الباحث القرآني

﴿ويَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ ﴿قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ رَبَّنا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أغْوَيْنا أغْوَيْناهم كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إلَيْكَ ما كانُوا إيّانا يَعْبُدُونَ﴾ ﴿وقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكم فَدَعَوْهم فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهم ورَأوُا العَذابَ لَوْ أنَّهم كانُوا يَهْتَدُونَ﴾ ﴿ويَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ﴾ ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهم لا يَتَساءَلُونَ﴾ ﴿فَأمّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فَعَسى أنْ يَكُونَ مِنَ المُفْلِحِينَ﴾ ﴿ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ ﴿ورَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهم وما يُعْلِنُونَ﴾ ﴿وهُوَ اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو لَهُ الحَمْدُ في الأُولى والآخِرَةِ ولَهُ الحُكْمُ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَن إلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكم بِضِياءٍ أفَلا تَسْمَعُونَ﴾ ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَدًا إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَن إلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ ﴿ومِن رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ولَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ . (p-١٢٨)لَمّا ذَكَرَ أنَّ المُمَتَّعِينَ في الدُّنْيا يُحْضَرُونَ إلى النّارِ، ذَكَرَ شَيْئًا مِن أحْوالِ يَوْمِ القِيامَةِ، أيْ واذْكُرْ حالَهم يَوْمَ يُنادِيهِمُ اللَّهُ، ونِداؤُهُ إيّاهم يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِواسِطَةٍ وبِغَيْرِ واسِطَةٍ ﴿فَيَقُولُ أيْنَ شُرَكائِي﴾ ؟ أيْ عَلى زَعْمِكم، وهَذا الِاسْتِفْهامُ عَلى جِهَةِ التَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ، والشُّرَكاءُ هم مَن عَبَدُوهُ مِن دُونِ اللَّهِ، مِن مَلَكٍ، أوْ جِنٍّ، أوْ إنْسٍ، أوْ كَوْكَبٍ، أوْ صَنَمٍ، أوْ غَيْرِ ذَلِكَ. ومَفْعُولا ﴿تَزْعُمُونَ﴾ مَحْذُوفانِ، أحَدُهُما العائِدُ عَلى المَوْصُولِ، والتَّقْدِيرُ: تَزْعُمُونَهم شُرَكاءَ. ولَمّا كانَ هَذا السُّؤالُ مُسْكِتًا لَهم، إذْ تِلْكَ الشُّرَكاءُ الَّتِي عَبَدُوها مَفْقُودُونَ هم أُوجِدُوا هم في الآخِرَةِ حادُوا عَنِ الجَوابِ إلى كَلامٍ لا يُجْدِي. ﴿قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ﴾ أيِ الشَّياطِينُ، وأئِمَّةُ الكُفْرِ ورُءُوسُهُ. و”حَقَّ“: أيْ وجَبَ عَلَيْهِمُ القَوْلُ، أيْ مُقْتَضاهُ، وهو قَوْلُهُ: ﴿لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ﴾ [هود: ١١٩] . و﴿هَؤُلاءِ﴾ مُبْتَدَأٌ، و﴿الَّذِينَ أغْوَيْنا﴾ هم صِفَةٌ، و﴿أغْوَيْناهم كَما غَوَيْنا﴾ الخَبَرُ، و﴿كَما غَوَيْنا﴾ صِفَةٌ لِمُطاوِعِ أغْوَيْناهم، أيْ فَغَوَوْا كَما غَوَيْنا، أيْ تَسَبَّبْنا لَهم في الغَيِّ فَقَبِلُوا مِنّا. وهَذا الإعْرابُ قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: ولا يَجُوزُ هَذا الوَجْهُ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ في الخَبَرِ زِيادَةٌ عَلى ما في صِفَةِ المُبْتَدَإ. قالَ: (فَإنْ قُلْتَ): قَدْ وُصِلَتْ بِقَوْلِهِ: ﴿كَما غَوَيْنا﴾ وفِيهِ زِيادَةٌ. قِيلَ: الزِّيادَةُ بِالظَّرْفِ لا تُصَيِّرُهُ أصْلًا في الجُمْلَةِ؛ لِأنَّ الظُّرُوفَ صِلاتٌ، وقالَ هو: ﴿الَّذِينَ أغْوَيْنا﴾ هو الخَبَرُ، و﴿أغْوَيْناهُمْ﴾ مُسْتَأْنَفٌ. وقالَ غَيْرُ أبِي عَلِيٍّ: لا يَمْتَنِعُ الوَجْهُ الأوَّلُ؛ لِأنَّ الفَضَلاتِ في بَعْضِ المَواضِعِ تَلْزَمُ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ عَمْرٌو قائِمٌ في دارِهِ. انْتَهى. والمَعْنى: هَؤُلاءِ أتْباعُنا آثَرُوا الكُفْرَ عَلى الإيمانِ، كَما آثَرْناهُ نَحْنُ، ونَحْنُ كُنّا السَّبَبَ في كُفْرِهِمْ، فَقَبِلُوا مِنّا. وقَرَأ أبانٌ، عَنْ عاصِمٍ وبَعْضُ الشّامِيِّينَ: ”كَما غَوِينا“ بِكَسْرِ الواوِ. قالَ ابْنُ خالَوَيْهِ: ولَيْسَ ذَلِكَ مُخْتارًا؛ لِأنَّ كَلامَ العَرَبِ: غَوَيْتُ مِنَ الضَّلالَةِ، وغَوِيتَ مِنَ البَشَمِ. ثُمَّ قالُوا: ﴿تَبَرَّأْنا إلَيْكَ﴾ مِنهم ما كانُوا يَعْبُدُونَنا، إنَّما عَبَدُوا غَيْرَنا، و﴿إيّانا﴾ مَفْعُولُ ﴿يَعْبُدُونَ﴾ لَمّا تَقَدَّمَ انْفَصَلَ، وانْفِصالُهُ لِكَوْنِ ”يَعْبُدُونَ“ فاصِلَةً، ولَوِ اتَّصَلَ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فاصِلَةً. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنَّما كانُوا يَعْبُدُونَ أهْواءَهم ويُطِيعُونَ شَهَواتِهِمْ؛ وإخْلاءُ الجُمْلَتَيْنِ مِنَ العاطِفِ، لِكَوْنِهِما مَقْرُونَتَيْنِ لِمَعْنى الجُمْلَةِ الأُولى. انْتَهى. ﴿وقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ﴾ لَمّا سُئِلُوا أيْنَ شُرَكاؤُكم وأجابُوا بِغَيْرِ جَوابٍ، سُئِلُوا ثانِيًا فَقِيلَ: ادْعُوا شُرَكاءَكم، وأضافَ الشُّرَكاءَ إلَيْهِمْ، أيِ الَّذِينَ جَعَلْتُمُوهم شُرَكاءَ لِلَّهِ. وقَوْلُهُ: ﴿ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ﴾ عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ؛ لِأنَّهُ يَعْلَمُ أنَّهُ لا فائِدَةَ في دُعائِهِمْ ﴿فَدَعَوْهُمْ﴾ هَذا لِسَخافَةِ عُقُولِهِمْ في ذَلِكَ المَوْطِنِ أيْضًا؛ إذْ لَمْ يَعْلَمُوا أنَّ مَن كانَ مَوْجُودًا مِنهم في ذَلِكَ المَوْطِنِ لا يُجِيبُهم، والضَّمِيرُ في ﴿ورَأوُا﴾ . قالَ الضَّحّاكُ ومُقاتِلٌ: هو لِلتّابِعِ والمَتْبُوعِ، وجَوابُ ”لَوْ“ مَحْذُوفٌ، والظّاهِرُ أنْ يُقَدَّرَ مِمّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِمّا يَلِيهِ، أيْ لَوْ كانُوا مُؤْمِنِينَ في الدُّنْيا، ما رَأوُا العَذابَ في الآخِرَةِ. وقِيلَ: التَّقْدِيرُ: لَوْ كانُوا مُهْتَدِينَ بِوَجْهٍ مِن وُجُوهِ الحِيَلِ، لَدَفَعُوا بِهِ العَذابَ. وقِيلَ: لَعَلِمُوا أنَّ العَذابَ حَقٌّ. وقِيلَ: لَتَحَيَّرُوا عِنْدَ رُؤْيَتِهِ مِن فَظاعَتِهِ، وإنْ لَمْ يُعَذَّبُوا بِهِ، وقِيلَ: ما كانُوا في الدُّنْيا عابِدِينَ الأصْنامَ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: وعِنْدِي أنَّ الجَوابَ غَيْرُ مَحْذُوفٍ، وفي تَقْرِيرِهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّ اللَّهَ إذا خاطَبَهم بِقَوْلِهِ: ﴿ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ﴾ اشْتَدَّ خَوْفُهم ولَحِقَهم شَيْءٌ بِحَيْثُ لا يُبْصِرُونَ شَيْئًا، لاَ جَرَمَ ما رَأوُا العَذابَ. وثانِيها: لَمّا ذَكَرَ الشُّرَكاءَ، وهي الأصْنامُ، وأنَّهم لا يُجِيبُونَ الَّذِينَ دَعَوْهم، قالَ في حَقِّهِمْ: ﴿ورَأوُا العَذابَ﴾ لَوْ كانُوا مِنَ الأحْياءِ المُهْتَدِينَ، ولَكِنَّها (p-١٢٩)لَيْسَتْ كَذَلِكَ، ولا جَرَمَ ما رَأتِ العَذابَ. والضَّمِيرُ في ”رَأوُا“ - وإنْ كانَ لِلْعُقَلاءِ - فَقَدْ قالَ: ودَعَوْهم وهم لِلْعُقَلاءِ، انْتَهى. وفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وقَدْ أثْنى عَلى هَذا الَّذِي اخْتارَهُ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّهُ بَناهُ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ في ”رَأوُا“ عائِدٌ عَلى المَدْعُوِّينَ، قالَ: وهُمُ الأصْنامُ. والظّاهِرُ أنَّهُ عائِدٌ عَلى الدّاعِينَ، كَقَوْلِهِ: ﴿إذْ تَبَرَّأ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ورَأوُا العَذابَ﴾ [البقرة: ١٦٦]؛ ولِأنَّ حَمْلَ مُهْتَدِينَ عَلى الأحْياءِ في غايَةِ البُعْدِ؛ لِأنَّ ما قَدَّرَهُ هو جَوابٌ، ولا يُشْعَرُ بِهِ أنَّهُ جَوابٌ؛ إذْ صارَ التَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: لَوْ كانُوا مِنَ الأحْياءِ رَأوُا العَذابَ، لَكِنَّها لَيْسَتْ مِنَ الأحْياءِ، فَلا تَرى العَذابَ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: فَلا جَرَمَ ما رَأتِ العَذابَ. ﴿ويَوْمَ يُنادِيهِمْ﴾ هَذا النِّداءُ أيْضًا قَدْ يَكُونُ بِواسِطَةٍ مِنَ المَلائِكَةِ، أوْ بِغَيْرِ واسِطَةٍ. حَكى أوَّلًا ما يُوَبِّخُهم مِنَ اتِّخاذِهِمْ لَهُ شُرَكاءَ، ثُمَّ ما يَقُولُهُ رُءُوسُ الكُفْرِ عِنْدَ تَوْبِيخِهِمْ، ثُمَّ اسْتِعانَتِهِمْ بِشُرَكائِهِمْ وخِذْلانِهِمْ لَهم وعَجْزِهِمْ عَنْ نُصْرَتِهِمْ، ثُمَّ ما يُبَكَّتُونَ بِهِ مِن الِاحْتِجاجِ عَلَيْهِمْ بِإرْسالِ الرُّسُلِ وإزالَةِ العِلَلِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿فَعَمِيَتْ﴾ بِفَتْحِ العَيْنِ وتَخْفِيفِ المِيمِ. وقَرَأ الأعْمَشُ، وجَناحُ بْنُ حُبَيْشٍ، وأبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ: بِضَمِّ العَيْنِ وتَشْدِيدِ المِيمِ، والمَعْنى: أظَلَمَتْ عَلَيْهِمُ الأُمُورُ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أنْ يُخْبِرُوا بِما فِيهِ نَجاةٌ لَهم، وأتى بِلَفْظِ الماضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ. ﴿فَهم لا يَتَساءَلُونَ﴾ وقَرَأ طَلْحَةُ: يَسّاءَلُونَ، بِإدْغامِ التّاءِ في السِّينِ: أيْ لا يَسْألُ بَعْضُهم بَعْضًا فِيما يَتَحاجُّونَ بِهِ؛ إذْ أيْقَنُوا أنَّهُ لا حُجَّةَ لَهم، فَهم في عَمًى وعَجْزٍ عَنِ الجَوابِ. والمُرادُ بِالنَّبَأِ: الخَبَرُ عَمّا أجابَ بِهِ المُرْسَلُ إلَيْهِ رَسُولَهُ. ولَمّا ذَكَرَ - تَعالى - أحْوالَ الكُفّارِ يَوْمَ القِيامَةِ، وما يَكُونُ مِنهم فِيهِ، أخْبَرَ بِأنَّ مَن تابَ مِنَ الشِّرْكِ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا، فَإنَّهُ مَرْجُوٌّ لَهُ الفَلاحُ والفَوْزُ في الآخِرَةِ، وهَذا تَرْغِيبٌ لِلْكافِرِ في الإسْلامِ، وضَمانٌ لَهُ لِلْفَلاحِ. ويُقالُ: إنَّ عَسى مِنَ اللَّهِ واجِبَةٌ. ﴿ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ﴾ نَزَلَتْ بِسَبَبِ ما تَكَلَّمَتْ بِهِ قُرَيْشٌ مِنَ اسْتِغْرابِ أمْرِ النَّبِيِّ ﷺ وقَوْلِ بَعْضِهِمْ: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] وقائِلُ ذَلِكَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ. قالَ القُرْطُبِيُّ: هَذا مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الشُّرَكاءِ الَّذِينَ دَعَوْهم واخْتارُوهم لِلشَّفاعَةِ، أيْ الِاخْتِيارُ إلى اللَّهِ - تَعالى - في الشُّفَعاءِ، لا إلى المُشْرِكِينَ. وقِيلَ: هو جَوابٌ لِلْيَهُودِ؛ إذْ قالُوا: لَوْ كانَ الرَّسُولُ إلى مُحَمَّدٍ غَيْرَ جِبْرِيلَ؛ لَآمَنّا بِهِ، ونَصَّ الزَّجّاجُ، وعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمانَ، والنَّحّاسُ: عَلى أنَّ الوَقْفَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ويَخْتارُ﴾ تامٌّ، والظّاهِرُ أنَّ ”ما“ نافِيَةٌ، أيْ لَيْسَ لَهُمُ الخِيَرَةُ، إنَّما هي لِلَّهِ تَعالى، كَقَوْلِهِ: ﴿ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أمْرِهِمْ﴾ . وذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إلى أنَّ ”ما“ مَوْصُولَةٌ مَنصُوبَةٌ بِـ ”يَخْتارُ“، أيْ ويَخْتارُ مِنَ الرُّسُلِ والشَّرائِعِ ما كانَ خِيَرَةً لِلنّاسِ، كَما لا يَخْتارُونَ هم ما لَيْسَ إلَيْهِمْ، ويَفْعَلُونَ ما لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ. وأُنْكِرُ أنْ تَكُونَ ”ما“ نافِيَةً، لِئَلّا يَكُونُ المَعْنى: إنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُمُ الخِيرَةُ فِيما مَضى، وهي لَهم فِيما يُسْتَقْبَلُ، ولِأنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ كَلامٌ يَنْفِي. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَعْنى ما ذَهَبَ إلَيْهِ الطَّبَرِيُّ، وقَدْ رَدَّ هَذا القَوْلَ تَقَدُّمُ العائِدِ عَلى المَوْصُولِ، وأُجِيبَ بِأنَّ التَّقْدِيرَ: ما كانَ لَهم فِيهِ الخِيَرَةُ، وحُذِفَ لِدَلالَةِ المَعْنى. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَما حُذِفَ مِن قَوْلِهِ: ﴿إنَّ ذَلِكَ لَمِن عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [الشورى: ٤٣] يَعْنِي: أنَّ التَّقْدِيرَ أنَّ ذَلِكَ فِيهِ لَمِن عَزْمِ الأُمُورِ. وأنْشَدَ القاسِمُ ابْنُ مَعْنٍ بَيْتَ عَنْتَرَةَ: ؎أمِن سُمَيَّةَ دَمْعُ العَيْنِ تَذْرِيفُ لَوْ كانَ ذا مِنكَ قَبْلَ اليَوْمِ مَعْرُوفُ وقَرَنَ الآيَةَ بِهَذا البَيْتِ. والرِّوايَةُ في البَيْتِ: لَوْ أنَّ ذا، ولَكِنْ عَلى ما رَواهُ القاسِمُ يَتَّجِهُ في بَيْتِ عَنْتَرَةَ أنْ يَكُونَ في كانَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. فَأمّا في الآيَةِ، فَقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَفْسِيرُ الأمْرِ والشَّأْنِ لا يَكُونُ بِجُمْلَةٍ فِيها مَحْذُوفٌ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَتَّجِهُ عِنْدِي أنْ تَكُونَ ما مُفَعْولَةٌ، إذا قَدَّرْنا كانَ تامَّةً، أيْ أنَّ اللَّهَ - تَعالى - يَخْتارُ كُلَّ كائِنٍ، ولا يَكُونُ شَيْءٌ إلّا بِإذْنِهِ. وقَوْلُهُ: ﴿لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَعْناها: تَعْدِيدُ النِّعْمَةِ (p-١٣٠)عَلَيْهِمْ في اخْتِيارِ اللَّهِ لَهم، لَوْ قَبِلُوا وفَهِمُوا. انْتَهى. يَعْنِي: واللَّهُ أعْلَمُ خِيرَةُ اللَّهِ لَهم، أيْ لِمَصْلَحَتِهِمْ. والخِيرَةُ مِنَ التَّخَيُّرِ، كالطِّيَرَةِ مِنَ التَّطَيُّرِ، يُسْتَعْمَلانِ بِمَعْنى المَصْدَرِ، والجُمَلُ الَّتِي بَعْدَ هَذا تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها. والحَمْدُ في الآخِرَةِ قَوْلُهم: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أذْهَبَ عَنّا الحَزَنَ﴾ [فاطر: ٣٤] ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وعْدَهُ﴾ [الزمر: ٧٤] ﴿الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الزمر: ٧٥] والتَّحْمِيدُ هُنالِكَ عَلى سَبِيلِ اللَّذَّةِ، لا التَّكْلِيفِ. وفي الحَدِيثِ: ”يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ والتَّقْدِيسَ“ . وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: ما تَكُنُّ، بِفَتْحِ التّاءِ وضَمِّ الكافِ. ﴿ولَهُ الحُكْمُ﴾ أيِ القَضاءُ بَيْنَ عِبادِهِ والفَصْلُ. و﴿أرَأيْتُمْ﴾ بِمَعْنى أخْبِرُونِي، وقَدْ يُسَلَّطُ عَلى اللَّيْلِ ﴿أرَأيْتُمْ﴾ و﴿جَعَلَ﴾ إذْ كُلٌّ مِنهُما يَقْتَضِيهِ، فَأُعْمِلَ الثّانِي. وجُمْلَةُ ”أرَأيْتُمْ“ الثّانِيَةُ هي جُمْلَةُ الِاسْتِفْهامِ، والعائِدُ عَلى اللَّيْلِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَن إلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكم بِضِياءٍ بَعْدَهُ، ولا يَلْزَمُ في بابِ التَّنازُعِ أنْ يَسْتَوِيَ المُتَنازِعانِ في جِهَةِ التَّعَدِّي مُطْلَقًا، بَلْ قَدْ يَخْتَلِفُ الطَّلَبُ، فَيَطْلُبُهُ هَذا عَلى جِهَةِ الفاعِلِيَّةِ، وهَذا عَلى جِهَةِ المَفْعُولِيَّةِ، وهَذا عَلى جِهَةِ المَفْعُولِ، وهَذا عَلى جِهَةِ الظَّرْفِ. وكَذَلِكَ ”أرَأيْتُمْ“ ثانِي مَفْعُولَيْهِ جُمْلَةٌ اسْتِفْهامِيَّةٌ غالِبًا، وثانِي ”جَعَلَ“ إنْ كانَتْ بِمَعْنى صَيَّرَ لا يَكُونُ اسْتِفْهامًا، وإنْ كانَتْ بِمَعْنى خَلَقَ وأوْجَدَ وانْتَصَبَ ما بَعْدَ مَفْعُولِها، كانَ ذَلِكَ المُنْتَصِبُ حالًا. و﴿سَرْمَدًا﴾ قِيلَ: مِنَ السَّرْمَدِ، فَمِيمُهُ زائِدَةٌ، ووَزْنُهُ ”فَعْمَلُ“، ولا يُزادُ وسَطًا ولا آخِرًا بِقِياسٍ، وإنَّما هي ألْفاظٌ تُحْفَظُ مَذْكُورَةٌ في عِلْمِ التَّصْرِيفِ. وأتى ﴿بِضِياءٍ﴾ وهو نُورُ الشَّمْسِ، ولَمْ يَجِئِ التَّرْكِيبُ بِنَهارٍ يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ، كَما جاءَ ﴿بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ﴾؛ لِأنَّ مَنافِعَ الضِّياءِ مُتَكاثِرَةٌ، لَيْسَ التَّصَرُّفُ في المَعاشِ وحْدَهُ، والظَّلامُ لَيْسَ بِتِلْكَ المَنزِلَةِ، ومِن ثَمَّ قُرِنَ بِالضِّياءِ. ﴿أفَلا تَسْمَعُونَ﴾ ؟ لِأنَّ السَّمْعَ يُدْرِكُ ما يُدْرِكُهُ البَصَرُ مِن ذِكْرِ مَنافِعِهِ ووَصْفِ فَوائِدِهِ، وقُرِنَ بِاللَّيْلِ. ﴿أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ ؟ لِأنَّ غَيْرَكَ يُبْصِرُ مِن مَنفَعَةِ الظَّلامِ ما تُبْصِرُهُ أنْتَ مِنَ السُّكُونِ ونَحْوِهِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. و(مِن رَحْمَتِهِ) مِن هُنا لِلسَّبَبِ، أيْ وبِسَبَبِ رَحْمَتِهِ إيّاكم ﴿جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهارَ﴾ ثُمَّ عَلَّلَ جَعْلَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما، فَبَدَأ بِعِلَّةِ الأوَّلِ، وهو اللَّيْلُ وهو: ﴿لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾ ثُمَّ بِعِلَّةِ الثّانِي وهو: ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ، ثُمَّ بِما يُشْبِهُ العِلَّةَ لِجَعْلِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ وهو: ﴿ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ﴾ ثُمَّ بِما يُشْبِهُ العِلَّةَ لِجَعْلِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ وهو: (لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ) أيْ هَذِهِ الرَّحْمَةَ والنِّعْمَةَ. وهَذا النَّوْعُ مِن عِلْمِ البَدِيعِ يُسَمّى التَّفْسِيرَ، وهو أنْ تَذْكُرَ أشْياءَ ثُمَّ تُفَسِّرَها بِما يُناسِبُها، ومِنهُ قَوْلُ ابْنِ جُيُوشٍ: ؎ومُقَرْطَقٌ يُغْنِي النَّدِيمَ بِوَجْهِهِ ∗∗∗ عَنْ كَأْسِهِ المَلْأى وعَنْ إبْرِيقِهِ ؎فِعْلُ المُدامِ ولَوْنُها ومَذاقُها ∗∗∗ في مُقْلَتَيْهِ ووَجْنَتَيْهِ ورِيقِهِ والضَّمِيرُ في (فِيهِ) عائِدٌ عَلى اللَّيْلِ، وفي (فَضْلِهِ) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عائِدًا عَلى اللَّهِ، والتَّقْدِيرُ: مِن فَضْلِهِ، أيْ مِن فَضْلِ اللَّهِ فِيهِ، أيْ في النَّهارِ؛ وحُذِفَ لِدَلالَةِ المَعْنى، ولِدَلالَةِ لَفْظِ ”فِيهِ“ السّابِقِ عَلَيْهِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى النَّهارِ، أيْ مِن فَضْلِ النَّهارِ، ويَكُونُ أضافَهُ إلى ضَمِير النَّهارِ عَلى سَبِيلِ المَجازِ، لَمّا كانَ الفَضْلُ حاصِلًا فِيهِ أُضِيفَ إلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ والنَّهارِ﴾ [سبإ: ٣٣] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب