الباحث القرآني

﴿ولَقَدْ وصَّلْنا لَهُمُ القَوْلَ لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِن قَبْلِهِ هم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وإذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنّا بِهِ إنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّنا إنّا كُنّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾ ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ويَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ ﴿وإذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ وقالُوا لَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكم سَلامٌ عَلَيْكم لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ﴾ ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ وهو أعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ﴾ ﴿وقالُوا إنْ نَتَّبِعِ الهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِن أرْضِنا أوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهم حَرَمًا آمِنًا يُجْبى إلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَدُنّا ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ . قَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿وصَّلْنا﴾ مُشَدَّدُ الصّادِ؛ والحَسَنُ: بِتَخْفِيفِها، والضَّمِيرُ في لَهم لِقُرَيْشٍ. وقالَ رِفاعَةُ القُرَظِيُّ: نَزَلَتْ في عَشَرَةٍ مِنَ اليَهُودِ، أنا أحَدُهم. قالَ الجُمْهُورُ: وصَّلْنا: تابَعْنا القُرْآنَ مَوْصُولًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ في المَواعِظِ والزَّجْرِ والدُّعاءِ إلى الإسْلامِ. وقالَ الحَسَنُ: وفي ذِكْرِ الأُمَمِ المُهْلَكَةِ. وقالَ مُجاهِدٌ: جَعَلْناهُ أوْصالًا مِن حَيْثُ كانَ أنْواعًا مِنَ القَوْلِ في مَعانٍ مُخْتَلِفَةٍ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: وصَّلْنا لَهم خَبَرَ الآخِرَةِ بِخَبَرِ الدُّنْيا، حَتّى كَأنَّهم عايَنُوا الآخِرَةَ. وقالَ الأخْفَشُ: أتْمَمْنا لِوَصْلِكَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، وأصْلُ التَّوَصُّلِ في الحَبْلِ، يُوَصَّلُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. وقالَ الشّاعِرُ: ؎فَقُلْ لِبَنِي مَرْوانَ ما بالُ ذِمَّتِي بِحَبْلٍ ضَعِيفٍ لا يَزالُ يُوَصَّلُ وهَذِهِ الأقْوالُ مَعْناها: تَوْصِيلُ المَعانِي فِيهِ بِها إلَيْهِمْ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: التَّوْصِيلُ بِالنِّسْبَةِ إلى الألْفاظِ، أيْ وصَّلْنا لَهم قَوْلًا مُعْجِزًا دالًّا عَلى نُبُوَّتِكَ. وأهْلُ الكِتابِ هُنا جَماعَةٌ مِنَ اليَهُودِ أسْلَمَتْ، وكانَ الكُفّارُ يُؤْذُونَهم. أوْ بَحِيرا الرّاهِبُ، أوِ النَّجاشِيُّ، أوْ سَلْمانُ الفارِسِيُّ. وابْنُ سَلامٍ، وأبُو رَفاعَةَ، وابْنُهُ في عَشَرَةٍ مِنَ اليَهُودِ أسْلَمُوا. أوْ أرْبَعُونَ مِن أهْلِ الإنْجِيلِ كانُوا مُؤْمِنِينَ بِالرَّسُولِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، اثْنانِ وثَلاثُونَ مِنَ الحَبَشَةِ أقْبَلُوا مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أبِي طالِبٍ، وثَمانِيَةٌ قَدِمُوا مِنَ الشّامِ: بَحِيرا، وأبْرَهَةُ، وأشْرَفُ، وأرْبَدُ، وتَمّامٌ، وإدْرِيسُ، ونافِعٌ، ورّادٌ أوِ ابْنُ سَلامٍ، وتَمِيمٌ الدّارِيُّ، والجارُودُ العَبْدِيُّ، وسَلْمانُ، سَبْعَةُ أقْوالٍ آخِرُها لِقَتادَةَ. والظّاهِرُ أنَّها أمْثِلَةٌ لِمَن آمَنَ مِنهم، والضَّمِيرُ في بِهِ عائِدٌ عَلى القَوْلِ، وهو القُرْآنُ. وقالَ الفَرّاءُ: عائِدٌ عَلى الرَّسُولِ، وقالَ أيْضًا: إنْ عادَ عَلى القُرْآنِ، كانَ صَوابًا؛ لِأنَّهم قَدْ قالُوا: إنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّنا. انْتَهى. ﴿إنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّنا﴾ تَعْلِيلٌ لِلْإيمانِ بِهِ؛ لِأنَّ كَوْنَهُ حَقًّا مِنَ اللَّهِ حَقِيقٌ بِأنْ نُؤْمِنَ بِهِ. ﴿إنّا كُنّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾ بَيانٌ لِقَوْلِهِ: ﴿آمَنّا بِهِ﴾ أيْ إيمانُنا بِهِ مُتَقادِمٌ، إذْ كانَ الآباءُ الأقْدَمُونَ إلى آبائِنا قَرَءُوا ما في الكِتابِ الأوَّلِ، وأعْلَمُوا بِذَلِكَ الأبْناءَ، فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ مِن قَبْلِ نُزُولِهِ وتِلاوَتِهِ عَلَيْنا، والإسْلامُ صِفَةُ كُلِّ مُوَحِّدٍ مُصَدِّقٍ بِالوَحْيِ. وإيتاءُ الأجْرِ مَرَّتَيْنِ لِكَوْنِهِ آمَنَ بِكِتابِهِ وبِالقُرْآنِ؛ وعُلِّلَ ذَلِكَ بِصَبْرِهِمْ أيْ عَلى تَكالِيفِ الشَّرِيعَةِ السّابِقَةِ لَهم، وهَذِهِ الشَّرِيعَةُ وما يَلْقَوْنَ مِنَ الأذى. وفي الحَدِيثِ: «ثَلاثَةٌ يُؤْتِيهِمُ اللَّهُ أجَرَهم مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِن أهْلِ الكِتابِ آمَنَ بِنَبِيهٍ وآمَنَ بِي» الحَدِيثَ. ﴿ويَدْرَءُونَ﴾ يَدْفَعُونَ ﴿بِالحَسَنَةِ﴾ بِالطّاعَةِ ﴿السَّيِّئَةَ﴾ المَعْصِيَةَ المُتَقَدِّمَةَ، أوْ بِالحِلْمِ الأذى، وذَلِكَ مِن مَكارِمِ الأخْلاقِ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَدْفَعُونَ بِشَهادَةِ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ الشِّرْكَ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: بِالمَعْرُوفِ المُنْكَرَ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: بِالخَيْرِ الشَّرَّ. وقالَ ابْنُ سَلامٍ: بِالعِلْمِ الجَهْلَ، وبِالكَظْمِ الغَيْظَ. وفي وصِيَّةِ الرَّسُولِ ﷺ لِمُعاذٍ: «أتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُها، وخالِقِ النّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» . و﴿اللَّغْوَ﴾ سَقْطُ القَوْلِ. وقالَ مُجاهِدٌ: الأذى والسَّبُّ. وقالَ الضَّحّاكُ: الشِّرْكُ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: ما غَيَّرَتْهُ اليَهُودُ مِن وصْفِ الرَّسُولِ، سَمِعَهُ قَوْمٌ مِنهم، فَكَرِهُوا ذَلِكَ وأعْرَضُوا. ﴿ولَكم أعْمالُكُمْ﴾ خِطابٌ لِقائِلِ اللَّغْوِ المَفْهُومِ ذَلِكَ مِن قَوْلِهِ: ﴿وإذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ﴾ . ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ (p-١٢٦)قالَ الزَّجّاجُ: سَلامُ مُتارَكَةٍ لا سَلامُ تَحِيَّةٍ. ﴿لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ﴾ أيْ لا نَطْلُبُ مُخالَطَتَهم. ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ﴾ أيْ لا تَقْدِرُ عَلى خَلْقِ الهِدايَةِ فِيهِ، ولا تَنافِيَ بَيْنَ هَذا وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿وإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢]؛ لِأنَّ مَعْنى هَذا: وإنَّكَ لَتُرْشِدُ. وقَدْ أجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّها نَزَلَتْ في أبِي طالِبٍ، وحَدِيثُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حالَةَ أنْ ماتَ مَشْهُورٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لا تَقْدِرُ أنْ تُدْخِلَ في الإسْلامِ كُلَّ مَن أحْبَبْتَ؛ لِأنَّكَ لا تَعْلَمُ المَطْبُوعَ عَلى قَلْبِهِ مِن غَيْرِهِ، ولَكِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ في الإسْلامِ مَن يَشاءُ، وهو الَّذِي عَلِمَ أنَّهُ غَيْرُ مَطْبُوعٍ عَلى قَلْبِهِ، وأنَّ الألْطافَ تَنْفَعُ فِيهِ، فَتُقَرِّبُ بِهِ ألْطافُهُ حَتّى يَدْعُوهُ إلى القَبُولِ. ﴿وهُوَ أعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ﴾ بِالقابِلِينَ مِنَ الَّذِينَ لا يَقْبَلُونَ. انْتَهى، وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ في أمْرِ الألْطافِ. وقالُوا: الضَّمِيرُ في وقالُوا لِقُرَيْشٍ. وقِيلَ، القائِلُ الحَرْثُ بْنُ عُثْمانَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنافٍ: إنَّكَ عَلى الحَقِّ، ولَكِنّا نَخافُ إنِ اتَّبَعْناكَ وخالَفْنا العَرَبَ، فَذَلِكَ وإنَّما نَحْنُ أكَلَةُ رَأْسٍ، أيْ قَلِيلُونَ أنْ يَتَخَطَّفُونا مِن أرْضِنا. وقَوْلُهم: ﴿الهُدى مَعَكَ﴾ أيْ عَلى زَعْمِكَ، فَقَطَعَ اللَّهُ حُجَّتَهم؛ إذْ كانُوا - وهم كُفّارٌ بِاللَّهِ - عُبّادَ أصْنامٍ قَدْ أمِنُوا في حَرَمِهِمْ، والنّاسُ في غَيْرِهِ يَتَقاتَلُونَ، وهم مُقِيمُونَ في بَلَدٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، يَجِيءُ إلَيْهِمْ ما يَحْتاجُونَ مِنَ الأقْواتِ، فَكَيْفَ إذا آمَنُوا واهْتَدَوْا ؟ فَهو - تَعالى - يُمَهِّدُ لَهُمُ الأرْضَ ويُمَلِّكُهُمُ الأرْضَ، كَما وعَدَهم تَعالى، ووَقَعَ ما وعَدَ بِهِ، ووَصْفُ الحَرَمِ بِالأمْنِ مَجازٌ، إذِ الآمِنُونَ فِيهِ هم ساكِنُوهُ. و﴿ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ عامٌّ مَخْصُوصٌ يُرادُ بِهِ الكَثْرَةُ. وقَرَأ المِنقَرِيُّ: يُتَخَطَّفُ، بِرَفْعِ الفاءِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى: ”﴿أيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ﴾ [النساء: ٧٨]“ بِرَفْعِ الكافِ أيْ فَيُدْرِكُكم، أيْ فَهو يُدْرِكُكم. وقَوْلُهُ: مَن يَفْعَلُ الحَسَناتِ اللَّهُ يَشْكُرُها: أيْ فَيُتَخَطَّفُ، وفاللَّهُ يَشْكُرُها، وهو تَخْرِيجُ شُذُوذٍ. وقَرَأ نافِعٌ وجَماعَةٌ عَنْ يَعْقُوبَ، وأبُو حاتِمٍ عَنْ عاصِمٍ: تُجْبى، بِتاءِ التَّأْنِيثِ، والباقُونَ بِالياءِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ثَمَراتُ، بِفَتْحَتَيْنِ؛ وأبانُ بْنُ تَغْلِبَ: بِضَمَّتَيْنِ، وبَعْضُهم: بِفَتْحِ الثّاءِ وإسْكانِ المِيمِ. وانْتَصَبَ ”رِزْقًا“ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مِنَ المَعْنى؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿يُجْبى إلَيْهِ ثَمَراتُ﴾ أيْ بِرِزْقِ ثَمَراتٍ، أوْ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، وفاعِلُ الفِعْلِ المُعَلَّلِ مَحْذُوفٌ، أيْ نَسُوقُ إلَيْهِ ثَمَراتِ كُلِّ شَيْءٍ، وإنْ كانَ الرِّزْقُ لَيْسَ مَصْدَرًا، بَلْ بِمَعْنى المَرْزُوقِ، جازِ انْتِصابُهُ عَلى الحالِ مِن ثَمَراتٍ، ويَحْسُنُ لَكَ تَخْصِيصًا بِالإضافَةِ. و﴿أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ أيْ جَهَلَةٌ بِأنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ هو مِن عِنْدِنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب