الباحث القرآني

﴿أفَرَأيْتَ إنْ مَتَّعْناهم سِنِينَ﴾ خِطابٌ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِإقامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، في أنَّ مُدَّةَ الإرْجاءِ والإمْهالِ والإمْلاءِ لا تُغْنِي إذا نَزَلَ العَذابُ بَعْدَها. وقالَ عِكْرِمَةُ: سِنِينَ، عُمَرُ الدُّنْيا. انْتَهى. وتَقَرَّرَ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ أنَّ ”أرَأيْتَ“ إذا كانَتْ بِمَعْنى أخْبِرْنِي، تَعَدَّتْ إلى مَفْعُولَيْنِ، أحَدُهُما مَنصُوبٌ والآخِرُ جُمْلَةٌ اسْتِفْهامِيَّةٌ. في الغالِبِ تَقُولُ العَرَبُ: أرَأيْتَ زَيْدًا ما صَنَعَ ؟ وما جاءَ مِمّا ظاهِرُهُ خِلافُ ذَلِكَ أُوِّلَ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ذَلِكَ مُشْبَعًا في أوائِلِ سُورَةِ الأنْعامِ. وتَقُولُ هُنا مَفْعُولُ ”أرَأيْتَ“ مَحْذُوفٌ، لِأنَّهُ تَنازَعَ عَلى ”ما يُوعِدُونَ“ أرَأيْتَ، وجاءَهم، فَأُعْمِلَ الثّانِي فَهو مَرْفُوعٌ بِجاءَهم. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِأرَأيْتَ عَلى إعْمالِ الأوَّلِ، وأُضْمِرَ الفاعِلُ في جاءَهم. والمَفْعُولُ الثّانِي هو قَوْلُهُ: ﴿ما أغْنى عَنْهُمْ﴾ وما اسْتِفْهامِيَّةٌ، أيْ: أيُّ شَيْءٍ أغْنى عَنْهم تَمَتُّعُهم في تِلْكَ السِّنِينَ الَّتِي مُتِّعُوها ؟ وفي الكَلامِ مَحْذُوفٌ يَتَضَمَّنُ الضَّمِيرَ العائِدَ عَلى المَفْعُولِ الأوَّلِ، أيْ: أيُّ شَيْءٍ أغْنى عَنْهم تَمَتُّعُهم حِينَ حَلَّ، أيِ المَوْعُودُ بِهِ، وهو العَذابُ ؟ وظاهِرُ ما فَسَّرَ بِهِ المُفَسِّرُونَ ما أغْنى: أنْ تَكُونَ ما نافِيَةً، والِاسْتِفْهامُ قَدْ يَأْتِي مُضَمَّنًا مَعْنى النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: ﴿هَلْ يُهْلَكُ إلّا القَوْمُ الظّالِمُونَ﴾ [الأنعام: ٤٧] ؟ بَعْدَ قَوْلِهِ: (أرَأيْتَكم) في سُورَةِ الأنْعامِ، أيْ ما يُهْلَكُ إلّا القَوْمُ الظّالِمُونَ. وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ (p-٤٤)فِي ما أنْ تَكُونَ اسْتِفْهامًا ونافِيَةً. وقُرِئَ: يُمَتَّعُونَ، بِإسْكانِ المِيمِ وتَخْفِيفِ التّاءِ. ثُمَّ أخْبَرَ - تَعالى - أنَّهُ لَمْ يُهْلِكْ قَرْيَةً مِنَ القُرى إلّا وقَدْ أرْسَلَ إلَيْها مَن يُنْذِرُها عَذابَ اللَّهِ، إنْ هي عَصَتْ ولَمْ تُؤْمِن، كَما قالَ تَعالى: ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] . وجَمَعَ مُنْذِرُونَ، لِأنَّ (مِن قَرْيَةٍ) عامٌّ في القُرى الظّالِمَةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: وما أهْلَكْنا القُرى الظّالِمَةَ. والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: ﴿لَها مُنْذِرُونَ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ (مِن قَرْيَةٍ) والإعْرابُ أنْ تَكُونَ لَها في مَوْضِعِ الحالِ، وارْتَفَعَ مُنْذِرُونَ بِالمَجْرُورِ إلّا كائِنًا لَها مُنْذِرُونَ، فَيَكُونُ مِن مَجِيءِ الحالِ مُفْرَدًا لا جُمْلَةً، ومَجِيءُ الحالِ مِنَ المَنفِيِّ كَقَوْلِكَ: ما مَرَرْتُ بِأحَدٍ إلّا قائِمًا، فَصِيحٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ عُزِلَتِ الواوُ عَنِ الجُمْلَةِ بَعْدَ إلّا، ولَمْ تُعْزَلْ عَنْها في قَوْلِهِ: ﴿وما أهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ إلّا ولَها كِتابٌ مَعْلُومٌ﴾ [الحجر: ٤] ؟ (قُلْتُ): الأصْلُ عَزْلُ الواوِ، لِأنَّ الجُمْلَةَ صِفَةٌ لِقَرْيَةٍ، وإذا زِيدَتْ فَلِتَأْكِيدِ وصْلِ الصِّفَةِ بِالمَوْصُوفِ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿سَبْعَةٌ وثامِنُهم كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢] . انْتَهى. ولَوْ قَدَّرَنا ”لَها مُنْذِرُونَ“ جُمْلَةً، لَمْ يَجُزْ أنْ تَجِيءَ صِفَةً بَعْدَ إلّا. ومَذْهَبُ الجُمْهُورِ، أنَّهُ لا تَجِيءُ الصِّفَةُ بَعْدَ إلّا مُعْتَمِدَةً عَلى أداةِ الِاسْتِثْناءِ نَحْوُ: ما جاءَنِي أحَدٌ إلّا راكِبٌ. وإذا سُمِعَ مِثْلُ هَذا، خَرَّجُوهُ عَلى البَدَلِ، أيْ: إلّا رَجُلٌ راكِبٌ. ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا المَذْهَبِ أنَّ العَرَبَ تَقُولُ: ما مَرَرْتُ بِأحَدٍ إلّا قائِمًا، ولا يُحْفَظُ مِن كَلامِها: ما مَرَرْتُ بِأحَدٍ إلّا قائِمٌ. فَلَوْ كانَتِ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلنَّكِرَةِ، لَوَرَدَ المُفْرَدُ بَعْدَ إلّا صِفَةً لَها. فَإنْ كانَتِ الصِّفَةُ غَيْرَ مُعْتَمِدَةٍ عَلى أداةٍ، جاءَتِ الصِّفَةُ بَعْدَ إلّا نَحْوُ: ما جاءَنِي أحَدٌ إلّا زَيْدٌ خَيْرٌ مِن عَمْرٍو، التَّقْدِيرُ: ما جاءَنِي أحَدٌ خَيْرٌ مِن عَمْرٍو إلّا زَيْدٌ. وأمّا كَوْنُ الواوِ تُزادُ لِتَأْكِيدِ وصْلِ الصِّفَةِ بِالمَوْصُوفِ، فَغَيْرُ مَعْهُودٍ في كَلامِ النَّحْوِيِّينَ. لَوْ قُلْتَ: جاءَنِي رَجُلٌ وعاقِلٌ، عَلى أنْ يَكُونَ ”وعاقِلٌ“ صِفَةً لِرَجُلٍ، لَمْ يَجُزْ، وإنَّما تَدْخُلُ الواوُ في الصِّفاتِ جَوازًا إذا عُطِفَ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، وتَغايَرَ مَدْلُولُها نَحْوَ: (مَرَرْتُ) بِزَيْدٍ الكَرِيمِ والشُّجاعِ والشّاعِرِ. وأمّا ﴿وثامِنُهم كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢] فَتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِ في مَوْضِعِهِ. (وذِكْرى) مَنصُوبٌ عَلى الحالِ عِنْدَ الكِسائِيِّ، وعَلى المَصْدَرِ عِنْدَ الزَّجّاجِ. فَعَلى الحالِ، إمّا أنْ يُقَدَّرَ ذَوِي ذِكْرى، أوْ مُذَكِّرِينَ. وعَلى المَصْدَرِ، فالعامِلُ مُنْذِرُونَ، لِأنَّهُ في مَعْنى مُذَكِّرُونَ ذِكْرى، أيْ تَذْكِرَةً. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ في ذِكْرى أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، قالَ: عَلى مَعْنى أنَّهم يُنْذَرُونَ لِأجْلِ المَوْعِظَةِ والتَّذْكِرَةِ، وأنْ تَكُونَ مَرْفُوعَةً صِفَةً بِمَعْنى مُنْذِرُونَ ذَوُو ذِكْرى، أوْ جُعَلُوا ذِكْرى لِإمْعانِهِمْ في التَّذْكِرَةِ وإطْنابِهِمْ فِيها. وأجازَ هو وابْنُ عَطِيَّةَ أنْ تَكُونَ مَرْفُوعَةً عَلى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ بِمَعْنى هَذِهِ ذِكْرى، والجُمْلَةُ اعْتِراضِيَّةٌ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ووَجْهٌ آخَرُ، وهو أنْ يَكُونَ ذِكْرى مُتَعَلِّقَةً بِأهْلَكْنا مَفْعُولًا لَهُ، والمَعْنى: وما أهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ ظالِمِينَ إلّا بَعْدَما ألْزَمْناهُمُ الحُجَّةَ بِإرْسالِ المُنْذِرِينَ إلَيْهِمْ، لِتَكُونَ تَذْكِرَةً وعِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ، فَلا يَعْصُوا مِثْلَ عِصْيانِهِمْ. ﴿وما كُنّا ظالِمِينَ﴾ فَنُهْلِكُ قَوْمًا غَيْرَ ظالِمِينَ، وهَذا الوَجْهُ (p-٤٥)عَلَيْهِ المُعَوَّلُ. انْتَهى. وهَذا لا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ، لِأنَّ مَذْهَبَ الجُمْهُورِ أنَّ ما قَبْلَ إلّا لا يَعْمَلُ فِيما بَعْدَها إلّا أنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى، أوْ مُسْتَثْنًى مِنهُ، أوْ تابِعًا لَهُ غَيْرَ مُعْتَمِدٍ عَلى الأداةِ نَحْوُ: ما مَرَرْتُ بِأحَدٍ إلّا زِيدٍ خَيْرٍ مِن عَمْرٍو. والمَفْعُولُ لَهُ لَيْسَ واحِدًا مِن هَذِهِ الثَّلاثَةِ، فَلا يَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِأهْلَكْنا. ويَتَخَرَّجُ جَوازُ ذَلِكَ عَلى مَذْهَبِ الكِسائِيِّ والأخْفَشِ، وإنْ كانا لَمْ يَنُصّا عَلى المَفْعُولِ لَهُ بِخُصُوصِيَّتِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب