الباحث القرآني

﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المُرْسَلِينَ إذْ قالَ لَهم أخُوهم لُوطٌ ألا تَتَّقُونَ إنِّي لَكم رَسُولٌ أمِينٌ فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ وما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى رَبِّ العالَمِينَ أتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ العالَمِينَ وتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكم رَبُّكم مِن أزْواجِكم بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المُخْرَجِينَ قالَ إنِّي لِعَمَلِكم مِنَ القالِينَ رَبِّ نَجِّنِي وأهْلِي مِمّا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْناهُ وأهْلَهُ أجْمَعِينَ إلّا عَجُوزًا في الغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنا الآخَرِينَ وأمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَساءَ مَطَرُ المُنْذَرِينَ إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ وإنَّ رَبَّكَ لَهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ . (p-٣٦)”أتَأْتُونَ“: اسْتِفْهامُ إنْكارٍ وتَقْرِيعٍ وتَوْبِيخٍ؛ (والذُّكْرانَ): جَمْعُ ذَكَرٍ، مُقابِلُ الأُنْثى. والإتْيانُ: كِنايَةٌ عَنْ وطْءِ الرِّجالِ، وقَدْ سَمّاهُ - تَعالى - بِالفاحِشَةِ فَقالَ: ﴿أتَأْتُونَ الفاحِشَةَ ما سَبَقَكم بِها مِن أحَدٍ مِنَ العالَمِينَ﴾ [الأعراف: ٨٠] هو مَخْصُوصٌ بِذُكْرانِ بَنِي آدَمَ. وقِيلَ: مَخْصُوصٌ بِالغُرَباءِ. ﴿وتَذَرُونَ ما خَلَقَ﴾ ظاهِرٌ في كَوْنِهِمْ لا يَأْتُونَ النِّساءَ، إمّا البَتَّةَ، وإمّا غَلَبَةً. ﴿ما خَلَقَ لَكم رَبُّكُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى الإباحَةِ بِشَرْطِها. ﴿مِن أزْواجِكُمْ﴾ أيْ مِنَ الإناثِ. ومِن إمّا لِلتَّبْيِينِ لِقَوْلِهِ: ﴿ما خَلَقَ﴾ وإمّا لِلتَّبْعِيضِ: أيِ العُضْوُ المَخْلُوقُ لِلْوَطْءِ، وهو الفَرْجُ، وهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ وتَذَرُونَ إتْيانَ. فَإنْ كانَ ما خَلَقَ لا يُرادُ بِهِ العُضْوُ، فَلا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ مُضافٍ آخَرَ، أيْ وتَذَرُونَ إتْيانَ فَرُوجِ ما خَلَقَ. ﴿بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ﴾ أيْ مُتَجاوِزُونَ الحَدَّ في الظُّلْمِ، وهو إضْرابٌ بِمَعْنى الِانْتِقالِ مِن شَيْءٍ إلى شَيْءٍ، لا أنَّهُ إبْطالٌ لِما سَبَقَ مِنَ الإنْكارِ عَلَيْهِمْ وتَقْبِيحِ أفْعالِهِمْ، واعْتِداؤُهم إمّا في المَعاصِي الَّتِي هَذِهِ المَعْصِيَةُ مِن جُمْلَتِها، أوْ مِن حَيْثُ ارْتِكابُ هَذِهِ الفِعْلَةِ الشَّنِيعَةِ. وجاءَ تَصْدِيرُ الجُمْلَةِ بِضَمِيرِ الخِطابِ تَعْظِيمًا لِقُبْحِ فِعْلِهِمْ وتَنْبِيهًا عَلى أنَّهم هم مُخْتَصُّونَ بِذَلِكَ، كَما تَقُولُ: أنْتَ فَعَلْتَ كَذا، أيْ لا غَيْرُكَ. ولَمّا نَهاهم عَنْ هَذا الفِعْلِ القَبِيحِ تَوَعَّدُوهُ بِالإخْراجِ، وهو النَّفْيُ مِن بَلَدِهِ الَّذِي نَشَأ فِيهِ، أيْ: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ﴾ عَنْ دَعْواكَ النُّبُوَّةَ، وعَنِ الإنْكارِ عَلَيْنا فِيما نَأْتِيهِ مِنَ الذُّكْرانِ، لَنَنْفِيَنَّكَ كَما نَفَيْنا مَن نَهانا قَبْلَكَ. ودَلَّ قَوْلُهُ: ﴿مِنَ المُخْرَجِينَ﴾ عَلى أنَّهُ سَبَقَ مَن نَهاهم عَنْ ذَلِكَ، فَنَفَوْهُ بِسَبَبِ النَّهْيِ، أوْ مِنَ المُخْرَجِينَ بِسَبَبٍ غَيْرِ هَذا السَّبَبِ، كَأنَّهُ مَن خالَفَهم في شَيْءٍ نَفَوْهُ، سَواءٌ كانَ الخِلافُ في هَذا الفِعْلِ الخاصِّ، أمْ في غَيْرِهِ. ﴿قالَ إنِّي لِعَمَلِكُمْ﴾ أيْ لِلْفاحِشَةِ الَّتِي أنْتُمْ تَعْمَلُونَها. و”لِعَمَلِكم“ يَتَعَلَّقُ إمّا بِالقالِينَ، وإنْ كانَ فِيهِ ”أل“، لِأنَّهُ يَسُوغُ في المَجْرُوراتِ والظُّرُوفِ ما لا يَسُوغُ في غَيْرِها، لِاتِّساعِ العَرَبِ في تَقْدِيمِها، حَيْثُ لا يَتَقَدَّمُ غَيْرُها؛ وإمّا بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ ”القالِينَ“ تَقْدِيرُهُ إنِّي قالٍ لِعَمَلِكم، وإمّا أنْ تَكُونَ لِلتَّبْيِينِ أيْ لِعَمَلِكم أعْنِي مِنَ القالِينَ، وكَوْنُهُ بَعْضَ ”القالِينَ“ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يُبْغِضُ هَذا الفِعْلَ ناسٌ غَيْرُهُ هو بَعْضُهم، ونَبَّهَ ذَلِكَ عَلى أنَّ هَذا الفِعْلَ مُوجِبٌ لِلْبُغْضِ حَتّى يُبْغِضَهُ النّاسُ. ”ومِنَ القالِينَ“ أبْلَغُ مِن ”قالٍ“ لِما ذَكَرْنا مِن أنَّ النّاسَ يُبْغِضُونَهُ، ولِتَضَمُّنِهِ أنَّهُ مَعْدُودٌ مِمَّنْ يُبْغِضُهُ. ألا تَرى أنَّ قَوْلَكَ: زَيْدٌ مِنَ العُلَماءِ، أبْلَغُ مِن: زَيْدٌ عالِمٌ، لِأنَّ في ذَلِكَ شَهادَةٌ بِأنَّهُ مَعْدُودٌ في زُمْرَتِهِمْ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: القَلْيُ: البُغْضُ الشَّدِيدُ، كَأنَّهُ بَغَضَ فَقَلى الفُؤادَ والكَبِدَ. انْتَهى. ولا يَكُونُ قَلى بِمَعْنى أبْغَضَ. وقَلا مِنَ الطَّبْخِ؛ والشَّيِّ مِن مادَّةٍ واحِدَةٍ لِاخْتِلافِ التَّرْكِيبِ. فَمادَّةُ قَلا مِنَ الشَّيِّ مِن ذَواتِ الواوِ، وتَقُولُ: قَلَوْتُ اللَّحْمَ فَهو مَقْلُوٌّ. ومادَّةُ قَلى مِنَ البُغْضِ مِن ذَواتِ الياءِ، قَلَيْتُ الرَّجُلَ، فَهو مَقْلِيٌّ. قالَ الشّاعِرُ: ؎ولَسْتُ بِمَقْلِـيِّ الخِـلالِ ولا قَـالِ ولَمّا تَوَعَّدُوهُ بِالإخْراجِ، أخْبَرَهم بِبُغْضِ عَمَلِهِمْ، ثُمَّ دَعا رَبَّهُ فَقالَ: ﴿رَبِّ نَجِّنِي وأهْلِي مِمّا يَعْمَلُونَ﴾ أيْ مِن عُقُوبَةِ ما يَعْمَلُونَ مِنَ المَعاصِي. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ دُعاءً لِأهْلِهِ بِالعِصْمَةِ مِن أنْ يَقَعَ واحِدٌ مِنهم في مِثْلِ فِعْلِ قَوْمِهِ. ودَلَّ دُعاؤُهُ بِالتَّنْجِيَةِ لِأهْلِهِ عَلى أنَّهم كانُوا مُؤْمِنِينَ. ولَمّا كانَتْ زَوْجَتُهُ مُنْدَرِجَةً في الأهْلِ، وكانَ ظاهِرُ دُعائِهِ دُخُولَها في التَّنْجِيَةِ، وكانَتْ كافِرَةً اسْتُثْنِيَتْ في قَوْلِهِ: ﴿فَنَجَّيْناهُ وأهْلَهُ أجْمَعِينَ إلّا عَجُوزًا في الغابِرِينَ﴾ ودَلَّ قَوْلُهُ: عَجُوزًا، عَلى أنَّها قَدْ عَسِيَتْ في الكُفْرِ ودامَتْ فِيهِ إلى أنْ صارَتْ عَجُوزًا. ومِنَ الغابِرِينَ صِفَةٌ، أيْ مِنَ الباقِينَ مِن لِداتِها وأهْلِ بَيْتِها، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ. (p-٣٧)وقالَ قَتادَةُ: مِنَ الباقِينَ في العَذابِ النّازِلِ بِهِمْ. وتَقَدَّمَ القَوْلُ في غَبَرَ، وأنَّهُ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنى بَقِيَ، وهو المَشْهُورُ، وبِمَعْنى مَضى. ونَجاتُهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنْ أمَرَهُ - تَعالى - بِالرِّحْلَةِ لَيْلًا، وكانَتِ امْرَأتُهُ كافِرَةً تُعِينُ عَلَيْهِ قَوْمَهُ، فَأصابَها حَجَرٌ، فَهَلَكَتْ فِيمَن هَلَكَ. قالَ قَتادَةُ: أمْطَرَ اللَّهُ عَلى شُذّاذِ القَوْمِ حِجارَةً مِنَ السَّماءِ فَأهْلَكَهم. وقالَ قَتادَةُ: أتْبَعَ الِائْتِفاكَ مَطَرًا مِنَ الحِجارَةِ. وساءَ: بِمَعْنى بِئْسَ، والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أيْ مَطَرُهم. وقالَ مُقاتِلٌ: خَسَفَ اللَّهُ بِقَوْمِ لُوطٍ، وأرْسَلَ الحِجارَةَ إلى مَن كانَ خارِجًا مِنَ القِرْبَةِ، ولَمْ يَكُنْ فِيها مُؤْمِنٌ إلّا بَيْتُ لُوطٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب