها لِلرَّسُولِ، وهي في الحَقِيقَةِ لِأتْباعِهِ، والهَلاكُ يُطْلَقُ بِإزاءِ العَدَمِ المَحْضِ، فالمَعْنى: أنَّ اللَّهَ يَعْدَمُ كُلُّ شَيْءٍ سِواهُ. وبِإزاءِ نَفْيِ الِانْتِفاعِ بِهِ، إمّا لِلْإماتَةِ، أوْ بِتَفْرِيقِ الأجْزاءِ، وإنْ كانَتْ نافِيَةً يُقالُ: هَلَكَ الثَّوْبُ، لا يُرِيدُونَ فَناءَ أجْزائِهِ، ولَكِنْ خُرُوجَهُ عَنِ الِانْتِفاعِ بِهِ. ومَعْنى: ﴿إلّا وجْهَهُ﴾ إلّا إيّاهُ، قالَهُ الزَّجّاجُ. وقالَ مُجاهِدٌ والسُّدِّيُّ: هالِكٌ بِالمَوْتِ إلّا العُلَماءَ، فَإنَّ عِلْمَهم باقٍ. انْتَهى. ويُرِيدُونَ إلّا ما قُصِدَ بِهِ وجْهُهُ مِنَ العِلْمِ، فَإنَّهُ باقٍ. وقالَ الضَّحّاكُ: إلّا اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ، والعَرْشَ، والجَنَّةَ، والنّارَ. وقِيلَ: مُلْكَهُ، ومِنهُ: ﴿لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ﴾ [غافر: ١٦] . وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: المُرادُ بِالوَجْهِ جاهُهُ الَّذِي جَعَلَهُ في النّاسِ. وقالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: إلّا وجْهَهُ: ما عُمِلَ لِذاتِهِ ومِن طاعَتِهِ وتُوُجِّهَ بِهِ نَحْوَهُ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎رَبُّ العِبادِ إلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ . وقَوْلُهُ: (يُرِيدُونَ وجْهَهُ) . (لَهُ الحُكْمُ) أيْ: فَصْلُ القَضاءِ. (وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أيْ: إلى جَزائِهِ. وقَرَأ عِيسى: ”تَرْجِعُونَ“ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، والجُمْهُورُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب