الباحث القرآني
﴿ولا تَبْخَسُوا النّاسَ أشْياءَهُمْ﴾ الجُمْلَةُ والَّتِي تَلِيها تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِما. ولَمّا تَقَدَّمَ أمْرُهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - إيّاهم بِتَقْوى اللَّهِ، أمَرَهم ثانِيًا بِتَقْوى مَن أوَجَدَهم وأوْجَدَ مَن قَبْلَهم، تَنْبِيهًا عَلى أنَّ مَن أوْجَدَهم قادِرٌ عَلى أنْ يُعَذِّبَهم ويُهْلِكَهم. وعَطَفَ عَلَيْهِمْ ﴿والجِبِلَّةَ﴾ إيذانًا بِذَلِكَ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: يُصَيِّرُكم إلى ما صارَ إلَيْهِ أوَّلُوكم، فاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَصِيرُونَ إلَيْهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”والجِبِلَّةَ“ بِكَسْرِ الجِيمِ والباءِ وشَدِّ اللّامِ. وقَرَأ أبُو حَصِينٍ، والأعْمَشُ، والحَسَنُ: بِخِلافٍ عَنْهُ، بِضَمِّها والشَّدِّ لِلّامِ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ: ”والجِبْلَةَ“، بِكَسْرِ الجِيمِ وسُكُونِ الباءِ، وفي نُسْخَةٍ عَنْهُ: فَتْحُ الجِيمِ وسُكُونُ الباءِ، وهي مِن جُبِلُوا عَلى كَذا، أيْ خُلِقُوا. قِيلَ: وتَشْدِيدُ اللّامِ في القِراءَتَيْنِ في بِناءَيْنِ لِلْمُبالِغَةِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: الجِبِلَّةُ: عَشَرَةُ آلافٍ. (وما أنْتَ) جاءَ هُنا بِالواوِ، وفي قِصَّةِ هُودٍ: (ما أنْتَ) بِغَيْرِ واوٍ. فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إذا دَخَلَتِ الواوُ فَقَدْ قُصِدَ مَعْنَيانِ، كِلاهُما مُخالِفٌ لِلرِّسالَةِ عِنْدَهم، التَّسْحِيرُ والبَشَرِيَّةُ، وأنَّ الرَّسُولَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُسَحَّرًا، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَشَرًا، وإذا تُرِكَتِ الواوُ فَلَمْ يُقْصَدْ إلّا مَعْنًى واحِدٌ، وهو كَوْنُهُ مُسَحَّرًا، ثُمَّ قَرَّرَ بِكَوْنِهِ بَشَرًا. انْتَهى.
﴿وإنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الكاذِبِينَ﴾ إنْ هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، واللّامُ في ”لَمِنَ“ هي الفارِقَةُ، خِلافًا لِلْكُوفِيِّينَ، فَـ ”إنْ“ عِنْدَهم نافِيَةٌ واللّامُ بِمَعْنى إلّا، وتَقَدَّمَ الخِلافُ في نَحْوِ ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿وإنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ [البقرة: ١٤٣] في البَقَرَةِ. ثُمَّ طَلَبُوا مِنهُ إسْقاطَ كِسَفٍ، مِنَ السَّماءِ عَلَيْهِمْ، ولَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فالمَعْنى: إنْ كُنْتَ صادِقًا، فادْفَعِ الَّذِي أرْسَلَكَ أنْ يُسْقِطَ عَلَيْنا كِسَفًا، أيْ قِطْعَةً، أوْ قِطَعًا عَلى حَسَبِ التَّسْكِينِ والتَّحْرِيكِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وكِلاهُما جَمْعُ كِسْفَةٍ، نَحْوَ: قِطَعٍ وشِذَرٍ. وقِيلَ: الكِسَفُ والكِسْفَةُ، كالرِّيعِ والرِّيعَةُ، وهي القِطْعَةُ وكِسْفَةٌ: قِطْعَةٌ، والسَّماءُ: السَّحابُ أوِ المِظَلَّةُ. ودَلَّ طَلَبُهم ذَلِكَ عَلى التَّصْمِيمِ عَلى الجُحُودِ والتَّكْذِيبِ. ولَمّا طَلَبُوا مِنهُ ما طَلَبُوا، أحالَ عِلْمَ ذَلِكَ إلى اللَّهِ - تَعالى - وأنَّهُ هو العالِمُ بِأعْمالِكم، وبِما تَسْتَوْجِبُونَ عَلَيْها مِنَ العِقابِ، فَهو يُعاقِبُكم بِما شاءَ.
﴿فَكَذَّبُوهُ فَأخَذَهم عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ﴾ وهو نَحْوٌ مِمّا اقْتَرَحُوا. ولَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ كَيْفِيَّةَ عَذابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، حَتّى إنَّ ابْنَ عَبّاسٍ قالَ: مَن حَدَّثَكَ ما عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ فَقَدْ كَذَبَ، وذَكَرَ في حَدِيثِها تَطْوِيلاتٍ. فَرَوى أنَّهُ حَبَسَ عَنْهُمُ الرِّيحَ سَبْعًا، فابْتُلُوا بِحَرٍّ عَظِيمٍ يَأْخُذُ بِأنْفاسِهِمْ، لا يَنْفَعُهم ظِلٌّ ولا ماءٌ، فاضْطُرُّوا إلى أنْ خَرَجُوا إلى البَرِّيَّةِ، فَأظَلَّتْهم سَحابَةٌ وجَدُوا لَها بَرْدًا ونَسِيمًا، فاجْتَمَعُوا تَحْتَها، فَأمْطَرَتْ (p-٣٩)عَلَيْهِمْ نارًا فَأحْرَقَتْهم. وكَرَّرَ ما كَرَّرَ في أوائِلِ هَذِهِ القَصَصِ، تَنْبِيهًا عَلى أنَّ طَرِيقَةَ الأنْبِياءِ واحِدَةٌ لا اخْتِلافَ فِيها، وهي الدُّعاءُ إلى تَوْحِيدِ اللَّهِ وعِبادَتِهِ ورَفْضِ ما سِواهُ، وأنَّهم ورَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُشْتَرِكُونَ في ذَلِكَ، وأنَّ ما جاءَ بِهِ ﷺ هو ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ قَبْلَهُ، وتِلْكَ عادَةُ الأنْبِياءِ.
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وجاءَتِ الألْفاظُ في دُعاءِ كُلِّ واحِدٍ مِن هَؤُلاءِ الأنْبِياءِ واحِدَةً بِعَيْنِها، إذْ كانَ الإيمانُ المَدْعُوُّ إلَيْهِ مَعْنًى واحِدًا بِعَيْنِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ كَرَّرَ في هَذِهِ السُّورَةِ في أوَّلِ كُلِّ قِصَّةٍ وآخِرِها ما كَرَّرَ ؟ (قُلْتُ): كُلُّ قِصَّةٍ مِنها كَتَنْزِيلٍ بِرَأْسِهِ، وفِيها مِنَ الِاعْتِبارِ مِثْلُ ما في غَيْرِها. فَكانَتْ كُلُّ واحِدَةٍ مِنها تُدْلِي بِحَقٍّ، إلى أنْ تُفْتَتَحَ بِمِثْلِ ما افْتُتِحَتْ بِهِ صاحِبَتُها، وأنْ تُخْتَتَمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِمّا اخْتُتِمَتْ بِهِ، ولِأنَّ التَّكْرِيرَ تَقْرِيرٌ لِلْمَعانِي في النُّفُوسِ، وتَثْبِيتٌ لَها في الصُّدُورِ، ولِأنَّ هَذِهِ القَصَصَ طُرِقَتْ بِهَذا آذانٌ وُقْرٌ عَنِ الإنْصاتِ لِلْحَقِّ، وقُلُوبٌ غُلْفٌ عَنْ تَدَبُّرِهِ، فَأُوثِرَتْ بِالوَعْظِ والتَّذْكِيرِ، ورُوجِعَتْ بِالتَّرْدِيدِ والتَّكْرِيرِ.
{"ayahs_start":183,"ayahs":["وَلَا تَبۡخَسُوا۟ ٱلنَّاسَ أَشۡیَاۤءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِینَ","وَٱتَّقُوا۟ ٱلَّذِی خَلَقَكُمۡ وَٱلۡجِبِلَّةَ ٱلۡأَوَّلِینَ","قَالُوۤا۟ إِنَّمَاۤ أَنتَ مِنَ ٱلۡمُسَحَّرِینَ","وَمَاۤ أَنتَ إِلَّا بَشَرࣱ مِّثۡلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ ٱلۡكَـٰذِبِینَ","فَأَسۡقِطۡ عَلَیۡنَا كِسَفࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِینَ","قَالَ رَبِّیۤ أَعۡلَمُ بِمَا تَعۡمَلُونَ","فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمۡ عَذَابُ یَوۡمِ ٱلظُّلَّةِۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَذَابَ یَوۡمٍ عَظِیمٍ","إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰۖ وَمَا كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّؤۡمِنِینَ","وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ"],"ayah":"قَالُوۤا۟ إِنَّمَاۤ أَنتَ مِنَ ٱلۡمُسَحَّرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق