الباحث القرآني

﴿فَلَمّا جاءَهم مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هَذا إلّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وما سَمِعْنا بِهَذا في آبائِنا الأوَّلِينَ﴾ ﴿وقالَ مُوسى رَبِّي أعْلَمُ بِمَن جاءَ بِالهُدى مِن عِنْدِهِ ومَن تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ﴾ ﴿وقالَ فِرْعَوْنُ ياأيُّها المَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكم مِن إلَهٍ غَيْرِي فَأوْقِدْ لِي ياهامانُ عَلى الطِّينِ فاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أطَّلِعُ إلى إلَهِ مُوسى وإنِّي لَأظُنُّهُ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ ﴿واسْتَكْبَرَ هو وجُنُودُهُ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وظَنُّوا أنَّهم إلَيْنا لا يُرْجَعُونَ﴾ ﴿فَأخَذْناهُ وجُنُودَهُ فَنَبَذْناهم في اليَمِّ فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظّالِمِينَ﴾ ﴿وجَعَلْناهم أئِمَّةً يَدْعُونَ إلى النّارِ ويَوْمَ القِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ﴾ ﴿وأتْبَعْناهم في هَذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ويَوْمَ القِيامَةِ هم مِنَ المَقْبُوحِينَ﴾ ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ مِن بَعْدِ ما أهْلَكْنا القُرُونَ الأُولى بَصائِرَ لِلنّاسِ وهُدًى ورَحْمَةً لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ﴾ . ﴿بِآياتِنا﴾ هي العَصا واليَدُ. ﴿بَيِّناتٍ﴾ أيْ واضِحاتِ الدَّلالَةِ عَلى صِدْقِهِ، وأنَّهُ أمْرٌ خارِقٌ مُعْجِزٌ، كَفُّوا عَنْ مُقاوَمَتِهِ ومُعارَضَتِهِ، فَرَجَعُوا إلى البُهْتِ والكَذِبِ، ونَسَبُوهُ إلى أنَّهُ سِحْرٌ؛ لِأنَّهم يَرَوْنَ الشَّيْءَ عَلى حالَةٍ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ عَلى حالَةٍ أُخْرى، ثُمَّ يَعُودُ إلى الحالَةِ الأُولى، فَزَعَمُوا أنَّهُ سِحْرٌ يَفْتَعِلُهُ مُوسى ويَفْتَرِيهِ عَلى اللَّهِ، فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ. ثُمَّ مَعَ دَعْواهم أنَّهُ سِحْرٌ مُفْتَرًى، وكَذِبِهِمْ في ذَلِكَ، أرادُوا في الكَذِبِ أنَّهم ما سَمِعُوا بِهَذا في آبائِهِمْ، أيْ في زَمانِ آبائِهِمْ وأيّامِهِمْ. وفي آبائِنا: حالٌ، أيْ بِهَذا، أيْ بِمِثْلِ هَذا كائِنًا في أيّامِ آبائِنا. وإذا نَفَوُا السَّماعَ لِمِثْلِ هَذا في الزَّمانِ السّابِقِ، ثَبَتَ أنَّ ما ادَّعاهُ مُوسى هو بِدْعٌ لَمْ يُسْبَقْ إلى مِثْلِهِ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ مُفْتَرًى عَلى اللَّهِ، وقَدْ كَذَبُوا في ذَلِكَ، وطُرُقِ سَماعِهِمْ أخْبارَ الرُّسُلِ السّابِقِينَ مُوسى في الزَّمانِ. ألا تَرى إلى قَوْلِ مُؤْمِنٍ مِن آلِ فِرْعَوْنَ: ﴿ولَقَدْ جاءَكم يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالبَيِّناتِ﴾ [غافر: ٣٤] ؟ ولَمّا رَأى مُوسى ما قابَلُوهُ بِهِ مِن كَوْنِ ما أتى بِهِ سِحْرًا، وانْتِفاءَ سَماعِ مِثْلِهِ في الزَّمانِ السّابِقِ ﴿قالَ مُوسى رَبِّي أعْلَمُ بِمَن جاءَ بِالهُدى مِن عِنْدِهِ﴾ حَيْثُ أهَّلَهُ لِلرِّسالَةِ، وبَعَثَهُ بِالهُدى، ووَعَدَهُ حُسْنَ العُقْبى، ويَعْنِي بِذَلِكَ نَفْسَهُ، ولَوْ كانَ كَما يَزْعُمُونَ لَمْ يُرْسِلْهُ. ثُمَّ نَبَّهَ عَلى العِلَّةِ المُوجِبَةِ لِعَدَمِ الفَلاحِ، وهي الظُّلْمُ. وضْعُ الشَّيْءِ غَيْرَ مَوْضِعِهِ، حَيْثُ دُعُوا إلى الإيمانِ بِاللَّهِ، وأُتُوا بِالمُعْجِزاتِ، فادَّعَوُا الإلَهِيَّةَ، ونَسَبُوا ذَلِكَ المُعْجِزَ إلى السِّحْرِ. وعاقِبَةُ الدّارِ وإنْ كانَتْ تَصْلُحُ لِلْمَحْمُودَةِ والمَذْمُومَةِ، فَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمالُها في المَحْمُودَةِ، فَإنْ لَمْ تُقَيَّدْ، حُمِلَتْ عَلَيْها. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ لَهم عُقْبى الدّارِ﴾ [الرعد: ٢٢] ﴿جَنّاتُ عَدْنٍ﴾ [الرعد: ٢٣] ؟ وقالَ: ﴿وسَيَعْلَمُ الكُفّارُ لِمَن عُقْبى الدّارِ﴾ [الرعد: ٤٢] وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: قالَ مُوسى، بِغَيْرِ واوٍ؛ وباقِي السَّبْعَةِ: بِالواوِ. ومُناسَبَةُ قِراءَةِ الجُمْهُورِ أنَّهُ لَمّا جاءَهم بِالبَيِّناتِ قالُوا: كَيْتَ وكَيْتَ، وقالَ مُوسى: كَيْتَ وكَيْتَ؛ فَيَتَمَيَّزُ النّاظِرُ فَصْلَ ما بَيْنَ القَوْلَيْنِ وفَسادَ أحَدِهِما، إذْ قَدْ تَقابَلا، فَيَعْلَمُ يَقِينًا أنَّ قَوْلَ مُوسى هو الحَقُّ والهُدى. ومُناسَبَةُ قِراءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، (p-١٢٠)أنَّهُ مَوْضِعُ قِراءَةٍ لَمّا قالُوا: كَيْتَ وكَيْتَ، قالَ مُوسى: كَيْتَ وكَيْتَ. ونَفى فِرْعَوْنُ عِلْمَهُ بِإلَهٍ غَيْرِهِ لِلْمَلَأِ، ويُرِيدُ بِذَلِكَ نَفْيَ وجُودِهِ، أيْ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرِي. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ غَيْرَ مَعْلُومٍ عِنْدَهُ إلَهٌ لَهم، ولَكِنَّهُ مَظْنُونٌ، فَيَكُونُ النَّفْيُ عَلى ظاهِرِهِ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وإنِّي لَأظُنُهُ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ وهو الكاذِبُ في انْتِفاءِ عِلْمِهِ بِإلَهٍ غَيْرِهِ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ حالَةَ غَرَقِهِ: ﴿آمَنتُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرائِيلَ﴾ [يونس: ٩٠] ؟ واسْتَمَرَّ فِرْعَوْنُ في مَخْرَقَتِهِ، ونادى وزِيرَهُ هامانَ، وأمَرَهُ أنْ يُوقِدَ النّارَ عَلى الطِّينِ. قِيلَ: وهو أوَّلُ مَن عَمِلَ الآجُرَّ، ولَمْ يَقُلِ: اطْبُخِ الآجُرَّ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِهامانَ عِلْمٌ بِذَلِكَ، فَفِرْعَوْنُ هو الَّذِي يُعَلِّمُهُ ما يَصْنَعُ. ﴿فاجْعَلْ لِي صَرْحًا﴾ أيِ ابْنِ لِي، لَعَلِّي أطَّلِعُ إلى إلَهِ مُوسى. أوْهَمَ قَوْمَهُ أنَّ إلَهَ مُوسى يُمْكِنُ الوُصُولُ إلَيْهِ والقُدْرَةُ عَلَيْهِ، وهو عالِمٌ مُتَيَقَّنٌ أنَّ ذَلِكَ لا يُمْكِنُ لَهُ؛ وقَوْمُهُ لِغَباوَتِهِمْ وجَهْلِهِمْ وإفْراطِ عَمايَتِهِمْ، يُمْكِنُ ذَلِكَ عِنْدَهم، ونَفْسُ إقْلِيمِ مِصْرَ يَقْتَضِي لِأهْلِهِ تَصْدِيقَهم بِالمُسْتَحِيلاتِ وتَأثُّرَهم لِلْمُوهِماتِ والخَيالاتِ، ولا يُشَكُّ أنَّهُ كانَ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ مَن يَعْتَقِدُ أنَّهُ مُبْطِلٌ في دَعْواهُ، ولَكِنْ يُوافِقُهُ مَخافَةَ سَطْوِهِ واعْتِدائِهِ. كَما رَأيْناهُ يَعْرِضُ لِكَثِيرٍ مِنَ العُقَلاءِ، إذا حَدَّثَ رَئِيسٌ بِحَضْرَتِهِ بِحَدِيثٍ مُسْتَحِيلٍ، يُوافِقُهُ عَلى ذَلِكَ الحَدِيثِ. ولا يَدُلُّ الأمْرُ بِبِناءِ الصَّرْحِ عَلى أنَّهُ بُنِيَ، وقَدِ اخْتُلِفَ في ذَلِكَ، فَقِيلَ: بَناهُ، وذَكَرَ مَن وصَفَهُ بِما اللَّهُ أعْلَمُ بِهِ. وقِيلَ: لَمْ يُبْنَ. واطَّلَعَ في مَعْنى: طَلَعَ، يُقالُ: طَلَعَ إلى الجَبَلِ واطَّلَعَ بِمَعْنًى واحِدٍ، أيْ صَعِدَ، فافْتَعَلَ فِيهِ بِمَعْنى الفِعْلِ المُجَرَّدِ وبِغَيْرِ الحَقِّ، إذْ لَيْسَ لَهم ذَلِكَ، فَهم مُبْطِلُونَ في اسْتِكْبارِهِمْ؛ حَيْثُ ادَّعى الإلَهِيَّةَ ووافَقُوهُ عَلى ذَلِكَ؛ والكِبْرِياءُ في الحَقِيقَةِ إنَّما هو لِلَّهِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، ونافِعٌ: ”لا يَرْجِعُونَ“ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ؛ والجُمْهُورُ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. والأرْضُ هُنا أرْضُ مِصْرَ. ﴿فَنَبَذْناهم في اليَمِّ﴾ كِنايَةٌ عَنْ إدْخالِهِمْ في البَحْرِ حَتّى غَرِقُوا، شُبِّهُوا بِحَصَياتٍ. قَذَفَها الرّامِي مِن يَدِهِ، ومِنهُ نَبْذُ النَّواةِ، وقَوْلُ الشّاعِرِ: ؎نَظَرْتُ إلى عُنْوانِهِ فَنَبَذْتُهُ كَنَبْذِكَ نَعْلًا مِن نِعالِكَ بالِيًا وقَوْمُ فِرْعَوْنَ وفِرْعَوْنُ، وإنْ سارُوا إلى البَحْرِ بِاخْتِيارِهِمْ في طَلَبِ بَنِي إسْرائِيلَ، فَإنَّ ما ضَمَّهم مِنَ القَدْرِ السّابِقِ، وإغْراقِهِمْ في البَحْرِ، هو نَبْذُ اللَّهِ إيّاهم. و”جَعَلَ“ هُنا بِمَعْنى: صَيَّرَ، أيْ صَيَّرْناهم أئِمَّةً قُدْوَةً لِلْكُفّارِ يَقْتَدُونَ بِهِمْ في ضَلالَتِهِمْ، كَما أنَّ لِلْخَيْرِ أئِمَّةً يُقْتَدى بِهِمْ، اشْتَهَرُوا بِذَلِكَ وبَقِيَ حَدِيثُهم. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وجَعَلْناهم: دَعَوْناهم، أئِمَّةً: دُعاةً إلى النّارِ، وقُلْنا: إنَّهم أئِمَّةٌ دُعاةٌ إلى النّارِ، وهو مِن قَوْلِكَ: جَعَلَهُ بَخِيلًا وفاسِقًا إذا دَعاهُ فَقالَ: إنَّهُ بَخِيلٌ وفاسِقٌ. ويَقُولُ أهْلُ اللُّغَةِ في تَفْسِيرِ فِسْقِهِ وبُخْلِهِ: جَعَلَهُ بَخِيلًا وفاسِقًا، ومِنهُ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هم عِبادُ الرَّحْمَنِ إناثًا﴾ [الزخرف: ١٩] . ومَعْنى دَعَوْتِهِمْ إلى النّارِ: دَعْوَتُهم إلى مُوجِباتِها مِنَ الكُفْرِ. انْتَهى. وإنَّما فَسَّرَ جَعَلْناهم بِمَعْنى دَعَوْناهم، لا بِمَعْنى صَيَّرْناهم، جَرْيًا عَلى مَذْهَبِهِ مِن الِاعْتِزالِ؛ لِأنَّ في تَصْيِيرِهِمْ أئِمَّةً، خَلْقُ ذَلِكَ لَهم، وعَلى مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ، جَوِّزُونَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ، ولا يَنْسُبُونَهُ إلَيْهِ، قالَ: ويَجُوزُ خَذَلْناهم حَتّى كانُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ، ومَعْنى الخِذْلانِ: مَنعُ الألْطافِ، وإنَّما يُمْنَعُها مَن عُلِمَ أنَّهُ لا يَنْفَعُ فِيهِ، وهو المُصَمِّمُ عَلى الكُفْرِ، الَّذِي لا تُغْنِي عَنْهُ الآياتُ والنُّذُرُ. انْتَهى، وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ أيْضًا. ﴿لَعْنَةً﴾ أيْ طَرْدًا وإبْعادًا، وعُطِفَ ”يَوْمَ القِيامَةِ“ عَلى: ”في هَذِهِ الدُّنْيا“ . ﴿مِنَ المَقْبُوحِينَ﴾ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: مِنَ الهالِكِينَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مِنَ المُشَوَّهِينَ الخِلْقَةِ، لِسَوادِ الوُجُوهِ وزُرْقَةِ العُيُونِ. وقِيلَ: مِنَ المُبْعَدِينَ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى ما آلَ إلَيْهِ فِرْعَوْنُ وقَوْمُهُ مِن غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وإغْراقِهِ، ذَكَرَ ما امْتَنَّ بِهِ عَلى رَسُولِهِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَقالَ: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾ وهو التَّوْراةُ، وهو أوَّلُ كِتابٍ أُنْزِلَتْ فِيهِ الفَرائِصُ والأحْكامُ. ﴿مِن بَعْدِ ما أهْلَكْنا القُرُونَ الأُولى﴾ قَوْمُ نُوحٍ وهُودٍ وصالِحٍ ولُوطٍ، ويُقالُ: لَمْ تَهْلِكْ قَرْيَةٌ بَعْدَ نُزُولِ التَّوْراةِ غَيْرُ القَرْيَةِ الَّتِي مُسِخَ أهْلُها قِرَدَةً. وانْتَصَبَ (p-١٢١)”بَصائِرَ“ عَلى الحالِ، أيْ طَرائِقَ هُدًى يُسْتَبْصَرُ بِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب