الباحث القرآني

﴿وإنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وإنَّهُ لَفي زُبُرِ الأوَّلِينَ أوَلَمْ يَكُنْ لَهم آيَةً أنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إسْرائِيلَ ولَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكْناهُ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتّى يَرَوْا العَذابَ الألِيمَ فَيَأْتِيَهم بَغْتَةً وهم لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أفَرَأيْتَ إنْ مَتَّعْناهم سِنِينَ ثُمَّ جاءَهم ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أغْنى عَنْهم ما كانُوا يُمَتَّعُونَ وما أهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ إلّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى وما كُنّا ظالِمِينَ﴾ . (p-٤٠)الضَّمِيرُ في: (وإنَّهُ) عائِدٌ عَلى القُرْآنِ، أيْ إنَّهُ لَيْسَ بِكَهانَةٍ ولا سِحْرٍ، بَلْ هو مِن عِنْدِ اللَّهِ، وكَأنَّهُ عادَ أيْضًا إلى ما افْتَتَحَ بِهِ السُّورَةَ مِن إعْراضِ المُشْرِكِينَ عَمّا يَأْتِيهِمْ مِنَ الذِّكْرِ، لِيَتَناسَبَ المُفْتَتَحُ والمُخْتَتَمُ. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ، وأبُو عَمْرٍو، وحَفْصٌ: (نَزَلَ) مُخَفَّفًا، و﴿الرُّوحُ الأمِينُ﴾ مَرْفُوعانِ؛ وباقِي السَّبْعَةِ: بِالتَّشْدِيدِ ونَصْبِهِما. والرُّوحُ هُنا: جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ مَرْيَمَ لِمَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الرُّوحُ، وبِهِ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: في مَوْضِعِ الحالِ كَقَوْلِهِ: ﴿وقَدْ دَخَلُوا بِالكُفْرِ وهم قَدْ خَرَجُوا بِهِ﴾ [المائدة: ٦١] . انْتَهى. والظّاهِرُ تَعَلُّقُ ﴿عَلى قَلْبِكَ﴾ و(لِتَكُونَ) بِـ ”نَزَلَ“، وخَصَّ القَلْبَ، والمَعْنى عَلَيْكَ، لِأنَّهُ مَحَلُّ الوَعْيِ والتَّثْبِيتِ، ولِيَعْلَمَ أنَّ المُنَزَّلَ عَلى قَلْبِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَحْفُوظٌ، لا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّبْدِيلُ ولا التَّغْيِيرُ، ولِيَكُونَ عِلَّةً في التَّنْزِيلِ أوِ النُّزُولِ اقْتَصَرَ عَلَيْها، لِأنَّ ذَلِكَ أزْجَرُ لِلسّامِعِ، وإنْ كانَ القُرْآنُ نَزَلَ لِلْإنْذارِ والتَّبْشِيرِ. والظّاهِرُ تَعَلُّقُ (بِلِسانٍ) بِـ ”نَزَلَ“، فَكانَ يَسْمَعُ مِن جِبْرِيلَ حُرُوفًا عَرَبِيَّةً. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وهو القَوْلُ الصَّحِيحُ: وتَكُونُ صَلْصَلَةُ الجَرَسِ صِفَةً لِشِدَّةِ الصَّوْتِ وتَداخُلِ حُرُوفِهِ وعِجْلَةِ مَوْرِدِهِ وإغْلاظِهِ. ويُمْكِنُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: (لِتَكُونَ) وتَمَسَّكَ بِهَذا مَن رَأى النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَسْمَعُ أحْيانًا مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، يَتَفَهَّمُ لَهُ مِنهُ القُرْآنُ، وهو مَرْدُودٌ. انْتَهى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (بِلِسانٍ) إمّا أنْ يَتَعَلَّقَ بِالمُنْذِرِينَ، فَيَكُونُ المَعْنى: لِتَكُونَ مِنَ الَّذِينَ أنْذَرُوا بِهَذا اللِّسانِ، وهم خَمْسَةٌ: هُودٌ، وصالِحٌ، وشُعَيْبٌ، وإسْماعِيلُ، ومُحَمَّدٌ ﷺ وعَلَيْهِمْ -؛ وإمّا أنْ يَتَعَلَّقَ بِـ ”نَزَلَ“، فَيَكُونَ المَعْنى: نَزَّلَهُ بِاللِّسانِ العَرَبِيِّ المُبِينِ لِتُنْذِرَ بِهِ، لِأنَّهُ لَوْ نَزَّلَهُ بِاللِّسانِ الأعْجَمِيِّ، لَتَجافَوْا عَنْهُ أصْلًا، وقالُوا: ما نَصْنَعُ بِما لا نَفْهَمُهُ ؟ فَيَتَعَذَّرُ الإنْذارُ بِهِ. وفي هَذا الوَجْهِ، إنَّ تَنْزِيلَهُ بِالعَرَبِيَّةِ الَّتِي هي لِسانُكَ ولِسانُ قَوْمِكَ، تَنْزِيلٌ لَهُ عَلى قَلْبِكَ، لِأنَّكَ تَفْهَمُهُ ويَفْهَمُهُ قَوْمُكَ. ولَوْ كانَ أعْجَمِيًّا، لَكانَ نازلًا عَلى سَمْعِكَ دُونَ قَلْبِكَ، لِأنَّكَ تَسْمَعُ أجْراسَ حُرُوفٍ لا تَفْهَمُ مَعانِيَها ولا تَعِيها، وقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ عارِفًا بِعِدَّةِ لُغاتٍ، فَإذا كُلِّمَ بِلُغَتِها الَّتِي لُقِّنَها أوَّلًا ونَشَأ عَلَيْها وتَطَبَّعَ بِها، لَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ إلّا إلى مَعانِي تِلْكَ الكَلِمِ يَتَلَقّاها بِقَلْبِهِ، ولا يَكادُ يَفْطَنُ لِلْألْفاظِ كَيْفَ جَرَتْ. وإنْ كُلِّمَ بِغَيْرِ تِلْكَ اللُّغَةِ، وإنْ كانَ ماهِرًا بِمَعْرِفَتِها، كانَ نَظَرُهُ أوَّلًا في ألْفاظِها، ثُمَّ في مَعانِيها. فَهَذا تَقْرِيرٌ أنَّهُ نَزَلَ عَلى قَلْبِهِ لِنُزُولِهِ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. انْتَهى. وفِيهِ تَطْوِيلٌ. وإنَّهُ، أيِ القُرْآنَ ﴿لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ﴾ أيْ مَذْكُورٌ في الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ القَدِيمَةِ، مُنَبَّهٌ عَلَيْهِ مُشارٌ إلَيْهِ. وقِيلَ: إنَّ مَعانِيَهُ فِيها، وبِهِ يُحْتَجُّ لِأبِي حَنِيفَةَ في جَوازِ القِراءَةِ بِالفارِسِيَّةِ في الصَّلاةِ، عَلى (p-٤١)أنَّ القُرْآنَ قُرْآنٌ إذا تُرْجِمَ بِغَيْرِ العَرَبِيَّةِ، حَيْثُ قِيلَ: ﴿وإنَّهُ لَفي زُبُرِ الأوَّلِينَ﴾ لِكَوْنِ مَعانِيهِ فِيها. وقِيلَ: الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أيْ إنَّ ذِكْرَهُ ورِسالَتَهُ في الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ المُتَقَدِّمَةِ، يَكُونُ التِفاتًا، إذْ خَرَجَ مِن ضَمِيرِ الخِطابِ في قَوْلِهِ: ﴿عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ﴾ إلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ، وكَذَلِكَ قِيلَ في أنْ يُعْلِمَهُ، أيْ أنْ يُعْلِمَ مُحَمَّدًا ﷺ، وتَناسُقُ الضَّمائِرِ لِشَيْءٍ واحِدٍ أوْضَحُ. وقَرَأ الأعْمَشُ: لَفي زُبْرِ، بِسُكُونِ الباءِ، والأصْلُ الضَّمُّ، ثُمَّ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم كانَ يَنْبَغِي أنْ يُصَحِّحَ عِنْدَهم أمْرَهُ كَوْنُ عُلَماءِ بَنِي إسْرائِيلَ يَعْلَمُونَهُ، أيْ أوَلَمْ يَكُنْ لَهم عَلامَةٌ عَلى صِحَّتِهِ عِلْمُ بَنِي إسْرائِيلَ بِهِ ؟ إذْ كانَتْ قُرَيْشٌ تَرْجِعُ في كَثِيرٍ مِنَ الأُمُورِ النَّقْلِيَّةِ إلى بَنِي إسْرائِيلَ، ويَسْألُونَهم عَنْها ويَقُولُونَ: هم أصْحابُ الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ. وقَدْ تَهَوَّدَ كَثِيرٌ مِنَ العَرَبِ وتَنَصَّرَ كَثِيرٌ، لِاعْتِقادِهِمْ في صِحَّةِ دِينِهِمْ. وذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، أنَّ أهْلَ مَكَّةَ بَعَثُوا إلى أحْبارِ يَثْرِبَ يَسْألُونَهم عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فَقالُوا: هَذا زَمانُهُ، ووَصَفُوا نَعْتَهُ، وخَلَطُوا في أمْرِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ، ويُؤَيِّدُ هَذا كَوْنُ الآيَةِ مَكِّيَّةً. وقالَ مُقاتِلٌ: هي مَدَنِيَّةٌ. ﴿عُلَماءُ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ ونَحْوُهُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ، وذَلِكَ أنَّ جَماعَةً مِنهم أسْلَمُوا ونَصُّوا عَلى مَواضِعَ مِنَ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ ذُكِرَ فِيها الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ تَعالى: ﴿وإذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنّا بِهِ إنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّنا﴾ [القصص: ٥٣] الآيَةَ. وقِيلَ: عُلَماؤُهم مَن أسْلَمَ مِنهم ومَن لَمْ يُسْلِمْ. وقِيلَ: أنْبِياؤُهم، حَيْثُ نَبَّهُوا عَلَيْهِ وأخْبَرُوا بِصِفَتِهِ وزَمانِهِ ومَكانِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿أوَلَمْ يَكُنْ﴾ بِالياءِ مِن تَحْتُ (آيَةً) بِالنَّصْبِ، وهي قِراءَةٌ واضِحَةُ الإعْرابِ تَوَسَّطَ خَبَرُ يَكُنْ، و﴿أنْ يَعْلَمَهُ﴾ هو الِاسْمُ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، والجَحْدَرِيُّ: تَكُنْ بِالتّاءِ مِن فَوْقُ، ”آيَةٌ“: بِالرَّفْعِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلَتْ ”آيَةٌ“ اسْمًا، وأنْ يَعْلَمَهُ خَبَرًا، ولَيْسَتْ كالأُولى لِوُقُوعِ النَّكِرَةِ اسْمًا والمَعْرِفَةِ خَبَرًا، وقَدْ خُرِّجَ لَها وجْهٌ آخَرُ لِيُتَخَلَّصَ مِن ذَلِكَ، فَقِيلَ: في تَكُنْ ضَمِيرُ القِصَّةِ، و”آيَةً أنْ يَعْلَمَهُ“ جُمْلَةٌ واقِعَةٌ مَوْقِعَ الخَبَرِ، ويَجُوزُ عَلى هَذا أنْ يَكُونَ ”لَهم آيَةً“ جُمْلَةُ الشَّأْنِ، و”أنْ يَعْلَمَهُ“ بَدَلًا مِن ”آيَةً“ . انْتَهى. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: تَكُنْ بِالتّاءِ مِن فَوْقُ، ”آيَةً“ بِالنَّصْبِ، كَقِراءَةِ مَن قَرَأ: ثُمَّ (لَمْ تَكُنْ) بِتاءِ التَّأْنِيثِ ﴿فِتْنَتَهُمْ﴾ [الأنعام: ٢٣] بِالنَّصْبِ، إلّا أنْ قالُوا، وكَقَوْلِ لَبِيَدٍ: ؎فَمَضى وقَدَّمَها وكانَتْ عادَةً مِنهُ إذا هي عَرَّدَتْ إقْدامُها ودَلَّ ذَلِكَ إمّا عَلى تَأْنِيثِ الِاسْمِ لِتَأْنِيثِ الخَبَرِ، وإمّا لِتَأْوِيلِ ”أنْ يَعْلَمَهُ“ بِالمَعْرِفَةِ، وتَأْوِيلِ (إلّا أنْ قالُوا) بِالمَقالَةِ، وتَأْوِيلِ الإقْدامِ بِالإقْدامَةِ. وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ: ”أنْ تَعْلَمَهُ“ بِتاءِ التَّأْنِيثِ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎قالَتْ بَنُو عامِرٍ خالُوا بَنِي أسَدٍ ∗∗∗ يا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضَرّارًا لِأقْوامِ وكُتِبَ في المُصْحَفِ: ”عُلَمَؤُا“ بِواوٍ بَيْنَ المِيمِ والألِفِ. قِيلَ: عَلى لُغَةِ مَن يُمِيلُ ألِفَ ”عُلَمَؤُا“ إلى الواوِ، كَما كَتَبُوا ”الصَّلَوةَ والزَّكَوةَ والرِّبَوا“ عَلى تِلْكَ اللُّغَةِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الأعْجَمِي الَّذِي لا يُفْصِحُ، وفي لِسانِهِ عُجْمَةٌ واسْتِعْجامٌ، والأعْجَمِيُّ مِثْلُهُ إلّا أنَّ فِيهِ لِزِيادَةِ ياءِ النِّسْبَةِ زِيادَةَ تَوْكِيدٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الأعْجَمُونَ جَمْعُ أعْجَمَ، وهو الَّذِي لا يُفْصِحُ، وإنْ كانَ عَرَبِيَّ النَّسَبِ يُقالُ لَهُ أعْجَمُ، وذَلِكَ يُقالُ لِلْحَيَواناتِ والجَماداتِ، ومِنهُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «جُرْحُ العَجْماءِ جُبارٌ» . وأسْنَدَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ أنَّهُ قالَ حِينَ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ وهو واقِفٌ بِعَرَفَةَ: ”جَمَلِي هَذا أعْجَمُ، فَلَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ ما كانُوا يُؤْمِنُونَ“ . والعَجَمِيُّ هو الَّذِي نِسْبَتُهُ في العَجَمِ، وإنْ كانَ أفْصَحَ النّاسِ. انْتَهى. وفي التَّحْرِيرِ: ﴿الأعْجَمِينَ﴾ جَمْعُ أعْجَمَ عَلى التَّخْفِيفِ، ولَوْلا هَذا التَّقْدِيرُ لَمْ يَجُزْ أنْ يُجْمَعَ جَمْعَ سَلامَةٍ. قِيلَ: والمَعْنى ولَوْ نَزَّلْناهُ بِلُغَةِ العَجَمِ عَلى رَجُلٍ أعْجَمِيٍّ فَقَرَأهُ عَلى العَرَبِ، لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، حَيْثُ لَمْ يَفْهَمُوهُ، واسْتَنْكَفُوا مِنَ اتِّباعِهِ. وقِيلَ: ولَوْ نَزَّلْنا القُرْآنَ (p-٤٢)عَلى بَعْضِ العَجَمِ مِنَ الدَّوابِّ فَقَرَأهُ عَلَيْهِمْ، لَمْ يُؤْمِنُوا، لِعِنادِهِمْ لِقَوْلِهِ - تَعالى -: ﴿ولَوْ أنَّنا نَزَّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ﴾ [الأنعام: ١١١] الآيَةَ، وجُمِعَ جَمْعَ السَّلامَةِ، لِأنَّهُ وُصِفَ بِالإنْزالِ عَلَيْهِ والقِراءَةِ، وهو فِعْلُ العُقَلاءِ. وقِيلَ: ولَوْ نَزَلَ عَلى بَعْضِ البَهائِمِ، فَقَرَأهُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ ﷺ لَمْ تُؤْمِنِ البَهائِمُ، كَذَلِكَ هَؤُلاءِ لِأنَّهم: ﴿كالأنْعامِ بَلْ هم أضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٤٤] انْتَهى. ولَمّا بَيَّنَ بِما تَقَدَّمَ، مِن أنَّ هَذا القُرْآنَ في كُتُبِ الأوَّلِينَ، وأنَّ عُلَماءَ بَنِي إسْرائِيلَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وكانَ في ذَلِكَ دَلِيلانِ عَلى صِدْقِ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَيَّنَ أنَّ هَؤُلاءِ الكُفّارَ لا تُجْدِي فِيهِمُ الدَّلائِلُ. ألا تَرى نُزُولَهُ عَلى رَجُلٍ عَرَبِيٍّ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ، وسَمِعُوهُ وفَهِمُوهُ وأدْرَكُوا إعْجازَهُ وتَصْدِيقَ كُتُبِ اللَّهِ القَدِيمَةِ لَهُ، ومَعَ ذَلِكَ جَحَدُوا وسَمَّوْهُ تارَةً شِعْرًا وتارَةً سِحْرًا ؟ ولَوْ نَزَلَ عَلى بَعْضِ الأعاجِمِ الَّذِي لا يُحْسِنُ العَرَبِيَّةَ، لَكَفَرُوا بِهِ وتَمَحَّلُوا بِجُحُودِهِ. وقالَ الفَرّاءُ: الأعْجَمِينَ جَمْعُ أعْجَمَ أوْ أعْجَمِيٍّ، عَلى حَذْفِ ياءِ النَّسَبِ، كَما قالُوا: الأشْعَرِينَ، وواحِدُهم أشْعَرِيٌّ. وقالَ ابْنُ الجَهْمِ: قالَ الكُمَيْتُ: ؎ولَوْ جَهَّزْتُ قافِيَةً شَرُودًا ∗∗∗ لَقَدْ دَخَلَتْ بُيُوتَ الأشْعَرَيْنا انْتَهى. وقَرَأ الحَسَنُ، وابْنُ مِقْسَمٍ: ”الأعْجَمِيِّينَ“، بِياءِ النَّسَبِ: جَمْعُ أعْجَمِيٍّ. والضَّمِيرُ في ﴿سَلَكْناهُ﴾ الظّاهِرُ أنَّهُ عائِدٌ عَلى ما عادَتْ عَلَيْهِ الضَّمائِرُ. قِيلَ: وهو القُرْآنُ، وقالَهُ الرُّمّانِيُّ. والمَعْنى: مِثْلُ ذَلِكَ السَّلْكِ، وهو الإدْخالُ والتَّمْكِينُ والتَّفْهِيمُ لِمَعانِيهِ. ﴿سَلَكْناهُ﴾ أدْخَلْناهُ ومَكَّنّاهُ في ﴿قُلُوبِ المُجْرِمِينَ﴾ . والمَعْنى: ما تَرَتَّبَ عَلى ذَلِكَ السَّلْكِ مِن كَوْنِهِمْ فَهِمُوهُ وأدْرَكُوهُ، ولَمْ يَزِدْهم ذَلِكَ إلّا عِنادًا وجُحُودًا وكُفْرًا بِهِ، أيْ عَلى مِثْلِ هَذِهِ الحالَةِ وهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الكُفْرِ بِهِ والتَّكْذِيبِ لَهُ، كَما وضَعْناهُ فِيها. فَكَيْفَ ما يُرامُ إيمانُهم بِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ ؟ وأعْماهم عَلَيْهِ مِنَ الإنْكارِ والجُحُودِ، كَما قالَ: ﴿ولَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتابًا في قِرْطاسٍ﴾ [الأنعام: ٧] الآيَةَ. وقالَ الكِرْمانِيُّ: أدْخَلْناهُ فِيها، فَعَرَفُوا مَعانِيَهُ، وعَجْزَهم عَنِ الإتْيانِ بِمِثْلِهِ، ولَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وقالَ يَحْيَـى بْنُ سَلّامٍ: الضَّمِيرُ في سَلَكْناهُ يَعُودُ عَلى التَّكْذِيبِ، فَذَلِكَ الَّذِي مَنَعَهم مِنَ الإيمانِ. انْتَهى. ويُقَوِّيهِ قَوْلُهُ: ﴿فَقَرَأهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ . وقالَ الحَسَنُ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلى الكُفْرِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: ﴿ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ . انْتَهى. وهو قَرِيبٌ مِنَ القَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ. وقالَ عِكْرِمَةُ: سَلَكْناهُ، أيِ القَسْوَةَ، وأسْنَدَ السَّلْكَ - تَعالى - إلَيْهِ؛ لِأنَّهُ هو مُوجِدُ الأشْياءِ حَقِيقَةً، وهو الهادِي وخالِقُ الضَّلالِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ أسْنَدَ السَّلْكَ بِصِفَةِ التَّكْذِيبِ إلى ذاتِهِ ؟ (قُلْتُ): أرادَ بِهِ الدَّلالَةَ عَلى تَمَكُّنِهِ مُكَذَّبًا في قُلُوبِهِمْ أشَدَّ التَّمْكِينِ وأثْبَتَهُ، فَجَعَلَهُ بِمَنزِلَةِ أمْرٍ قَدْ جُبِلُوا عَلَيْهِ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِمْ: هو مَجْبُولٌ عَلى الشُّحِّ ؟ يُرِيدُونَ تَمَكُّنَ الشُّحِّ فِيهِ، لِأنَّ الأُمُورَ الخِلْقِيَّةَ أثْبَتُ مِنَ العارِضَةِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ أسْنَدَ تَرْكَ الإيمانِ بِهِ إلَيْهِمْ عَلى عَقِبِهِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ بِهِ. انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ والتَّشْبِيهِ بَيْنَ السَّلْكَيْنِ، يَقْتَضِي تَغايُرَ مَن حَلَّ بِهِ. والمَعْنى: مِثْلُ ذَلِكَ السَّلْكِ في قُلُوبِ قُرَيْشٍ، سَلَكْناهُ في قُلُوبِ مَن أجْرَمَ، لِاشْتِراكِهِما في عِلَّةِ السَّلْكِ وهو الإجْرامُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أرادَ بِهِمْ مُجْرِمِي كُلِّ أُمَّةٍ، أيْ إنَّ هَذِهِ عادَةُ اللَّهِ فِيهِمْ، أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يَرَوُا العَذابَ، فَلا يَنْفَعُهُمُ الإيمانُ بَعْدَ تَلَبُّسِ العَذابِ بِهِمْ، وهَذا عَلى جِهَةِ المِثالِ لِقُرَيْشٍ، أيْ هَؤُلاءِ كَذَلِكَ، وكَشْفُ الغَيْبِ بِما تَضَمَّنَتْهُ الآيَةُ يَوْمَ بَدْرٍ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): ما مَوْقِعُ ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ مِن قَوْلِهِ: ﴿سَلَكْناهُ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ﴾ ؟ (قُلْتُ): مَوْقِعُهُ مِنهُ مَوْقِعُ المُوَضِّحِ والمُلَخِّصِ؛ لِأنَّهُ مَسُوقٌ لِثَباتِهِ، مُكَذَّبًا مَجْحُودًا في قُلُوبِهِمْ، فَأُتْبِعَ بِما يُقَرِّرُ هَذا المَعْنى مِن أنَّهم لا يَزالُونَ عَلى التَّكْذِيبِ بِهِ وجُحُودِهِ حَتّى يُعايِنُوا الوَعِيدَ، ويَجُوزَ أنْ يَكُونَ حالًا، أيْ سَلَكْناهُ فِيها غَيْرَ مُؤْمَنٍ بِهِ. انْتَهى. ورُؤْيَتُهُمُ العَذابَ، قِيلَ: في الدُّنْيا، وقِيلَ: يَوْمَ القِيامَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿فَيَأْتِيَهُمْ﴾ بِياءٍ، أيِ العَذابُ. وقَرَأ الحَسَنُ، وعِيسى: بِتاءِ التَّأْنِيثِ، أنَّثَ عَلى مَعْنى العَذابِ لِأنَّهُ العُقُوبَةُ، أيْ فَتَأْتِيَهُمُ العُقُوبَةُ يَوْمَ القِيامَةِ، كَما قالَ: أتَتْهُ (p-٤٣)كِتابِي، فَلَمّا سُئِلَ قالَ: أوْ لَيْسَ بِصَحِيفَةٍ ؟ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَتَأْتِيَهم بِالتّاءِ، يَعْنِي السّاعَةَ. وقالَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ: أنَّثَ العَذابَ لِاشْتِمالِهِ عَلى السّاعَةِ، فاكْتَسى مِنها التَّأْنِيثَ، وذَلِكَ لِأنَّهم كانُوا يَسْألُونَ عَذابَ القِيامَةِ تَكْذِيبًا بِها، فَلِذَلِكَ أُنِّثَ. ولا يَكْتَسِي المُذَكَّرُ مِنَ المُؤَنَّثِ تَأْنِيثًا إلّا إنْ كانَ مُضافًا إلَيْهِ نَحْوَ: اجْتَمَعَتْ أهْلُ اليَمامَةِ، وقُطِعَتْ بَعْضُ أصابِعِهِ، وشَرَقَتْ صَدْرُ القَناةِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ. وقَرَأ الحَسَنُ: ”بَغَتَةً“، بِفَتْحِ الغَيْنِ، ”فَتَأْتِيَهِمْ“ بِالتّاءِ مِن فَوْقُ، يَعْنِي السّاعَةَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): ما مَعْنى التَّعْقِيبِ في قَوْلِهِ: ﴿فَتَأْتِيَهم بِآيَةٍ﴾ [الأنعام: ٣٥] (قُلْتُ): لَيْسَ المَعْنى يُرادُ بِرُؤْيَةِ العَذابِ ومُفاجَأتِهِ وسُؤالِ النَّظِرَةِ فِيهِ الوُجُودُ، وإنَّما المَعْنى تَرَتُّبُها في الشِّدَّةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: لا يُؤْمِنُونَ بِالقُرْآنِ حَتّى تَكُونَ رُؤْيَتُهُمُ العَذابَ مِمّا هو أشَدُّ مِنها، وهو لُحُوقُهُ بِهِمْ مُفاجَأةً مِمّا هو أشَدُّ مِنهُ، وهو سُؤالُهُمُ النَّظِرَةَ. ومِثْلُ ذَلِكَ أنْ تَقُولَ: إنْ أسَأْتَ مَقَتَكَ الصّالِحُونَ، فَمَقَتَكَ اللَّهُ، فَإنَّكَ لا تَقْصِدُ بِهَذا التَّرْتِيبِ أنَّ مَقْتَ اللَّهِ يُوجَدُ عَقِيبَ مَقْتِ الصّالِحِينَ، وإنَّما قَصْدُكَ إلى تَرْتِيبِ شِدَّةِ الأمْرِ عَلى المُسِيءِ، وأنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ الإساءَةِ مَقْتُ الصّالِحِينَ. فَما هو أشَدُّ مِن مَقْتِهِمْ ؟ وهو مَقْتُ اللَّهِ. ويُرى، ثُمَّ يَقَعُ هَذا في هَذا الأُسْلُوبِ، فَيَحِلُّ مَوْقِعَهُ. انْتَهى. (فَيَقُولُوا) أيْ كُلُّ أُمَّةٍ مُعَذَّبَةٍ: ﴿هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ﴾ أيْ مُؤَخَّرُونَ، وهَذا عَلى جِهَةِ التَّمَنِّي مِنهم والرَّغْبَةِ حَيْثُ لا تَنْفَعُ الرَّغْبَةُ. ثُمَّ رَجَعَ لَفْظُ الآيَةِ إلى تَوْبِيخِ قُرَيْشٍ عَلى اسْتِعْجالِهِمْ عَذابَ اللَّهِ في طَلَبِهِمْ سُقُوطَ السَّماءِ كِسَفًا وغَيْرِ ذَلِكَ، وقَوْلِهِمْ لِلرَّسُولِ: أيْنَ ما تَعِدُنا بِهِ ؟ وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿أفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ تَبْكِيتٌ لَهم بِإنْكارِهِ وتَهَكُّمٌ، ومَعْناهُ: كَيْفَ يَسْتَعْجِلُ العَذابَ مَن هو مُعَرَّضٌ لِعَذابٍ يَسْألُ فِيهِ - مِن جِنْسِ ما هو فِيهِ اليَوْمَ - مِنَ النَّظِرَةِ والإمْهالِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَلا يُجابُ إلَيْها. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هَذا حِكايَةَ تَوْبِيخٍ، يُوَبَّخُونَ بِهِ عِنْدَ اسْتِنْظارِهِمْ يَوْمَئِذٍ، ويَسْتَعْجِلُونَ هَذا عَلى الوَجْهِ، حِكايَةُ حالٍ ماضِيَةٍ ووَجْهٌ آخَرُ مُتَّصِلٌ بِما بَعْدَهُ، وذَلِكَ أنَّ اسْتِعْجالَهم بِالعَذابِ إمّا كانَ لِاعْتِقادِهِمْ أنَّهُ غَيْرُ كائِنٍ ولا لاحِقٍ بِهِمْ، وأنَّهم مُمَتَّعُونَ بِأعْمارٍ طَوالٍ في سَلامَةٍ وأمْنٍ. فَقالَ عَزَّ وعَلا: ﴿أفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ ؟ أشَرًا وبَطَرًا واسْتِهْزاءً واتَّكالًا عَلىَ الأمَلِ الطَّوِيلِ ؟ ثُمَّ قالَ: وهَبْ أنَّ الأمْرَ كَما يَعْتَقِدُونَ مِن تَمَتُّعِهِمْ وتَعْمِيرِهِمْ، فَإذا لَحِقَهُمُ الوَعِيدُ بَعْدَ ذَلِكَ، ما يَنْفَعُهم حِينَئِذٍ ما مَضى مِن طُولِ أعْمارِهِمْ وطِيبِ مَعايِشِهِمْ ؟ انْتَهى. وقِيلَ: أتْبَعَ قَوْلَهُ: ”فَتَأْتِيَهِمْ بَغْتَةً“ بِما يَكُونُ مِنهم عِنْدَ ذَلِكَ عَلى وجْهِ الحَسْرَةِ. ﴿فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ﴾ كَما يَسْتَغِيثُ إلَيْهِ المَرْءُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الخَلاصِ، لِأنَّهم يَعْلَمُونَ في الآخِرَةِ أنْ لا مَلْجَأ، لَكِنَّهم يَقُولُونَ ذَلِكَ اسْتِرْواحًا. وقِيلَ: يَطْلُبُونَ الرَّجْعَةَ حِين يَبْغَتُهم عَذابُ السّاعَةِ، فَلا يُجابُونَ إلَيْها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب