الباحث القرآني

﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَقالَ ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ أفَلا تَتَّقُونَ﴾ ﴿فَقالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ ما هَذا إلّا بَشَرٌ مِثْلُكم يُرِيدُ أنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكم ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَأنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهَذا في آبائِنا الأوَّلِينَ﴾ ﴿إنْ هو إلّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتّى حِينٍ﴾ ﴿قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ﴾ ﴿فَأوْحَيْنا إلَيْهِ أنِ اصْنَعِ الفُلْكَ بِأعْيُنِنا ووَحْيِنا فَإذا جاءَ أمْرُنا وفارَ التَّنُّورُ فاسْلُكْ فِيها مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وأهْلَكَ إلّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ مِنهم ولا تُخاطِبْنِي في الَّذِينَ ظَلَمُوا إنَّهم مُغْرَقُونَ﴾ ﴿فَإذا اسْتَوَيْتَ أنْتَ ومَن مَعَكَ عَلى الفُلْكِ فَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجّانا مِنَ القَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ ﴿وقُلْ رَبِّ أنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكًا وأنْتَ خَيْرُ المُنْزِلِينَ﴾ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لِآياتٍ وإنْ كُنّا لَمُبْتَلِينَ﴾ . (p-٤٠٢)لَمّا ذَكَرَ أوَّلًا بَدْءَ الإنْسانِ وتَطَوُّرَهُ في تِلْكَ الأطْوارِ، وما امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِ مِمّا جَعَلَهُ تَعالى سَبَبًا لِحَياتِهِمْ، وإدْراكِ مَقاصِدِهِمْ، ذَكَرَ أمْثالًا لِكُفّارِ قُرَيْشٍ مِنَ الأُمَمِ السّابِقَةِ المُنْكِرَةِ لِإرْسالِ اللَّهِ رُسُلًا المُكَذِّبَةِ بِما جاءَتْهم بِهِ الأنْبِياءُ عَنِ اللَّهِ، فابْتَدَأ قِصَّةَ نُوحٍ؛ لِأنَّهُ أبُو البَشَرِ الثّانِي، كَما ذَكَرَ أوَّلًا آدَمَ في قَوْلِهِ: ﴿مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢]، ولِقِصَّتِهِ أيْضًا مُناسَبَةٌ بِما قَبْلَها إذْ قَبْلَها ﴿وعَلى الفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ [المؤمنون: ٢٢] فَذَكَرَ قِصَّةَ مَن صَنَعَ الفُلْكَ أوَّلًا، وأنَّهُ كانَ سَبَبَ نَجاةِ مَن آمَنَ، وهَلَكَ مَن لَمْ يَكُنْ في الفُلْكِ مِن نِعْمَةِ اللَّهِ، كُلُّ هَذِهِ القِصَصِ يُحَذِّرُ بِها قُرَيْشًا نِقَمَ اللَّهِ ويُذَكِّرُهم نِعَمَهُ. ﴿ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُنَبِّهَةٌ عَلى أنْ يُفْرَدَ بِالعِبادَةِ مَن كانَ مُنْفَرِدًا بِالإلَهِيَّةِ فَكَأنَّها تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾، ﴿أفَلا تَتَّقُونَ﴾ أيْ أفَلا تَخافُونَ عُقُوبَتَهُ إذا عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ. ﴿فَقالَ المَلَأُ﴾ أيْ كُبَراءُ النّاسِ وعُظَماؤُهم، وهُمُ الَّذِينَ هم أعْصى النّاسِ وأبْعَدُهم لِقَبُولِ الخَيْرِ. ﴿ما هَذا إلّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ أيْ مُساوِيكم في البَشَرِيَّةِ. ”فَأنّى تُؤْفَكُونَ“ لَهُ اخْتِصاصٌ بِالرِّسالَةِ. ﴿يُرِيدُ أنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ أيْ يَطْلُبَ الفَضْلَ عَلَيْكم ويَرْأسَكم كَقَوْلِهِ: ﴿وتَكُونَ لَكُما الكِبْرِياءُ في الأرْضِ﴾ [يونس: ٧٨]، ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَأنْزَلَ مَلائِكَةً﴾، هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهم كانُوا مُقِرِّينَ بِالمَلائِكَةِ وهَذِهِ شِنْشِنَةُ قُرَيْشٍ ودَأْبُها في اسْتِبْعادِ إرْسالِ اللَّهِ البَشَرَ، والإشارَةُ في هَذا تَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ لِنُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وأنْ تَكُونَ إلى ما كَلَّمَهم بِهِ مِنَ الأمْرِ بِعِبادَةِ اللَّهِ ورَفْضِ أصْنامِهِمْ، وأنْ يَكُونَ إلى ما أتى بِهِ مِن أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وهو بَشَرٌ، وأعْجِبْ بِضَلالِ هَؤُلاءِ اسْتَبْعَدُوا رِسالَةَ البَشَرِ واعْتَقَدُوا إلَهِيَّةَ الحَجَرِ. وقَوْلُهم: ﴿ما سَمِعْنا بِهَذا﴾، الظّاهِرُ أنَّهم كانُوا مُباهِتِينَ وإلّا فَنُبُوَّةُ إدْرِيسَ وآدَمَ لَمْ تَكُنِ المُدَّةُ بَيْنَها وبَيْنَهم مُتَطاوِلَةً بِحَيْثُ تُنْسى فَدافَعُوا الحَقَّ بِما أمْكَنَهم دِفاعُهُ، ولِهَذا قالُوا: ﴿إنْ هو إلّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾، ومَعْلُومٌ عِنْدَهم أنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ. ﴿فَتَرَبَّصُوا بِهِ﴾ أيِ انْتَظِرُوا حالَهُ حَتّى يُجَلّى أمْرُهُ وعاقِبَةُ خَبَرِهِ. فَدَعا رَبَّهُ تَعالى بِأنْ يَنْصُرَهُ ويُظْفِرَهُ بِهِمْ بِسَبَبِ ما كَذَّبُوهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَدَلَ ما كَذَّبُونِ كَما تَقُولُ: هَذا بِذاكَ أيْ بَدَلُ ذاكَ ومَكانُهُ، والمَعْنى أبْدِلْنِي مِن غَمِّ تَكْذِيبِهِمْ سَلْوَةَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ، أوِ انْصُرْنِي بِإنْجازِ ما وعَدْتَهم مِنَ العَذابِ، وهو ما كَذَّبُوهُ فِيهِ حِينَ قالَ لَهم: ﴿إنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: ٥٩]، انْتَهى. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ وابْنُ مُحَيْصِنٍ: ﴿قالَ رَبِّ﴾ بِضَمِّ الباءِ، وتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ في قَوْلِهِ ﴿قالَ رَبُّ احْكُمْ﴾ [الأنبياء: ١١٢] بِضَمِّ الباءِ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى أكْثَرِ تَفْسِيرِ ألْفاظِ هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ هُودٍ، ونَهاهُ تَعالى أنْ يُخاطِبَهُ في قَوْمِهِ بِدُعاءِ نَجاةٍ أوْ غَيْرِهِ وبَيَّنَ عِلَّةَ النَّهْيِ بِأنَّهُ تَعالى قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالإغْراقِ، وأمَرَهُ تَعالى بِأنْ يَحْمَدَهُ عَلى نَجاتِهِ وهَلاكِهِمْ، وكانَ الأمْرُ لَهُ وحْدَهُ وإنْ كانَ الشَّرْطُ قَدْ شَمَلَهُ ومَن مَعَهُ؛ لِأنَّهُ نَبِيُّهم وإمامُهم وهم مُتَّبِعُوهُ في ذَلِكَ إذْ هو قُدْوَتُهم. قالَ مَعَ ما فِيهِ مِنَ الإشْعارِ بِفَضْلِ النُّبُوَّةِ وإظْهارِ كِبْرِياءِ الرُّبُوبِيَّةِ وأنَّ رُتْبَةَ تِلْكَ المُخاطَبَةِ لا يَتَرَقّى إلَيْها إلّا مَلَكٌ أوْ نَبِيٌّ، انْتَهى. ثُمَّ أمَرَهُ أنْ يَدْعُوَهُ بِأنَّهُ يُنْزِلُهُ ﴿مُنْزَلًا مُبارَكًا﴾، قِيلَ: وقالَ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّكُوبِ في السَّفِينَةِ. وقِيلَ: عِنْدَ الخُرُوجِ مِنها. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿مُنْزَلًا﴾ بِضَمِّ المِيمِ وفَتْحِ الزّايِ فَجازَ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا ومَكانًا أيْ إنْزالًا أوْ مَوْضِعَ إنْزالٍ. وقَرَأ أبُو بَكْرٍ والمُفَضَّلُ وأبُو حَيْوَةَ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ وأبّانُ: بِفَتْحِ المِيمِ وكَسْرِ الزّايِ، أيْ مَكانَ نُزُولٍ. ﴿إنَّ في ذَلِكَ﴾ خِطابٌ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - أيْ: إنَّ في ما جَرى عَلى هَذِهِ - أُمَّةِ نُوحٍ - لِدَلائِلَ وعِبَرًا. ﴿وإنْ كُنّا لَمُبْتَلِينَ﴾ أيْ لَمُصِيبِينَ قَوْمَ نُوحٍ بِبَلاءٍ عَظِيمٍ، أوْ لَمُخْتَبِرِينَ بِهَذِهِ الآياتِ عِبادَنا لِيَعْتَبِرُوا، كَقَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: ١٥] .(p-٤٠٣)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب