الباحث القرآني

﴿قالَ إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكم لَمَجْنُونٌ﴾ . قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: التَّعْرِيفُ بِهَذا الأثَرِ أظْهَرُ، فَلِهَذا عَدَلَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِنَ الكَلامِ الأوَّلِ إلَيْهِ، إذْ كانَ لا يُمْكِنُ أنْ يَعْتَقِدَ العاقِلُ في نَفْسِهِ وفي آبائِهِ كَوْنَهم واجِبِي الوُجُودِ لِذَواتِهِمْ، لِأنَّ المُشاهَدَةَ دَلَّتْ عَلى وُجُودِهِمْ بَعْدَ عَدَمِهِمْ، وعَدَمِهِمْ بَعْدَ وُجُودِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَ فِرْعَوْنُ: ما قالَ يَعْنِي أنَّ المَقْصُودَ مِن سُؤالِ ما طَلَبْتَ الماهِيَّةُ وخُصُوصِيَّةُ الحَقِيقَةِ. والتَّعْرِيفُ بِهَذِهِ الآثارِ الخارِجِيَّةِ لا تُفِيدُ تِلْكَ الخُصُوصِيَّةَ، فَهَذا الَّذِي يَدَّعِي الرِّسالَةَ مَجْنُونٌ لا يَفْهَمُ السُّؤالَ فَضْلًا عَنْ أنْ يُجِيبَ عَنْهُ، فَقالَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وما بَيْنَهُما إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ فَعَدَلَ إلى طَرِيقٍ أوْضَحَ مِنَ الثّانِي، وذَلِكَ أنَّهُ أرادَ بِالمَشْرِقِ: طُلُوعَ الشَّمْسِ وظُهُورَ النَّهارِ، وأرادَ بِالمَغْرِبِ: غُرُوبَ الشَّمْسِ وزَوالَ النَّهارِ. وهَذا التَّقْدِيرُ المُسْتَمِرُّ عَلى الوَجْهِ العَجِيبِ لا يَتِمُّ إلّا بِتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ، وهَذا بِعَيْنِهِ طَرِيقَةُ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَعَ نُمْرُوذَ، فَإنَّهُ اسْتَدَلَّ أوَّلًا بِالإحْياءِ والإماتَةِ، وهو الَّذِي ذَكَرَهُ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - هُنا بِقَوْلِهِ: ﴿رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ [الشعراء: ٢٦] فَأجابَهُ نُمْرُوذُ بِقَوْلِهِ: ﴿أنا أُحْيِـي وأُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨] فَقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] وهو الَّذِي ذَكَرَهُ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - هُنا بِقَوْلِهِ: ﴿رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وما بَيْنَهُما إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أيْ إنْ كُنْتُمْ مِنَ العُقَلاءِ، عَرَفْتُمْ أنْ لا جَوابَ عَنِ السُّؤالِ إلّا ما ذَكَرْتُ. انْتَهى، وفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: زادَهُ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - في بَيانِ الصِّفاتِ الَّتِي تُظْهِرُ نَقْصَ فِرْعَوْنَ، وتُبَيِّنُ أنَّهُ في غايَةِ البُعْدِ عَنِ القُدْرَةِ عَلَيْها، وهي رُبُوبِيَّةُ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، ولَمْ يَكُنْ لِفِرْعَوْنَ إلّا مُلْكُ مِصْرَ مِنَ البَحْرِ إلى أسْوانَ وأرْضُ الإسْكَنْدَرِيَّةِ. وقَرَأ مُجاهِدٌ، وحُمَيْدٌ، والأعْرَجُ: أُرْسِلَ إلَيْكم، عَلى بِناءِ الفاعِلِ، أيْ أرْسَلَهُ رَبُّهُ إلَيْكم. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، وأصْحابُهُ، والأعْمَشُ: رَبُّ المَشارِقِ والمَغارِبِ، عَلى الجَمْعِ فِيهِما. ولَمّا انْقَطَعَ فِرْعَوْنُ في بابِ الِاحْتِجاجِ، رَجَعَ إلى الِاسْتِعْلاءِ والغَلَبِ، وهَذا أبْيَنُ عَلاماتِ الِانْقِطاعِ، فَتَوَعَّدَ مُوسى بِالسِّجْنِ حِينَ أعْياهُ خِطابُهُ: ﴿قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ﴾ . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمّا (p-١٤)أجابَ مُوسى بِما أجابَ، عَجِبَ قَوْمُهُ مِن جَوابِهِ، حَيْثُ نَسَبَ الرُّبُوبِيَّةَ إلى غَيْرِهِ، فَلَمّا ثَنّى بِتَقْرِيرِ قَوْلِهِ، جَنَّنَّهُ إلى قَوْمِهِ وظَنَنَّ بِهِ، حَيْثُ سَمّاهُ رَسُولَهم، فَلَمّا ثَلَّثَ احْتَدَّ واحْتَدَمَ، وقالَ: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي﴾ . (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ قالَ: أوَّلًا: ﴿إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ [الشعراء: ٢٤] وآخِرًا: ﴿إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ؟ (قُلْتُ): لايَنَ أوَّلًا، فَلَمّا رَأى شِدَّةَ الشَّكِيمَةِ في العِنادِ وقِلَّةِ الإصْغاءِ إلى عَرْضِ الحُجَجِ، خاشَنَ وعارَضَ إنَّ رَسُولَكم لَمَجْنُونٌ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ . (فَإنْ قُلْتَ): ألَمْ يَكُنْ لَأسْجُنَنَّكَ أخْصَرَ مِن ﴿لَأجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ﴾ ومُؤَدِّيًا مُؤَدّاهُ ؟ (قُلْتُ): أمّا أخْصَرُ فَنَعَمْ، وأمّا مُؤَدِّيًا مُؤَدّاهُ فَلا، لِأنَّ مَعْناهُ: لَأجْعَلَنَّكَ واحِدًا مِمَّنْ عَرَفْتَ حالَهم في سُجُونِي. وكانَ مِن عادَتِهِ أنْ يَأْخُذَ مَن يُرِيدُ سَجْنَهُ فَيَطْرَحَهُ في هُوَّةٍ ذاهِبَةٍ في الأرْضِ بَعِيدَةِ العُمْقِ فَرْدًا، لا يُبْصِرُ فِيها ولا يَسْمَعُ، فَكانَ ذَلِكَ أشَدَّ مِنَ القَتْلِ. انْتَهى. ولَمّا كانَ عِنْدَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِن أمْرِ فِرْعَوْنَ ما لا يَرُوعُهُ مَعَهُ تَوَعُّدُ فِرْعَوْنَ، قالَ لَهُ عَلى جِهَةِ اللُّطْفِ بِهِ والطَّمَعِ في إيمانِهِ: ﴿أوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ﴾ أيْ يُوَضِّحُ لَكَ صِدْقِي، أفَكُنْتَ تَسْجُنُنِي ؟ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوَلَوْ جِئْتُكَ، واوُ الحالِ دَخَلَتْ عَلَيْها هَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِ، مَعْناهُ: أتَفْعَلُ بِي ذَلِكَ ولَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ؟ انْتَهى. وتَقَدَّمَ لَنا الكَلامُ عَلى هَذِهِ الواوِ، والدّاخِلَةُ عَلى لَوْ في مِثْلِ هَذا السِّياقِ في قَوْلِهِ: ﴿أوَلَوْ كانَ آباؤُهم لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا ولا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٠] فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ. وقالَ الحَوْفِيُّ: واوُ العَطْفِ دَخَلَتْ عَلَيْها هَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِ لِلتَّقْرِيرِ، والمَعْنى: أتَسْجُنُنِي حَتّى في هَذِهِ الحالَةِ الَّتِي لا تُناسِبُ أنْ أُسْجَنَ وأنا مُتَلَبِّسٌ بِها ؟ . ولَمّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ هَذا مِن مُوسى طَمِعَ أنْ يَجِدَ مَوْضِعَ مُعارِضَةٍ فَقالَ لَهُ: ﴿فَأْتِ بِهِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ أنَّ لَكَ رَبًّا بَعَثَكَ رَسُولًا إلَيْنا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وفي قَوْلِهِ: ﴿إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لا يَأْتِي بِالمُعْجِزَةِ إلّا الصّادِقُ في دَعْواهُ، لِأنَّ المُعْجِزَةَ تَصْدِيقٌ مِنَ اللَّهِ لِمُدَّعِي النُّبُوَّةِ، والحَكِيمُ لا يُصَدِّقُ الكاذِبَ. ومِنَ العَجَبِ أنَّ مِثْلَ فِرْعَوْنَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذا، وخَفِيَ عَلى ناسٍ مِن أهْلِ القِبْلَةِ، حَيْثُ جَوَّزُوا القَبِيحَ عَلى اللَّهِ حَتّى لَزِمَهم تَصْدِيقُ الكاذِبِينَ بِالمُعْجِزاتِ. انْتَهى. وتَقْدِيرُهُ: إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ فَأْتِ بِهِ، حُذِفَ الجَزاءُ، لِأنَّ الأمْرَ بِالإتْيانِ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ في دَعْواكَ أتَيْتَ بِهِ. جَعَلَ الجَوابَ المَحْذُوفَ فِعْلًا ماضِيًا، ولا يُقَدَّرُ إلّا مِن جِنْسِ الدَّلِيلِ بِقَوْلِهِ: أنْتَ ظالِمٌ إنْ فَعَلْتَ، تَقْدِيرُهُ: أنْتَ ظالِمٌ إنْ فَعَلْتَ فَأنْتَ ظالِمٌ. وقالَ الحَوْفِيُّ: إنْ حَرْفُ شَرْطٍ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ما تَقَدَّمَ جَوابُهُ، وجازَ تَقْدِيمُ الجَوابِ، لِأنَّ حَذْفَ الشَّرْطِ لَمْ يَعْمَلْ في اللَّفْظِ شَيْئًا. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الجَوابُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ فَأْتِ بِهِ. وقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: حَتّى لَزِمَهم تَصْدِيقُ الكاذِبِينَ بِالمُعْجِزاتِ، إشارَةٌ إلى إنْكارِ الكَراماتِ الَّتِي ذَهَبَ أهْلُ السُّنَّةِ إلى إثْباتِها. والمُعْجِزُ عِنْدَهم هو ما كانَ خارِقًا لِلْعادَةِ، ولا يَكُونُ إلّا لِنَبِيٍّ أوْ في زَمانِ نَبِيٍّ، إنْ جَرى عَلى يَدِ غَيْرِهِ فَتَكُونُ مُعْجِزَةً لِذَلِكَ النَّبِيِّ، أوْ عَلى سَبِيلِ الإرْهاصِ لِنَبِيٍّ. ﴿فَألْقى عَصاهُ﴾ رَماها مِن يَدِهِ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى عَصا مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - . والثُّعْبانُ: أعْظَمُ ما يَكُونُ مِنَ الحَيّاتِ. ومَعْنى (مُبِينٌ) ظاهِرُ الثُّعْبانِيَّةِ، لَيْسَتْ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي تُزَوَّرُ بِالشَّعْبَذَةِ والسِّحْرِ. ﴿ونَزَعَ يَدَهُ﴾ مِن جَيْبِهِ، فَإذا هي تَلَأْلَأُ كَأنَّها قِطْعَةٌ مِنَ الشَّمْسِ. ومَعْنى (لِلنّاظِرِينَ) أيْ بَياضُها يَجْتَمِعُ النَّظّارَةُ عَلى النَّظَرِ إلَيْهِ لِخُرُوجِهِ عَنِ العادَةِ، وكانَ بَياضًا نُورانِيًّا. رُوِيَ أنَّهُ لَمّا أبْصَرَ أمْرَ العَصا قالَ: فَهَلْ غَيْرُها ؟ فَأخْرَجَ يَدَهُ، فَقالَ: ما هَذِهِ ؟ قالَ: يَدُكَ، فَأدْخَلَها في إبِطِهِ ثُمَّ نَزَعَها ولَها شُعاعٌ يَكادُ يُغْشِي الأبْصارَ ويَسُدُّ الأُفُقَ. (p-١٥)﴿قالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ إنَّ هَذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿يُرِيدُ أنْ يُخْرِجَكم مِن أرْضِكم بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ﴾ ﴿قالُوا أرْجِهْ وأخاهُ وابْعَثْ في المَدائِنِ حاشِرِينَ﴾ ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحّارٍ عَلِيمٍ﴾ ﴿فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ ﴿وقِيلَ لِلنّاسِ هَلْ أنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ﴾ ﴿لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إنْ كانُوا هُمُ الغالِبِينَ﴾ ﴿فَلَمّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أئِنَّ لَنا لَأجْرًا إنْ كُنّا نَحْنُ الغالِبِينَ﴾ ﴿قالَ نَعَمْ وإنَّكم إذًا لَمِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ ﴿قالَ لَهم مُوسى ألْقُوا ما أنْتُمْ مُلْقُونَ﴾ ﴿فَألْقَوْا حِبالَهم وعِصِيَّهم وقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إنّا لَنَحْنُ الغالِبُونَ﴾ ﴿فَألْقى مُوسى عَصاهُ فَإذا هي تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ﴾ ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ﴾ ﴿قالُوا آمَنّا بِرَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿رَبِّ مُوسى وهارُونَ﴾ ﴿قالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكم إنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أيْدِيَكم وأرْجُلَكم مِن خِلافٍ ولَأُصَلِّبَنَّكم أجْمَعِينَ﴾ ﴿قالُوا لا ضَيْرَ إنّا إلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ﴾ ﴿إنّا نَطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أنْ كُنّا أوَّلَ المُؤْمِنِينَ﴾ . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وانْتَصَبَ ”حَوْلَهُ“ عَلى الظَّرْفِ، وهو في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ كائِنِينَ حَوْلَهُ، فالعامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ، والعامِلُ فِيهِ هو الحالُ حَقِيقَةً والنّاصِبُ لَهُ، قالَ: لِأنَّهُ هو العامِلُ في ذِي الحالِ بِواسِطَةِ لامِ الجَرِّ، نَحْوُ: مَرَرْتُ بِهِنْدٍ ضاحِكَةً. والكُوفِيُّونَ يَجْعَلُونَ المَلَأ مَوْصُولًا، فَكَأنَّهُ قِيلَ: قالَ لِلَّذِي حَوْلَهُ، فَلا مَوْضِعَ لِلْعامِلِ في الظَّرْفِ، لِأنَّهُ وقَعَ صِلَةً. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): ما العامِلُ في حَوْلَهُ ؟ (قُلْتُ): هو مَنصُوبٌ نَصْبَيْنِ: نَصْبٌ في اللَّفْظِ، ونَصْبٌ في المَحَلِّ. فالعامِلُ في النَّصْبِ اللَّفْظِيِّ ما يُقَدَّرُ في الظَّرْفِ، وذَلِكَ اسْتَقَرُّوا حَوْلَهُ، وهَذا يُقَدَّرُ في جَمِيعِ الظُّرُوفِ، والعامِلُ في النَّصْبِ المَحَلِّيِّ، وهو النَّصْبُ عَلى الحالِ. انْتَهى. وهو تَكْثِيرٌ وشَقْشَقَةُ كَلامٍ في أمْرٍ واضِحٍ مِن أوائِلِ عِلْمِ العَرَبِيَّةِ. ولَمّا رَأى فِرْعَوْنُ أمْرَ العَصا واليَدِ، وما ظَهَرَ فِيهِما مِنَ الآياتِ، هالَهُ ذَلِكَ ولَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ مَدْفَعٌ، فَزِعَ إلى رَمْيِهِ بِالسِّحْرِ. وطَمِعَ لِغَلَبَةِ عِلْمِ السِّحْرِ في ذَلِكَ الزَّمانِ أنْ يَكُونَ ثَمَّ مَن يُقاوِمُهُ، أوْ كانَ عَلِمَ صِحَّةَ المُعْجِزَةِ. وعَمّى تِلْكَ الحُجَّةَ عَلى قَوْمِهِ، بِرَمْيِهِ بِالسِّحْرِ، وبِأنَّهُ ﴿يُرِيدُ أنْ يُخْرِجَكم مِن أرْضِكم بِسِحْرِهِ﴾ لِيَقْوى تَنْفِيرُهم عَنْهُ، وابْتِغاؤُهُمُ الغَوائِلَ لَهُ، وأنْ لا يَقْبَلُوا قَوْلَهُ؛ إذْ مِن أصْعَبِ الأشْياءِ عَلى النُّفُوسِ مُفارَقَةُ الوَطَنِ الَّذِي نَشَئُوا فِيهِ، ثُمَّ اسْتَأْمَرَهم فِيما يَفْعَلُ مَعَهُ، وذَلِكَ لِما حَلَّ بِهِ مِنَ التَّحَيُّرِ والدَّهَشِ وانْحِطاطِهِ عَنْ مَرْتَبَةِ أُلُوهِيَّتِهِ إلى أنْ صارَ يَسْتَشِيرُهم في أمْرِهِ، فَيَأْمُرُونَهُ بِما يَظْهَرُ لَهم فِيهِ، فَصارَ مَأْمُورًا بَعْدَ أنْ كانَ آمِرًا. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في (ماذا تَأْمُرُونَ) وفي الألْفاظِ الَّتِي وافَقَتْ ما في سُورَةِ الأعْرافِ، فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ. ولَمّا قالَ: ﴿إنَّ هَذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ﴾ عارَضُوا بِقَوْلِهِ: ﴿بِكُلِّ سَحّارٍ﴾ فَجاءُوا بِكَلِمَةِ الِاسْتِغْراقِ والبِناءِ الَّذِي لِلْمُبالَغَةِ، لِيُنَفِّسُوا عَنْهُ بَعْضَ ما لَحِقَهُ مِنَ الكَرْبِ. وقَرَأ الأعْمَشُ، وعاصِمٌ في رِوايَةٍ: ”بِكُلِّ ساحِرٍ“ . واليَوْمُ المَعْلُومُ: يَوْمُ الزِّينَةِ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِ في سُورَةِ طه. وقَوْلُهُ: ﴿هَلْ أنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ﴾ اسْتِبْطاءٌ لَهم في الِاجْتِماعِ، والمُرادُ مِنهُ اسْتِعْجالُهم، كَما يَقُولُ الرَّجُلُ لِغُلامِهِ: هَلْ أنْتَ مُنْطَلِقٌ ؟ إذا أرادَ أنْ يُحَرِّكَ مِنهُ ويَحُثَّهُ عَلى الِانْطِلاقِ، كَما يُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّ النّاسَ قَدِ انْطَلَقُوا وهو واقِفٌ، ومِنهُ قَوْلُ تَأبَّطَ شَرًّا: ؎هَلْ أنْتَ باعِثٌ دِينارًا لِحاجَتِنا أوْ عَبْدَ رَبٍّ أخا عَوْنِ بْنِ مِخْراقِ يُرِيدُ: ابْعَثْهُ إلَيْنا سَرِيعًا ولا تُبْطِئُ بِهِ. وتَرَجَّوُا اتِّباعَ السَّحَرَةِ، أيْ في دِينِهِمْ، إنْ غَلَبُوا مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ولا يَتَّبِعُونَ مُوسى في دِينِهِ. وساقُوا الكَلامَ سِياقَ الكِنايَةِ، لِأنَّهم إذا اتَّبَعُوهم لَمْ يَتَّبِعُوا مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - . ودَخَلَتْ إذا هُنا بَيْنَ اسْمِ إنَّ وخَبَرِها، وهي جَوابٌ وجَزاءٌ. وبِعَزَّةِ فِرْعَوْنَ: الظّاهِرُ أنَّ الباءَ لِلْقَسَمِ، والَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الباءُ مَحْذُوفٌ، وعَدَلُوا عَنِ الخِطابِ إلى اسْمِ الغَيْبَةِ تَعْظِيمًا، كَما يُقالُ لِلْمُلُوكِ: أمَرُوا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - بِكَذا، فَيُخْبِرُ عَنْهُ إخْبارَ الغائِبِ، وهَذا مِن نَوْعِ إيمانِ الجاهِلِيَّةِ. وقَدْ سَلَكَ كَثِيرٌ مِنَ المُسْلِمِينَ في الإيمانِ ما هو أشْنَعُ مِن إيمانِ الجاهِلِيَّةِ، لا يَرْضَوْنَ بِالقَسَمِ بِاللَّهِ، ولا يَعْتَدُّونَ بِهِ حَتّى يَحْلِفَ أحَدُهم بِنِعْمَةِ السُّلْطانِ وبِرَأْسِ المُحَلِّفِ، فَحِينَئِذٍ يُسْتَوْثَقُ مِنهُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَعْدَ أنْ ذَكَرَ أنَّهُ قَسَمٌ قالَ: والأجْرُ أنْ يَكُونَ عَلى جِهَةِ التَّعْظِيمِ والتَّبَرُّكِ بِاسْمِهِ، إذْ كانُوا يَعْبُدُونَهُ؛ كَما تَقُولُ إذا ابْتَدَأْتَ بِعَمَلِ شَيْءٍ (p-١٦)بِسْمِ اللَّهِ، وعَلى بَرَكَةِ اللَّهِ، ونَحْوَ هَذا. وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿قالَ لَهم مُوسى﴾ وقَوْلُهُ: ﴿لَمِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ كَلامٌ مَحْذُوفٌ، وهو ما ثَبَتَ في الأعْرافِ مِن تَخْيِيرِهِمْ إيّاهُ في البَداءَةِ مَن يُلْقِي. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): فاعِلُ الإلْقاءِ ما هو لَوْ صَرَّحَ بِهِ ؟ (قُلْتُ): هو اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - بِما خَوَّلَهم مِنَ التَّوْفِيقِ وإيمانِهِمْ، أوْ بِما عايَنُوا مِنَ المُعْجِزَةِ الباهِرَةِ، ولَكَ أنْ لا تُقَدِّرَ فاعِلًا، لِأنَّ ألْقَوْا بِمَعْنى خَرُّوا وسَقَطُوا. انْتَهى. وهَذا القَوْلُ الآخَرُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. لا يُمْكِنُ أنْ يُبْنى الفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ إلّا وقَدْ حُذِفَ الفاعِلُ فَنابَ ذَلِكَ عَنْهُ، أمّا أنَّهُ لا يُقَدَّرُ فاعِلٌ، فَقَوْلٌ ذاهِبٌ عَنِ الصَّوابِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَرَأ البَزِّيُّ، وابْنُ فُلَيْحٍ، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: بِشَدِّ التّاءِ وفَتْحِ اللّامِ وشَدِّ القافِ، ويَلْزَمُ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ إذا ابْتَدَأ أنْ يَحْذِفَ هَمْزَةَ الوَصْلِ، وهَمْزَةُ الوَصْلِ لا تَدْخُلُ عَلى الأفْعالِ المُضارَعَةِ، كَما لا تَدْخُلُ عَلى أسْماءِ الفاعِلِينَ. انْتَهى. كَأنَّهُ يُخَيَّلُ أنَّهُ لا يُمْكِنُ الِابْتِداءُ بِالكَلِمَةِ إلّا بِاجْتِلابِ هَمْزَةِ الوَصْلِ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِلازِمٍ كَثِيرًا ما يَكُونُ الوَصْلُ مُخالِفًا لِلْوَقْفِ، والوَقْفُ مُخالِفًا لِلْوَصْلِ، ومَن لَهُ تَمَرُّنٌ في القِرَآتِ عَرَفَ ذَلِكَ. ﴿قالُوا لا ضَيْرَ﴾ أيْ لا ضَرَرَ عَلَيْنا في وُقُوعِ ما وعَدْتَنا بِهِ مِن قَطْعِ الأيْدِي والأرْجُلِ والتَّصْلِيبِ، بَلْ لَنا فِيهِ المَنفَعَةُ التّامَّةُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ. يُقالُ: ضارَهُ يَضِيرُهُ ضَيْرًا، وضارَهُ يَضُورُهُ ضَوْرًا. إنّا إلى رَبِّنا: أيْ إلى عَظِيمِ ثَوابِهِ، أوْ: لا ضَيْرَ عَلَيْنا، إذِ انْقِلابُنا إلى اللَّهِ بِسَبَبٍ مِن أسْبابِ المَوْتِ، والقَتْلُ أهْوَنُ أسْبابِهِ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: لَمّا آمَنُوا بِأجْمَعِهِمْ، لَمْ يَأْمَن فِرْعَوْنُ أنْ يَقُولَ قَوْمُهُ لَمْ تُؤْمِنِ السَّحَرَةُ عَلى كَثْرَتِهِمْ إلّا عَنْ مَعْرِفَةٍ بِصِحَّةِ أمْرِ مُوسى فَيُؤْمِنُونَ، فَبالَغَ في التَّنْفِيرِ مِن جِهَةِ قَوْلِهِ: ﴿آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ مُوهِمًا أنَّ مُسارَعَتَهم لِلْإيمانِ دَلِيلٌ عَلى مَيْلِهِمْ إلَيْهِ قَبْلُ. وبِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ﴾ صَرَّحَ بِما رَمَزَهُ أوَّلًا مِن مُواطَأتِهِمْ وتَقْصِيرِهِمْ لِيَظْهَرَ أمْرُ كَبِيرِهِمْ، وبِقَوْلِهِ: ﴿فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ حَيْثُ أوْعَدَهم وعِيدًا مُطْلَقًا، وبِتَصْرِيحِهِ بِما هَدَّدَهم بِهِ مِنَ العَذابِ، فَأجابُوا بِأنَّ ذَلِكَ إنْ وقَعَ، لَنْ يُضِيرَ، وفي قَوْلِهِمْ: ﴿إنّا إلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ﴾ نُكْتَةٌ شَرِيفَةٌ، وهو أنَّهم آمَنُوا لا رَغْبَةً ولا رَهْبَةً، إنَّما قَصَدُوا مَحْضَ الوُصُولِ إلى مِرْضاتِ اللَّهِ والِاسْتِغْراقِ في أنْوارِ مَعْرِفَتِهِ. انْتَهى مُلَخَّصًا. ويَدْفَعُ هَذا الأخِيرَ قَوْلُهم: ﴿إنّا نَطْمَعُ﴾ إلى آخِرِهِ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ إلّا مِن خَوْفِ تَبِعاتِ الخَطايا. والظّاهِرُ بَقاءُ الطَّمَعِ عَلى بابِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿ونَطْمَعُ أنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ القَوْمِ الصّالِحِينَ﴾ [المائدة: ٨٤] . وقِيلَ: يُحْتَمَلُ اليَقِينُ. قِيلَ: كَقَوْلِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿والَّذِي أطْمَعُ﴾ [الشعراء: ٨٢] . وقَرَأ الجُمْهُورُ: (أنْ كُنّا) بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وفِيهِ الجَزْمُ بِإيمانِهِمْ. وقَرَأ أبانُ بْنُ تَغْلِبَ، وأبُو مُعاذٍ: إنْ كُنّا، بِكَسْرِ الهَمْزَةِ. قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ عَلى الشَّرْطِ: وجازَ حَذْفُ الفاءِ مِنَ الجَوابِ، لِأنَّهُ مُتَقَدِّمٌ، وتَقْدِيرُهُ: إنْ كُنّا أوَّلَ المُؤْمِنِينَ فَإنّا نَطْمَعُ، وحَسُنَ الشَّرْطُ؛ لِأنَّهم لَمْ يَتَحَقَّقُوا ما لَهم عِنْدَ اللَّهِ مِن قَبُولِ الإيمانِ. انْتَهى. وهَذا التَّخْرِيجُ عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ وأبِي زَيْدٍ والمُبَرِّدِ، حَيْثُ يُجِيزُونَ تَقْدِيمَ جَوابِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ، ومَذْهَبُ جُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ أنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ، وجَوابُ مِثْلِ هَذا الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هو مِنَ الشَّرْطِ الَّذِي يَجِيءُ بِهِ المَدْلُولُ بِأمْرِهِ المُتَحَقِّقِ لِصِحَّتِهِ، وهم كانُوا مُتَحَقِّقِينَ أنَّهم أوَّلُ المُؤْمِنِينَ. ونَظِيرُهُ قَوْلُ العامِلِ لِمَن يُؤَخِّرُ جُعْلَهُ: إنْ كُنْتُ عَمِلْتُ فَوَفِّنِي حَقِّي، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهادًا في سَبِيلِي وابْتِغاءَ مَرْضاتِي﴾ [الممتحنة: ١] مَعَ عِلْمِهِ أنَّهم لَمْ يَخْرُجُوا إلّا لِذَلِكَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِمَعْنى: أنَّ طَمَعَهم إنَّما هو بِهَذا الشَّرْطِ. انْتَهى. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ ”إنْ“ هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وجازَ حَذْفُ اللّامِ الفارِقَةِ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلى أنَّهم مُؤْمِنُونَ، فَلا يُحْتَمَلُ النَّفْيُ، والتَّقْدِيرُ: إنْ كُنّا لَأوَّلَ المُؤْمِنِينَ. وجاءَ في الحَدِيثِ: ”إنْ كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحِبُّ العَسَلَ“، أيْ لَيُحِبُّ. وقالَ الشّاعِرُ: ؎ونَحْنُ أُباةُ الضَّيْمِ مِن آلِ مالِكٍ ∗∗∗ وإنَّ مالِكَ كانَتْ كِرامَ المَعادِنِ (p-١٧)أيْ: وإنَّ مالِكَ لَكانَتْ كِرامَ المَعادِنِ، و”أوَّلَ“ يَعْنِي أوَّلَ المُؤْمِنِينَ مِنَ القِبْطِ، أوْ أوَّلَ المُؤْمِنِينَ مِن حاضِرِي ذَلِكَ المَجْمَعِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وكانُوا أوَّلَ جَماعَةٍ مُؤْمِنِينَ مِن أهْلِ زَمانِهِمْ، وهَذا لا يَصِحُّ لِأنَّ بَنِي إسْرائِيلَ كانُوا مُؤْمِنِينَ قَبْلَ إيمانِ السَّحَرَةِ. ﴿وأوْحَيْنا إلى مُوسى أنْ أسْرِ بِعِبادِي إنَّكم مُتَّبَعُونَ﴾ ﴿فَأرْسَلَ فِرْعَوْنُ في المَدائِنِ حاشِرِينَ﴾ ﴿إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ ﴿وإنَّهم لَنا لَغائِظُونَ﴾ ﴿وإنّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ﴾ ﴿فَأخْرَجْناهم مِن جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ ﴿وكُنُوزٍ ومَقامٍ كَرِيمٍ﴾ ﴿كَذَلِكَ وأوْرَثْناها بَنِي إسْرائِيلَ﴾ ﴿فَأتْبَعُوهم مُشْرِقِينَ﴾ ﴿فَلَمّا تَراءى الجَمْعانِ قالَ أصْحابُ مُوسى إنّا لَمُدْرَكُونَ﴾ ﴿قالَ كَلّا إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ ﴿فَأوْحَيْنا إلى مُوسى أنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ البَحْرَ فانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطَّوْدِ العَظِيمِ﴾ ﴿وأزْلَفْنا ثَمَّ الآخَرِينَ﴾ ﴿ثُمَّ أغْرَقْنا الآخَرِينَ﴾ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ . تَقَدَّمَ الخِلافُ في (أسْرِ) وأنَّهُ قُرِئَ بِوَصْلِ الهَمْزَةِ وبِقَطْعِها في سُورَةِ هُودٍ. وقَرَأ اليَمانِيُّ: أنْ سِرْ، أمْرٌ مِن سارَ يَسِيرُ. أمَرَ اللَّهُ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إسْرائِيلَ لَيْلًا مِن مِصْرَ إلى تُجاهِ البَحْرِ، وأخْبَرَهُ أنَّهم سَيُتَّبَعُونَ. فَخَرَجَ سَحَرًا، جاعِلًا طَرِيقَ الشّامِ (p-١٨)عَلى يَسارِهِ، وتَوَجَّهَ نَحْوَ البَحْرِ، فَيُقالُ لَهُ في تَرْكِ الطَّرِيقِ، فَيَقُولُ: هَكَذا أُمِرْتُ. فَلَمّا أصْبَحَ، عَلِمَ فِرْعَوْنُ بِسُرى مُوسى بِبَنِي إسْرائِيلَ، فَخَرَجَ في أثَرِهِمْ، وبَعَثَ إلى مَدائِنِ مِصْرَ لِيَلْحَقَهُ العَساكِرُ. وذَكَرُوا أعْدادًا في أتْباعِ فِرْعَوْنَ وفي بَنِي إسْرائِيلَ، اللَّهُ أعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. ﴿إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ﴾ أيْ قالَ إنَّ هَؤُلاءِ وصَفَهم بِالقِلَّةِ، ثُمَّ جَمَعَ القَلِيلَ فَجَعَلَ كُلَّ حِزْبٍ قَلِيلًا، جَمْعَ السَّلامَةِ الَّذِي هو لِلْقِلَّةِ، وقَدْ يُجْمَعُ القَلِيلُ عَلى أقِلَّةٍ وقِلَلٍ، والظّاهِرُ تَقْلِيلُ العَدَدِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُرِيدَ بِالقِلَّةِ: الذِّلَّةَ والقَماءَةَ، ولا يُرِيدُ قِلَّةَ العَدَدِ، والمَعْنى: أنَّهم لِقِلَّتِهِمْ لا يُبالِي بِهِمْ ولا تُتَوَقَّعُ غَفْلَتُهم، ولَكِنَّهم يَفْعَلُونَ أفْعالًا تَغِيظُنا وتَضِيقُ صُدُورُنا، ونَحْنُ قَوْمٌ مِن عادَتِنا التَّيَقُّظُ والحَذَرُ واسْتِعْمالُ الحَزْمِ في الأُمُورِ، فَإذا خَرَجَ عَلَيْنا خارِجٌ سارَعْنا إلى حَسْمِ يَسارِهِ، وهَذِهِ مَعاذِيرُ اعْتَذَرَ بِها إلى أهْلِ المَدائِنِ، لِئَلّا يُظَنَّ بِهِ ما يَكْسِرُ مِن قَهْرِهِ وسُلْطانِهِ. انْتَهى. قالَ أبُو حاتِمٍ: وقَرَأ مَن لا يُؤْخَذُ عَنْهُ: (لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ)، ولَيْسَتْ هَذِهِ مَوْقُوفَةً. انْتَهى. يَعْنِي أنَّ هَذِهِ القِراءَةَ لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً عَلى أحَدٍ رَواها عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وقِيلَ: ﴿لَغائِظُونَ﴾ أيْ بِخِلافِهِمْ وأخْذِهِمُ الأمْوالَ حِينَ اسْتَعارُوها ولَمْ يَرُدُّوها، وخَرَجُوا هارِبِينَ. وقَرَأ الكُوفِيُّونَ، وابْنُ ذَكْوانَ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: ﴿حاذِرُونَ﴾ بِالألِفِ، وهو الَّذِي قَدْ أخَذَ يَحْذَرُ ويُجَدِّدُ حَذَرَهُ، وحَذَرَ مُتَعَدٍّ. قالَ تَعالى: ﴿يَحْذَرُ الآخِرَةَ﴾ [الزمر: ٩] . وقالَ العَبّاسُ بْنُ مِرْداسٍ: ؎وإنِّيَ حاذِرٌ أُنْمِي سِلاحِي ∗∗∗ إلى أوْصالِ ذَيّالٍ صَنِيعِ وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ: بِغَيْرِ ألِفٍ وهو المُتَيَقِّظُ. وقالَ الزَّجّاجُ: مُؤَدُّونَ، أيْ ذَوُو أدَواتٍ وسِلاحٍ، أيْ مُتَسَلِّحِينَ. وقِيلَ: حَذِرُونَ في الحالِ، وحاذِرُونَ في المَآلِ. وقالَ الفَرّاءُ: الحاذِرُ: الخائِفُ ما يَرى، والحَذِرُ: المَخْلُوقُ حَذَرًا. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: رَجُلٌ حَذِرٌ وحَذُرٌ وحاذِرٌ بِمَعْنًى واحِدٍ. وذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إلى أنَّ حَذِرًا يَكُونُ لِلْمُبالَغَةِ، وأنَّهُ يَعْمَلُ كَما يَعْمَلُ حاذِرٌ، فَيَنْصِبُ المَفْعُولَ بِهِ، وأنْشَدَ: ؎حَذِرٌ أُمُورًا لا تُضِيرُ وآمِنٌ ∗∗∗ ما لَيْسَ مُنْجِيهِ مِنَ الأقْدارِ وقَدْ نُوزِعَ في ذَلِكَ بِما هو مَذْكُورٌ في كُتُبِ النَّحْوِ. وعَنِ الفَرّاءِ أيْضًا، والكِسائِيِّ: رَجُلٌ حَذِرٌ، إذا كانَ الحَذَرُ في خِلْقَتِهِ، فَهو مُتَيَقِّظٌ مُنْتَبِهٌ. وقَرَأ سُمَيْطُ بْنُ عَجْلانَ، وابْنُ أبِي عَمّارٍ، وابْنُ السَّمَيْفَعِ: حادِرُونَ، بِالدّالِ المُهْمَلَةِ مِن قَوْلِهِمْ: عَيْنٌ حَدِرَةٌ، أيْ عَظِيمَةٌ، والحادِرُ: المُتَوَرِّمُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فالمَعْنى مُمْتَلِئُونَ غَيْظًا وأنَفَةً. وقالَ ابْنُ خالَوَيْهِ: الحادِرُ: السَّمِينُ القَوِيُّ الشَّدِيدُ، يُقالُ غُلامٌ حَدِرٌ بَدِرٌ. وقالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: حَدِرَ الرَّجُلُ: قَوِيَ بَأْسُهُ، يُقالُ: مِنهُ رَجُلٌ حَدِرٌ بَدِرٌ، إذا كانَ شَدِيدَ البَأْسِ في الحَرْبِ، ويُقالُ: رَجُلٌ حَدُرٌ، بِضَمِّ الدّالِ لِلْمُبالَغَةِ، مِثْلَ يَقُظٌ. وقالَ الشّاعِرُ: ؎أُحِبُّ الصَّبِيَّ السُّوءَ مِن أجْلِ أُمِّهِ ∗∗∗ وأُبْغِضُهُ مِن بُغْضِها وهو حادِرُ أيْ سَمِينٌ قَوِيٌّ. وقِيلَ: مُدَجَّجُونَ في السِّلاحِ. ﴿فَأخْرَجْناهُمْ﴾ الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى القِبْطِ. ﴿مِن جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ بِحافَّتَيِ النِّيلِ مِن أسْوانَ إلى رَشِيدَ، قالَهُ ابْنُ عُمَرَ وغَيْرُهُ، والجُمْهُورُ: عَلى أنَّها عُيُونُ الماءِ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: المُرادُ عُيُونُ الذَّهَبِ. (وكُنُوزٍ) هي الأمْوالُ الَّتِي خَرَّبُوها. قالَ مُجاهِدٌ: سَمّاها كُنُوزًا لِأنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ في طاعَةِ اللَّهِ قَطُّ. وقالَ الضَّحّاكُ: الكُنُوزُ: الأنْهارُ. قالَ صاحِبُ التَّحْبِيرِ: وهَذا فِيهِ نَظَرٌ، لِأنَّ العُيُونَ تَشْمَلُهُما. وقِيلَ: هي كُنُوزُ المُقَطَّمِ ومَطالِبُهُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هي باقِيَةٌ إلى اليَوْمِ. انْتَهى. وأهْلُ مِصْرَ في زَمانِنا في غايَةِ الطَّلَبِ لِهَذِهِ الكُنُوزِ الَّتِي زَعَمُوا أنَّها مَدْفُونَةٌ في المُقَطَّمِ، فَيُنْفِقُونَ عَلى (p-١٩)حَفْرِ هَذِهِ المَواضِعِ في المُقَطَّمِ الأمْوالَ الجَزِيلَةَ، ويَبْلُغُونَ في العُمْقِ إلى أقْصى غايَةٍ، ولا يَظْهَرُ لَهم إلّا التُّرابُ أوْ حَجَرُ الكَذّانِ الَّذِي المُقَطَّمُ مَخْلُوقٌ مِنهُ، وأيُّ مَغْرِبِيٍّ يَرِدُ عَلَيْهِمْ سَألُوهُ عَنْ عِلْمِ المَطالِبِ. فَكَثِيرٌ مِنهم يَضَعُ في ذَلِكَ أوْراقًا لِيَأْكُلُوا أمْوالَ المِصْرِيِّينَ بِالباطِلِ، ولا يَزالُ الرَّجُلُ مِنهم يَذْهَبُ مالُهُ في ذَلِكَ حَتّى يَفْتَقِرَ، وهو لا يَزْدادُ إلّا طَلَبًا لِذَلِكَ حَتّى يَمُوتَ. وقَدْ أقَمْتُ بَيْنَ ظَهْرانِيهِمْ إلى حِينِ كِتابَةِ هَذِهِ الأسْطُرِ، نَحْوًا مِن خَمْسَةٍ وأرْبَعِينَ عامًا، فَلَمْ أعْلَمْ أنَّ أحَدًا مِنهم حَصَلَ عَلى شَيْءٍ غَيْرَ الفَقْرِ؛ وكَذَلِكَ رَأْيُهم في تَغْوِيرِ الماءِ. يَزْعُمُونَ أنَّ ثَمَّ آبارًا، وأنَّهُ يُكْتَبُ أسْماءٌ في شَقْفَةٍ، فَتُلْقى في البِئْرِ، فَيَغُورُ الماءُ ويَنْزِلُ إلى بابٍ في البِئْرِ، يَدْخُلُ مِنهُ إلى قاعَةٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وفِضَّةً وجَوْهَرًا وياقُوتًا. فَهم دائِمًا يَسْألُونَ مَن يَرِدُ مِنَ المَغارِبَةِ عَمَّنْ يَحْفَظُ تِلْكَ الأسْماءَ الَّتِي تُكْتَبُ في الشَّقْفَةِ، فَيَأْخُذُ شَياطِينُ المَغارِبَةِ مِنهم مالًا جَزِيلًا، ويَسْتَأْكِلُونَهم، ولا يَحْصُلُونَ عَلى شَيْءٍ غَيْرَ ذَهابِ أمْوالِهِمْ، ولَهم أشْياءُ مِن نَحْوِ هَذِهِ الخُرافاتِ، يَرْكَنُونَ إلَيْها ويَقُولُونَ إلَيْها ويَقُولُونَ بِها، وإنَّما أطَلْتُ في هَذا عَلى سَبِيلِ التَّحْذِيرِ لِمَن يَعْقِلُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَقامٍ كَرِيمٍ﴾ . قالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: هو الفَيُّومُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، والضَّحّاكُ: هو المَنابِرُ لِلْخُطَباءِ. وقِيلَ: الأسِرَّةُ في الكَلَلِ. وقِيلَ: مَجالِسُ الأُمَراءِ والأشْرافِ والحُكّامِ. وقالَ النَّقّاشُ: المَساكِنُ الحِسانُ. وقِيلَ: مَرابِطُ الخَيْلِ، حَكاهُ الماوَرْدِيُّ. وقَرَأ قَتادَةُ، والأعْرَجُ: ومُقامٍ، بِضَمِّ المِيمِ مِن أقامَ كَذَلِكَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَحْتَمِلُ ثَلاثَةَ أوْجُهٍ: النَّصْبَ عَلى أخْرَجْناهم مِثْلَ ذَلِكَ الإخْراجِ الَّذِي وصَفْناهُ، والجَرَّ عَلى أنَّهُ وصْفٌ لِمَقامٍ، أيْ ومَقامٍ كَرِيمٍ مِثْلَ ذَلِكَ المَقامِ الَّذِي كانَ لَهم، والرَّفْعُ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيِ الأمْرُ كَذَلِكَ. انْتَهى. فالوَجْهُ الأوَّلُ لا يَسُوغُ، لِأنَّهُ يَئُولُ إلى تَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وكَذَلِكَ الوَجْهُ الثّانِي، لِأنَّ المَقامَ الَّذِي كانَ لَهم هو المَقامُ الكَرِيمُ، ولا يُشَبَّهُ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأوْرَثْناها بَنِي إسْرائِيلَ﴾ أنَّهم مَلَكُوا دِيارَ مِصْرَ بَعْدَ غَرَقِ فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ، لِأنَّهُ اعْتَقَبَ قَوْلَهُ: ﴿وأوْرَثْناها﴾ قَوْلُهُ: (وأخْرَجْناهم) وقالَهُ الحَسَنُ؛ قالَ: كَما عَبَرُوا النَّهْرَ، رَجَعُوا ووَرِثُوا دِيارَهم وأمْوالَهم. وقِيلَ: ذَهَبُوا إلى الشّامِ ومَلَكُوا مِصْرَ زَمَنَ سُلَيْمانَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿فَأتْبَعُوهُمْ﴾ أيْ فَلَحِقُوهم. وقَرَأ الحَسَنُ، والذِّمارِيُّ: فاتَّبَعُوهم، بِوَصْلِ الألِفِ وشَدِّ التّاءِ. ﴿مُشْرِقِينَ﴾ داخِلِينَ في وقْتِ الشُّرُوقِ، مِن شَرَقَتِ الشَّمْسُ شُرُوقًا، إذا طَلَعَتْ، كَأصْبَحَ: دَخَلَ في وقْتِ الصَّباحِ، وأمْسى: دَخَلَ في وقْتِ المَساءِ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: فاتَّبَعُوهم نَحْوَ الشَّرْقِ، كَأنْجَدَ: إذا قَصَدَ نَحْوَ نَجْدٍ. والظّاهِرُ أنَّ مُشْرِقِينَ حالٌ مِنَ الفاعِلِ. وقِيلَ: مُشْرِقِينَ: أيْ في ضِياءٍ، وكانَ فِرْعَوْنُ وقَوْمُهُ في ضَبابٍ وظُلْمَةٍ، تَحَيَّرُوا فِيها حَتّى جاوَزَ بَنُو إسْرائِيلَ البَحْرَ، فَعَلى هَذا يَكُونُ مُشْرِقِينَ حالًا مِنَ المَفْعُولِ. ﴿فَلَمّا تَراءى الجَمْعانِ﴾: (أيْ رَأى أحَدُهُما الآخَرَ) قالَ أصْحابُ مُوسى ﴿إنّا لَمُدْرَكُونَ﴾ أيْ: مُلْحَقُونَ، قالُوا ذَلِكَ حِينَ رَأوُا العَدُوَّ القَوِيَّ وراءَهم والبَحْرَ أمامَهم، وساءَتْ ظُنُونُهم. وقَرَأ الأعْمَشُ: وابْنُ وثّابٍ: تَرايَ الجَمْعانِ، بِغَيْرِ هَمْزٍ، عَلى مَذْهَبِ التَّخْفِيفِ بَيْنَ بَيْنَ، ولا يَصِحُّ القَلْبُ لِوُقُوعِ الهَمْزَةِ بَيْنَ ألِفَيْنِ، إحْداهُما ألِفُ تَفاعَلَ الزّائِدَةُ بَعْدَ الفاءِ، والثّانِيَةُ اللّامُ المُعْتَلَّةُ مِنَ الفِعْلِ. فَلَوْ خُفِّفَتْ بِالقَلْبِ لاجْتَمَعَ ثَلاثُ ألِفاتٍ مُتَّسِقَةٍ، وذَلِكَ مِمّا لا يَكُونُ أبَدًا، قالَهُ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَرَأ حَمْزَةُ: تَرِيءَ، بِكَسْرِ الرّاءِ ويَمُدُّ ثُمَّ يَهْمِزُ؛ ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عاصِمٍ، ورُوِيَ عَنْهُ أيْضًا مَفْتُوحًا مَمْدُودًا، والجُمْهُورُ يَقْرَءُونَهُ مِثْلَ تَراعى، وهَذا هو الصَّوابُ، لِأنَّهُ تَفاعَلَ. وقالَ أبُو حاتِمٍ: وقِراءَةُ حَمْزَةَ هَذا الحَرْفَ مُحالٌ، وحَمَلَ عَلَيْهِ، قالَ: وما رُوِيَ عَنِ ابْنِ وثّابٍ والأعْمَشِ خَطَأٌ. انْتَهى. وقالَ الأُسْتاذُ أبُو جَعْفَرٍ أحْمَدُ ابْنُ الأُسْتاذِ أبِي الحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أحْمَدَ بْنِ خَلَفٍ الأنْصارِيِّ، هو ابْنُ الباذِشِ، في كِتابِ الإقْناعِ مِن تَأْلِيفِهِ: تَراءى الجَمْعانِ في الشُّعَراءِ إذا وقَفَ عَلَيْها حَمْزَةُ والكِسائِيُّ، أمالا الألِفَ المُنْقَلِبَةَ عَنْ لامِ الفِعْلِ، (p-٢٠)وحَمْزَةُ يُمِيلُ ألِفَ تَفاعَلَ وصْلًا ووَقْفًا لِإمالَةِ الألِفِ المُنْقَلِبَةِ؛ فَفي قِراءَتِهِ إمالَةُ الإمالَةِ. وفي هَذا الفِعْلِ، وفي راءى، إذا اسْتَقْبَلَهُ ألِفُ وصْلٍ لِمَن أمالَ لِلْإمالَةِ، حَذْفُ السَّبَبِ وإبْقاءُ المُسَبَّبِ، كَما قالُوا: صَعْقِيٌّ في النَّسَبِ إلى الصَّعْقِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: لَمُدْرَكُونَ، بِإسْكانِ الدّالِ؛ والأعْرَجُ، وعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: بِفَتْحِ الدّالِ مُشَدِّدَةً وكَسْرِ الرّاءِ، عَلى وزْنِ مُفْتَعِلُونَ، وهو لازِمٌ، بِمَعْنى الفَناءِ والِاضْمِحْلالِ. يُقالُ: مِنهُ ادَّرَكَ الشَّيْءَ بِنَفْسِهِ، إذا فَنِيَ تَتابُعًا، ولِذَلِكَ كُسِرَتِ الرّاءُ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ؛ نَصَّ عَلى كَسْرِها أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ في (كِتابِ اللَّوامِحِ)، والزَّمَخْشَرِيُّ في (كَشّافِهِ) وغَيْرُهُما. وقالَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ: وقَدْ يَكُونُ ادَّرَكَ عَلى افْتَعَلَ بِمَعْنى أفْعَلَ مُتَعَدِّيًا، فَلَوْ كانَتِ القِراءَةُ مِن ذَلِكَ، لَوَجَبَ فَتْحُ الرّاءِ، ولَمْ يَبْلُغْنِي ذَلِكَ عَنْهُما، يَعْنِي عَنِ الأعْرَجِ وعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: المَعْنى إنّا لَمُتَتابِعُونَ في الهَلاكِ عَلى أيْدِيهِمْ حَتّى لا يَبْقى مِنّا أحَدٌ، ومِنهُ بَيْتُ الحَماسَةِ: ؎أبَعْدَ بَنِي أُمِّي الَّذِينَ تَتابَعُوا ∗∗∗ أرْجى الحَياةَ أمْ مِنَ المَوْتِ أجْزَعُ ﴿قالَ كَلّا إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ زَجَرَهم ورَدَعَهم بِحَرْفِ الرَّدْعِ وهو كَلّا، والمَعْنى: لَنْ يُدْرِكُوكم لِأنَّ اللَّهَ وعَدَكم بِالنَّصْرِ والخَلاصِ مِنهم، إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ عَنْ قَرِيبٍ إلى طَرِيقِ النَّجاةِ ويُعَرِّفُنِيهِ. وقِيلَ: سَيَكْفِينِي أمْرَهم. ولَمّا انْتَهى مُوسى إلى البَحْرِ، قالَ لَهُ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وكانَ بَيْنَ يَدَيْ مُوسى: أيْنَ أُمِرْتَ، وهَذا البَحْرُ أمامَكَ وقَدْ غَشِيَكَ آلُ فِرْعَوْنَ ؟ قالَ: أُمِرْتُ بِالبَحْرِ، ولا يَدْرِي مُوسى ما يَصْنَعُ. ورُوِيَتْ هَذِهِ المَقالَةُ عَنْ يُوشَعَ، قالَها لِمُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَأوْحى اللَّهُ إلَيْهِ ﴿أنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ البَحْرَ﴾ فَخاضَ يُوشَعُ الماءَ. وضَرَبَ مُوسى بِعَصاهُ، فَصارَ فِيهِ اثْنا عَشَرَ طَرِيقًا، لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ. أرادَ - تَعالى - أنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الآيَةَ مُتَّصِلَةً بِمُوسى ومُتَعَلِّقَةً بِفِعْلٍ فَعَلَهُ، ولَكِنَّهُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ، إذْ ضَرْبُ البَحْرِ بِالعَصا لا يُوجِبُ انْفِلاقَ البَحْرِ بِذاتِهِ، ولَوْ شاءَ - تَعالى - لَفَلَقَهُ دُونَ ضَرْبِهِ بِالعَصا، وتَقَدَّمَ الخِلافُ في مَكانِ هَذا البَحْرِ. ﴿فانْفَلَقَ﴾ ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَضَرَبَ فانْفَلَقَ. وزَعَمَ ابْنُ عُصْفُورٍ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ أنَّ المَحْذُوفَ هو ضَرْبٌ، وفاءُ انْفَلَقَ. والفاءُ في انْفَلَقَ هي فاءُ ضَرَبَ، فَأُبْقِيَ مِن كُلٍّ ما يَدُلُّ عَلى المَحْذُوفِ، أُبْقِيَتِ الفاءُ مِن فَضَرَبَ واتَّصَلَتْ بِانْفَلَقَ، لِيَدُلَّ عَلى ضَرَبَ المَحْذُوفَةِ، وأُبْقِيَ انْفَلَقَ لِيَدُلَّ عَلى الفاءِ المَحْذُوفَةِ مِنهُ. وهَذا قَوْلٌ شَبِيهٌ بِقَوْلِ صاحِبِ البِرْسامِ، ويَحْتاجُ إلى وحْيٍ يُسْفِرُ عَنْ هَذا القَوْلِ. وإذا نَظَرْتَ القُرْآنَ وجَدْتَ جُمَلًا كَثِيرَةً مَحْذُوفَةً، وفِيها الفاءُ نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿فَأرْسِلُونِ﴾ [يوسف: ٤٥] ﴿يُوسُفُ أيُّها الصِّدِّيقُ﴾ [يوسف: ٤٦] أيْ فَأرْسَلُوهُ، فَقالَ يُوسُفُ أيُّها الصِّدِّيقُ، والفَرْقُ الجُزْءُ المُفَصَّلُ. والطَّوْدُ: الجَبَلُ العَظِيمُ المُنْطادُ في السَّماءِ. وحَكى يَعْقُوبُ عَنْ بَعْضِ القُرّاءِ، أنَّهُ قَرَأ كُلُّ فَلْقٍ بِاللّامِ عِوَضَ الرّاءِ. (وأزْلَفْنا) أيْ قَرَّبْنا (ثَمَّ) أيْ هُناكَ، وثَمَّ ظَرْفُ مَكانٍ لِلْبُعْدِ. (الآخَرِينَ) أيْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ، أيْ قَرَّبْناهم، ولَمْ يَذْكُرْ مَن قُرِّبُوا مِنهُ، فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ المَعْنى: قَرَّبْناهم حَيْثُ انْفَلَقَ البَحْرَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، أوْ قَرَّبْنا بَعْضَهم مِن بَعْضٍ حَتّى لا يَنْجُوَ أحَدٌ، أوْ قَرَّبْناهم مِنَ البَحْرِ. وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو حَيْوَةَ: وزَلَّفْنا بِغَيْرِ ألِفٍ. وقَرَأ أُبَيٌّ، وابْنُ عَبّاسٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الحارِثِ: وأزْلَقْنا بِالقافِ عِوَضَ الفاءِ، أيْ أزَلَلْنا، قالَهُ صاحِبُ اللَّوامِحِ. قِيلَ: مَن قَرَأ بِالقافِ صارَ ”الآخَرِينَ“ فِرْعَوْنَ وقَوْمَهُ، ومَن قَرَأ بِالعامَّةِ يَعْنِي بِالقِراءَةِ العامَّةِ، فالآخَرُونَ هم مُوسى وأصْحابُهُ، أيْ جَمَعْنا شَمْلَهم وقَرَّبْناهم بِالنَّجاةِ. انْتَهى، وفي الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: ودَخَلَ مُوسى وبَنُو إسْرائِيلَ البَحْرَ وأنْجَيْنا. قِيلَ: دَخَلُوا البَحْرَ بِالطُّولِ، وخَرَجُوا في الضَّفَّةِ الَّتِي دَخَلُوا مِنها بَعْدَ مَسافَةٍ، وكانَ بَيْنَ مَوْضِعِ الدُّخُولِ ومَوْضِعِ الخُرُوجِ أوْعارٌ وجِبالٌ لا تُسْلَكُ. ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً﴾ أيْ لَعَلامَةً واضِحَةً عايَنَها النّاسُ وشاعَ أمْرُها. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ﴾ أيْ ما تَنَبَّهَ أكْثَرُهم عَلَيْها ولا آمَنُوا. (p-٢١)وبَنُو إسْرائِيلَ، الَّذِينَ كانُوا أصْحابَ مُوسى المَخْصُوصِينَ بِالإنْجاءِ، قَدْ سَألُوهُ بَقَرَةً يَعْبُدُونَها، واتَّخَذُوا العِجْلَ، وطَلَبُوا رُؤْيَةَ اللَّهِ جَهْرَةً. انْتَهى. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ﴾ أيْ أكْثَرُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وهُمُ القِبْطُ، إذْ قَدْ آمَنَ السَّحَرَةُ، وآمَنَتْ آسِيَةُ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ، ومُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وعَجُوزٌ اسْمُها مَرْيَمُ، دَلَّتْ مُوسى عَلى قَبْرِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - واسْتَخْرَجُوهُ وحَمَلُوهُ مَعَهم حِينَ خَرَجُوا مِن مِصْرَ. (p-٢٢)﴿واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ إبْراهِيمَ﴾ ﴿إذْ قالَ لِأبِيهِ وقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ﴾ ﴿قالُوا نَعْبُدُ أصْنامًا فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ﴾ ﴿قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكم إذْ تَدْعُونَ﴾ ﴿أوْ يَنْفَعُونَكم أوْ يَضُرُّونَ﴾ ﴿قالُوا بَلْ وجَدْنا آباءَنا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ ﴿قالَ أفَرَأيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ﴾ ﴿أنْتُمْ وآباؤُكُمُ الأقْدَمُونَ﴾ [الشعراء: ٧٦] ﴿فَإنَّهم عَدُوٌّ لِي إلّا رَبَّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٧٧] ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهو يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨] ﴿والَّذِي هو يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ﴾ [الشعراء: ٧٩] ﴿وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٨٠] ﴿والَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ [الشعراء: ٨١] ﴿والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الشعراء: ٨٢] ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ﴾ [الشعراء: ٨٣] ﴿واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ﴾ [الشعراء: ٨٤] ﴿واجْعَلْنِي مِن ورَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾ [الشعراء: ٨٥] ﴿واغْفِرْ لِأبِي إنَّهُ كانَ مِنَ الضّالِّينَ﴾ [الشعراء: ٨٦] ﴿ولا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ [الشعراء: ٨٧] ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ﴾ [الشعراء: ٨٨] ﴿إلّا مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ٨٩] ﴿وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الشعراء: ٩٠] ﴿وبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِلْغاوِينَ﴾ [الشعراء: ٩١] ﴿وقِيلَ لَهم أيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ﴾ [الشعراء: ٩٢] ﴿مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكم أوْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشعراء: ٩٣] ﴿فَكُبْكِبُوا فِيها هم والغاوُونَ﴾ [الشعراء: ٩٤] ﴿وجُنُودُ إبْلِيسَ أجْمَعُونَ﴾ [الشعراء: ٩٥] ﴿قالُوا وهم فِيها يَخْتَصِمُونَ﴾ [الشعراء: ٩٦] ﴿تاللَّهِ إنْ كُنّا لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: ٩٧] ﴿إذْ نُسَوِّيكم بِرَبِّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٩٨] ﴿وما أضَلَّنا إلّا المُجْرِمُونَ﴾ [الشعراء: ٩٩] ﴿فَما لَنا مِن شافِعِينَ﴾ [الشعراء: ١٠٠] ﴿ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ [الشعراء: ١٠١] ﴿فَلَوْ أنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ١٠٢] ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ١٠٣] ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: ١٠٤] . لَمّا كانَتِ العَرَبُ لَها خُصُوصِيَّةٌ بِإبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ أنْ يَتْلُوَ عَلَيْهِمْ قَصَصَهُ، وما جَرى لَهُ مَعَ قَوْمِهِ. ولَمْ يَأْتِ في قِصَّةٍ مِن قَصَصِ هَذِهِ السُّورَةِ أمْرُهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِتِلاوَةِ قِصَّةٍ إلّا في هَذِهِ، وإذِ العامِلُ فِيهِ. قالَ الحَوْفِيُّ: اتْلُ، ولا يُتَصَوَّرُ ما قالَ إلّا بِإخْراجِهِ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ وجَعْلِهِ بَدَلًا مِن ”نَبَأ“، واعْتِقادُ أنَّ العامِلَ في البَدَلِ والمُبْدَلِ مِنهُ واحِدٌ. وقالَ أبُو البَقاءِ: العامِلُ في إذْ ”نَبَأ“ . والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (وقَوْمِهِ) عائِدٌ عَلى إبْراهِيمَ. وقِيلَ: عَلى أبِيهِ، أيْ وقَوْمِ أبِيهِ، كَما قالَ: ﴿إنِّي أراكَ وقَوْمَكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: ٧٤] . وما: اسْتِفْهامٌ بِمَعْنى التَّحْقِيرِ والتَّقْرِيرِ. وقَدْ كانَ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - يَعْلَمُ أنَّهم عَبَدَةُ أصْنامٍ، ولَكِنْ سَألَهم لِيُرِيَهم أنَّ ما كانُوا يَعْبُدُونَهُ لَيْسَ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبادَةِ، لِما تَرَتَّبَ عَلى جَوابِهِمْ مِن أوْصافِ مَعْبُوداتِهِمُ الَّتِي هي مُنافِيَةٌ لِلْعِبادَةِ. ولِما سَألَهم عَنِ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ، ولَمْ يَقْتَصِرُوا عَلى ذِكْرِهِ فَقَطْ، بَلْ أجابُوا بِالفِعْلِ ومُتَعَلِّقِهِ وما عُطِفَ عَلَيْهِ مِن تَمامِ صِفَتِهِمْ مَعَ مَعْبُودِهِمْ، فَقالُوا: ﴿نَعْبُدُ أصْنامًا فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ﴾ (p-٢٣)عَلى سَبِيلِ الِابْتِهاجِ والِافْتِخارِ، فَأتَوْا بِقِصَّتِهِمْ مَعَهم كامِلَةً، ولَمْ يَقْتَصِرُوا عَلى أنْ يُجِيبُوا بِقَوْلِهِمْ: أصْنامًا، كَما جاءَ: ﴿ماذا أنْزَلَ رَبُّكم قالُوا خَيْرًا﴾ [النحل: ٣٠] ﴿ويَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] ولِذَلِكَ عَطَفُوا عَلى ذَلِكَ الفِعْلِ قَوْلَهم: (فَنَظَلُّ) . قالَ: كَما تَقُولُ لِرَئِيسٍ: ما تَلْبَسُ ؟ فَقالَ: ألْبَسُ مُطْرَفَ الخَزِّ فَأجُرُّ ذُيُولَهُ، يُرِيدُ الجَوابَ: وحالُهُ مَعَ مَلْبُوسِهِ. وقالُوا: فَنَظَلُّ، لِأنَّهم كانُوا يَعْبُدُونَهم بِالنَّهارِ دُونَ اللَّيْلِ. ولَمّا أجابُوا إبْراهِيمَ، أخَذَ يُوقِفَهم عَلى قِلَّةِ عُقُولِهِمْ، بِاسْتِفْهامِهِ عَنْ أوْصافٍ مَسْلُوبَةٍ عَنْهم لا يَكُونُ ثُبُوتُها إلّا لِلَّهِ - تَعالى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (يَسْمَعُونَكم) مِن سَمِعَ؛ وسَمِعَ إنْ دَخَلَتْ عَلى مَسْمُوعٍ تَعَدَّتْ إلى واحِدٍ، نَحْوَ: سَمِعْتُ كَلامَ زِيدٍ، وإنْ دَخَلَتْ عَلى غَيْرِ مَسْمُوعٍ، فَذَهَبَ الفارِسِيُّ أنَّها تَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ، وشَرْطُ الثّانِي مِنهُما أنْ يَكُونَ مِمّا يُسْمَعُ، نَحْوَ: سَمِعْتُ زَيْدًا يَقْرَأُ والصَّحِيحُ أنَّها تَتَعَدّى إلى واحِدٍ، وذَلِكَ الفِعْلُ في مَوْضِعِ الحالِ، والتَّرْجِيحُ بَيْنَ المَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ في النَّحْوِ. وهُنا لَمْ تَدْخُلْ إلّا عَلى واحِدٍ، ولَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَسْمُوعٍ، فَتَأوَّلُوهُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ تَقْدِيرُهُ: هَلْ يَسْمَعُونَكم، تَدْعُونَ ؟ وقِيلَ: ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ﴾ بِمَعْنى: يُجِيبُونَكم. وقَرَأ قَتادَةُ، ويَحْيَـى بْنُ يَعْمُرَ: بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ المِيمِ مِن أسْمَعَ، والمَفْعُولُ الثّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الجَوابَ، أوِ الكَلامَ. وإذْ: ظَرْفٌ لِما مَضى، فَإمّا أنْ يَتَجاوَزَ فِيهِ فَيَكُونَ بِمَعْنى إذا، وإمّا أنْ يَتَجاوَزَ في المُضارِعِ فَيَكُونَ قَدْ وقَعَ مَوْقِعَ الماضِي، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: هَلْ سَمِعُوكم إذْ دَعَوْتُمْ ؟ وقَدْ ذَكَرَ أصْحابُنا أنَّ مِن قَرائِنِ صَرْفِ المُضارِعِ إلى الماضِي إضافَةَ إذْ إلى جُمْلَةٍ مُصَدَّرَةٍ بِالمُضارِعِ، ومَثَّلُوا بِقَوْلِهِ: ﴿وإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٣٧] أيْ وإذْ قُلْتَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وجاءَ مُضارِعًا مَعَ إيقاعِهِ في إذْ عَلى حِكايَةِ الحالِ الماضِيَةِ الَّتِي كُنْتُمْ تَدَّعُونَها فِيها، وقُولُوا: هَلْ سَمِعُوا، أوِ أسْمَعُوا قَطُّ ؟ وهَذا أبْلَغُ في التَّبْكِيتِ. انْتَهى. وقُرِئَ: بِإظْهارِ ذالِ إذْ وبِإدْغامِها في تاءِ تَدْعُونَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَجُوزُ فِيهِ قِياسٌ مُذَكَّرٌ، ولَمْ يَقْرَأْ بِهِ أحَدٌ؛ والقِياسُ أنْ يَكُونَ اللَّفْظُ بِهِ، إذْ تَدْعُونَ. فالَّذِي مَنَعَ مِن هَذا اللَّفْظِ اتِّصالُ الدّالِ الأصْلِيَّةِ في الفِعْلِ، فَكَثْرَةُ المُتَماثِلاتِ. انْتَهى. وهَذا الَّذِي ذَكَرَ أنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ قِياسٌ مُذَكَّرٌ لا يَجُوزُ، لِأنَّ ذَلِكَ الإبْدالَ - وهو إبْدالُ التّاءِ دالًا - لا يَكُونُ إلّا في افْتَعَلَ، مِمّا فاؤُهُ ذالٌ أوْ زايٌ أوْ دالٌ، نَحْوَ: اذْدَكَرَ، وازْدَجَرَ، وادَّهَنَ، أصْلُهُ: اذْتَكَرَ، وازْتَجَرَ، وادْتَهَنَ؛ أوْ جِيمٌ شُذُوذًا، قالُوا: اجْدَمَعَ في اجْتَمَعَ، ومِن تاءِ الضَّمِيرِ بَعْدَ الزّايِ والدّالِ، ومَثَّلُوا بِتاءِ الضَّمِيرِ لِلْمُتَكَلِّمِ فَقالُوا في فُزْتُ: فُزْدُ، وفي جَلَدْتُ: جَلَدُّ، ومِن تاءِ تُولِجُ شُذُوذًا قالُوا: دُولِجُ، وتاءُ المُضارَعَةِ لَيْسَتْ شَيْئًا مِمّا ذَكَرْنا، فَلا تُبْدَلُ تاؤُهُ. وقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: والَّذِي مَنَعَ مِن هَذا اللَّفْظِ إلى آخِرِهِ، يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَوْلا ذَلِكَ لَجازَ إبْدالُ تاءِ المُضارَعَةِ دالًا وإدْغامُ الذّالِ فِيها، فَكُنْتَ تَقُولُ: اذْتَخْرَجَ: ادَّخْرَجَ، وذَلِكَ لا يَقُولُهُ أحَدٌ، بَلْ إذا أُدْغِمَ مِثْلُ هَذا أُبْدِلَ مِنَ الذّالِ تاءٌ وأُدْغِمَ في التّاءِ، فَتَقُولُ: اتَّخْرَجَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب