الباحث القرآني

﴿وكَمْ أهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهم لَمْ تُسْكَنْ مِن بَعْدِهِمْ إلّا قَلِيلًا وكُنّا نَحْنُ الوارِثِينَ﴾ ﴿وما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرى حَتّى يَبْعَثَ في أُمِّها رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِنا وما كُنّا مُهْلِكِي القُرى إلّا وأهْلُها ظالِمُونَ﴾ ﴿وما أُوتِيتُمْ مِن شَيْءٍ فَمَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا وزِينَتُها وما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وأبْقى أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ﴿أفَمَن وعَدْناهُ وعْدًا حَسَنًا فَهو لاقِيهِ كَمَن مَتَّعْناهُ مَتاعَ الحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هو يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ﴾ . هَذا تَخْوِيفٌ لِأهْلِ مَكَّةَ مِن سُوءِ عاقِبَةِ قَوْمٍ كانُوا في مِثْلِ حالِهِمْ مِن إنْعامِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالرُّقُودِ في ظِلالِ الأمْنِ وخَفْضِ العَيْشِ، فَغَمَطُوا النِّعْمَةَ، وقابَلُوها بِالأشَرِ والبَطَرِ، فَدَمَّرَهُمُ اللَّهُ وخَرَّبَ دِيارَهم. و﴿مَعِيشَتَها﴾ مَنصُوبٌ عَلى التَّمْيِيزِ، عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ أوْ مُشَبَّهٌ بِالمَفْعُولِ عَلى مَذْهَبِ بَعْضِهِمْ، أوْ مَفْعُولٌ بِهِ عَلى تَضْمِينِ ﴿بَطِرَتْ﴾ مَعْنى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ، أيْ خَسِرَتْ مَعِيشَتَها، عَلى مَذْهَبِ أكْثَرِ البَصْرِيِّينَ، أوْ عَلى إسْقاطِ ”في“ أي في مَعِيشَتِها عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ؛ أوْ عَلى الظَّرْفِ عَلى تَقْدِيرِ أيّامَ مَعِيشَتِها كَقَوْلِكَ: جِئْتَ خُفُوقَ النَّجْمِ، عَلى قَوْلِ الزَّجّاجِ. ﴿فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ﴾ أشارَ إلَيْها، أيْ تَرَوْنَها خَرابًا، تَمُرُّونَ عَلَيْها كَحِجْرِ ثَمُودَ، هَلَكُوا وفَنَوْا، وتَقَدَّمَ ذِكْرُ المَساكِنِ. و﴿تُسْكَنْ﴾ فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ الِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا قَلِيلًا﴾ مِنَ المَساكِنِ: أيْ إلّا قَلِيلًا مِنها سُكِنَ، واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ مِنَ المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ لَمْ (p-١٢٧)تُسْكَنْ أيْ إلّا سُكْنى قَلِيلًا، أيْ لَمْ يَسْكُنْها إلّا المُسافِرُ ومارُّ الطَّرِيقِ. ﴿وكُنّا نَحْنُ الوارِثِينَ﴾ أيْ لِتِلْكَ المَساكِنِ وغَيْرِها كَقَوْلِهِ: ﴿إنّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ﴾ [مريم: ٤٠] خَلَتْ مِن ساكِنِيها فَخَرِبَتْ. ؎تَتَخَلَّفُ الآثارُ عَنْ أصْحابِها حِينًا ويُدْرِكُها الفَناءُ فَتَتْبَعُ والظّاهِرُ أنَّ القُرى عامَّةٌ في القُرى الَّتِي هَلَكَتْ، فالمَعْنى أنَّهُ - تَعالى - لا يُهْلِكُها في كُلِّ وقْتٍ. حَتّى يَبْعَثَ في أُمِّ تِلْكَ القُرى أيْ كَبِيرَتِها، الَّتِي تَرْجِعُ تِلْكَ القُرى إلَيْها، ومِنها يَمْتارُونَ، وفِيها عَظِيمُهُمُ الحاكِمُ عَلى تِلْكَ القُرى. ﴿حَتّى يَبْعَثَ في أُمِّها رَسُولًا﴾ لِإلْزامِ الحُجَّةِ وقَطْعِ المَعْذِرَةِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِالقُرى: القُرى الَّتِي في عَصْرِ الرَّسُولِ، فَيَكُونُ أُمُّ القُرى: مَكَّةَ، ويَكُونُ الرَّسُولُ: مُحَمَّدًا ﷺ خاتَمَ الأنْبِياءِ، وظُلْمُ أهْلِها: هو بِالكُفْرِ والمَعاصِي. ﴿وما أُوتِيتُمْ مِن شَيْءٍ﴾ أيْ حَسَنٍ يَسُرُّكم وتَفْخَرُونَ بِهِ ﴿فَمَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا وزِينَتُها﴾ تُمَتَّعُونَ أيّامًا قَلائِلَ ﴿وما عِنْدَ اللَّهِ﴾ مِنَ النَّعِيمِ الدّائِمِ الباقِي المُعَدِّ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿خَيْرٌ﴾ . مِن مَتاعِكم ﴿أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ تَوْبِيخٌ لَهم. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو: يَعْقِلُونَ، بِالياءِ، إعْراضٌ عَنْ خِطابِهِمْ وخِطابٌ لِغَيْرِهِمْ، كَأنَّهُ قالَ: انْظُرُوا إلى هَؤُلاءِ وسَخافَةِ عُقُولِهِمْ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِالتّاءِ مِن فَوْقُ، عَلى خِطابِهِمْ وتَوْبِيخِهِمْ، في كَوْنِهِمْ أهْمَلُوا العَقْلَ في العاقِبَةِ. ونَسَبَ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو عَلِيٍّ في الحُجَّةِ إلى أبِي عَمْرٍو وحْدَهُ، وفي التَّحْرِيرِ والتَّحْبِيرِ بَيْنَ الياءِ والتّاءِ، عَنْ أبِي عَمْرٍو. وقُرِئَ: مَتاعًا الحَياةَ الدُّنْيا، أيْ يُمَتَّعُونَ مَتاعًا في الحَياةِ الدُّنْيا، فانْتَصَبَ الحَياةَ الدُّنْيا عَلى الظَّرْفِ. ﴿أفَمَن وعَدْناهُ﴾ يَذْكُرُ تَفاوُتَ ما بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مَن وُعِدَ ﴿وعْدًا حَسَنًا﴾ وهو الثَّوابُ فَلاقاهُ، ومَن مُتِّعَ في الحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ أُحْضِرَ إلى النّارِ. وظاهِرُ الآيَةِ العُمُومُ في المُؤْمِنِ والكافِرِ. قِيلَ: ونَزَلَتْ في الرَّسُولِ ﷺ وأبِي جَهْلٍ. وقِيلَ: في حَمْزَةَ وأبِي جَهْلٍ. وقِيلَ: في عَلِيٍّ وأبِي جَهْلٍ. وقِيلَ: في عَمّارٍ والوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في المُؤْمِنِ والكافِرِ، وغَلَبَ لَفْظُ المُحْضَرِ في المُحْضَرِ إلى النّارِ كَقَوْلِهِ: ﴿لَكُنْتُ مِنَ المُحْضَرِينَ﴾ [الصافات: ٥٧] ﴿فَكَذَّبُوهُ فَإنَّهم لَمُحْضَرُونَ﴾ [الصافات: ١٢٧] . والفاءُ في: ﴿أفَمَن﴾ لِلْعَطْفِ، لَمّا ذَكَرَ تَفاوُتَ ما بَيْنَ ما أُوتُوا مِنَ المَتاعِ والزِّينَةِ، وما عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوابِ، قالَ: أفَبَعْدَ هَذا التَّفاوُتِ الظّاهِرِ يُسَوّى بَيْنَ أبْناءِ الآخِرَةِ وأبْناءِ الدُّنْيا ؟ والفاءُ في: ﴿فَهُوَ لاقِيهِ﴾ لِلتَّسْبِيبِ؛ لِأنَّ لِقاءَ المَوْعُودِ مُسَبَّبٌ عَنِ الوَعْدِ الَّذِي هو الضَّمانُ في الخَبَرِ، وثُمَّ لِلتَّراخِي حالَ الإحْضارِ عَنْ حالِ التَّمَتُّعِ بِتَراخِي وقْتِهِ عَنْ وقْتِهِ. وقَرَأ طَلْحَةُ: ”أمَن وعَدْناهُ“ بِغَيْرِ فاءٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب