الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ هم مِن خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ هم بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ هم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ أنَّهم إلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ وهم لَها سابِقُونَ﴾ [المؤمنون: ٦١] ﴿ولا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها ولَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالحَقِّ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٢] ﴿بَلْ قُلُوبُهم في غَمْرَةٍ مِن هَذا ولَهم أعْمالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هم لَها عامِلُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٣] ﴿حَتّى إذا أخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالعَذابِ إذا هم يَجْأرُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٤] ﴿لا تَجْأرُوا اليَوْمَ إنَّكم مِنّا لا تُنْصَرُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٥] ﴿قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكم فَكُنْتُمْ عَلى أعْقابِكم تَنْكِصُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٦] ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرًا تَهْجُرُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٧] . لَمّا فَرَغَ مِن ذِكْرِ الكَفَرَةِ وتَوَعَّدَهَمْ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ المُؤْمِنِينَ ووَعَدَهم وذَكَرَهم بِأبْلَغِ صِفاتِهِمْ، والإشْفاقُ أبْلَغُ التَّوَقُّعِ والخَوْفِ، ومِنهم مَن حَمَلَ الخَشْيَةَ عَلى العَذابِ، والمَعْنى: ﴿والَّذِينَ هم مِن عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ [المعارج: ٢٧]، وهو قَوْلُ الكَلْبِيِّ ومُقاتِلٍ. و﴿مِن خَشْيَةِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمُشْفِقُونَ؛ قالَهُ الحَوْفِيُّ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: و(مِن) في ﴿مِن خَشْيَةِ﴾ هي لِبَيانِ جِنْسِ الإشْفاقِ، والإشْفاقُ إنَّما هو مِن عَذابِ اللَّهِ، والآياتُ تَعُمُّ القُرْآنَ والعِبَرَ والمَصْنُوعاتِ الَّتِي لِلَّهِ وغَيْرَ ذَلِكَ مِمّا فِيهِ نَظَرٌ. وفي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ. ثُمَّ ذَكَرَ نَفْيَ الإشْراكِ وهو عِبادَتُهم آلِهَتَهُمُ الَّتِي هي الأصْنامُ، إذْ لِكُفّارِ قُرَيْشٍ أنْ تَقُولَ: نَحْنُ نُؤْمِنُ بِآياتِ رَبِّنا ونُصَدِّقُ بِأنَّهُ المُخْتَرِعُ الخالِقُ. وقِيلَ: لَيْسَ المُرادُ مِنهُ الإيمانَ بِالتَّوْحِيدِ ونَفْيَ الشِّرْكِ لِلَّهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ داخِلٌ في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ هم بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾، المُرادُ نَفْيُ الشِّرْكِ لِلْحَقِّ وهو أنْ يُخْلِصُوا في العِبادَةِ لا يُقْدَمُ عَلَيْها إلّا لِوَجْهِ اللَّهِ وطَلَبِ رِضْوانِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿يُؤْتُونَ ما آتَوْا﴾ أيْ يُعْطُونَ ما أعْطَوْا مِنَ الزَّكاةِ والصَّدَقاتِ. ﴿وقُلُوبُهم وجِلَةٌ﴾ أيْ: خائِفَةٌ أنْ لا يُقْبَلَ مِنهم لِتَقْصِيرِهِمْ أنَّهم أيْ وجِلَةٌ لِأجْلِ رُجُوعِهِمْ إلى اللَّهِ أيْ خائِفَةٌ لِأجْلِ ما يَتَوَقَّعُونَ مِن لِقاءِ الجَزاءِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُبَيْرٍ: هو عامٌّ في جَمِيعِ أعْمالِ البِرِّ، كَأنَّهُ قالَ: والَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِن أنْفُسِهِمْ في طاعَةِ اللَّهِ ما بَلَغَهُ جُهْدُهم. وقَرَأتْ عائِشَةُ، وابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، والأعْمَشُ، والحَسَنُ، والنَّخَعِيُّ: يَأْتُونَ ما أتَوْا مِنَ الإتْيانِ أيْ يَفْعَلُونَ ما فَعَلُوا، قالَتْ عائِشَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: هو الَّذِي يَزْنِي ويَسْرِقُ ويَشْرَبُ الخَمْرَ، وهو عَلى ذَلِكَ (p-٤١١)يَخافُ اللَّهَ، قالَ: «لا يابْنَةَ الصِّدِّيقِ، ولَكِنَّهُ هو الَّذِي يُصَلِّي ويَصُومُ ويَتَصَدَّقُ وهو عَلى ذَلِكَ يَخافُ اللَّهَ أنْ لا يَقْبَلَ» . قِيلَ: وجَلُ العارِفِ مِن طاعَتِهِ أكْثَرُ مِن مُخالَفَتِهِ؛ لِأنَّ المُخالَفَةَ تَمْحُوها التَّوْبَةُ والطّاعَةَ تُطْلَبُ التَّصْحِيحَ. وقالالحَسَنُ: المُؤْمِنُ يَجْمَعُ إحْسانًا وشَفَقَةً، والمُنافِقُ يَجْمَعُ إساءَةً وأمْنًا. وقَرَأ الأعْمَشُ: (إنَّهم) بِالكَسْرِ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ تَرْتِيبُ هَذِهِ الصِّفاتِ في نِهايَةِ الحُسْنِ؛ لِأنَّ الأُولى دَلَّتْ عَلى حُصُولِ الخَوْفِ الشَّدِيدِ المُوجِبِ لِلِاحْتِرازِ، والثّانِيَةَ عَلى تَحْصِيلِ الإيمانِ بِاللَّهِ، والثّالِثَةَ عَلى تَرْكِ الرِّياءِ في الطّاعَةِ، والرّابِعَةَ عَلى أنَّ المُسْتَجْمِعَ لِهَذِهِ الصِّفاتِ الثَّلاثَةِ يَأْتِي بِالطّاعاتِ مَعَ خَوْفٍ مِنَ التَّقْصِيرِ وهو نِهايَةُ مَقاماتِ الصِّدِّيقِينَ، انْتَهى. ﴿أُولَئِكَ يُسارِعُونَ﴾ [المؤمنون: ٦١] جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ خَبَرِ إنَّ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: ﴿الخَيْراتِ﴾ [المؤمنون: ٦١] المُخافَتَةُ والإيمانُ والكَفُّ عَنِ الشِّرْكِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ﴾ [المؤمنون: ٦١] يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يُرادَ يَرْغَبُونَ في الطّاعاتِ أشَدَّ الرَّغْبَةِ فَيُبادِرُونَها، والثّانِي أنَّهم يَتَعَجَّلُونَ في الدُّنْيا المَنافِعَ، ووُجُوهَ الإكْرامِ كَما قالَ: ﴿فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وحُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ﴾ [آل عمران: ١٤٨]، ﴿وآتَيْناهُ أجْرَهُ في الدُّنْيا وإنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ﴾ [العنكبوت: ٢٧]؛ لِأنَّهم إذا سُورِعَ بِها لَهم فَقَدْ سارَعُوا في نَيْلِها وتَعَجَّلُوها، وهَذا الوَجْهُ أحْسَنُ طِباقًا لِلْآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ؛ لِأنَّ فِيهِ إثْباتَ ما نُفِيَ عَنِ الكُفّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ، انْتَهى. وقَرَأ الحُرُّ النَّحْوِيُّ: يُسْرِعُونَ مُضارِعُ أسْرَعَ، يُقالُ أسْرَعْتُ إلى الشَّيْءِ وسَرُعْتُ إلَيْهِ بِمَعْنًى واحِدٍ، وأمّا المُسارَعَةُ فالمُسابَقَةُ أيْ يُسارِعُونَ غَيْرَهم. قالَ الزَّجّاجُ: ﴿يُسارِعُونَ﴾ [المؤمنون: ٦١] أبْلَغُ مَن يُسْرِعُونَ، انْتَهى. وجِهَةُ المُبالَغَةِ أنَّ المُفاعَلَةَ تَكُونُ مِنِ اثْنَيْنِ فَتَقْتَضِي حَثَّ النَّفْسِ عَلى السَّبْقِ؛ لِأنَّ مَن عارَضَكَ في شَيْءٍ تَشْتَهِي أنْ تَغْلِبَهُ فِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب