الباحث القرآني

﴿وما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وما يَنْبَغِي لَهم وما يَسْتَطِيعُونَ إنَّهم عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ واخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَإنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ وتَوَكَّلْ عَلى العَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وتَقَلُّبَكَ في السّاجِدِينَ إنَّهُ هو السَّمِيعُ العَلِيمُ هَلْ أُنَبِّئُكم عَلى مَن تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أفّاكٍ أثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وأكْثَرُهم كاذِبُونَ والشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الغاوُونَ ألَمْ تَرَ أنَّهم في كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وأنَّهم يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وانْتَصَرُوا مِن بَعْدِ ما ظُلِمُوا وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ . (p-٤٦)كانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يَقُولُونَ: إنَّ لِمُحَمَّدٍ تابِعًا مِنَ الجِنِّ يُخْبِرُهُ كَما يُخْبَرُ الكَهَنَةُ، فَنَزَلَتْ، والضَّمِيرُ في (بِهِ) يَعُودُ عَلى القُرْآنِ، بَلْ ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ [الشعراء: ١٩٣] . وقَرَأ الحَسَنُ: الشَّياطُونَ، وتَقَدَّمَتْ في البَقَرَةِ، وقَدْ رَدَّها أبُو حاتِمٍ والقَرَأةُ؛ قالَ أبُو حاتِمٍ: هي غَلَطٌ مِنهُ أوْ عَلَيْهِ. وقالَ النَّحّاسُ: هو غَلَطٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ. وقالَ الَمَهْدَوِيُّ: هو غَيْرُ جائِزٍ في العَرَبِيَّةِ. وقالَ الفَرّاءُ: غَلِطَ الشَّيْخُ، ظَنَّ أنَّها النُّونُ الَّتِي عَلى هَجائِنَ. فَقالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: إنْ جازَ أنْ يُحْتَجَّ بِقَوْلِ العَجّاجِ ورُؤْبَةَ، فَهَلّا جازَ أنْ يُحْتَجَّ بِقَوْلِ الحَسَنِ وصاحِبِهِ، يُرِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ السَّمَيْفَعِ، مَعَ أنّا نَعْلَمُ أنَّهُما لَمْ يَقْرَآ بِها إلّا وقَدْ سَمِعا فِيهِ ؟ وقالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: سَمِعْتُ أعْرابِيًّا يَقُولُ: دَخَلْتُ بَساتِينَ مِن ورائِها بَساتُونَ، فَقُلْتُ: ما أشْبَهَ هَذا بِقِراءَةِ الحَسَنِ. انْتَهى. ووُجِّهَتْ هَذِهِ القِراءَةُ بِأنَّهُ لَمّا كانَ آخِرُهُ كَآخِرِ يَبْرِينَ وفِلَسْطِينَ، فَكَما أُجْرِيَ إعْرابُ هَذا عَلى النُّونِ تارَةً وعَلى ما قَبْلَهُ تارَةً فَقالُوا: يَبْرِينَ ويَبْرُونَ وفِلَسْطِينَ وفِلَسْطُونَ؛ أُجْرِيَ ذَلِكَ في الشَّياطِينِ تَشْبِيهًا بِهِ فَقالُوا: الشَّياطِينَ والشَّياطُونَ. وقالَ أبُو فَيْدٍ مُؤَرِّجٌ السَّدُوسِيُّ: إنْ كانَ اشْتِقاقُهُ مِن شاطَ، أيِ احْتَرَقَ، يَشِيطُ شَوْطَةً، كانَ لِقِراءَتِهِما وجْهٌ. قِيلَ: ووَجْهُها أنَّ بِناءَ المُبالِغَةِ مِنهُ شَيّاطٌ، وجَمْعُهُ الشَّيّاطُونَ، فَخَفَّفا الياءَ، وقَدْ رُوِيَ عَنْهُما التَّشْدِيدُ، وقَرَأ بِهِ غَيْرُهُما. انْتَهى. وقَرَأ الأعْمَشُ: الشَّياطُونَ، كَما قَرَأهُ الحَسَنُ وابْنُ السَّمَيْفَعِ. فَهَؤُلاءِ الثَّلاثَةُ مِن نَقَلَةِ القُرْآنِ، قَرَءُوا ذَلِكَ، ولا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ غَلِطُوا؛ لِأنَّهم مِنَ العِلْمِ ونَقْلِ القُرْآنِ بِمَكانٍ. وما أحْسَنَ ما تَرَتَّبَ نَفْيُ هَذِهِ الجُمَلِ؛ نَفى أوَّلًا تَنْزِيلَ الشَّياطِينِ بِهِ، والنَّفْيُ في الغالِبِ يَكُونُ في المُمْكِنِ، وإنْ كانَ هُنا لا يُمْكِنُ مِنَ الشَّياطِينِ التَّنَزُّلُ بِالقُرْآنِ، ثُمَّ نَفى انْبِغاءَ ذَلِكَ والصَّلاحِيَةَ، أيْ ولَوْ فُرِضَ الإمْكانُ لَمْ يَكُونُوا أهْلًا لَهُ، ثُمَّ نَفى قُدْرَتَهم عَلى ذَلِكَ وأنَّهُ مُسْتَحِيلٌ في حَقِّهِمُ التَّنَزُّلُ بِهِ، فارْتَقى مِن نَفْيِ الإمْكانِ إلى نَفْيِ الصَّلاحِيَةِ إلى نَفْيِ القُدْرَةِ والِاسْتِطاعَةِ، وذَلِكَ مُبالَغَةٌ مُتَرَتِّبَةٌ في نَفْيِ تَنْزِيلِهِمْ بِهِ، ثُمَّ عَلَّلَ انْتِفاءَ ذَلِكَ عَنِ اسْتِماعِ كَلامِ أهْلِ السَّماءِ مَرْجُومُونَ بِالشُّهُبِ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ﴾ والخِطابُ في الحَقِيقَةِ لِلسّامِعِ؛ لِأنَّهُ - تَعالى - قَدْ عَلِمَ أنَّ ذَلِكَ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ ولِذَلِكَ قالَ المُفَسِّرُونَ: المَعْنى قُلْ يا مُحَمَّدُ لِمَن كَفَرَ: لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ. ثُمَّ أمَرَهُ تَعالى بِإنْذارِ عَشِيرَتِهِ، والعَشِيرَةُ تَحْتَ الفَخِذِ وفَوْقَ الفَصِيلَةِ، ونَبَّهَ عَلى العَشِيرَةِ، وإنْ كانَ مَأْمُورًا بِإنْذارِ النّاسِ كافَّةً. كَما قالَ: ﴿أنْ أنْذِرِ النّاسَ﴾ [يونس: ٢] لِأنَّ في إنْذارِهِمْ، وهم عَشِيرَتُهُ، عَدَمُ مُحاباةٍ ولُطْفٍ بِهِمْ، وأنَّهم والنّاسُ في ذَلِكَ شَرْعٌ واحِدٌ في التَّخْوِيفِ والإنْذارِ. فَإذا كانَتِ القَرابَةُ قَدْ خُوِّفُوا وأُنْذِرُوا مَعَ ما يَلْحَقُ الإنْسانَ في حَقِّهِمْ مِنَ الرَّأْفَةِ، كانَ غَيْرُهم في ذَلِكَ أوْكَدَ وأدْخَلَ، أوْ لِأنَّ البَداءَةَ تَكُونُ بِمَن يَلِيهِ ثُمَّ مَن بَعْدَهُ، كَما قالَ: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكم مِنَ الكُفّارِ﴾ [التوبة: ١٢٣] . وقالَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ: ”«كُلُّ رِبًا في الجاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ هاتَيْنِ، فَأوَّلُ ما أضَعُهُ رِبا العَبّاسِ» إذِ العَشِيرَةُ مَظِنَّةُ الطَّواعِيَةِ، ويُمْكِنُهُ مِنَ الغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ ما لا يُمْكِنُهُ مَعَ غَيْرِهِمْ، وهم لَهُ أشَدُّ احْتِمالًا“ . وامْتَثَلَ ﷺ ما أمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ مِن إنْذارِ عَشِيرَتِهِ، فَنادى الأقْرَبَ فالأقْرَبَ فَخِذًا. ورُوِيَ عَنْهُ في ذَلِكَ أحادِيثُ. (واخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ) تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذِهِ الجُمَلِ في آخِرِ الحِجْرِ، وهو كِنايَةٌ عَنِ التَّواضُعِ. وقالَ بَعْضُ الشُّعَراءِ: ؎وأنْتَ الشَّهِيرُ بِخَفْضِ الجَناحِ فَلا تَكُ في رَفْعِهِ أجْدَلا نَهاهُ عَنِ التَّكَبُّرِ بَعْدَ التَّواضُعِ. والأجْدَلُ: الصَّقْرُ، و”مِنَ المُؤْمِنِينَ“ عامٌّ في عَشِيرَتِهِ وغَيْرِهِمْ. ولَمّا كانَ الإنْذارُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إمّا الطّاعَةُ وإمّا العِصْيانُ، جاءَ التَّقْسِيمُ عَلَيْهِما، فَكانَ المَعْنى: أنَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مُؤْمِنًا، (p-٤٧)فَتَواضَعْ لَهُ؛ فَلِذَلِكَ جاءَ قَسِيمُهُ: ﴿فَإنْ عَصَوْكَ﴾ فَتَبَرَّأْ مِنهم ومِن أعْمالِهِمْ. وفي هَذا مُوادَعَةٌ نَسَخَتْها آيَةُ السَّيْفِ. والظّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ المَرْفُوعِ في عَصَوْكَ، عَلى أنَّ مَن أُمِرَ بِإنْذارِهِمْ، وهُمُ العَشِيرَةُ، والَّذِي بَرِئَ مِنهُ هو عِبادَتُهُمُ الأصْنامَ واتِّخاذُهم إلَهًا آخَرَ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلى مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ، أيْ فَإنْ عَصَوْكَ يا مُحَمَّدُ في الأحْكامِ وفُرُوعِ الإسْلامِ، بَعْدَ تَصْدِيقِكَ والإيمانِ بِكَ ﴿فَقُلْ إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ﴾ لا مِنكم، أيْ أظْهِرْ عَدَمَ رِضاكَ بِعَمَلِهِمْ وإنْكارَكَ عَلَيْهِمْ. ولَوْ أمَرَهُ بِالبَراءَةِ مِنهم، ما بَقِيَ بَعْدَ هَذا شَفِيعًا لِلْعُصاةِ، ثُمَّ أمَرَهُ - تَعالى - بِالتَّوَكُّلِ. وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ: ”فَتَوَكَّلْ“ بِالفاءِ، وباقِي السَّبْعَةِ: بِالواوِ. وناسَبَ الوَصْفُ بِالعَزِيزِ، وهو الَّذِي لا يُغالَبُ، وبِالرَّحِيمِ، وهو الَّذِي يَرْحَمُكَ. وهاتانِ الصِّفَتانِ هُما اللَّتانِ جاءَتا في أواخِرِ قَصَصِ هَذِهِ السُّورَةِ. فالتَّوَكُّلُ عَلى مَن هو بِهَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ كافِيهِ شَرَّ مَن بَغِضَهُ مِن هَؤُلاءِ وغَيْرِهِمْ، فَهو يَقْهَرُ أعْداءَكَ بِعِزَّتِهِ، ويَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ. والتَّوَكُّلُ هو تَفْوِيضُ الأمْرِ إلى مَن يَمْلِكُ الأمْرَ ويَقْدِرُ عَلَيْهِ. ثُمَّ وُصِفَ بِأنَّهُ الَّذِي أنْتَ مِنهُ بِمَرْأًى، وذَلِكَ مِن رَحْمَتِهِ بِكَ أنْ أهَّلَكَ لِعِبادَتِهِ، وما تَفْعَلُهُ مِن تَهَجُّدِكَ. وأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ مِنهُمُ ابْنُ عَبّاسٍ، عَلى أنَّ المَعْنى حِينَ تَقُومُ إلى الصَّلاةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (وتَقَلُّبَكَ) مَصْدَرُ تَقَلَّبَ وعُطِفَ عَلى الكافِ في يَراكَ. وقَرَأ جَناحُ بْنُ حُبَيْشٍ وتَقَلَّبُكَ مُضارِعُ قَلَّبَ مُشَدَّدًا، عَطْفًا عَلى (يَراكَ) . وقالَ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ: (في السّاجِدِينَ) في المُصَلِّينَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: في أصْلابِ آدَمَ ونُوحٍ وإبْراهِيمَ حَتّى خَرَجْتَ. وقالَ عِكْرِمَةُ: يَراكَ قائِمًا وساجِدًا. وقِيلَ: مَعْنى (تَقُومُ) تَخْلُو بِنَفْسِكَ. وعَنْ مُجاهِدٍ أيْضًا: المُرادُ تَقَلُّبُ بَصَرِهِ فِيمَن يُصَلِّي خَلْفَهُ، كَما قالَ: ”أتِمُّوا الرُّكُوعَ والسُّجُودَ فَواللَّهِ إنِّي لَأراكم مِن خَلْفِي“ . وفي الوَجِيزِ لِابْنِ عَطِيَّةَ: ظاهِرُ الآيَةِ أنَّهُ يُرِيدُ قِيامَ الصَّلاةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ سائِرَ التَّصَرُّفاتِ، وهو تَأْوِيلُ مُجاهِدٍ وقَتادَةَ. وفي السّاجِدِينَ: أيْ صَلاتَكَ مَعَ المُصَلِّينَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ وغَيْرُهُما. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا، وقَتادَةُ: أرادَ وتَقَلُّبَكَ في المُؤْمِنِينَ، فَعَبَّرَ عَنْهم بِالسّاجِدِينَ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أرادَ الأنْبِياءَ، أيْ تَقَلُّبَكَ كَما تَقَلَّبَ غَيْرُكَ مِنَ الأنْبِياءِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ ما كانَ يَفْعَلُهُ في جَوْفِ اللَّيْلِ مِن قِيامِهِ لِلتَّهَجُّدِ، وتَقَلُّبِهِ في تَصَفُّحِ أحْوالِ المُتَهَجِّدِينَ مِن أصْحابِهِ، لِيَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، ويَسْتَبْطِنَ سَرائِرَهم وكَيْفَ يَعْمَلُونَ لِآخِرَتِهِمْ. كَما يُحْكى أنَّهُ حِينَ نُسِخَ فَرْضُ قِيامِ اللَّيْلِ، طافَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِبُيُوتِ أصْحابِهِ لِيَنْظُرَ ما يَصْنَعُونَ، بِحِرْصِهِ عَلَيْهِمْ وعَلى ما يُوجَدُ مِنهم مِن فَعْلِ الطّاعاتِ وتَكْثِيرِ الحَسَناتِ، فَوَجَدَها كَبُيُوتِ الزَّنابِيرِ، لِما سَمِعَ مِن دَنْدَنَتِهِمْ بِذِكْرِ اللَّهِ والتِّلاوَةِ. والمُرادُ بِالسّاجِدِينَ: المُصَلُّونَ. وقِيلَ: مَعْناهُ يَراكَ حِينَ تَقُومُ لِلصَّلاةِ بِالنّاسِ جَماعَةً، وتَقَلُّبُهُ في السّاجِدِينَ: تَصَرُّفُهُ فِيما بَيْنَهم لِقِيامِهِ ورُكُوعِهِ وسُجُودِهِ وقُعُودِهِ إذا أمَّهم. وعَنْ مُقاتِلٍ، أنَّهُ سَألَ أبا حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَلْ تَجِدُ الصَّلاةَ في الجَماعَةِ في القُرْآنِ ؟ فَتَلا هَذِهِ الآيَةَ. ويُحْتَمَلُ أنْ لا يَخْفى عَلَيَّ حالُكَ كُلَّما قُمْتَ وتَقَلَّبْتَ مَعَ السّاجِدِينَ في كِفايَةِ أُمُورِ الدِّينِ. انْتَهى. ﴿إنَّهُ هو السَّمِيعُ﴾ لِما تَقُولُهُ (العَلِيمُ) بِما تَنْوِيهِ وتَعْمَلُهُ، وذَهَبَتِ الرّافِضَةُ إلى أنَّ آباءَ النَّبِيِّ ﷺ كانُوا مُؤْمِنِينَ، واسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وتَقَلُّبَكَ في السّاجِدِينَ﴾ قالُوا: فاحْتَمَلَ الوُجُوهَ الَّتِي ذُكِرَتْ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهُ - تَعالى - نَقَلَ رُوحَهُ مِن ساجِدٍ إلى ساجِدٍ، كَما نَقُولُهُ نَحْنُ. فَإذا احْتَمَلَ كُلَّ هَذِهِ الوُجُوهِ، وجَبَ حَمْلُ الآيَةِ عَلى الكُلِّ ضَرُورَةً، لِأنَّهُ لا مُنافاةَ ولا رُجْحانَ. وبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: «”لَمْ أزَلْ أُنْقَلُ مِن أصْلابِ الطّاهِرِينَ إلى أرْحامِ الطّاهِراتِ، وكُلُّ مَن كانَ كافِرًا فَهو نَجِسٌ لِقَوْلِهِ تَعالى»: ﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨] فَأمّا قَوْلُهُ - تَعالى -: ﴿وإذْ قالَ إبْراهِيمُ لِأبِيهِ آزَرَ﴾ [الأنعام: ٧٤] فَلَفْظُ الأبِ قَدْ يُطْلَقُ عَلى العَمِّ، كَما قالُوا أبْناءُ يَعْقُوبَ لَهُ: ﴿نَعْبُدُ إلَهَكَ وإلَهَ آبائِكَ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ﴾ [البقرة: ١٣٣] . سَمَّوْا إسْماعِيلَ أبًا مَعَ أنَّهُ كانَ عَمًّا لَهُ. * * * ﴿قُلْ: هَلْ أُنْبِئُكُمْ﴾ [المائدة: ٦٠] أيْ قُلْ (p-٤٨)يا مُحَمَّدُ: هَلْ أُخْبِرُكم ؟ وهَذا اسْتِفْهامُ تَوْقِيفٍ وتَقْرِيرٍ.“ وعَلى مَن ”مُتَعَلِّقٌ بِـ“ تَنَزَّلُ ”، والجُمْلَةُ المُتَضَمِّنَةُ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ في مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأُنَبِّئُكم، لِأنَّهُ مُعَلَّقٌ، لِأنَّهُ بِمَعْنى أُعْلِمُكم، فَإنْ قَدَّرْتَها مُتَعَدِّيَةً لِاثْنَيْنِ، كانَتْ سادَّةً مَسَدَّ المَفْعُولِ الثّانِي؛ وإنْ قَدَّرْتَها مُتَعَدِّيَةً لِثَلاثَةٍ، كانَتْ سادَّةً مَسَدَّ الِاثْنَيْنِ. والِاسْتِفْهامُ إذا عُلِّقَ عَنْهُ العامِلُ، لا يَبْقى عَلى حَقِيقَةِ الِاسْتِفْهامِ وهو الِاسْتِعْلامُ، بَلْ يَئُولُ مَعْناهُ إلى الخَبَرِ. ألا تَرى أنَّ قَوْلَكَ: عَلِمْتَ أزْيَدٌ في الدّارِ أمْ عَمْرٌو، كانَ المَعْنى: عَلِمْتَ أحَدَهُما في الدّارِ ؟ فَلَيْسَ المَعْنى أنَّهُ صَدَرَ مِنهُ عِلْمٌ، ثُمَّ اسْتَعْلَمَ المُخاطَبَ عَنْ تَعْيِينِ مَن في الدّارِ مِن زَيْدٍ وعَمْرٍو، فالمَعْنى هُنا: هَلْ أُعْلِمُكم مَن تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ عَلَيْهِ ؟ لا أنَّهُ اسْتَعْلَمَ المُخاطَبِينَ عَنِ الشَّخْصِ الَّذِي تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ عَلَيْهِ. ولَمّا كانَ المَعْنى هَذا، جاءَ الإخْبارُ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أفّاكٍ أثِيمٍ﴾ كَأنَّهُ لَمّا قالَ: هَلْ أُخْبِرُكم بِكَذا ؟ قِيلَ لَهُ: أخْبِرْ، فَقالَ: ﴿تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أفّاكٍ﴾ وهو الكَثِيرُ الإفْكِ، وهو الكَذِبُ، أثِيمٌ: كَثِيرُ الإثْمِ. فَأفّاكٌ أثِيمٌ: صِيغَتا مُبالَغَةٍ، والمُرادُ الكَهَنَةُ. والضَّمِيرُ في (يُلْقُونَ) يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ إلى الشَّياطِينِ، أيْ يُنْصِتُونَ ويُصْغُونَ بِأسْماعِهِمْ، لِيَسْتَرِقُوا شَيْئًا مِمّا يَتَكَلَّمُ بِهِ المَلائِكَةُ، حَتّى يَنْزِلُوا بِها إلى الكَهَنَةِ، أوْ: ﴿يُلْقُونَ السَّمْعَ﴾ أيِ المَسْمُوعَ إلى مَن يَتَنَزَّلُونَ عَلَيْهِ. (وأكْثَرُهم) أيْ وأكْثَرُ الشَّياطِينِ المُلْقِينَ ﴿كاذِبُونَ﴾ . فَعَلى مَعْنى الإنْصاتِ يَكُونُ اسْتِئْنافَ إخْبارٍ، وعَلى إلْقاءِ المَسْمُوعِ إلى الكَهَنَةِ احْتَمَلَ الِاسْتِئْنافَ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الشَّياطِينِ، أيْ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أفّاكٍ أثِيمٍ مُلْقِينَ ما سَمِعُوا. ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ في يُلْقُونَ عَلى كُلِّ أفّاكٍ أثِيمٍ، وجُمِعَ الضَّمِيرُ، لِأنَّ كُلَّ أفّاكٍ فِيهِ عُمُومٌ وتَحْتَهُ أفْرادٌ. واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ المَعْنى: يُلْقُونَ سَمْعَهم إلى الشَّياطِينِ، لِيَنْقُلُوا عَنْهم ما يُقَرِّرُونَهُ في أسْماعِهِمْ، وأنْ يَكُونَ يُلْقُونَ السَّمْعَ، أيِ المَسْمُوعَ مِنَ الشَّياطِينِ إلى النّاسِ؛ وأكْثَرُهم، أيْ أكْثَرُ الكَهَنَةِ كاذِبُونَ. كَما جاءَ أنَّهم يَتَلَقَّوْنَ مِنَ الشَّياطِينِ الكَلِمَةَ الواحِدَةَ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّماءِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَها مِائَةَ كَذِبَةٍ. فَإذا صَدَقَتْ تِلْكَ الكَلِمَةُ، كانَتْ سَبَبَ ضَلالَةٍ لِمَن سَمِعَها. وعَلى كَوْنِ الضَّمِيرِ عائِدًا عَلى“ كُلِّ أفّاكٍ ”، احْتُمِلَ أنْ يَكُونَ يُلْقُونَ اسْتِئْنافَ إخْبارٍ عَنِ الأفّاكِينَ، واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ صِفَةً لِكُلِّ أفّاكٍ، ولا تَعارُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿كُلِّ أفّاكٍ﴾ وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿وأكْثَرُهم كاذِبُونَ﴾ لِأنَّ الأفّاكَ هو الَّذِي يُكْثِرُ الكَذِبَ، ولا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ لا يَنْطِقُ إلّا بِالإفْكِ، فالمَعْنى: أنَّ الأفّاكِينَ مَن صَدَقَ مِنهم فِيما يَحْكِي عَنِ الجِنِّيِّ، فَأكْثَرُهم مُغْتَرٌّ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): ﴿وإنَّهُ لِتَنْزِيلُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ١٩٢] ﴿وما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ﴾ ﴿هَلْ أُنَبِّئُكم عَلى مَن تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ﴾ لِمَ فَرَّقَ بَيْنَهُنَّ وبَيْنَ أخْوانِ ؟ (قُلْتُ): أُرِيدَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُنَّ بِآياتٍ لَيْسَتْ في مَعْناهُنَّ، لِيُرْجَعَ إلى المَجِيءِ بِهِنَّ، ويُطْرِيهِ ذِكْرُ ما فِيهِنَّ كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ، فَيَدُلُّ بِذَلِكَ عَلى أنَّ المَعْنى الَّذِي نُزِّلْنَ فِيهِ مِنَ المَعانِي الَّتِي أسْنَدَتْ كَراهَةَ اللَّهِ لَهم، ومِثالُهُ: أنْ يُحَدِّثَ الرَّجُلُ بِحَدِيثٍ، وفي صَدْرِهِ اهْتِمامٌ بِشَيْءٍ مِنهُ وفَضْلُ عِنايَةٍ، فَتَراهُ يُعِيدُ ذِكْرَهُ ولا يَنْفَكُّ عَنِ الرُّجُوعِ إلَيْهِ. انْتَهى. ولَمّا ذَكَرَ الكَهَنَةَ بِإفْكِهِمُ الكَثِيرِ وحالِهِمُ المُقْتَضِيَةِ نَفْيَ كَلامِ القُرْآنِ، إذْ كانَ بَعْضُ الكُفّارِ قالَ في القُرْآنِ: إنَّهُ شِعْرٌ، كَما قالُوا في الرَّسُولِ: إنَّهُ كاهِنٌ، وإنَّ ما أتى بِهِ هو مِن بابِ الكَهانَةِ، كَما قالَ - تَعالى -: ﴿ولا بِقَوْلِ كاهِنٍ﴾ [الحاقة: ٤٢] وقالَ: ﴿وما هو بِقَوْلِ شاعِرٍ﴾ [الحاقة: ٤١] . فَقالَ: ﴿والشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الغاوُونَ﴾ . قِيلَ: هي في أُمَيَّةَ بْنِ أبِي الصَّلْتِ، وأبِي عَزَّةَ، ومُسافِعٍ الجُمَحِيِّ، وهُبَيْرَةَ بْنِ أبِي وهْبٍ، وأبِي سُفْيانَ بْنِ الحارِثِ، وابْنِ الزِّبَعْرى. وقَدْ أسْلَمَ ابْنُ الزِّبَعْرى وأبُو سُفْيانَ. والشُّعَراءُ عامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شاعِرٍ، والمَذْمُومُ مَن يَهْجُو ويَمْدَحُ شَهْوَةً مُحَرَّمَةً، ويَقْذِفُ المُحْصَناتِ، ويَقُولُ الزُّورَ وما لا يَسُوغُ شَرْعًا. وقَرَأ عِيسى:“ والشُّعَراءَ ”: نَصْبًا عَلى الِاشْتِغالِ؛ والجُمْهُورُ: رَفْعًا عَلى الِابْتِداءِ والخَبَرِ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ، والحَسَنُ بِخِلافٍ عَنْهُ، ونافِعٌ يَتْبَعُهم مُخَفَّفًا؛ وباقِي السَّبْعَةِ مُشَدَّدًا؛ وسَكَّنَ العَيْنَ: الحَسَنُ، وعَبْدُ الوارِثِ، عَنْ أبِي عَمْرٍو. ورَوى هارُونُ: نَصْبَها (p-٤٩)عَنْ بَعْضِهِمْ، وهو مُشْكِلٌ. (والغاوُونَ) قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الرُّواةُ، وقالَ أيْضًا: المُسْتَحْسِنُونَ لِأشْعارِهِمْ، المُصاحِبُونَ لَهم. وقالَ عِكْرِمَةُ: الرَّعاعُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشّاعِرَ. وقالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: الشَّياطِينُ. وقالَ عَطِيَّةُ: السُّفَهاءُ المُشْرِكُونَ يَتَّبِعُونَ شُعَراءَهم. ﴿ألَمْ تَرَ أنَّهم في كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ﴾ تَمْثِيلٌ لِذَهابِهِمْ في كُلِّ شِعْبٍ مِنَ القَوْلِ، واعْتِسافِهِمْ وقِلَّةِ مُبالاتِهِمْ بِالغُلُوِّ في المَنطِقِ، ومُجاوَزَةِ حَدِّ القَصْدِ فِيهِ، حَتّى يُفَضِّلُوا أجْبَنَ النّاسِ عَلى عَنْتَرَةَ، وأشَحَّهم عَلى حاتِمٍ، ويُبْهِتُوا البَرِيءَ، ويُفَسِّقُوا التَّقِيَّ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو تَقْبِيحُهُمِ الحَسَنَ، وتَحْسِينُهُمُ القَبِيحَ. ﴿وأنَّهم يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ﴾ وذَلِكَ لِغُلُوِّهِمْ في أفانِينِ الكَلامِ، ولَهْجِهِمْ بِالفَصاحَةِ والمَعانِي اللَّطِيفَةِ، قَدْ يَنْسُبُونَ لِأنْفُسِهِمْ ما لا يَقَعُ مِنهم. وقَدْ دَرَأ الحَدَّ في الخَمْرِ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النُّعْمانِ بْنِ عَدِيٍّ، في شِعْرٍ قالَهُ لِزَوْجَتِهِ حِينَ احْتَجَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الآيَةِ، وكانَ قَدْ ولّاهُ بِيسانَ، فَعَزَلَهُ وأرادَ أنْ يَحُدَّهُ والفَرَزْدَقُ، لِسُلَيْمانَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ: ؎فَبِتْنَ كَأنَّهُنَّ مُصَرَّعاتٍ وبِتُّ أفُضُّ أغْلاقَ الخِتامِ فَقالَ لَهُ سُلَيْمانُ: لَقَدْ وجَبَ عَلَيْكَ الحَدُّ، فَقالَ: لَقَدْ دَرَأ اللَّهُ عَنِّي الحَدَّ بِقَوْلِهِ: ﴿وأنَّهم يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ﴾ . أخْبَرَ - تَعالى - عَنِ الشُّعَراءِ بِالأحْوالِ الَّتِي تُخالِفُ حالَ النُّبُوَّةِ، إذْ أمْرُهم، كَما ذَكَرَ، مِنَ اتِّباعِ الغُواةِ لَهم، وسُلُوكِهِمْ أفانِينَ الكَلامِ مِن مَدْحِ الشَّيْءِ وذَمِّهِ، ونِسْبَةِ ما لا يَقَعَ مِنهم إلَيْهِمْ، وذَلِكَ بِخِلافِ حالِ النُّبُوَّةِ، فَإنَّها طَرِيقَةٌ واحِدَةٌ، لا يَتْبَعُها إلّا الرّاشِدُونَ. ودَعْوَةُ الأنْبِياءِ واحِدَةٌ، وهي الدُّعاءُ إلى تَوْحِيدِ اللَّهِ وعِبادَتِهِ، والتَّرْغِيبِ في الآخِرَةِ والصِّدْقِ. هَذا مَعَ أنَّ ما جاءُوا بِهِ لا يُمْكِنُ أنْ يَجِيءَ بِهِ غَيْرُهم مِن ظُهُورِ المُعْجِزِ. ولَمّا كانَ ما سَبَقَ ذَمًّا لِلشُّعَراءِ، واسْتَثْنى مِنهم مَنِ اتَّصَفَ بِالإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ والإكْثارِ مِن ذِكْرِ اللَّهِ، وكانَ ذَلِكَ أغْلَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشِّعْرِ؛ وإذا نَظَمُوا شِعْرًا كانَ في تَوْحِيدِ اللَّهِ والثَّناءِ عَلَيْهِ وعَلى رَسُولِهِ ﷺ وصَحْبِهِ، والمَوْعِظَةِ والزُّهْدِ والآدابِ الحَسَنَةِ وتَسْهِيلِ عِلْمٍ، وكُلِّ ما يَسُوغُ القَوْلُ فِيهِ شَرْعًا، فَلا يَتَلَطَّخُونَ في قَوْلِهِ بِذَنْبٍ ولا مَنقَصَةٍ. والشِّعْرُ بابٌ مِنَ الكَلامِ، حَسَنُهُ حَسَنٌ، وقَبِيحُهُ قَبِيحٌ. وقالَ رَجُلٌ عَلَوِيٌّ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: إنَّ صَدْرِيَ لِيَجِيشُ بِالشِّعْرِ، فَقالَ: ما يَمْنَعُكَ مِنهُ فِيما لا بَأْسَ بِهِ. وقِيلَ: المُرادُ بِالمُسْتَثْنِينَ: حَسّانُ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَواحَةَ، وكَعْبُ بْنُ مالِكٍ، وكَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ، ومَن كانَ يُنافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ - لِكَعْبِ بْنِ مالِكٍ: «اهْجُهم فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهو أشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبْلِ» . وقالَ لِحَسّانَ: «قُلْ ورُوحُ القُدُسِ مَعَكَ»، وهَذا مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وانْتَصَرُوا﴾ أيْ: بِالقَوْلِ فِيمَن ظَلَمَهم. وقالَ عَطاءُ بْنُ يَسارٍ وغَيْرُهُ: لَمّا ذَمَّ الشُّعَراءَ بِقَوْلِهِ: ﴿والشُّعَراءُ﴾ الآيَةَ، شَقَّ ذَلِكَ عَلى حَسّانَ وابْنِ رَواحَةَ وكَعْبِ بْنِ مالِكٍ، وذَكَرُوا ذَلِكَ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - فَنَزَلَتْ آيَةُ الِاسْتِثْناءِ بِالمَدِينَةِ، وخَصَّ ابْنُ زَيْدٍ قَوْلَهُ: ﴿وذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ فَقالَ: أيْ في شِعْرِهِمْ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: صارَ خُلُقًا لَهم وعادَةٌ، كَما قالَ لَبِيَدٌ - حِينَ طُلِبَ مِنهُ شِعْرُهُ -: إنَّ اللَّهَ أبْدَلَنِي بِالشِّعْرِ القُرْآنَ خَيْرًا مِنهُ. ولَمّا ذَكَرَ: ﴿وانْتَصَرُوا مِن بَعْدِ ما ظُلِمُوا﴾ تَوَعَّدَ الظّالِمِينَ هَذا التَّوَعُّدَ العَظِيمَ الهائِلَ الصّادِعَ لِلْأكْبادِ وأبْهَمَ في قَوْلِهِ: ﴿أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ . ولَمّا عَهِدَ أبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - تَلا عَلَيْهِ: ﴿وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾“، وكانَ السَّلَفُ الصّالِحُ يَتَواعَظُونَ بِها. والمَفْهُومُ مِنَ الشَّرِيعَةِ أنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الكُفّارُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وتَفْسِيرُ الظُّلْمِ بِالكُفْرِ تَعْلِيلٌ، وكانَ ذَكَرَ قَبْلُ: أنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مُطْلَقٌ، وهَذا مِنهُ عَلى طَرِيقِ الِاعْتِزالِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ أرْقَمَ، عَنِ الحَسَنِ: أيَّ مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُونَ، بِفاءٍ وتاءَيْنِ، مَعْناهُ: إنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا يَطْمَعُونَ أنْ يَنْفَلِتُوا مِن عَذابِ اللَّهِ، وسَيَعْلَمُونَ أنْ لَيْسَ لَهم وجْهٌ مِن وُجُوهِ الِانْفِلاتِ، وهو النَّجاةُ. ”وسَيَعْلَمْ هُنا مُعَلَّقَةٌ“، ”وأيَّ مُنْقَلَبٍ“: اسْتِفْهامٌ، والنّاصِبُ لَهُ يَنْقَلِبُونَ، وهو مَصْدَرٌ. (p-٥٠)والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ لِـ ”سَيَعْلَمُ“ . وقالَ أبُو البَقاءِ: أيَّ مُنْقَلَبٍ مَصْدَرٌ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، والعامِلُ يَنْقَلِبُونَ انْقِلابًا، أيَّ مُنْقَلَبٍ، ولا يَعْمَلُ فِيهِ ”يَعْلَمُ“؛ لِأنَّ الِاسْتِفْهامَ لا يَعْمَلُ فِيهِ ما قَبْلَهُ. انْتَهى. وهَذا تَخْلِيطٌ؛ لِأنَّ ”أيَّ“، إذا وُصِفَ بِها، لَمْ تَكُنِ اسْتِفْهامًا، بَلْ ”أيُّ“ المَوْصُوفِ بِها قَسَمٌ ”لِأيِّ“ المُسْتَفْهَمِ بِها، لا قَسَمٌ. فَأيُّ تَكُونُ شَرْطِيَّةً واسْتِفْهامِيَّةً ومَوْصُولَةً، ووَصْفًا عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ مَوْصُوفَةً بِنَكِرَةٍ نَحْوَ: مَرَرْتُ بِأيٍّ مُعَجِّبٍ لَكَ، وتَكُونُ مُناداةً وصِلَةً لِنِداءِ ما فِيهِ الألِفُ واللّامُ نَحْوَ: يا أيُّها الرَّجُلُ. والأخْفَشُ يَزْعُمُ أنَّ الَّتِي في النِّداءِ مَوْصُولَةٌ. ومَذْهَبُ الجُمْهُورِ أنَّها قَسَمٌ بِرَأْسِهِ، والصِّفَةِ تَقَعُ حالًا مِنَ المَعْرِفَةِ، فَهَذِهِ أقْسامُ أيٍّ؛ فَإذا قُلْتَ: قَدْ عَلِمْتَ أيَّ ضَرْبٍ تَضْرِبُ، فَهي اسْتِفْهامِيَّةٌ، لا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب