الباحث القرآني

﴿ولَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا في كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا﴾ لَمّا عَلِمَ تَعالى ما كابَدَهُ الرَّسُولُ مِن أذى قَوْمِهِ، أعْلَمَهُ أنَّهُ تَعالى لَوْ أرادَ لَبَعَثَ في كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَيُخَفِّفَ عَنْكَ الأمْرَ، ولَكِنَّهُ أعْظَمَ أجْرَكَ وأجَلَّكَ؛ إذْ جَعَلَ إنْذارَكَ عامًّا لِلنّاسِ كُلِّهِمْ، وخَصَّكَ بِذَلِكَ لِيَكْثُرَ ثَوابُكَ؛ لِأنَّهُ عَلى كَثْرَةِ المُجاهَدَةِ يَكُونُ الثَّوابُ، ولِيَجْمَعَ لَكَ حَسَناتِ مَن آمَنَ بِكَ إذْ أنْتَ مُؤَسِّسُها. ﴿فَلا تُطِعِ الكافِرِينَ﴾ يَعْنِي كُفّارَ قُرَيْشٍ؛ فَإنَّهم كانُوا اسْتَمَعُوا إلَيْهِ ورَغِبُوا أنْ يَرْجِعَ إلى دِينِ آبائِهِمْ ويُمَلِّكُونَهُ عَلَيْهِمْ ويَجْمَعُونَ لَهُ مالًا عَظِيمًا، فَنَهاهُ تَعالى عَنْ طاعَتِهِمْ حَتّى يُظْهِرَ لَهم أنَّهُ لا رَغْبَةَ لَهُ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، لَكِنَّ رَغْبَتَهُ في الدُّعاءِ إلى اللَّهِ والإيمانِ بِهِ. ﴿وجاهِدْهم بِهِ﴾ أيِ القُرْآنِ أوْ بِالإسْلامِ أوْ بِالسَّيْفِ أوْ بِتَرْكِ طاعَتِهِمْ، و(جِهادًا) مَصْدَرٌ وُصِفَ بِـ (كَبِيرًا)؛ لِأنَّهُ يَلْزَمُهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مُجاهَدَةُ جَمِيعِ العالَمِ، فَهو جِهادٌ كَبِيرٌ. و(مَرَجَ) خَلَطَ بَيْنَهُما أوْ أفاضَ أحَدَهُما في الآخَرِ أوْ أجْراهُما؛ أقْوالٌ، والظّاهِرُ أنَّهُ يُرادُ بِالبَحْرَيْنِ الماءُ الكَثِيرُ العَذْبُ والماءُ الكَثِيرُ المِلْحُ. وقِيلَ: بَحْرانِ مُعَيَّنانِ. فَقِيلَ: بَحْرُ فارِسَ، وبَحْرُ الرُّومِ. وقِيلَ: بَحْرُ السَّماءِ وبَحْرُ الأرْضِ يَلْتَقِيانِ في كُلِّ عامٍ؛ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقالَ مُجاهِدٌ: مِياهُ الأنْهارِ الواقِعَةُ في البَحْرِ الأُجاجِ، وهَذا قَرِيبٌ مِنَ القَوْلِ الأوَّلِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والمَقْصِدُ بِالآيَةِ التَّنْبِيهُ عَلى قُدْرَةِ اللَّهِ وإتْقانِ خَلْقِهِ لِلْأشْياءِ، في أنْ بَثَّ في الأرْضِ مِياهًا عَذْبَةً كَثِيرَةً مِنَ الأنْهارِ والعُيُونِ والآبارِ وجَعَلَها خِلالَ الأُجاجِ، وجَعَلَ الأُجاجَ خِلالَها فَتَرى البَحْرَ قَدِ اكْتَنَفَتْهُ المِياهُ العَذْبَةُ في ضَفَّتَيْهِ، ويُلْقى الماءُ البَحْرُ في الجَزائِرِ ونَحْوِها قَدِ اكْتَنَفَهُ الماءُ الأُجاجُ، والبَرْزَخُ والحِجْرُ ما حَجَزَ بَيْنَهُما مِنَ الأرْضِ والسَّدِّ؛ قالَهُ الحَسَنُ. ويَتَمَشّى هَذا عَلى قَوْلِ مَن قالَ: إنَّ (مَرَجَ) بِمَعْنى أجْرى. وقِيلَ: البَرْزَخُ البِلادُ والقِفارُ فَلا يَخْتَلِفانِ إلّا بِزَوالِ الحاجِزِ يَوْمَ القِيامَةِ. قالَ الأكْثَرُونَ: الحاجِزُ مانِعٌ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ. قالَ الزَّجّاجُ: فَهُما مُخْتَلِطانِ في مَرائِي العَيْنِ مُنْفَصِلانِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ، وسَوادُ البَصْرَةِ يَنْحَدِرُ الماءُ العَذْبُ مِنهُ في دِجْلَةَ نَحْوَ البَحْرِ، ويَأْتِي المَدُّ مِنَ البَحْرِ (p-٥٠٧)فَيَلْتَقِيانِ مِن غَيْرِ اخْتِلاطٍ فَماءُ البَحْرِ إلى الخُضْرَةِ الشَّدِيدَةِ، وماءُ دِجْلَةَ إلى الحُمْرَةِ، فالمُسْتَقِي يَغْرِفُ مِن ماءِ دِجْلَةَ عِنْدَنا لا يُخالِطُهُ شَيْءٌ، ونِيلُ مِصْرَ في فَيْضِهِ يَشُقُّ البَحْرَ المالِحَ شَقًّا بِحَيْثُ يَبْقى نَهْرًا جارِيًا أحْمَرَ في وسَطِ المالِحِ لِيَسْتَقِيَ النّاسُ مِنهُ، وتُرى المِياهُ قِطَعًا في وسَطِ البَحْرِ المالِحِ فَيَقُولُونَ: هَذا ماءٌ ثَلِجٌ فَيَسْقُونَ مِنهُ مِن وسَطِ البَحْرِ. وقَرَأ طَلْحَةُ وقُتَيْبَةُ عَنِ الكِسائِيِّ (مَلِحٌ) بِفَتْحِ المِيمِ وكَسْرِ اللّامِ، وكَذا في فاطِرٍ. قالَ أبُو حاتِمٍ: وهَذا مُنْكَرٌ في القِراءَةِ. وقالَ أبُو الفَتْحِ أرادَ مالِحًا وحَذَفَ الألِفَ، كَما حُذِفَتْ مِن بَرَدٍ، أيْ: بارِدٌ. وقالَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ في كِتابِ اللَّوامِحِ: هي لُغَةٌ شاذَّةٌ قَلِيلَةٌ. وقِيلَ: أرادَ مالِحٌ فَقَصَرَهُ بِحَذْفِ الألِفِ، فالمالِحُ جائِزٌ في صِفَةِ الماءِ؛ لِأنَّ الماءَ يُوجَدُ في الضِّفْيانِ بِأنْ يَكُونَ مَمْلُوحًا مِن جِهَةِ غَيْرِهِ، ومالِحًا لِغَيْرِهِ، وإنْ كانَ مِن صِفَتِهِ أنْ يُقالَ: ماءٌ مِلْحٌ مَوْصُوفٌ بِالمَصْدَرِ، أيْ: ماءٌ ذُو مِلْحٍ، فالوَصْفُ بِذَلِكَ مِثْلُ حِلْفٍ ونِضْوٍ مِنَ الصِّفاتِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): ﴿حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ [الفرقان: ٢٢] ما مَعْناهُ ؟ (قُلْتُ): هي الكَلِمَةُ الَّتِي يَقُولُها المُتَعَوِّذُ، وقَدْ فَسَّرْناها، وهي هاهُنا واقِعَةٌ عَلى سَبِيلِ المَجازِ، كَأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ البَحْرَيْنِ مُتَعَوِّذٌ مِن صاحِبِهِ ويَقُولُ لَهُ: ﴿حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ [الفرقان: ٢٢]، كَما قالَ: ﴿لا يَبْغِيانِ﴾ [الرحمن: ٢٠]، أيْ: لا يَبْغِي أحَدُهُما عَلى صاحِبِهِ بِالمُمازَجَةِ، فانْتِفاءُ البَغْيِ ثَمَّ كالتَّعَوُّذِ هاهُنا جَعَلَ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما في صُورَةِ الباغِي عَلى صاحِبِهِ، فَهو يَتَعَوَّذُ مِنهُ وهي مِن أحْسَنِ الِاسْتِعاراتِ وأشْهَدِها عَلى البَلاغَةِ، انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ ﴿حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ [الفرقان: ٢٢] مَعْطُوفٌ عَلى ﴿بَرْزَخًا﴾ عَطْفَ المَفْعُولِ عَلى المَفْعُولِ، وكَذا أعْرَبَهُ الحَوْفِيُّ، وعَلى ما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يَكُونُ ذَلِكَ عَلى إضْمارِ القَوْلِ المَجازِيِّ، أيْ: ويَقُولانِ - أيْ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما لِصاحِبِهِ -: ﴿حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ [الفرقان: ٢٢] . والظّاهِرُ عُمُومُ البَشَرِ، وهم بَنُو آدَمَ، والبَشَرُ يَنْطَلِقُ عَلى الواحِدِ والجَمْعِ. وقِيلَ: المُرادُ بِالنَّسَبِ آدَمُ وبِالصِّهْرِ حَوّاءُ. وقِيلَ: النَّسَبُ البَنُونَ والصِّهْرُ البَناتُ، و(مِنَ الماءِ) إمّا النُّطْفَةُ، وإمّا أنَّهُ أصْلُ خِلْقَةِ كُلِّ حَيٍّ، والنَّسَبُ والصِّهْرُ يَعُمّانِ كُلَّ قُرْبى بَيْنَ آدَمِيَّيْنِ، فالنَّسَبُ أنْ يَجْتَمِعَ مَعَ آخَرَ في أبٍ وأُمٍّ قَرُبَ ذَلِكَ أوْ بَعُدَ، والصِّهْرُ هو نَواشِجُ المُناكَحَةِ. وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ: النَّسَبُ ما لا يَحِلُّ نِكاحُهُ، والصِّهْرُ قَرابَةُ الرَّضاعِ. وعَنْ طاوُسٍ: الرَّضاعَةُ مِنَ الصِّهْرِ. وعَنْ عَلِيٍّ: الصِّهْرُ ما يَحِلُّ نِكاحُهُ، والنَّسَبُ ما لا يَحِلُّ نِكاحُهُ. وقالَ الضَّحّاكُ: الصِّهْرُ قَرابَةُ الرَّضاعِ. وقالَ ابْنُ سِيرِينَ: نَزَلَتْ في النَّبِيِّ ﷺ وعَلِيٍّ؛ لِأنَّهُ جَمَعَهُ مَعَهُ نَسَبٌ وصِهْرٌ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فاجْتِماعُهُما وكادَةُ حُرْمَةٍ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. ﴿وكانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾ حَيْثُ خَلَقَ مِنَ النُّطْفَةِ الواحِدَةِ بَشَرًا نَوْعَيْنِ: ذَكَرًا وأُنْثى. ولَمّا ذَكَرَ دَلائِلَ قُدْرَتِهِ، وما امْتَنَّ بِهِ عَلى عِبادِهِ مِن غَرائِبِ مَصْنُوعاتِهِ، ثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّهُ المُسْتَحِقُّ لِلْعِبادَةِ؛ لِنَفْعِهِ وضُرِّهِ بَيْنَ فَسادِ عُقُولِ المُشْرِكِينَ حَيْثُ يَعْبُدُونَ الأصْنامَ. والظّاهِرُ أنَّ الكافِرَ اسْمُ جِنْسٍ فَيَعُمُّ. وقِيلَ: هو أبُو جَهْلٍ والآيَةُ نَزَلَتْ فِيهِ. وقالَ عِكْرِمَةُ: الكافِرُ هَنا إبْلِيسُ، والظَّهِيرُ والمَظاهِرُ كالمُعِينِ والمُعاوِنِ؛ قالَهُ مُجاهِدٌ والحَسَنُ وابْنُ زَيْدٍ، وفَعِيلٌ بِمَعْنى مُفاعِلٍ كَثِيرٌ، والمَعْنى أنَّ الكافِرَ يُعاوِنُ الشَّيْطانَ عَلى رَبِّهِ بِالعَداوَةِ والشَّرِيكِ. وقِيلَ: مَعْناهُ وكانَ الَّذِي يَفْعَلُ هَذا الفِعْلَ وهو عِبادَةُ ما لا يَنْفَعُ ولا يَضُرُّ عَلى رَبِّهِ هَيِّنًا مَهِينًا، مِن قَوْلِهِمْ: ظَهَرْتُ بِهِ إذا خَلَّفْتَهُ خَلْفَ ظَهْرِكَ لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وهَذا نَحْوُ قَوْلِهِ: ﴿أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: ٧٧] الآيَةَ، قالَهُ الطَّبَرِيُّ. وقِيلَ: (عَلى رَبِّهِ) أيْ: مُعِينًا عَلى أوْلِياءِ اللَّهِ. وقِيلَ: مُعِينًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلى أنْ لا يُوَحَّدَ اللَّهُ. ﴿وما أرْسَلْناكَ إلّا مُبَشِّرًا ونَذِيرًا﴾ سَلّى نَبِيَّهُ بِذَلِكَ، أيْ: لا تَهْتَمَّ بِهِمْ، ولا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ، وإنَّما أنْتَ رَسُولٌ تُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ بِالجَنَّةِ وتُنْذِرُ الكَفَرَةَ بِالنّارِ، ولَسْتَ بِمَطْلُوبٍ بِإيمانِهِمْ أجْمَعِينَ. ثُمَّ أمَرَهُ تَعالى أنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ مُزِيلًا لِوُجُوهِ التُّهَمِ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ ما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ﴾، أيْ: لا أطْلُبُ مالًا ولا نَفْعًا يَخْتَصُّ بِي. والضَّمِيرُ في (عَلَيْهِ) عائِدٌ عَلى التَّبْشِيرِ والإنْذارِ، أوْ عَلى القُرْآنِ، أوْ عَلى (p-٥٠٨)إبْلاغِ الرِّسالَةِ، أقْوالٌ. والظّاهِرُ في (إلّا مَن شاءَ) أنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، وقالَهُ الجُمْهُورُ. فَعَلى هَذا قِيلَ بِعِبادِهِ لَكِنْ مَن شاءَ أنْ يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا فَلْيَفْعَلْ. وقِيلَ: لَكِنْ مَن أنْفَقَ في سَبِيلِ اللَّهِ ومُجاهَدَةِ أعْدائِهِ فَهو مَسْئُولِي. وقِيلَ: هو مُتَّصِلٌ عَلى حَذْفِ مُضافٍ تَقْدِيرُهُ: إلّا أجْرَ مَنِ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا، أيْ: إلّا أجْرَ مَن آمَنَ، أيِ: الأجْرَ الحاصِلَ لِي عَلى دُعائِهِ إلى الإيمانِ وقَبُولِهِ، لِأنَّهُ تَعالى يَأْجُرُنِي عَلى ذَلِكَ. وقِيلَ: إلّا أجْرَ مَن آمَنَ، يَعْنِي بِالأجْرِ الإنْفاقَ في سَبِيلِ اللَّهِ، أيْ: لا أسْألُكم أجْرًا إلّا الإنْفاقَ في سَبِيلِ اللَّهِ، فَجَعَلَ الإنْفاقَ أجْرًا. ولَمّا أخْبَرَ أنَّهُ فَطَمَ نَفْسَهُ عَنْ سُؤالِهِمْ شَيْئًا أمَرَهُ تَعالى تَفْوِيضَ أمْرِهِ إلَيْهِ، وثِقَتَهُ بِهِ، واعْتِمادَهُ عَلَيْهِ؛ فَهو المُتَكَفِّلُ بِنَصْرِهِ وإظْهارِ دِينِهِ. ووَصَفَ تَعالى نَفْسَهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّوَكُّلَ في قَوْلِهِ: ﴿الحىِّ الَّذِى لا يَمُوتُ﴾؛ لِأنَّ هَذا المَعْنى يَخْتَصُّ بِهِ تَعالى دُونَ كُلِّ حَيٍّ، كَما قالَ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨]، وقَرَأ بَعْضُ السَّلَفِ هَذِهِ الآيَةَ فَقالَ: لا يَصِحُّ لِذِي عَقْلٍ أنْ يَثِقَ بَعْدَها بِمَخْلُوقٍ، ثُمَّ أمَرَهُ بِتَنْزِيهِهِ وتَمْجِيدِهِ مَقْرُونًا بِالثَّناءِ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ التَّنْزِيهَ مَحَلُّهُ اعْتِقادُ القَلْبِ، والمَدْحَ مَحَلُّهُ اللِّسانُ المُوافِقُ لِلِاعْتِقادِ. وفي الحَدِيثِ: «مَن قالَ: سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ ولَوْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ» . وهي الكَلِمَتانِ الخَفِيفَتانِ عَلى اللِّسانِ الثَّقِيلَتانِ في المِيزانِ، ﴿وكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا﴾، أرادَ أنَّهُ لَيْسَ إلَيْهِ مِن أُمُورِ عِبادِهِ شَيْءٌ آمَنُوا أمْ كَفَرُوا، وأنَّهُ خَبِيرٌ بِأحْوالِهِمْ، كافٍ في جَزاءِ أعْمالِهِمْ. وفي هَذِهِ الجُمْلَةِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ ووَعِيدٌ لِلْكافِرِ. وفي بَعْضِ الأخْبارِ: كَفى بِكَ ظَفَرًا أنْ يَكُونَ عَدُوُّكَ عاصِيًا، وهي كَلِمَةٌ يُرادُ بِها المُبالَغَةُ، تَقُولُ: كَفى بِالعِلْمِ جَمالًا. وكَفى بِالأدَبِ مالًا، أيْ: حَسْبُكَ لا تَحْتاجُ مَعَهُ إلى غَيْرِهِ؛ لِأنَّهُ خَبِيرٌ بِأحْوالِهِمْ، قادِرٌ عَلى مُكافَأتِهِمْ. ولَمّا أمَرَهُ بِالتَّوَكُّلِ والتَّسْبِيحِ، وذَكَرَ صِفَةَ الحَياةِ الدّائِمَةِ ذَكَرَ ما دَلَّ عَلى القُدْرَةِ التّامَّةِ، وهو إيجادُ هَذا العالَمِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في نَظِيرِ هَذا الكَلامِ، واحْتَمَلَ (الَّذِى) أنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ. ويَتَعَيَّنُ عَلى قِراءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ (الرَّحْمَنِ) بِالجَرِّ، وأمّا عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ (الرَّحْمَنُ)، بِالرَّفْعِ، فَإنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ (الَّذِى) صِفَةً لِلْحَيِّ و(الرَّحْمَنُ) خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ (الَّذِى) مُبْتَدَأً و(الرَّحْمَنُ) خَبَرَهُ. وأنْ يَكُونَ (الَّذِى) خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، و(الرَّحْمَنُ) صِفَةً لَهُ. أوْ يَكُونَ (الَّذِى) مَنصُوبًا عَلى إضْمارِ أعْنِي، ويَجُوزُ عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ أنْ يَكُونَ (الرَّحْمَنُ) مُبْتَدَأً. و(فاسْألْ) خَبَرَهُ، تَخْرِيجُهُ عَلى حَدِّ قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎وقائِلَةٍ خَوْلانَ فانْكِحْ فَتاتَهُمْ وجَوَّزُوا أيْضًا في (الرَّحْمَنُ) أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في (اسْتَوى) . والظّاهِرُ تَعَلَّقَ بِهِ بِقَوْلِهِ: (فاسْألْ)، وبَقاءُ الباءِ غَيْرَ مُضَمَّنَةٍ مَعْنى عَنْ. و(خَبِيرًا) مِن صِفاتِ اللَّهِ كَما تَقُولُ: لَقِيتُ بِزَيْدٍ أسَدًا ولَقِيتُ بِزَيْدٍ البَحْرَ، تُرِيدُ أنَّهُ هو الأسَدُ شَجاعَةً، والبَحْرُ كَرَمًا. والمَعْنى أنَّهُ تَعالى اللَّطِيفُ العالِمُ الخَبِيرُ، والمَعْنى (فاسْألْ) اللَّهَ الخَبِيرَ بِالأشْياءِ العالِمَ بِحَقائِقِها. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: و(خَبِيرًا) عَلى هَذا مَنصُوبٌ إمّا بِوُقُوعِ السُّؤالِ، وإمّا عَلى الحالِ المُؤَكِّدَةِ. كَما قالَ: ﴿وهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا﴾ [البقرة: ٩١] ولَيْسَتْ هَذِهِ الحالُ مُنْتَقِلَةً إذِ الصِّفَةُ العَلِيَّةُ لا تَتَغَيَّرُ، انْتَهى. وبُنِيَ هَذا الإعْرابُ عَلى أنَّهُ كَما تَقُولُ: لَوْ لَقِيتَ فُلانًا لَلَقِيتَ بِهِ البَحْرَ كَرَمًا، أيْ: لَقِيتَ مِنهُ. والمَعْنى فاسْألِ اللَّهَ عَنْ كُلِّ أمْرِ، وكَوْنُهُ مَنصُوبًا على الحالِ المُؤَكِّدَةِ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ لا يَصِحُّ، إنَّما يَصِحُّ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الباءُ بِمَعْنى عَنْ، أيْ: (فاسْألْ) عَنْهُ (خَبِيرًا)، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎فَإنْ تَسْألُونِي بِالنِّساءِ فَإنَّنِي ∗∗∗ بَصِيرٌ بِأدْواءِ النِّساءِ طَبِيبُ وهُوَ قَوْلُ الأخْفَشِ والزَّجّاجِ. ويَكُونَ (خَبِيرًا) لَيْسَ مِن صِفاتِ اللَّهِ هُنا، كَأنَّهُ قِيلَ: اسْألْ عَنِ الرَّحْمَنِ الخُبَراءَ جِبْرِيلَ والعُلَماءَ وأهْلَ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ، وإنْ جَعَلْتَ (بِهِ) مُتَعَلِّقًا بِخَبِيرًا كانَ المَعْنى (فاسْألْ) عَنِ اللَّهِ الخُبَراءَ بِهِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: مَعْناهُ (فاسْألْ) خَبِيرًا بِهِ، و(بِهِ) يَعُودُ إلى ما ذُكِرَ مِن خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ (p-٥٠٩)والِاسْتِواءِ عَلى العَرْشِ، وذَلِكَ الخَبِيرُ هو اللَّهُ تَعالى؛ لِأنَّهُ لا دَلِيلَ في العَقْلِ عَلى كَيْفِيَّةِ خَلْقِ ذَلِكَ، فَلا يَعْلَمُها إلّا اللَّهُ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: الخَبِيرُ جِبْرِيلُ وقُدِّمَ لِرُءُوسِ الآيِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الباءُ في (بِهِ) صِلَةُ سَلْ، كَقَوْلِهِ: ﴿سَألَ سائِلٌ بِعَذابٍ﴾ [المعارج: ١]، كَما يَكُونُ (عَنْ) صِلَتَهُ في نَحْوِ ﴿ثُمَّ لَتُسْألُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التكاثر: ٨]، أوْ صِلَةُ (خَبِيرًا) بِهِ، فَتَجْعَلُ (خَبِيرًا) مَفْعُولًا، أيْ: فَسَلْ عَنْهُ رَجُلًا عارِفًا يُخْبِرْكَ بِرَحْمَتِهِ، أوْ فَسَلْ رَجُلًا خَبِيرًا بِهِ وبِرَحْمَتِهِ، أوْ فَسَلْ بِسُؤالِهِ خَبِيرًا. كَقَوْلِكَ: رَأيْتُ بِهِ أسَدًا، أيْ: رَأيْتُ بِرُؤْيَتِهِ، والمَعْنى إنْ سَألْتَهُ وجَدْتَهُ خَبِيرًا بِجَعْلِهِ حالًا عَنْ بِهِ تُرِيدُ فَسَلْ عَنْهُ عالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ. وقِيلَ: (الرَّحْمَنُ) اسْمٌ مِن أسْماءِ اللَّهِ مَذْكُورٌ في الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ ولَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ. فَقِيلَ: فَسَلْ بِهَذا الِاسْمِ مَن يُخْبِرُكَ مِن أهْلِ الكِتابِ حَتّى يُعْرَفَ مَن يُنْكِرُهُ، ومِن ثَمَّ كانُوا يَقُولُونَ: ما نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إلّا الَّذِي في اليَمامَةِ يَعْنُونَ مُسَيْلِمَةَ، وكانَ يُقالُ لَهُ رَحْمَنُ اليَمامَةِ، انْتَهى. ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ﴾ وكانَتْ قُرَيْشٌ لا تَعْرِفُ هَذا في أسْماءِ اللَّهِ غالَطَتْ قُرَيْشٌ بِذَلِكَ فَقالَتْ: إنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُرُنا بِعِبادَةِ رَحْمَنِ اليَمامَةِ، نَزَلَتْ ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ﴾، و(ما) سُؤالٌ عَنِ المَجْهُولِ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ سُؤالًا عَنِ المُسَمّى بِهِ؛ لِأنَّهم ما كانُوا يَعْرِفُونَهُ بِهَذا الِاسْمِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ سُؤالًا عَنْ مَعْناهُ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا في كَلامِهِمْ كَما يُسْتَعْمَلُ الرَّحِيمُ والرَّحُومُ والرّاحِمُ، أوْ لِأنَّهم أنْكَرُوا إطْلاقَهُ عَلى اللَّهِ؛ قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّهم لَمّا قِيلَ لَهُمُ ﴿اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ﴾ فَذُكِرَتِ الصِّفَةُ المُقْتَضِيَةُ لِلْمُبالَغَةِ في الرَّحْمَةِ، والكَلِمَةُ عَرَبِيَّةٌ لا يُنْكَرُ وضْعُها، أظْهَرُوا التَّجاهُلَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي لِلَّهِ مُغالَطَةً مِنهم ووَقاحَةً فَقالُوا: ﴿وما الرَّحْمَنُ﴾، وهم عارِفُونَ بِهِ وبِصِفَتِهِ الرَّحْمانِيَّةِ، وهَذا كَما قالَ فِرْعَوْنُ: ﴿وما رَبُّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٢٣] حِينَ قالَ لَهُ مُوسى: ﴿إنّى رَسُولٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الأعراف: ١٠٤]، عَلى سَبِيلِ المُناكَرَةِ، وهو عالِمٌ بِرَبِّ العالَمِينَ. كَما قالَ مُوسى: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ ما أنْزَلَ هَؤُلاءِ إلّا رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ بَصائِرَ﴾ [الإسراء: ١٠٢] فَكَذَلِكَ كُفّارُ قُرَيْشٍ اسْتَفْهَمُوا عَنِ الرَّحْمَنِ اسْتِفْهامَ مَن يَجْهَلُهُ، وهم عالِمُونَ بِهِ، فَعَلى قَوْلِ مَن قالَ: لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الرَّحْمَنَ إلّا مُسَيْلِمَةَ، وعَلى قَوْلِ مَن قالَ: مَن لا يَعْرِفُونَ الرَّحْمَنَ إلّا مُسَيْلِمَةَ. فالمَعْنى أنَسْجَدُ لِمُسَيْلِمَةَ، وعَلى قَوْلِ مَن قالَ: لا يَعْرِفُونَ الرَّحْمَنَ بِالكُلِّيَّةِ فالمَعْنى ﴿أنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا﴾ مِن غَيْرِ عِلْمٍ بِبَيانِهِ. والقائِلُ (اسْجُدُوا) الرَّسُولُ أوِ اللَّهُ عَلى لِسانِ رَسُولِهِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ والأسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ ”يَأْمُرُ“ بِالياءِ مِن تَحْتُ، أيْ: يَأْمُرُنا مُحَمَّدٌ، والكِنايَةُ عَنْهُ أوِ المُسَمّى الرَّحْمَنَ ولا نَعْرِفُهُ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِالتّاءِ خِطابًا لِلرَّسُولِ. ومَفْعُولُ (تَأْمُرُنا) الثّانِي مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ يَأْمُرُنا سُجُودَهُ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: أمَرْتُكَ الخَيْرَ. (وزادَهم) أيْ: هَذا القَوْلُ، وهو الأمْرُ بِالسُّجُودِ لِلرَّحْمَنِ، (زادَهم) ضَلالًا يَخْتَصُّ بِهِ مَعَ ضَلالِهِمُ السّابِقِ، وكانَ حَقُّهُ أنْ يَكُونَ باعِثًا عَلى فِعْلِ السُّجُودِ والقَبُولِ. وقالَ الضَّحّاكُ: سَجَدَ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمانُ وعَلِيٌّ وعُثْمانُ بْنُ مَظْعُونٍ وعَمْرُو ابْنُ غَلَسَةَ، فَرَآهُمُ المُشْرِكُونَ فَأخَذُوا في ناحِيَةِ المَسْجِدِ يَسْتَهْزِئُونَ، فَهَذا المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وزادَهم نُفُورًا﴾، ومَعْنى (نُفُورًا): فِرارًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب